الحياة الصوفية في ظل المرشدين وأصحاب الفرق
جرت عادة الصوفية مسلمين كانوا أم غير مسلمين أن يقسموا الحياة الصوفية إلى قسمين: حياة المجاهدة وحياة المشاهدة، فيفرقوا بين أعمال الزهد والرياضات والعبادات من جهة، وما ينكشف في الطريق الصوفي من معان وأسرار وإشارات وموارد من جهة أخرى، وقد أطلق المسيحيون في القرون الوسطى على القسم الأول اسم «حياة التطهير»، وعلى الثاني اسم «حياة الإشراق»، وسمى صوفية الإسلام الأول باسم الزهد، والثاني باسم التصوف، وهذه تفرقة قد التزمناها في هذا الكتاب في بعض المواضع تسهيلًا للبحث وعرض المسائل، وربط الظواهر الصوفية الإشراقية بالجانب العملي من الحياة الصوفية على نحو ما تُربط المسببات بأسبابها، ولكن الحقيقة أن الحياة الصوفية كلٌّ لا يتجزأ ولا ينقسم، ووحدة متصلة لا تخضع لحدود زمانية بحيث يقال إن هذا الجزء متقدم بالزمان على ذلك الجزء، كما أنها لا تخضع لمنطق العقل بحيث يقال إن جانبها العملي بمثابة المقدمات وجانبها الإشراقي بمثابة النتائج. نعم، قد نصف الفوائد الروحية والأحوال النفسية التي يعانيها الصوفي بأنها ثمرات المجاهدة، ولكن الثمرة هنا ليست شيئًا منفصلًا ولا مستقلًّا عن الشجرة التي تحملها، بل هي جزء لا يتجزأ منها.
وكما أن الشجرة قد تنمو وتترعرع وتورق ولا تثمر، كذلك السالك في الطريق الصوفي قد يحيى حياة مجاهدة غير موجهة وغير سليمة ولا يظفر بشيء من الحياة الذوقية الكشفية، وبذلك لا تؤدي رياضاته ومجاهداته إلى النتيجة التي يطلبها من تصفية النفس وصدق المعاملة مع الله والخلق؛ ولهذا أوجب الصوفية على المريدين صحبة المشايخ لكي يرشدوهم على التغلب على مصاعب الطريق ويمكنوهم من الترقي في سُلم المعراج الروحي.
ولا تتهيأ هذه القيادة الروحية إلا لكبار الروحانيين أصحاب البصيرة النافذة والفراسة القوية، الصادقين في إرشادهم، المخلصين لدينهم وأصحابهم، وهؤلاء قلة من الصوفية ظهروا ويظهرون بين حين وآخر، وأسسوا ويؤسسون مدارس في التصوف وإن لم يكن لبعضهم كتب مصنفة. هؤلاء الروحانيون نماذج حية مُشعة موحية موجهة عن طريق الإيحاء والإيمان أكثر منها عن طريق التعليم والوعظ، وقد سجل لنا تاريخ التصوف أسماء عدد غير قليل من هؤلاء المشايخ الذين كان لهم أكبر الفضل لا في تكوين المريدين وحسب، بل في تشكيل الحياة الروحية في التصوف الإسلامي: منهم أبو القاسم الجنيد وأبو حفص النيسابوري وأبو علي الدقاق من العصر السابق على ظهور الطرق الصوفية، وعبد القادر الجيلاني وأبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي وابن عطاء الله السكندري من رجال الطرق.
وللصوفية آداب في الطريق تحدد العلاقة بين الشيخ والمريدين وتعين واجبات كلٍّ، وقد تختلف هذه الآداب والواجبات باختلاف المشايخ والطرق في مسائل تفصيلية، ولكنها تتفق في الأمور الأساسية الجوهرية التي بدونها يضل السالك الطريق إلى الله.
