الولاية في التصوف الإسلامي
الولي لغة القريب والمحب والصديق والنصير والمولى والمالك والعبد والمعتِق والمعتَق والصاحب والجار والحليف والمنعِم والمنعم عليه إلخ. فكلمة «الولي» قديمة في اللغة العربية قدم اللغة ذاتها: استعملت قبل الإسلام كما استعملت في القرآن قبل أن يظهر التصوف أو التشيع أو غيرهما من النظم التي استعملت الكلمة فيها فيما بعد.
وربما كان «القرب» هو المعنى البدائي الأول للولاية: لأن اسم الولي كان يطلق على الابن والعم وابن العم وابن الأخت وغير هؤلاء من أقرباء الدم، ولما كانت قرابة الدم تقتضي في الحياة القبلية نصرة القريب ومؤازرته، اكتسبت الولاية منذ البداية معنى النصرة والمؤازرة والحماية وما شاكل ذلك من المعاني، ثم تجاوزت مدلول قرابة الدم إلى مدلول آخر هو القرابة المعنوية كقرابة الجوار وقرابة المحبة وغيرهما.
وقد وردت كلمة «ولي» و«أولياء» في عدد غير قليل من الآيات القرآنية، ووصف الله تعالى نفسه بأنه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا (قرآن، ٢: ٢٥٧)، ووَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (قرآن، ٣: ٦٨)، ووَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (قرآن، ٤٥: ١٩)، وأنه هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى (قرآن، ٤٢: ٩)، وأنه هُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (قرآن، ٤٢: ٢٨)، وقال تعالى مخاطبًا المؤمنين: مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (قرآن، ٢: ١٠٧). كما وردت كلمة «أولياء» بالجمع للدلالة على عباد الله المقربين إليه المجاهدين في سبيله (قرآن، سورة يونس: ٦٢).
وفي هذا كله لم تخرج الكلمتان عن معناهما اللغوي البسيط، ولكن هذا المعنى تطور تطورًا عجيبًا على أيدي المفسرين من أهل السنة والشيعة والصوفية، وكان أكثر تطوره في البيئات الشيعية ثم الصوفية؛ لأن الصوفية يدينون للشيعة بمعظم ما قالوه في الولاية والأولياء.
وهكذا نرى «الولاية» تتحول من معناها القرآني الذي هو النصرة والحماية اللتان يمنحهما الله عباده المؤمنين والمتقين والمقربين إليه إطلاقًا، إلى نصرة وحماية طائفة خاصة لها شروط وعلامات، وبعد أن كانت حقًّا مشاعًا لجميع المسلمين أصبحت قاصرة على نفر تنتقل إليهم انتقالًا وراثيًّا من النبي، ثم من علي وبنيه.
فكأن الولاية — بهذا المعنى — امتدادًا للنبوة ومقصورة على الأئمة، ولما وجد الشيعة أن هؤلاء الأئمة المعصومين بحاجة إلى إثبات ولايتهم، قالوا إن ذلك يتم بظهور الخوارق على أيديهم، وأن هذه الخوارق لهم دون غيرهم.
ولما جاء دور الصوفية، كان من الطبيعي أن تتسرب إلى أوساطهم أفكار الشيعة عن الولاية، لا سيما وأن التصوف والتشيع نبتا وترعرعا زمنًا طويلًا في بيئة واحدة هي البيئة العراقية والفارسية. غير أن الصوفية لم يقفوا بالولاية عند الحدود التي رسمها الشيعة، بل تجاوزوا هذه الحدود وتوسعوا في معنى الولاية في عصورهم المتأخرة، وخاضوا في مسائل لم يخض فيها الشيعة ولم تخطر لهم ببال، فتكلموا عن معنى الولي إطلاقًا لا الولي الإمام، وذكروا صفات الأولياء ووظائفهم ومراتبهم وقارنوا بين الولاية والنبوة وناقشوا أيهما أفضل، كما تكلموا في ختم الولاية وغير ذلك من المسائل التي سنعرض لها.
