الذكر وأحوال الجذب والإشراق
ليس الذكر الصوفي عملًا سلبيًّا كما وضح لنا مما سبق، وليس عملًا آليًّا يقوم به اللسان عندما يردد اسم الله أو غيره من الأسماء الإلهية، وإلا لما كانت له تلك القوة الروحية التي يشير إليها الصوفية، بل هو عمل إيجابي تتجه فيه حيوية الذاكر نحو الاتصال بالمذكور وتجتمع عليه همته بحيث يستغرق فيه بكليته. هو الحضور التام مع الله، وعدم الغفلة عنه أو الاشتغال بما سواه، بحيث يستولي المذكور على قلب الذاكر، ويغيب الذاكر في المذكور ويحظى بمشاهدته وحده؛ ولذلك كان الذكر — فرديًّا أو جماعيًّا — وسيلة لاستثارة حالة الوجد وحصول الإشراق.
ويروى عن الشبلي أنه كان ينشد في مجلسه:
أي إنه لما استولى عليه سلطان الوجد وأشهده أن الحق جليسه وحاضر معه، ولما فرغ فؤاده من كل شيء إلا من الله، شهد الله في كل شيء وفي كل مكان، وخاطبه بغير لسان، وعاينه بغير عيان، وهذا بعينه هو الفناء الصوفي، وهو وحدة الشهود التي أسلفنا ذكرها.
أما ما فهمه المتأخرون من أصحاب الطرق الصوفية من الذكر في الحلقات، وما يصحبه من حركات الرقص التوقيعي على نغمات الموسيقى، فليس من الذكر في شيء، ولكنه ضرب من الدجل والشعوذة يؤدي إلى حال أدنى إلى الصرع منها إلى الفناء الصوفي، وهو مظهر من مظاهر الانحلال في أوساط أدعياء التصوف الذين يتبرأ منهم الصوفية المخلصون، ولم يُبْتَل التصوف بمثل ما ابتلي به على أيدي هؤلاء الجهلة الذين شوَّهوا جماله وأفسدوا سمعته ومعناه.
إنني لا أعرف قولًا أروع ولا أعذب من هذا في وصف الصلة بين العبد وربه الرحيم الودود السميع الدعاء القريب من المقربين إليه، وليس أبعد من الحق، وأدنى إلى مجافاة الصواب من وصف إله الإسلام — كما وصفه بعض الجاحدين من المنكرين — بأنه طاغية مستبد يتحكم في عباده غير عابئ بمصائرهم!