والواجب الأول على المريد نحو أستاذه الطاعة المطلقة في كل ما يأمر به حتى ولو خيل للمريد أنه مأمور بشيء يخالف ظاهر الشرع. بل لقد بالغ بعض الصوفية فطالبوا بطاعة الشيخ أولًا وطاعة الله ثانيًا؛ لأن طاعة الله في نظرهم لا تصح إلا إذا وجه إليها الشيخ التوجيه الصحيح، وهم يعتبرون مخالفة المريد لشيخه دليلًا على عدم صدق إرادته وعلى فساد حاله.
ولا تبدأ صحبة المريد للشيخ على الحقيقة إلا بعد أن يصح عزم المريد على الدخول في الطريق، ولا يصح هذا العزم إلا باجتياز المريد «عتبة» الطريق أو المقام الأول فيه، وهو مقام التوبة، ومعناه ليس الإقلاع عن المعاصي والاستغفار عما سلف منها وحسب، بل التصميم على دخول حياة جديدة تختلف في أهدافها وبواعثها عن كل ما ألفه السالك من قبل؛ ولهذا شبه الصوفية مقام التوبة بالميلاد الجديد لأنه الحد الفاصل بين حياتين: الحياة في الدنيا ومن أجل الدنيا، والحياة في الله ومن أجل الله.
أما الأسباب التي تدعو إلى التوبة بهذا المعنى فكثيرة ومتنوعة، وقد سجل لنا التاريخ عددًا كبيرًا منها في تاريخ أولياء المسلمين وغير المسلمين، منها الرُّؤى الخارقة والأزمات الروحية الحادة كأزمة الغزالي وأزمة القديس أوغسطين وغيرهما، ولكن هذه مسألة تعني علماء النفس أكثر مما تعنينا هنا.
وإذا أيقن الشيخ صِدْق توبة المريد قَبِل صحبته والإشراف عليه، وراقبه في مراحل الطريق التالية، وقد اصطلح الصوفية على تسمية هذه المراحل بالمقامات، وسموا ما يعرض فيها للسالك من أحداث روحية باسم الأحوال، وقد ذكر أبو نصر السراج في كتاب «اللمع» — وهو أقدم كتاب عربي في التصوف — سبعة من هذه المقامات هي: التوبة، والقناعة، والزهد، والفقر، والصبر، والتوكل، والرضا. كما ذكر عشرة أحوال هي: الذكر، والقرب، والمحبة، والرجاء، والشوق، والأنس، واليقين، والمراقبة، والسكون.
أما القشيري والهجويري فيذكران عددًا أكبر من المقامات والأحوال، ولهما أساليبهما الخاصة في عرضها وشرحها، وربما كان القشيري أدق في تعريفاته للأحوال الصوفية التي كثيرًا ما يعرضها أزواجًا متقابلة مثل: «القبض والبسط»، و«الهيبة والأنس»، و«التواجد والوجد»، و«الجمع والفرق»، و«الفناء والبقاء»، و«الصحو والسكر»، و«المحو والإثبات»، و«الستر والتجلي»، وما إلى ذلك. أما الهجويري فيمتاز بدقة التحليل الصوفي لمفاهيم هذه المصطلحات، ومناقشتها والتعقيب عليها بأسلوب علمي بارع، كما يمتاز بإرشاداته إلى اختلاف آراء الصوفية فيها إذا كان هنالك اختلاف.
ولا ينتهي الطريق إلا بقطع المقامات كلها، ولا ينتقل السالك من واحد منها إلى آخر إلا إذا كان قد وصل إلى درجة الكمال في المقام السابق. فإذا اجتاز جميع المقامات انتقل إلى مرتبة روحية أعلى هي مرتبة المعرفة والشهود، وكمال المعرفة أن يدرك الصوفي ذوقًا وحدة العارف والمعروف.
