ثورة التصوف في مجال الذكر
الذكر هو الحفظ وما يجري على اللسان، ومن معانيه أيضًا الثناء
والصلاة والدعاء. ففي الذكر جانبان مرتبطان: الأول إجراء اسم الشيء
المذكور على اللسان؛ أي النطق به، والثاني المعنى الملحوظ في هذا
الإجراء. فقد يكون المراد بذكر الاسم مجرد حفظه وتثبيته في الذهن،
وقد يكون المراد معنى آخر كالثناء على المسمى أو التنويه به أو
تشريفه، وقد يكون المراد — كما هو الحال في ذكر الله — الصلاة
والدعاء إلى جانب الثناء.
وقد ورد «الذكر» في القرآن باعتباره نوعًا من أنواع العبادة. قال
تعالى:
وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا١ أي تذكروه وتفكروا فيه. كما ورد طلب جريان اسم الله على
اللسان في مثل قوله تعالى:
وَاذْكُرِ اسْمَ
رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا،
٢ وقوله:
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ
بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
٣
وليس في هذا أو ذاك مغزى صوفي خاص، كما أن المسلمين الأوائل لم
يحاولوا أن يفهموا من مثل هذه الآيات أكثر من أنها تأمر بكثرة جريان
اسم الله على اللسان تعبدًا، وتحض على دوام ذكره والتفكر فيه
باعتباره الخالق المدبر، ولكن الصوفية نظروا إلى الذكر نظرة أخرى
وحددوا وظيفته ومنزلته بين العبادات، كما فصَّلوا في أنواعه
وقواعده. لم يقصروا الذكر على ترديد اسم الله، بل أدخلوا فيه التعبد
بأي اسم من الأسماء الإلهية، وبجمل مقتبسة من نصوص القرآن مثل:
سُبْحَانَ رَبِّي، اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وما أشبه
ذلك.
ومن أبرز أنواع الذكر عند الصوفية التسبيح والحمد والثناء على الله
والتفكير في عظمته وآلائه، وفي تواتر إحسانه ونعمائه، والتفكير في
تقصير العبد عن الشكر والاعتراف بظواهر النعم وبواطنها، والعجز عن
القيام بما أمره الله به من حسن الطاعة.
٤
ففي التسبيح ينزه الذاكر الله عن صفات المحدثات، وينفي عنه كل عيب
ونقص، وفي التفكير يتأمل الذاكر في صفات الله وآلائه وعجائب
مخلوقاته، كما يتأمل في نفسه وما اقترفه من ذنوب وآثام، وفي عقاب
الله وبلائه الظاهر والباطن، وفي الحمد والثناء يتذكر الذاكر ما
أنعم الله به عليه من النعم، ويؤدي ما وجب عليه من الشكر نحو
مسديها؛ ولهذا قالوا إن الذكر اسم جامع لأعمال القلوب كلها: فإن مَن
ذكر الله الذكر الحقيقي وراقب في ذلك جميع أقواله وأفعاله وخواطره،
كان ذكره مصدر أعمال قلبه، أو كان جِماع هذه الأعمال، والحقيقة أن
السالك إلى الله ليس بحاجة إلى التزود بزاد غير «الذكر»، فإن من ذكر
الله في ذاته وصفاته وأفعاله على نحو ما يجب أن تكون عليه ذاته
وصفاته وأفعاله فقد عبده العبادة المثلى.
ومَن ذكر الله ذكر شرعه وامتثل أمره ونهيه فأطاع الله الطاعة
المثلى، ومن ذكر ربه عرف معنى الربوبية وتحقق بمعاني العبودية،
وأدرك قدر نفسه وقدر العالم الذي يعيش فيه، وزهد في الدنيا وزخرفها.
فالذكر — بهذا المعنى — هو النبراس الذي يضيء السبيل إلى الحياة
الروحية الحقة، بل هو الحياة الروحية ذاتها.
ويعتبر الصوفية «الذكر» أعلى منزلة من الصلاة المفروضة، ويستشهدون
على ذلك بقوله تعالى:
اتْلُ مَا أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ٥ قالوا إما بمعنى أن الذكر أكبر من الصلاة إطلاقًا، أو
بمعنى أنه أكبر شيء في الصلاة كما ذهب إليه ابن عربي.
