النظريات التي قيلت في أصل التصوف
- أولًا: النظرية القائلة بأن التصوُّف تعبير عن الناحية الباطنية في الإسلام، وهذا هو ادِّعاء الصوفية أنفسهم؛ لأنهم يَعتبرُون أنفسهم ورثة الرسول؛ أي ورثة العلم الباطن. فالتصوُّف بهذا المعنى إدراك باطني لحقائق الشريعة المعبِّر عنها بلسان الظاهر، والباطنيون يُأوِّلُون القرآن تأويلًا خاصًّا لم يُؤْثَر على النبي أنه فعله، كما لم يُؤثَر عنه أنه كان صوفيًّا بهذا المعنى ولا باطنيًّا.
- ثانيًا: النظرية القائلة بأن التصوُّف رد فعلٍ للعقل الآري ضد دينٍ سامٍ فرض
عليه فرضًا، ولهذه النَّظرية صورتان:
- (أ) الصورة الهندية: والقائلون بها يَرون أوجه الشبه
بين بعض النظريات الصوفية في أرقى أشكالها وبين
«الفيدانتا»، ولكنه شبه ظاهري لا حقيقي؛ لأنَّ الفناء
الصوفي الإسلامي — وهو أخصُّ مظاهر التصوف — يختلف عن
النرفانا الهندية.
ولا يوجد من الناحية التاريخية ما يُؤيِّد أي اتصال بين المسلمين والهند قبل ظهور التصوُّف، ولم يكتب شيء بالعربية عن الهند قبل اكتماله، كما يدلُّ على ذلك كتاب البيروني «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة» فإن هذا الكتاب الذي كان الأول من نوعه، ظهر بعد ظهور التصوُّف بزمن طويل، والبيروني من العلماء الثقات الذين عَرفُوا الهند ولغتها السنسكريتية وتاريخها وأدبها وفلسفتها.
ولكن هذا لا يعني أنه لم يكن لبعض الأفكار الهندية أثر في متأخِّري الصوفية كما أشار إلى ذلك فون كريمر في كتابه «تخطيطات في تاريخ الثقافة» Kulturgeschichte Streifzüge. - (ب) والصورة الثانية هي الصورة الفارسية التي
يدَّعي أصحابها أن التصوف الإسلامي نتاج فارسي في
نشأته وتطوُّره، ولكنها أيضًا دعوى لا تقوم على أساس
من التاريخ.
نعم كان عدد كبير من أوائل الصوفية من أصل فارسي، ولكن أغلب متأخِّريهم كانوا من أصل عربي؛ كابن عربي وابن الفارض، وأكثر الذين تأثَّرُوا بابن عربي — العربي القح — كانوا من الفرس كالعراقي وأوحد الدين الكرماني وعبد الرحمن جامي وغيرهم.
وسواء قيل إن أصل التصوف الإسلامي هندي أو فارسي فإن السبب فيه راجع إلى تعصُّب لفكرة الآرية ضد السامية، وادِّعاءٍ من جهة المتعصِّبين بأن العقلية السامية ليست أهلًا للفلسفة ولا للتصوُّف ولا للعلوم والفنون؛ ولذلك تُنكر نظرياتهم في التصوف الإسلامي كل أصالة، وتجعل منه نتاجًا للتفاعُل السلالي واللُّغوي والقومي للشعوب الآرية التي غزاها الإسلام، وأول ما يُعاب به على هذه النظرية هو أن الثقافة الإيرانية والسلالة الإيرانية في القرن الثاني الهجري الذي ظهر فيه التصوف كانتا آريتَين صرفًا، وهذا ما يَتنافى مع التاريخ.