(١) الفرق الصوفية
وكما يختلف كبار مشايخ الصوفية في تفصيل التكاليف العملية في الطريق الصوفي، كما هو واضح من تعاليم أصحاب الطرق التي ظهرت في الإسلام ابتداءً من القرن السادس، كذلك يختلفون في وجهات نظرهم في المسائل النظرية والحياة الإشراقية ومظاهرها في المقامات والأحوال، وقد ظهر لنا بعض جوانب هذه الفوارق فيما عالجناه من ظواهر الحياة الصوفية كالمحبة الإلهية والذكر والفناء والبقاء وغير ذلك، وهذه الفوارق قديمة قدم التصوف ذاته، ولكنها لا ترتفع بأصحابها إلى مرتبة «الفِرَق» على النحو الذي نفهمه من علم الكلام، بل ولا مرتبة أصحاب المذاهب على النحو الذي نفهمه في الفقه. فالفِرَق في علم الكلام تمثل اتجاهات مختلفة في تفسير وفهم أصول العقائد الدينية، أو مسائل متفرعة عن هذه الأصول كمسألة خلق القرآن أو قِدَمه المتفرعة عن مسألة الصفات الإلهية وصفة الكلام الإلهي بوجه خاص، وكمسألة حرية الإرادة الإنسانية أو جَبريَّتها المتفرعة عن مسألة العدل الإلهي، وغير ذلك.
وكذلك تختلف الفِرَق الكلامية في مناهجها في استنباط العقائد وتدعيمها والدفاع عنها بالأدلة العقلية والنقلية، ومن أصحاب الفرق من يلتزم ظاهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، ومنهم المتأول لها، وهم يختلفون في أساليب التأويل وتوجيهه وجهات تتفق وروح المذهب العام الذي تدين به الفرقة، وفي كل حالة يظهر موقف المتكلم لا من مسألة اعتقادية خاصة، بل من الدين كله: فالمشبِّهة والمجسمة من المتكلمين غير المنزهة، والمعتزلة غير الأشاعرة والكرامية والحشوية، والشيعة غير أهل السنة، وهكذا. بل إن كل واحدة من هذه الفرق تتمثل الدين في صورة غير الصورة التي تتمثله فيها الفرق الأخرى على الرغم من اتفاقها جميعًا في المبدأ العقيدي الأول وهو مبدأ التوحيد.
أما الفرق الصوفية فلا خلاف بينها في مسائل العقائد، بل في الحياة الصوفية، ماهيتها ومقوماتها وغاياتها وأساليبها ومظاهرها. بعبارة أخرى يختلف الصوفية من حيث هم صوفية لا من حيث هم أشاعرة أو معتزلة أو ظاهرية، فقد يكون الصوفي واحدًا من هؤلاء أو من غيرهم. فهم يختلفون في نظرتهم إلى ذلك اللون من الحياة التي اختاروها وتميزوا بها عن غيرهم، وإلى ما ينكشف لهم فيها من غريب الأحوال والأطوار وإلى حقيقة هذا الكشف وقيمته الروحية، وأخيرًا يختلفون فيما يعدونه طريقًا ناجحًا موصلًا إلى مطلوبهم، ويتبعهم في هذا الطريق أصحابهم ومريدوهم.
- (١)
المحاسبية: نسبةً إلى الحارث بن أسد المحاسبي.
- (٢)
القصارية: نسبةً إلى حمدون بن أحمد القصار الملامتي.
- (٣)
الطيفورية: نسبةً إلى أبي يزيد طيفور بن عيسى البسطامي.
- (٤)
الجنيدية: نسبةً إلى أبي القاسم الجنيد.
- (٥)
النورية: نسبةً إلى أبي الحسين النوري.
- (٦)
السهلية: نسبةً إلى سهل بن عبد الله التستري.
- (٧)
الحكيمية: نسبةً إلى أبي عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي.
- (٨)
الخرَّازية: نسبةً إلى أبي سعيد الخرَّاز.
- (٩)
الخفيفية: نسبةً إلى أبي عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي.
- (١٠)
السيَّارية: نسبةً إلى أبي العباس السياري.