(١) الولي والصوفي
أخص صفات الولي في الإسلام القرب من الله، وفي القرآن شواهد تدل على أن الله اختص بعض عباده بالقرب منه، وبهذا المعنى العام يدخل الأنبياء في الأولياء، كما يدخل فيهم الصوفية وغير الصوفية؛ لأن صفة القرب من الله حظٌّ مشتركٌ بين هؤلاء جميعًا، وكذلك اختصاص الله الأولياء بالحفظ أو العصمة أو ما شابههما من الصفات. بل إن السراج صاحب اللمع ليذهب إلى أن «خاصة أهل الله»، وهو وصف أطلقه الصوفية على أنفسهم، ينطبق أولًا على الأنبياء الذين اختصهم الله بالوحي والرسالة والعصمة من الزلل، وينطبق ثانيًا على الأولياء الذين اختصهم بصدق الورع والتعلق بالحقائق.
ولكن جمهور الصوفية يطلقون اسم «الولي» على الصوفي الذي حصل في مقام القرب من الله بفضل قداسته وورعه وفنائه في محبة ربه، ويعتبرون الولاية والنبوة مرتبتين مختلفتين مستقلتين إلى حد أن يمكن المفاضلة بينهما كما سيأتي بيانه، وإذا قالوا إن الصوفية خاصة المسلمين والأولياء خاصة الصوفية، فمعنى هذا أن الأولياء خاصة المسلمين، وأن الولاية أعلى مرتبة روحانية يصل إليها المسلم.
ولا تقترن الولاية في الإسلام السني بمعنى من معاني الألوهية، فلا يدَّعي الولي أن فيه جانبًا إلهيًّا على سبيل الفيض أو الحلول أو ما شاكلهما، وإن كان يدعي أو يُدَّعى له، أن الله أودع فيه قوة أو صفة خارقة تعصمه — بدنًا وروحًا — من أن يأتي بمعصية، وهذه هي القوة التي تفسر ما يعتقده الصوفية من أن الولي في استطاعته إتيان الكرامات والأخبار بالمغيبات، وأنه مستجاب الدعوة، صادق الفراسة، قادر على تسخير قوى الطبيعة، تحل بركته أينما وضعها، وتتحقق لعنته حيثما أرسلها، واستجابة الدعوة قديمة في الإسلام: قيل إن سعد بن أبي وقاص اختص من بين الصحابة بقبول دعائه، وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك.»
•••
الولي رجل مشغول بالله، يقضي حياته في صحبة مولاه. رجل تجرد عن شهواته وعن علاقاته بنفسه وبالعالم حوله، ومن الطبيعي على من وصل إلى هذه المرتبة وتهيأت نفسه هذا التهيؤ الروحاني ألا يدخل إلى حياته المنعزلة عن مجرى التجارب الإنسانية العادية إلا الأفكار والخواطر التي تتفق وهذه الحياة. بل هنالك ما هو فوق هذا وأعلى من هذا، وهو أن الولي بفضل ما بلغه من درجة الصفاء الروحي له قدرة على إدراك معاني الغيب والكشف الإلهامي عن حقائق الأشياء. أما الإتيان بالكرامات وخوارق العادات فمن الأمور التي يدعيها جمهور الصوفية لأنفسهم عادةً، وإنما يضفيها عليهم العامة من أتباعهم تمجيدًا لهم ورفعًا من شأنهم، وقد قيل بحق أن عددًا كبيرًا من المسلمين في البلاد التي غلب عليها الجهل والاعتقادات في الخرافات ليس لهم بالله إلا صلة روحية ضئيلة، وأن كل صلتهم بالأولياء مباشرة، فهم يتصلون بالله عن طريق هؤلاء الأولياء. غير أنه يجب ألا ننسى أن مثل هذه الاعتقادات في الولي ووساطته وقوته سابقة على التصوف سبقًا تاريخيًّا، فإن فكرة الولاية أو ما يعادلها، كانت موجودة في البلاد التي فتحها المسلمون وكانت منتشرة انتشار الإسلام نفسه، فلما ظهرت حركة التصوف في البلاد الإسلامية لم تخلق فكرة الولاية خلقًا، وإنما شكلت أفكارًا كانت جزءًا من التراث الروحي لهذه البلاد بأن أبرزت فيها الجانب الصوفي من الحياة الدينية.
