الوعي الصوفي
لا بد أن نعترف إذن بأن للصوفية نشاطًا روحيًّا خاصًّا يعلن عن نفسه في صورةِ ما نُسميه «التجربة الصوفية» وبأن هذا النشاط الرُّوحي ليس واحدًا من أضرب النشاط العقلي المعروفة، ولكنه شيء فوق الوعي العقلي، وإن شئت فسمِّه وعيًا ساميًا.
ويبدأ هذا الوعي في الوقت الذي تستيقظ فيه النفس؛ أي في الوقت الذي تخرج فيه النفس عن مألوف عادتها: أي عن الحال التي اصطلحنا على تسميتها «بالحال العقلية الطبيعية»: بأن يتحوَّل فيها مركز الشعور من المراتب الدنيا إلى المراتب العليا، ثم يتحوَّل تبعًا لذلك مركز الاهتمام من «الذات» إلى موضوع جديد تجدُّ النفس في الوصول إليه واللحاق به، وهذا التحول في مجرى الحياة الروحية هو الذي اصطلح متصوفة الإسلام على تسميتِه «بالتوبة» ولكنهم لا يقصدون بها الإقلاع عن الذنوب، أو التحول المفاجئ من عقيدة، أو من دين إلى دين، وإنما يقصدون بها شيئًا آخر أبعد وأعمق من هذا كله، بل شيئًا هو أساس هذا كله، وهو التجرد عن النفس أو التخلُّص من النفس — والنفس هنا اسم مرادف لجميع الشهوات والرغبات البدنية — والإنابة التامة إلى الله.
وإذا كان خروج الإنسان إلى هذه العالم يُسمى ميلادًا طبيعيًّا، فخروج الصوفي إلى العالم الروحي الذي يتحكَّم فيه وعيه السامي يُسمى ميلادًا روحيًّا، وإذا كان من خصائص التوبة في أية صورة من صورها أنها تصطبغ عادةً بصبغة وجدانية عميقة ومفاجئة، فمن خصائص التوبة الصوفية أن يصحبها أعنف حالة وجدانية معروفة: إذ يصحبها ذلك الشوق الملح نحو الله، وشعور ديني عميق وحساسية دينية قوية.
والتوبة بمعنى التحوُّل في الموقف الديني من عقيدة إلى عقيدة في الدين الواحد، أو من دين إلى آخر، أو التوبة بمعنى التصميم والعزم الصادق على الإقلاع عن الذنوب والآثام، قد تكون وثيقة الصلة بالتوبة الصوفية وخطوة سابقة عليها، وتاريخ التصوف الإسلامي وغير الإسلامي حافل بأسماء الرجال والنساء الذين هرعوا إلى الطريق الصوفي إثر أزمة نفسية حادة انتهت بهم إلى توبة من النوع الأول، ثم أسلمتْهم إلى التوبة الصوفية.
وهكذا استمرَّ النزاع محتدمًا في نفس الغزالي وانتهى آخر الأمر إلى غمٍّ شديدٍ ومرضٍ مقعدٍ وحبسةٍ في اللسان. ثم هدأت العاصفة، وانخرَط الغزالي في سلك الصوفية، وخلا خلوتهم وراضَ نفسه برياضاتهم، فاستيقظ فيه الشعور وانكشَفَت له أحوال القوم، ونزلَت الطمأنينة إلى قلبه بعد الحيرة الطويلة.
وقريب من الغزالي في هذا الصدد القدِّيس أوغسطين الذي عبر عن هذه التجربة بعبارته الشِّعرية المعروفة، وهي أنه وقف بين عالَمين قويَّين يَجتذبانه: الجمال الإلهي الذي يَجذبه نحو الله، وثقل المادة الجسمانية الذي يجذبه بعيدًا عنه.
ولكن الصوفية يَنقسمون في شُهودهم «الحقيقة» إلى طائفتَين؛ الأولى ترى الحق في مجالي الجمال الخارجي، أو في مجلًى جمالي خاص، ومن هؤلاء ابن عربي وابن الفارض الذي يقول:
والثانية تشهد الحق الباطن في النَّفس. فبينما يتجلَّى الحق للأولين في صورة الجمال المطلَق، يَنجلي للآخرين في صورة الإله المحبوب، ويَغلب هذا الشهود الثاني على الصوفية والوجدانيِّين أصحاب العواطف القوية الجامحة، ولعلَّ أبا يزيد البسطامي والحلاج والشِّبلي ورابعة العدوية كانوا من هذا الطراز، وأهم مظهر لهذا الشهود شعور ممزوج بلذَّة بالغة في شدتها وألم بالغ في حدته. أما الألم فنتيجة لتمزيق حجاب النفس «الأنا» والخروج من قيودها الزمانية، وأما اللذة فنتيجة لذلك الحب العميق الذي لا يسبر غوره.
•••
هذا، وسنُعالج في فصول تالية من فصول هذا الكتاب بعضَ مظاهر الحياة الصوفية في الإسلام مع الإشارة إلى أهمِّ المسائل التي أثرناها في هذه المقدمة.