وليس لأحد آخر فيما نعلم تصنيف للفرق الصوفية من هذا النوع، بل هو نوع انفرد به الهجويري في كتابه العلمي الرائع، وهو ينظر في هذا الفصل من الكتاب إلى الميدان الصوفي العام ويحاول أن يتبين المعالم البارزة فيه، ويركز هذه المعالم حول كبار مشايخ الطريق الذين كان لهم أتباع وتعاليم روحية اصطبغ بها تصوفهم وخلفت أثرها في مجرى التصوف العام؛ لذلك أفرد كل واحد من هؤلاء المشايخ بفقرة خاصة طويلة أحيانًا وقصيرة أحيانًا أخرى، معالجًا أخص ما امتاز به تصوفه وتصوف فرقته، تاركًا مختلف التفاصيل التي يشترك فيها مع غيره، كما يعرج أحيانًا على المسائل التي هي موضع خلاف بين صوفي وآخر ليعرضها عرضًا موضوعيًّا مفصلًا ويورد أقوال الصوفية الآخرين فيها، ويسجل رأيه الخاص في أغلب الأحيان، وبهذا يضع الهجويري أمامنا صورة مصغرة لتاريخ المذاهب الصوفية واتجاهاتها منذ ظهر التصوف حتى نهاية النصف الثاني من القرن الخامس الهجري.
والآن نعرض بعض جوانب الحياة الصوفية التي وقع فيها الخلاف بين الفرق الصوفية حسب تقدير الهجويري لنتبين نوع هذا الخلاف ومداه، ولكننا سوف لا نتقيد في عرضنا بما يقوله الهجويري وحده في هذه المسائل، ومن ذلك:
(١-١) اختلافهم في الفقر والغنى
يتكلم الناس عادةً عن الفقر والغنى بمعناهما المادي: فالفقير عندهم هو المعدم الذي لا يملك ما يملكه الغني، والغني هو الذي أعطي بسطة في الرزق فكان له المال أو العقار أو غيرهما من متاع الدنيا، وقد تكلم أوائل الزهاد المسلمين عن الفقر والغنى بهذا المعنى فلم يتجاوزوا التصور المادي لهما؛ ولذلك جعلوا الفقر أساسًا في طريقهم وتجردوا عما يملكون من مال ومتاع، بل جعلوا هذا التجرد بداية لا بد منها للدخول في ميدان الزهد، وإذا تصفحنا أقوال إبراهيم بن أدهم وغيره من زهاد المسلمين في الفقر لم نجد في كلامهم إلا هذا.
ولكن الصوفية ابتداءً من القرن الثالث فلسفوا الفقر والغنى واتخذوا لهما معايير أخرى، وهي معايير لا صلة لها بالمال ولا بما يملك الناس من مقتنيات هذه الدنيا: وإنما صلتها بالنفس الإنسانية وصفاتها ورغباتها، وبالله وعلاقته بالعبد، ولذا كانت نظرتهم إلى الفقر والغنى نظرة ميتافيزيقية سيكولوجية عميقة بنوا عليها نظامًا في الزهد على مستوى روحي أعلى.
وقد شاع اسم «الفقير» في أوساط الصوفية في عصر مبكر في تاريخ التصوف حتى كاد يصبح عَلمًا على الصوفي، ولكن «الفقير» بالمعنى الصوفي ليس هو المعدم الذي لا يملك قوت يومه، ولا الأشعث الأغبر لابس المرقعة، وإن كان من الصوفية من هُم على هذا النحو، بل هو الصوفي الكامل الذي تحقق بصفات «الافتقار» إلى الله، وسار في حياته بمقتضى ما تَحَقَّق به، وهذه هي النقطة الأولى في فلسفتهم للفقر، وهي تفسيره بمعنى «الافتقار».
وعندما اختلف الصوفية أيهما أفضل: الفقر أم الغنى، لم يكونوا يفكرون في الفقر والغنى الماديين؛ إذ لا جدال بينهم في أن الفقر المادي من ألزم صفاتهم وأن الغنى المادي من الأشياء التي يجب أن يزهدوا فيها، وإنما الاختلاف في الفقر والغنى من حيث هما حالتان من حالات النفس، وفي أي هاتين الحالتين أولى بالصوفي أن يتحقق بها.