(٢) الولاية منحة إلهية
والولاية في نظر الصوفية مرتبة لا يصل إليها الولي بأعماله ومجاهداته، وإنما هي منحة إلهية يمنحها الله من يشاء من عباده، وقد يكون الولي على حظٍّ كبيرٍ من العبادة والزهد والمعرفة، وقد لا يكون، ولكن صفة واحدة يجب أن يتصف بها وهي اشتغاله بالله وحده وحياته فيه، وهذا هو المعنى الذي يشير إليه الصوفية بكلمة «الجذب» التي هي علامة على «الفناء» في الله. فالولي في الإسلام هو «المجذوب» إلى الله، ومن كان بهذه المثابة كان وليًّا، وإذا أضيف إلى هذا الجذب «الكرامات» اعترف الناس بولايته في حياته وبعد مماته، وقد يوجد الولي ويعيش ويموت مغمورًا لا يعرف الناس ولايته ولا يدركها هو في نفسه.
ومعنى منح الله الولاية للولي أنها مقدَّرة أزلًا، شأنها في ذلك شأن المراتب الروحية الأخرى كالهداية واستجابة الدعاء وغيرهما من الأمور التي يرى الجبريون من الصوفية أنها أمور قدرها الله على العبد لا تكتسب بالجهد والعمل، وإنما يهبها الله لمن يشاء فضلًا منه ونعمةً. فالولاية بهذا المعنى «نور» يقذفه الله في قلب العبد، به يعرف العبد ربه. يقول الحسين بن منصور الحلاج: «لولا تعرفه (أي الله) لك ما عرفته.» أي تعرفه لك عن طريق ذلك النور، وهذا النور على درجات تتفاوت قوةً وضعفًا وتختلف باختلاف درجات القرب من الله، والصوفية يتحدثون عن «المكث في درجة القرب»، فمن الأولياء من يمكث في درجة المحادثة، ومنهم من يمكث في درجة المجالسة، ومنهم من يمكث في درجة المناجاة؛ ولذلك يسمون «أهل الحديث» وأهل المجالسة وأهل المناجاة وهكذا، وأعلى درجات القرب وأقواها درجةً المشاهدة التي هي درجة الفناء في عين الألوهية كما يقول ابن عربي.
(٣) صفات الولي
ظهر مما تقدم أن للولاية في الإسلام معنيين: معنى عام غير اصطلاحي وهو ولاية كل مؤمن قرَّبه الله إليه كما وردت في ذلك الآيات القرآنية التي أسلفنا ذكرها، ومعنى خاص اصطلاحي وهو الولاية التي لها تعريف خاص وشروط ونظام، وقد ظهر لنا عند النظر في صفات الولاية بالمعنى الثاني أن كثيرًا من هذه الصفات له نظائره في الولاية بالمعنى العام، وأن الباقي هو من الصفات التي خلعها رجال التصوف على الأولياء في عصور متأخرة، وسنذكر النوعين جميعًا لأن منهما تتألف الصفات التي يتميز بها الولي المسلم.
-
(١)
من أوائل هذه الصفات وأقدمها أن الولي شخص يؤيده الله وينصره. ظهر هذا المعنى في الإسلام قبل ظهور التصوف وأولياء الصوفية كما قلنا: أي ظهر منذ ابتدأت الدعوة إلى الإسلام، وكان معنى الولاية نصرة الله للعبد لنصرته لدين الله. فالذين جاهدوا في الله كانوا أولياءه، وكذلك الذين اتقوا وأخلصوا في دينهم، وكذلك الذين اضطهدتهم قريش وآذتهم من أجل إسلامهم، كل هؤلاء كانوا أولياء لله حسب النصوص القرآنية الواردة فيهم، وفيهم جميعًا نزلت الآية: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (قرآن، ١٠: ٦٢)، وورد الحديث: «من آذي وليًّا فقد عاداني.» وقد احتفظت هذه الصفة بمعناها — وهو التأييد والنصرة — عندما دخلت كلمة «الولي» إلى الأوساط الصوفية وأخذت صورتها النهائية الاصطلاحية.