٦ الصلاة الظاهرة هي بدن الصلاة، أما جوهرها وحقيقتها
وروحها فهو الذكر، ويذهب إلى هذا المعنى أو إلى ما هو قريب منه
الفيلسوف ابن سينا في رسالة «ماهية الصلاة»، فإنه يفرق بين الصلاة
الحقيقية التي هي نوع من الرياضة العقلية وتطويع لقوى النفس
المتوهمة المتخيلة لكي تدرك من الحق ما يليق بمقامه الأقدس، وبين
الصلاة التي تجري على الجوراح وتظهر فيها الأقوال والأفعال. هذه هي
عبادة البدن وعبادة العوام المكلف بها من قبل الشرع في نظره. أما
الصلاة الباطنة فلم يكلف الشارع بها لأن النفس الناطقة تلزم بها
نفسها إلزامًا، ومن تحصيل الحاصل أن يكلف الإنسان أمرًا تقضي به
طبيعة عقله.
٧
ولكن الفرق كبير بين تصور ابن سينا للصلاة «العقلية» التي كاد أن
يجعلها تأملًا فلسفيًّا بحتًا، وبين صلاة الصوفية التي هي — على
الرغم مما فيها من ذكر وتأمل — مناجاة قلبية بين العبد وربه ومجالسة
وحديث مع الحق تعالى، وشهود له في عين القلب، وسماعه لصوت الحق، وهي
فوق هذا كله استيلاء للمحبوب على قلب المحب، واستغراق للمحب في
المحبوب بحيث لا يرى ولا يسمع سواه كما قال قائلهم:
إذا ما تجلى لي فكلي نواظر
وإن هو ناجاني فكلي مسامع
ويقول ابن عربي في الذكر الحقيقي الذي هو مجالسة بين العبد والحق:
«وذلك أنه لا يعلم قدر هذه النشأة الإنسانية إلا من ذكر الله الذكر
المطلوب منه، فإنه تعالى جليس من ذكره، والجليس مشهود للذاكر، ومتى
لم يشاهد الذاكر الحق الذي هو جليسه فليس بذاكر. فإن ذكر الله سار
في جميع العبد، لا مَن ذكره بلسانه خاصة، فإن الحق لا يكون في ذلك
الوقت إلا جليس اللسان خاصة، فيراه اللسان من حيث لا يراه الإنسان.»
٨
ويستشهد الصوفية أيضًا في تفضيل الذكر على الصلاة بقول رسول الله
ﷺ: «تفكُر ساعة خير من عبادة سنة.» قيل هو التفكير الذي ينقل
العبد من المكاره إلى المحاب، ومن الرغبة والحرص إلى القناعة
والزهد، وقيل هو التفكير الذي يظهر مشاهدة وتقوى، ويحدث ذكرًا وهدًى
على حد قوله تعالى:
وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وقوله في وصف أعدائه:
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ
ذِكْرِي.
٩ فمن رضي عنه وفقه لذكره، ومن غضب عليه حجبه عن ذكره،
وذكر الله يورث التقوى كما قلنا؛ لأن الذاكر يقبل على الله بقلب
فارغ من كل شيء سواه، والمحجوب عن الذكر محجوب عن الله؛ لأن قلبه
مشغول بمن سواه وما سواه. أما الصلاة فلها أوقاتها، بل ساعاتها، وقد
لاتجوز في بعض الأوقات، وفيها لا شك مناجاة بين العبد وربه قد تتحقق
فيها لحظات من القرب، ولكنها لا تقرب العبد من ربه ذلك القرب المتصل
الذي ينتج عن الذكر المتصل؛ لأنه مستدام في جميع الأوقات والأحوال.
قال تعالى:
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ
قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ.
١٠
بل الذكر عند الصوفية خير الأفعال الإنسانية كلها وأزكاها عند
الله، وهم يروون في ذلك قول رسول الله
ﷺ: «ألا أنبئكم بخير
أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير من إعطاء
الذهب والورِق، وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟
قالوا: ما ذاك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله تعالى.»
١١ فالذكر كما نص الحديث خير من كثير من الأعمال التي
فرضها الشرع وطالب المسلمين بأدائها كالصدقة التي أشير إليها بإعطاء
الذهب والورِق، وكالجهاد الذي أشير إليه بضرب الرقاب، لا بمعنى أن
الذكر شيء يستعاض به عن هذه الفرائض، بل بمعنى أنه أفضل منها في
ميزان القيم الدينية، ولو ذكر الإنسان الله الذكر الحقيقي، وراقبه
في جميع أحواله وأفعاله، كما قلنا، لقام بما فرض الله عليه على أكمل
وجه، فيكون قيامه بالفرض نتيجة لذلك العامل الروحي القوي المنبعث من
أعماق قلبه، وهو ذكر الله، لا لمجرد طاعة الله في الأمر
المفروض.