ذهب يحيى بن معاذ الرازي وأحمد بن أبي الحواري والحارث المحاسبي وأبو العباس بن عطاء ورُويم البغدادي وأبو سعد فضل الله بن محمد الميهني، إلى أن الاتصاف بالغنى أفضل من الاتصاف بالفقر: لأن الغنى من صفات الله وقد يوصف به العبد، والفقر من صفات العبد وحده، والصفة التي يمكن إطلاقها بالاشتراك على الله والعبد أفضل من تلك التي تطلق على العبد وحده، ولكن هذا استدلال خاطئ كما يلاحظ الهجويري: لأن جهة الاشتراك منفكة، وغنى الله ليس من نوع غنى العبد: إذ غنى الله معناه قيامه تعالى بنفسه وعدم افتقاره إلى غيره، وهو بذلك صفة قديمة لله. أما غنى العبد فهو استغناؤه بربه عن كل ما عداه، وهو صفة حادثة، ويذهب الهجويري إلى أن الغنى على الإطلاق إنما هو لله وحده، وأن الفقر صفة ملازمة للعبد، إذ الغني الحقيقي هو الغني عن الأسباب، ومن كان مصدر الأسباب كلها، وهو الله، كان هو الغني. يصف الله تعالى نفسه بأنه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ أي أنه لا يفتقر إلى شيء وليس معلولًا لشيء.
الرضا
وهو من الظواهر التي اختلف الصوفية في اعتبارها من الأحوال أو المقامات، وفي هل الرضا أفضل من الزهد أم الزهد أفضل منه.
وليست المسألة مسألة ألفاظ، وإنما هي من المسائل التي تظهر فيها النظرة العميقة إلى كنه الحياة الصوفية باعتبار «الرضا» عنوان هذه الحياة وجوهرها: فإننا إذا اعتبرنا «الرضا» حالًا من الأحوال، كان شيئًا وهبيًّا يلقيه الله في قلب العبد، ويرد عليه عندما يرد على فترات، شأنه في ذلك شأن الأحوال الأخرى. أما إذا اعتبرناه «مقامًا» فهو من الأمور الكسبية التي يحصلها السالك بالرياضة والمجاهدة والتفكير في حكمة الله وأفعاله، وما يصدق على «الرضا» يصدق على غيره من مظاهر الحياة الصوفية الأخرى كالتوبة والورع والمحبة: فإن لنا أن نتساءل عما إذا كانت هذه على الحقيقة أحوالًا أو مقامات، أو بعبارة أخرى عما إذا كانت مواهب أو مكاسب؟ وقد يكون من المبالغة اعتبارها كلها من المواهب الإلهية التي لا دخل لأعمال العبد فيها، فإن هذا يذهب بقيمة المجاهدات والرياضات جملةً. كما أن من المبالغة أن ذهب إلى أنها كلها من أكساب العبد فنسد الطريق على العناية الإلهية التي يختص بها الله من يشاء، والحل الوسط الذي يذهب إليه القشيري هو أفضل الحلول: فهي كسبية في بداية أمرها وهبية في نهايتها؛ أي إن الصوفي في بداية حاله يُنَازل نفسه ويجاهدها ويروضها فيسير بها في مقام الرضا أو الورع أو التوبة، ثم يهبه الله تعالى في هذه المقامات المواهب ويورد في قلبه الأحوال التي تزيده إيمانًا ويقينًا برضاه وورعه وتوبته.
ولكن «الرضا» نوعان: رضا من جانب العبد، ورضا من جانب الله. قال تعالى: رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، ورضا الله عن العبد مجازاته على طاعته وإعلاء ذكره في الدنيا والآخرة، في حين أن رضا العبد عن الله هو الإذعان التام بإرادة الله والتسليم بقضائه وقدره والقيام بأمره، وبهذا يسبق الرضا الإلهي رضا العبد لأن من لا يرضى الله عنه لايوفقه إلى طاعته، فرضا العبد رهنٌ برضا الله عنه ولازمٌ من لوازمه.