-
(٢)
ومن الصفات القديمة للولي أيضًا إكرام الله إياه، ويظهر هذا الإكرام في مظاهر شتى أخصها الكرامات التي تتأيد بها ولايته وتعرف بها منزلته، وقد أشار القرآن إلى ظهور هذه الكرامات وخوارق العادات على يد من اختصهم الله بالولاية، فاتخذ الصوفية من ذلك سندًا يستندون إليه في دعوى ظهور مثل هذه الخوارق على أيديهم. من ذلك قوله تعالى في قصة مريم: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ،٣ وقال تعالى مخاطبًا مريم أيضًا: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا٤ ولم يكن الوقت وقت ظهور التمر ولا أوان نضجه.وقال تعالى في قصة نقل عرش بلقيس إلى مجلس سليمان: قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ (أي العرش) قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ؛٥ فالذي عنده علم من الكتاب وليٌّ في استطاعته أن يحضر عرش بلقيس إلى مجلس سليمان في لمحة بصر وهي أقصر بكثير من الذي يستغرقه قيام الشخص من مكانه.
وقد قص الله في القرآن الأعاجيب التي ظهرت على أيدي أهل الكهف وذي القرنين الذي مكن الله له في الأرض ما لم يمكن لغيره، والخضر الذي أتى بكثير من خوارق العادات عندما التقى بموسى من إقامة الجدار ونحوها، وكل هؤلاء لم يكونوا أنبياء وإنما كانوا أولياء.
والإجماع منعقد من المسلمين على أن للأولياء كرامات، ولكن كبار الصوفية يحذرون من الركون إليها والاغترار بها؛ مخافةً أن تكون نوعًا من الابتلاء يبتلي الله به العبد ويمتحن به صدقه، ويرى بعضهم أنه يجب ألا يتحدث الولي عنها أو يتحدى بها.
قال أبو الحسين النوري: «كان في نفسي شيء من الكرامات، فأخذت قصبة من الصبيان وقمت بين زورقين ثم قلت: وعزتك لئن لم تخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرقن نفسي. قال: فخرجت لي سمكة فيها ثلاثة أرطال»، فبلغ الجنيد ذلك فقال: «كان حكمه أن تخرج له أفعى فتلدغه.»٦ وقيل لأبي يزيد البسطامي: فلان يمشي في ليلة إلى مكة، فقال: الشيطان يمشى في ساعة من المشرق إلى المغرب في لعنة الله، وقيل له: فلان يمشي على الماء ويطير في الهواء، فقال: الطير يطير في الهواء والسمك يمر على الماء، وقال سهل بن عبد الله التستري: «أكبر الكرامات أن تبدل خلقًا مذمومًا من أخلاقك.»٧هذه كلها شواهد على أن كبار الصوفية من أمثال الجنيد وأبي يزيد وسهل بن عبد الله يحقرون من شأن الكرامات ولا يدعونها لأنفسهم؛ لأنهم يرون فيها مجالًا للفتنة والغرور وسبيلًا إلى الرياء، وأن التحدث عنها والتحدي بها فيهما ركون إلى ما سوى الله، وهذا بعينه هو الشرك الخفي عندهم، وأكبر الكرامات في نظر سهل بن عبد الله تغيير صفات النفس وتطهيرها من شوائبها لا ما ذكروه من خوارق الطبيعة.