ومن ناحية أخرى، إذا سلَّمنا بأن التصوُّف كان رد فعل للعقل الآري ضد دينٍ سامٍ فُرض على فارس فرضًا، وأن كبار المفكِّرين الفارسيين لم يَعتنقُوا الإسلام إلا صورةً، وكان غرضهم الأول تشويه الإسلام وقلب أوضاعه لأغراضٍ قومية وسياسية، إذا سلمنا بكل هذا تكون النظرية القائمة على تمجيد العنصر الآري في الوقت نفسه ضربة موجَّهة إلى كبار علماء الفرس وفلاسفتهم ومتصوفتِهم المسلمين؛ لأنها تُنكِر عليهم كل صدق وإخلاص من مجهودهم العَقلي والرُّوحي الإسلامي، وهذا ما لا يقول به أحد؛ إذ من ذا الذي يشكُّ في إخلاص سيبويه للنحو العربي، وصاحب الأغاني للأدب والقصص التاريخي العربي، والفخر الرازي للتفسير، وابن سينا للفلسفة، وشقيق البلخي وأحمد بن خضروَيه ويحيى بن معاذ وأبي حفص النيسابوري، وأبي عثمان الحيري وأبي حامد الغزالي ومئات غيرهم في التصوُّف؟! كان هؤلاء جميعًا من أصل فارسي ومع ذلك لم نَجِد فيهم نزعةً نحو الانتصار للغتِهم الفارسية على حساب اللغة العربية ولا انتصارًا لعقائدَ فارسية قديمة على حساب العقائد الإسلامية، بل بذلوا جهدًا صادقًا في فهم الإسلام ونشْر عقائده. إنَّ العكس هو الصحيح، وهو أن لغة الغازين وأدبَهم ودينهم لم تتأثَّر بلغة المغزوين وأدبهم وأصول عقائدهم، بل فرضت اللغة العربية كما فرض الدين العربي نفسيهما على أهل فارس وغيرها من البلاد الإسلامية غير العربية بحيث لم نَجِد بعد جيل أو جيلَين من بين العلماء من يكتب بالفارسية في فارس ولا باليونانية في سوريا ولا بالقبطية في مصر، وفيما يتَّصل بالتصوف بوجهٍ خاص، لم تكن العربية لغة التأليف وحسب، بل كانت لغة الوعظ والتعليم.
- (أ) الصورة الهندية: والقائلون بها يَرون أوجه الشبه
بين بعض النظريات الصوفية في أرقى أشكالها وبين
«الفيدانتا»، ولكنه شبه ظاهري لا حقيقي؛ لأنَّ الفناء
الصوفي الإسلامي — وهو أخصُّ مظاهر التصوف — يختلف عن
النرفانا الهندية.
- ثالثًا: نظرية الأفلاطونية الحديثة: وهي نظرية قال بها «مركس» في كتابه
«التاريخ العام للتصوف ومعالمه» هيدلبرج سنة ١٨٩٣، والأستاذان براون
في كتابه «التاريخ الأدبي للفرس» ونيكولسون في كتابه «صوفية
الإسلام» ومقالاته التي نقلتْها إلى العربية في كتاب «في التصوف
الإسلامي وتاريخه» القاهرة سنة ١٩٤٦، وقد اعتمد نيكولسون في دفاعه
عن هذه النظرية على ما انتهى إليه بحثُه في تصوف ذي النون المصري
الذي كان لا شك متأثرًا بالأفكار الأفلاطونية الحديثة الشائعة في
تُراث عصرِه، وإن كان لا يُمثِّل التصوف الإسلامي برمَّته، والظاهر أن
نيكولسون تحوَّلَ عن نظريته بعد ذلك في المقال الذي كتبه سنة ١٩٢١ في
«دائرة معارف الدين والأخلاق» تحت عنوان «التصوُّف» حيث قال:
وجملة القول إن التصوُّف في القرن الثالث — شأنه في ذلك شأن التصوُّف في أي عصرٍ من عُصوره — قد ظهر نتيجة لعوامل مختلفة أحدثت فيه أثرها مجتمعة: أعني بهذه العوامل البحوث النظرية في معنى التوحيد الإسلامي، والزهد والتصوف المسيحيِّين، ومذهب الغنوصية، والفلسفة اليونانية والهندية والفارسية.