وإذا حصل العبد في مقام الرضا استوى عنده المنح والمنع، والعطاء والحرمان، واللذة والألم، واستوت في نظره الأحداث خيرها وشرها، ما كان منها من مجالي الجلال الإلهي كالفقر والمرض في هذه الدنيا وكعذاب النار في الدار الآخرة، ومجالي الجمال الإلهي كالغنى والصحة في هذه الدنيا ونعيم الجنة في الدار الآخرة. سئل الحسين بن علي رضي الله عنه عن قول أبي ذر الغفاري: «الفقر أحب إلي من الغنى والسقم أحب إلى من الصحة»، فقال: «رحم الله أبا ذر. أما أنا فأقول: إن من اتكل على حسن اختيار الله تعالى لم يتمن غير ما اختاره الله عز وجل.» فالذي أجاب بن الحسين بن علي هو ترك إرادة العبد والتفويض التام لإرادة الله، وهذا هو الرضا الصحيح.
والصوفي الكامل هو الذي يحوِّل نظره إلى المعطي دون الشي ء الذي أعطاه، فإذا أعطاه الله النعمى لا يكون رضاه بها من حيث هي نعمى، بل من حيث صدورها عن الله؛ لأن الرضا بالنعمى من حيث هي ارتكان إلى الأسباب. فالنعمى لا تكون نعمى إلا إذا أدت إلى المنعم.
وكذلك الذي يرضى بالبلاء، يرضى به ويحتمل آلامه لا من حيث هو بلاء بل من حيث صدوره عن الله الذي أنزله به، والذي يرضى بالاصطفاء لا يرضى به إلا من حيث صدوره عن الله الذي اصطفاه. فالله هو المقصود بالرضا في جميع هذه الأحوال، ومن كان رضاه بالله كان رضاه بكل شيء.
والرضا هو قلب الحياة الصوفية والمحور الذي تدور حوله أخلاق الصوفي، فمنه ينبع التوكل على الله والزهد في الدنيا، وهو الذي يورث السكينة في القلب والاطمئنان إلى أحكام القضاء الإلهي، وهو صنو المحبة الإلهية، بل هو ثمرتها لأن من شأن المحب أن يرضى بكل ما يفعله المحبوب. قال أبو عثمان الحيري: «منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته، وما نقلني إلى غيره فسخطته.» وهذا كمال الرضا وكمال المحبة.
ومن ذلك:
(١-٢) اختلافهم في أسلوب الملامة ومظاهرها
الملامة أسلوب من أساليب تقويم النفس ومحاربتها وتطهيرها من شوائب العجب والرياء، ابتدعته فرقة من أشهر فرق الصوفية وأبعدها أثرًا في تشكيل الحياة الصوفية في البيئة التي ظهرت فيها، وهي فرقة الملامتية.
من أشهر رجالها: حمدون القصار الذي يعتبر مؤسسها الحقيقي، وأبو حفص الحداد، وأبو عثمان الحيري، ويقوم مذهبهم الذي انتشر في نيسابور — وفي خراسان عامةً — ابتداءً من النصف الثاني من القرن الثالث على أصلين هامين: أولهما مقاومة النفس في كل ما يصدر عنها من أفعال وما يخطر بها من خواطر، وثانيهما إخفاء المظاهر التي تنم عن الحياة الروحية، وبخاصة ما يشير منها إلى الصلة بين العبد وربه، بل الظهور بين الناس بالمظاهر التي يبدو أنها لا تتفق مع ظاهر الشرع استجلابًا لملامة الناس وتأنيبهم، ومن هنا سموا «الملامتية». على هذين الأساسين بنى الملامتية نظامًا في التصوف العملي والنظري انفردوا به وامتازوا عن غيرهم من متصوفة العراق والشام الذين كانوا يعلنون مظاهر الورع والزهد ويحفلون بالطقوس والأشكال الدينية.
وفي محاربة الملامتية للنفس التي يعدونها أعدى أعداء الإنسان، حاربوا كل مظهر من مظاهرها ينبئ عن الرياء، فحرموا على أنفسهم وأتباعهم لبس «المرقعة» التي كانت شارة الصوفية وعنوان «الفقراء»؛ لما ينطوي عليه لبس المرقعة من ادعاء وما عسى أن يجلب للابسها من مدح الناس وإعجابهم وغير ذلك مما يدخل العجب إلى نفسه، وكذلك حرموا الظهور بين الناس بمظاهر الورع والتقوى والإيثار ونحو ذلك للسبب عينه. بعبارة أخرى، حرموا الرياء في الأعمال والأحوال والعلم، وقالوا باتهام النفس في كل ذلك ورؤية التقصير في كل ما يصدر عنها من أعمال الطاعة.