ومما يتصل بكرامات الأولياء تسخير قوى الطبيعة لإرادة الأولياء، وهو اختصاص كان للأنبياء كما تشهد به الآيات القرآنية التي تشير إلى تسخير الريح لسليمان: تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ، وتسخير الملائكة لمحمد يحاربون في صفوفه في غزوة بدر، إلخ، وقد توسع الصوفية في معنى التسخير والتصرف في الكون وأكثروا الكام فيهما، حتى لا نكاد نجد وليًّا من الأولياء لم تنسب إليه هذه القوة الخارقة، أو لم تذكر الأساطير وجود هذه القوة له. تكلموا عن التسخير والتصرف بالهمة وبالقول، وباستعمال الأسماء والحروف، لا سيما اسم الله الأعظم الذي هو من أعظم الأسرار عندهم.والظاهر أن لكل هذا صلة ببعض الآراء المزدكية التي كانت منتشرة في خراسان ونقلها إلى الأوساط الصوفية أمثال الترمذي والحلاج، وربما كانت متصلة أيضًا بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة المتأخرة نقلها عن هذا المصدر إلى التصوف ذو النون المصري الذي كان مشهورًا بعلوم الأسرار.
-
(٣)
وإذا نظرنا إلى الولي من وجهة نظر الصوفية، قلنا إن أخص صفاته وأبرزها أنه رجل فني في الله، أو أنه المجذوب في حب الله، والفناء عند الصوفية نهاية الطريق وعتبة الوصول إلى الله، وباب الولاية ومقامها. فالولي في نظرهم هو من استولى عليه سلطان المحبة الإلهية فلم يترك في قلبه متسعًا لغير محبوبه، وهو الذي تجرد عن إرادته وحوله وقوته، وأصبح لا يشعر بوجود غير وجود الحق، هو الصوفي الفاني عن وجوده الباقي بالحق. سئل أبو بكر الواسطي عن الولي كيف يغذيه الله فقال:في بدايته بعبادته، وفي كهولته بستره ولطافته، ثم يجدُّ به إلى ما سبق له من نعوته وصفاته، ثم يذيقه طعم قيامه به في أوقاته.٨فالأولى درجة العبادة، وهي أول الطريق ومرتبة المبتدئين من المريدين، والثانية درجة ستره عن الناس بانقطاعه إلى الله وشغله به عمن سواه، وفي هذه المرتبة يغذي الله وليه بستره ولطفه، والثالثة درجة يظهر الله فيها للولي ما سبق أن قدره له من الصفات، فهي درجة تعريف الولي بولايته وإيقافه على منزلته، والرابعة درجة يذيقه الله فيها قيامه به، ويكشف له فيها أنه السامع منه إذا سمع، والمبصر منه إذا أبصر، والباطش منه إذا بطش، وهكذا. قال تعالى مخاطبًا النبي عليه السلام: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وهذا هو الفناء الصوفي بعينه.
-
(٤)
ومن صفات «الولي» أن يكون محفوظًا كما أن من صفات النبي أن يكون معصومًا: أي محفوظًا ومعصومًا من مخالفة الشرع؛ لأن كل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخدوع كما يقول القشيري، ومعنى هذا الشرط أن كلًّا من النبي والولي لا يعصي الله ولا يأتي ما يتعارض مع الشرع، ولكنها يختلفان: فعدم العصيان في النبي راجع إلى العصمة وهي أمر يخلقه الله في النبي، فهو لا يعصي ربه لأن الله وهبه قوة يدرأ بها العصيان، أو وهبه مناعة من العصيان. أما الولي فهو إنسان كسائر الناس فيه المقدرة على أن يعصي وأن يطيع، ولكن الله يحفظه من المعصية بأن يبعث في قلبه نورًا يهديه ويصرفه عنها. فالفرق بينهما كالفرق بين رجلين لا يمرضان بمرض معين، ولكن أحدهما لا يمرض به لمناعة طبيعية في جسمه، أما الآخر فلا يمرض به لتناوله شيئًا من الدواء يحميه من المرض بحيث لو تخلى عن تعاطي هذا الدواء سقط فريسةً للمرض.