ثم يبدو له خطأ إرجاع نشأة التصوف في الإسلام إلى أصلِ واحد فيقول:وقد عُولجت مسألة نشأة التصوف في الإسلام إلى الآن معالجة خاطئة، فذهب كثير من أوائل الباحثين إلى القول بأن هذه الحركة العظيمة التي استمدَّت حياتها وقوتها من جميع الطبقات والشعوب والتي تألَّفَت منها الإمبراطورية الإسلامية يُمكن تفسير نشأتها تفسيرًا علميًّا دقيقًا بإرجاعها إلى أصلٍ واحد كالفيدانتا الهندية أو الأفلاطونية الحديثة.١أخفقَت هذه النظريات كلها في تفسير نشأة التصوف وتطوُّره في الإسلام؛ لأنَّ كل واحدة منها تُحاول أن تردَّ هذه الحركة الكبيرة المعقَّدة إلى أصل واحد، وتَنظر إليها من جانب خاص دون الجوانب الأخرى، مع أنها — كما قلنا — حركة سايرَت في نشأتها وتطوُّرها نشأة التاريخ الإسلامي وتطوُّره في بيئاته المختلفة وشعوبه المتعدِّدة وثقافاته الكثيرة. في كل واحدة من هذه النظريات شيء من الحق، ولكن لا واحدة منها تُعبِّر عن الحقيقة كاملةً. لقد مرَّ التصوف بأدوار مُختلفة لكل دور خصائصه ومُميزاته. انتشر في بيئات وشعوب متباينة تباينًا ثقافيًّا وعقليًّا واجتماعيًّا بقدر ما كانت متباينة تباينًا جغرافيًّا، ولم يكن بين الشعوب الإسلامية — عندما ظهر التصوُّف — من الروابط التي تربطها سوى وحدة الدين واللغة. فكان من الطبيعي أن تنموَ البذور الأولى للظاهرة الجديدة وتترعرَع وتُؤتي ثمارها متكيِّفة بظروف البيئات التي نبتَت فيها؛ ولذلك ظهر في تاريخ التصوف الزهد البسيط السنِّي، كما ظهر فيه الزهد الرهباني أو القريب من الرهباني، وظهرَت فيه المدارس التي انفرَدَت كلٌّ منها بلونٍ خاصٍّ من حيث تعاليمها النظرية والعمَلية ومن حيث اصطلاحاتها، فمدرسة البصرة غير مدرسة الكوفة، وهما غير مدرسة بغداد ومدرسة خراسان وما وراء النهر، وهذه كلها غير مدرسة مصر والشام، ومدارس التصوُّف الفلسفي غير مدارس التصوف البحت وهكذا. بل إن ما يُقال عن متصوِّف في إحدى هذه المدارس قد لا يُقال على متصوِّف آخر من نفس مدرسته، فما يُقال عن إبراهيم بن أدهم غير ما يقال عن معروف الكرخي، وما يقال عن أبي يزيد البسطامي غير ما يقال عن ذي النون المصري، وما يقال عن الجنيد والمحاسبي غير ما يقال عن الحلاج، وما يقال عن هؤلاء جميعًا غير ما يقال عن ابن عربي.
أضِف إلى هذا أن التصوف ابتداءً من القرن السادس الهجري دخل في دور فلسفي وصل إلى ذروته في تصوف أصحاب وحدة الوجود الذين استفادوا من نظريات التصوف القديم ومصطلحاته وأضافوا إليها ما لم يَخطُر ببال القدماء.
كان من الطبيعي إذن أن تتعدَّد العوامل والمصادر من إسلامية وغير إسلامية في نشأة هذه الألوان المختلفة من التصوُّف وتطورها، وأن يصب في مجرى التصوُّف العام أثناء سيره في تاريخه الطويل روافد من الفكر تصل إليه كلما شقَّ طريقه في بلد من بلاد الدول الإسلامية المترامية الأطراف، وكان من الطبيعي أيضًا أن يعالج الباحثون التصوف على أساس أنه نتاج إسلامي أولًا، وعلى أنه متأثرٌ بمؤثِّرات خارجة عن الإسلام ثانيًا، ولكنهم قلبوا الوضع وضلُّوا الطريق.
ومن ناحية أخرى يجب أن نُفرِّق بين الزهد والتصوف على الرغم من اتصالهما اتصالًا وثيقًا، وندرس العوامل التي ساعدت على نشأة كلٍّ منهما وتطوُّره على انفراد، فإن العوامل التي كان لها أثرها في ظهور الزهد في الإسلام منذ ظهور الإسلام، غير تلك التي أدَّت إلى ظهور التصوف فيه ابتداءً من النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، وهذه غير العوامل التي ساعدَت على ظهور التصوف الفلسفي فيما بعد.
وسنَعرض الآن لذكر العوامل التي كان لها أثرها في ظهور الزهد في الإسلام، ثم نُردفها بتلك التي أدَّت إلى ظهور التصوف، فلسفيًّا كان أو غير فلسفي.