•••
أما من الأحوال فسنكتفي بذكر مثال واحد، هو اختلافهم في:
(١-٣) السكر والصحو
والسكر والصحو من أظهر الأحوال الصوفية وأخصها، وقد اختلف المشايخ في أيهما أفضل وأليق بالصوفي، وظهر هذا الخلاف في موقف أبي يزيد البسطامي وأتباعه من جانب، وأبي القاسم الجنيد وأصحابه من جانب آخر، وكان أبو يزيد من الصوفية الذين غلبت عليهم أحوال الجذب والوجد واختطفوا عن أنفسهم بالكلية؛ ولذا فاضت الأقوال المأثورة عنه بالتعبير عن الفناء والغيبة والسكر ونحو ذلك مما يشير إلى أنه كان في أغلب أحواله مأخوذًا مشغولًا عن نفسه وعن كل ما سوى الله بالله وحده، وقد أشرنا إلى الكثير من أقواله في كلامنا عن الفناء.
والفرق بين السكر والصحو أن الصوفي في حالة سكره مستغرق في سكره، وليس عنده علم ولا خبر ولا إدراك للفناء والبقاء. أما في حالة صحوه فهو مدرك لنفسه وللعالم حوله ولكنه ينظر إليهما بعين الفناء؛ إذ البقاء للموجود الحقيقي الذي هو الله وحده.
ويفضل أبو يزيد وأصحابه السكر على الصحو لأن الصحو في نظرهم يقتضي وجود الصفات البشرية التي هي أعظم حجاب يحول بين العبد وربه، أما السكر فهو محو لهذه الصفات ورفع لحجب الاختيار والتصرف والتدبير.
أما الجنيد وأصحابه فيفضلون الصحو على السكر لأن السكر يخرج بالعبد عن حالته الطبيعية ويفقده سلامة العقل الواعي والقدرة على التصرف، وسر المسألة في نظرهم هو «المعرفة» بحقيقة الوجود، فإذا عرف الإنسان الأشياء على حقيقتها فرَّ منها ونظر إليها بعين الفناء، ومن نظر إلى الأشياء بعين الفناء أدرك أنها معدومة بالإضافة إلى وجود الواحد الحق.
والسكر في نظر الجنيد وأصحابه أشبه بميدان لعب الأطفال وأليق بالمبتدئين في الطريق الصوفي، أما الصحو فهو الميدان الذي يصرع فيه الرجال وهو من صفات الصوفية المتمكنين. السكر عندهم توهم فناء الذات مع بقاء الصفات، وهذا هو الحجاب بعينه، أما الصحو فهو رؤية بقاء الذات مع فناء الصفات، وهذا هو الكشف.
ولذلك رفض مصاحبة الحلاج واعتبره رجلًا استسلم للمواجد ولم يكتم سرًّا كان أولى به أن يكتمه.
ومذهب الجنيد في تفضيل الصحو على السكر هو المذهب الذي أخذ به كبار الصوفية من بعده.
وأما ضعاف النفوس من المتأخرين الذين بالغوا في الطرف الآخر واعتبروا الجذب والغيبة والظهور بشتى ألوان الهوس والرعونة علامة من علامات أولياء الله، فلم يكونوا إلا أفاقين دخلاء على التصوف، والتصوف منهم براء.
هذه نماذج قليلة سقناها على سبيل الأمثلة لتوضيح بعض المسائل التي وقع فيها الخلاف بين من يسميهم الهجويري بالفرَق الصوفية، وهي — كما يرى القارئ — مسائل تفصيلية لا تمس جوهر الحياة الصوفية في شيء، ولكنها تكشف عن بعض دقائقها، وتظهرنا على مدى تغلغل القوم إلى أعماق نفوسهم، ومقدرتهم على تحليل ألطف وأدق معاني التصوف والأحوال التي يعالجونها في حياتهم الصوفية، ناظرين في هذا التحليل دائمًا إلى الله وصلتهم به.