والظاهر أن التفرقة بين العصمة والحفظ مسألة أثارها متأخرو الصوفية، وأن الأصل كان العصمة لكلٍّ من النبي والولي، للنبي أولًا، وللولي بالوراثة الروحية، وهذا بالفعل ما كان عليه الأمر في أوساط الشيعة، فقد أسندوا ذلك الاختصاص النبوي إلى عليٍّ أولًا ثم إلى الأئمة من بعده، وعن طريق الشيعة دخلت الفكرة إلى الأوساط الصوفية، ثو توسع فيها المتأخرون على النحو الذي أشرنا إليه.
والله لا يحفظ الولي من المعصية وحدها، بل من كل ما يكون للشرع عليه اعتراض، وبذلك يدخل في الأشياء التي يحفظ الله الولي منها كل مخالفة لآداب الشرع وإن لم تكن معصية. قيل: قصد أبو يزيد البسطامي بعض من وصفوا بالولاية، فلما وافى مسجده قعد ينتظر قدومه، فخرج الرجل وتنخم في المسجد، فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه، وقال: «هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة، فكيف يكون أمينًا على أسرار الحق؟»٩ويرى بعض الصوفية أن الحفظ بالنسبة إلى الولي غير واجب وجوب العصمة للنبي، بل يكفي في حفظ الولي ألا يصر على الذنوب إن وقعت منه هنات أو زلات، ووقوع مثل هذه الزلات غير ممتنع على الولي في نظر هؤلاء. قيل للجنيد: ألعارف يزني يا أبا القاسم؟ فأطرق مليًّا ثم رفع رأسه وقال: وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا.١٠ وهذا معناه بقاء الولاية على الولي حتى بعد معصيته بشرط أن يقلع عنها ويتوب توبةً نصوحًا، ولا ترتفع الولاية عنه إلا إذا أشرك أو ثبتت ردته.وهذا هو الرأي الذي عليه الحكيم الترمذي والجنيد وأبو الحسين النوري والحارث المحاسبي، وحجتهم في هذا أن الكبائر لا تتعارض مع الإيمان. أما غيرهم من أمثال سهل بن عبد الله التستري وأبي سليمان الداراني وحمدون القصار فيقولون إن الولاية رهن ببقاء الطاعة، وإن الكبيرة إذا خطرت ببال الولي سقطت عنه ولايته.
وظاهر أن مرد الخلاف بين الطائفتين يرجع إلى الخلاف القديم بين علماء الكلام في معنى الإيمان نفسه، وكلامهم في صاحب الكبيرة أمؤمن هو أم كافر؟ ولما كان الإيمان أساس الولاية انتقل الخلاف من الأصل إلى الفرع.
-
(٥)
وآخر صفات الولي «الشفاعة» فقد ادعى صوفية المشرق خاصةً أن الأولياء شفعاء عند الله في الخلق يوم القيامة، وجهروا بذلك بين الناس وبالغوا كل المبالغة، بل إنهم ادعوها لأنفسهم سواء أكانوا من الأولياء أم لم يكونوا، أو على الأقل ادعاها الكثيرون منهم ومنحوا الحق فيها لتلاميذهم. قال بعضهم: «ليس من تلاميذنا من لم يكن يوم القيامة شفيع أهل النار ويدخلهم الجنة»! روي هذا أو مثله عن حاتم الأصم وأبي يزيد البسطامي، وادعى الشبلي أن محمدًا عليه السلام سيشفع يوم القيامة في أمته، أما هو فسيشفع بعده في أهل النار حتى لا يبقى فيها أحد.١١ولا أدري كيف يوفق الشبلي — إن صح صدور هذا القول عنه — بين شفاعته التي ستنتهي بخروج أهل النار منها، وبين قوله تعالى خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا؟ على أن الشبلي لم يكن المسلم الوحيد الذي تكلم عن مصير جهنم في الدار الآخرة وأن مآلها إلى الزوال، لا من أجل شفاعة الشافعين بل لأسباب أخرى تتعلق بطبيعة الله الذي قال إنه صادق الوعد ولم يقل صادق الوعيد. فقد ذهبت طائفة من المتكلمين منهم أبو الهذيل العلاف، ومن الصوفية منهم ابن عربي، إلى القول بأن جهنم ستخبو نارها وتتغير طبيعتها على مر الزمن، ويُزيد ابن عربي أن العذاب فيها سيتحول إلى نوع من النعيم يخالف في طبيعته نعيم أهل الجنة. يقول:وإن دخلوا دار الشقاء فإنهمعلى لذة فيها نعيم مبايننعيم جنان الخلد فالأمر واحدوبينهما عند التجلي تباينيسمى عذابًا من عذوبة لفظهوذاك له كالقشر والقشر صاين١٢
(٤) المفاضلة بين الأولياء والأنبياء والملائكة
وليست هذه «الأسماء» إلا الصفات التي أودعها الله آدم وذريته، ولم يودعها كلها، بل أودع بعضها في الملائكة؛ ولهذا كانت طبيعة الإنسان أكمل وأتم، ومرتبته في سلم الوجود أعلى من طبيعة الملائكة؛ لأن فيه نزعات الخير التي يتمثل فيها الجمال الإلهي، ونزعات الشر التي يتجلى فيها الجلال الإلهي، في حين أن الملائكة ليس فيهم من هذه الأخيرة شيء، فهم مجبولون على الطاعة والعبادة لا تجد المعصية إليهم سبيلًا لأنهم لم تتهيأ لهم أسبابها. أما الإنسان فبذور الشر والمعصية أصيلة في جبلته، فإذا غالب شهوته وهواه وكبح جماح نفسه، وانتهى به الأمر إلى الطاعة، كان أفضل من الملائكة، ومن يكسب النصر في ساحة القتال خير ممن يمنح النصر منحًا!
وإذا كان الإنسان من حيث هو إنسان أفضل من الملائكة، كان الأنبياء أفضل منهم من باب أولى لأن الأنبياء خاصة البشر. هذا هو رأي أهل السنة وجميع مشايخ الصوفية. أما المعتزلة فالملائكة عندهم أفضل لأنهم — في نظرهم — أعلى درجةً وألطف طبيعةً وأكثر طاعةً، ولكن هذه الصفات ليست الصفات التي تقع بها المفاضلة، وإلا لكان إبليس — وكانت له هذه الصفات جميعها — أفضل خلق الله، مع أن الكل مجمعٌ على لعنته بشهادة الله.
وظهرت مسألة المفاضلة بين الأنبياء والأولياء في التصوف وكان أول من أثارها متصوفة الإمامية بالكوفة: رياح وكليب من زهاد الزنادقة. ثم ظهرت بعد ذلك في كلام متصوفة الشام كأبي سليمان الداراني المُتوفَّى سنة ٢١٥ وأحمد بن أبي الحواري المُتوفَّى سنة ٢٣٠، وكل هؤلاء يذهبون إلى تفضيل الأولياء على الأنبياء جملةً، وكذلك يذهب هذا المذهب محمد بن علي الحكيم الترمذي الذي يستشهد بالحديث القائل: «إن لله أولياء ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء.» ولكن أهل السنة يجمعون على تفضيل الأنبياء على الأولياء، ويرون أن الولاية امتداد للنبوة وتأييد دائم لها؛ لأن النبوة انقطعت بموت النبي، والولاية لا تنقطع. فالأولياء هم خلفاء النبي وورثته الروحيون الذين يحملون الشعلة المقدسة من بعده، وفي هذا يقول الهجويري: «وقد أراد الله أن يظل برهان النبوة قائمًا إلى يومنا هذا، فجعل الأولياء وسيلة لإظهار هذا البرهان لكي يستقر الحق به وتظل حقيقة نبوة النبي ظاهرة.»
أما تأييدهم الدائم للنبي فبما يظهره الله على أيديهم من الكرامات التي تمكن لهم في نفوس الخلق وتحمل الناس على إجلالهم وتعظيمهم، وبالتالي على إجلال وتعظيم صاحب الشرع الذي يتبعونه. فالناس بعد النبي ليسوا بحاجة إلى نبي جديد ولا إلى معجزة جديدة تظهر على يد نبي، ولكنهم بحاجة إلى أولياء كاملي الإيمان مؤيدين بتأييد الله يذكرون الناس برسالة النبي إذا نسوها أو قصروا في اتباعها.
ويحاول الهجويري أن يثبت أفضلية الأنبياء على الأولياء بدليلين: أحدهما عقلي نظري والآخر صوفي. أما العقلي فهو أن الأولياء أتباع للأنبياء، والتابع أدنى منزلةً من المتبوع فلا يمكن أن يكون أفضل منه، وأما الدليل الصوفي فهو أن الأولياء على سفر إلى الله، أما الأنبياء فواصلون إلى الله منذ البداية، وصلوا إليه ثم عادوا برسالاتهم لدعوة الناس وتعليمهم، والواصل إلى نهاية الطريق أفضل من السالك الذي لا يزال يسير حتى نهايته. ألا ترى أن «المشاهدة» أول درجات الأنبياء وهي آخر درجات الأنبياء، فإنه إذا وصل الولي إلى مقام الجمع استغرق في محبة الله واشتغل قلبع بمشاهدة فعل الله بحيث لا يرى في الوجود غيره. يقول أبو علي الروذباري: «لو سقط عنهم (أي الصوفية) مشاهدة معبودهم لسقط عنهم وصف العبودية.» ولكن هذه حال الأنبياء على الدوام — على حد قول الهجويري — سواء أكانوا في البدء أم في النهاية.
وهكذا يجعل الهجويري من الأنبياء صوفية من طراز خاص غير طراز أولياء الصوفية. يجعل منهم صوفية واصلين إلى الله منذ بداية أمرهم، مشاهدين له في كل شيء بمحض طبيعتهم. أما أولياء الصوفية، فهم سالكون لا يزالون يشقون طريقهم إلى الله ويطلبون مشاهدته والوصول إليه، وليس السالك في الطريق كمن وصل إلى نهايته، ومن هنا كان الأنبياء أفضل من الأولياء. أما المعتزلة فيتنكرون فكرة المفاضلة من أساسها ويقولون لا مؤمن أفضل من مؤمن، والإيمان هو الأساس الجامع بين المؤمنين. بل هم ينكرون الولاية نفسها ويقولون إن المؤمنين جميعًا أولياء الله لو كانوا مؤمنين حقًّا، ولو كانت الولاية تقتضي الكرامة لأعطيت الكرامة لكل مؤمن؛ لأن الإيمان هو الأصل والكرامة فرع عنه، والمشاركة في الأصل يقتضي المشاركة في الفرع.
ولابن عربي مذهب خاص في الولاية يختلف عن كل ما ذكرناه، كما أن له وجهة نظره في المفضالة بين الرسالة والنبوة من جهة، والولاية من جهة أخرى.
فالرسول ولي من حيث معرفته بأمور الغيب، ورسول من حيث أنه مكلف بتبليغ رسالة إلى الخلق، والنبي ولي من حيث علمه بالغيب أيضًا، وكذلك الحال في بقية السلسلة التي أسلفنا ذكرها.
فالولاية إذن هي أساس المراتب الروحية كلها، وهي العنصر المشترك بينها. ثم إنها في الأصل صفة من صفات الله الذي أخبر عن نفسه بأنه «الولي»، ولا يصح إطلاقها إلا على الكاملين من الناس الذين حققوا وحدتهم الذاتية مع الحق، ومن صفاتها الثبات والدوام بخلاف الرسالة ونبوة التشريع فإنهما تنقطعان.
ويطلق ابن عربي على الولاية بهذا المعنى اسم «الخلافة العامة» وهي الخلافة الحقيقية التي على رأسها «الروح المحمدي»، وهو منبع العلم الباطن لجميع الأنبياء والأولياء.