العوامل التي ساعدَت على نشأة الزهد في الإسلام
الزهد هو الناحية العمَلية من التصوف، وهو أسلوب من الحياة يَحياه المؤمن، وموقف خاص
من
الدنيا وزخرفها وشهواتها ولذاتها، ومن النفس ومَطامعها، وأخذ الإنسان نفسه بأنواع
الرياضات والمجاهَدات الروحية والبدنية، وهو بهذا المعنى إسلامي حثَّ عليه الدين وأخذ
به
النبي عليه السلام وكثير من الصحابة الذين نَعُدُّ من أبرزهم أبا ذر الغفاري وحذيفة بن
اليمان وسلمان الفارسي والبراء بن مالك، وبهذا المعنى العام نستطيع أن نقول إن الإسلام
نفسه كان العامل الأول والأهم في نشأة حركة الزهد بين المسلمين. أما ما طرأ على الزهد
بعد ذلك من تعقيدات، وما دخل فيه من نُظُم وقواعد، وما ظهر فيه من طقوس، فمردُّه إلى
عوامل
أخرى ربما كان أبرزها الرهبنة المسيحية.
(١) العامل الأول
هو تعاليم الإسلام نفسه. فإن القرآن حث على الورع والتقوى وهجر الدنيا وزخرفها،
وحقَّرَ من شأن هذه الحياة وعظم من شأن الآخرة، ودعا إلى العبادة والتبتُّل وقيام الليل
والتهجد والصوم ونحو ذلك مما هو في صميم الزهد. قال تعالى:
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا،
١ وقال:
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ
وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا أي إن العبادة التي تنشأ؛ أي تحدث بالليل،
هي أثقل على المصلي من غيرها، ولكنها أقوم قيلًا أي أثبت قولًا، وقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ
إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ
الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا،
وترتيل القرآن بمعنى تلاوته بتمعن وتدبر وتفكير، ضربٌ من ضروب العبادة، وقال مشيرًا
إلى صفات الورع والتقوى والزهد، ومطالبًا المسلمين بالتحلِّي بها رجالًا كانوا أو
نساء:
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ
وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ
وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ
وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ
اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا
عَظِيمًا.
٢
في هذا النص الصريح الذي يُسوِّي بين المرأة والرجل في الفضائل الدينية، ردٌّ حاسمٌ
على المتجنِّين على الإسلام بقولهم إنه دين يُخاطب الرجال ويُسقط النساء من حسابه، وأن
المرأة المسلمة لا رُوح لها.
زِد على ذلك أن القرآن قد صوَّر الجنة والنار، والنار بوجه خاص، بصورة دفعت بكثير
من المسلمين إلى التفاني في العبادة طلبًا للنجاة، وألقت الرعب في قلوب آخرين خوفًا
من الوقوع في النار، فقضوا الليالي في التوبة والاستغفار والبكاء، وقد بلغ وصف
القرآن للنار وما أعدَّ فيها من صنوف العذاب من القوة مبلغًا أثار الفزع في قلوب
المؤمنين، وكان العامل الأكبر عند أجيال الزهاد الأولين في دخولهم طريق الزهد وهجر
الدنيا. من ذلك قوله تعالى:
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ
مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ
فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا
شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا *
جَزَاءً وِفَاقًا،
٣ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي
الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا،
٤ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ
صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا
فَاسْلُكُوهُ * إِنهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ
* وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ،
٥ نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ
عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ.
٦
وفي ذمِّ الدنيا والحث على الزهد فيها ورَدَت آيات كثيرة منها:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ،
٧ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ
وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ
وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ
شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ،
٨ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى
* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ
عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى.
٩
وفي القرآن وصفٌ للجنة ونعيمها وملاذِّها البدنية والروحية التي على رأسها لذة النظر
إلى وجه الله الكريم؛ مثل قوله:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ
* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ.
١٠
فالقرآن إذن قد أعطى الناحيتَين حقهما؛ ناحية الترهيب وناحية الترغيب، وحرَّك في قلوب
المؤمنين مشاعر الخوف والرجاء، ووصَف اللهُ نفسَه بأنه جبار مُنتقِم معذِّب، كما وصف
نفسه
بأنه غفور رحيم ودود. فكان لكلِّ هذا أثره في دفع أتقياء المسلمين إلى التقرُّب من الله
بالعبادة والمجاهَدة والزهد في الدنيا طمعًا في الثواب وفرارًا من العقاب.
(١-١) الإسلام والرهبانية
ولكن الإسلام الذي دعا إلى الزهد في الدنيا بالمعنى العام الذي شرحناه، لم
يدعُ إلى الرهبنة التي هي الانقطاع إلى العبادة وترْك الكسب وهجر الحياة
الاجتماعية، ولا إلى الترهبُن بمعنى حياة العزوبة، بل هو صريح في اعتبار
الرهبانية بدعة ابتدعها المسيحيون في قوله تعالى:
وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا
عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ
رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ.
١١ وكذلك في الحديث القائل: «لا رهبانية في الإسلام.» الذي يُستدلُّ به
عادةً على تحريم الرهبانية في الإسلام.
ولكنَّ هنالك رأيًا آخر في فهم الآية والحديث؛ أما الحديث فقد قيل إنه من وضع
رجال القرن الثالث الذين وضعوه لتأييد الآية على أنها لتحريم الرهبنة، وأما
الآية فقد فسَّرها بعض رجال القراءات كابن مُجاهد، وبعض رجال التصوف كالجُنَيد على
أنها للإباحة، وأولوها على الوجه الآتي: وَرَهْبَانِيَّةً
ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ أي اخترعوها من عند
أنفسهم ولم نَفرِضها عليهم فرضًا، وإنما ابتدعُوها ابتغاء رضوان الله، فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ أي فالذين آمنوا من هؤلاء
المُبتدِعين للرهبانية جازَيناهم على إيمانهم، ولكن كثيرًا منهم لم يَتبع أصولها
الصحيحة وفسَقَ، وليس في هذا كله تحريم للرهبانية من حيث هي، ولكن جمهور
المسلمين من أهل السنة أجمعوا على أن الآية نصٌّ في التحريم.
وقد رَوى ابن الجوزي كثيرًا من الأحاديث يستدلُّ بها على خطأ الصوفية في أفعالهم
التي تُشبه الرهبنة المسيحية والبرهمية مثل الترهب في الجبال والسياحة في الأرض
والخروج من المال وهجر النساء والامتناع عن أكل اللحوم ومسِّ الطيب.
رُوي أن امرأة عثمان بن مظعون دخلت يومًا على نساء النبي
ﷺ فرأينَها
سيئة الحال فقُلنَ لها: «ما لَكِ؟ فما في قريش رجلٌ أغنى من بعلك!» قالت: «ما لنا
منه شيء، أما ليلُه فقائم وأما نهاره فصائم.» فدخلْنَ إلى النَّبي فذكَرن له، فلقيَه
فقال: «يا عثمان أما لك بي أسوة؟» فقال: «بأبي وأمي أنت، وما ذاك؟» قال: «تصوم
النهار وتقوم الليل؟» قال: «إني لأفعل!» قال: «لا تفعل؛ إن لعينك عليك حقًّا،
وإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا، فصلِّ ونم، وصم وأفطر.»
١٢
وبلَغ النبيَّ أن عثمان بن مظعون هذا قد اتخذ بيتًا فقعد يتعبَّد فيه، فأتاه رسول
الله فأخذ بعضادتَي باب البيت الذي هو فيه وقال: «يا عثمان، إن الله عز وجل لم
يَبعثني بالرهبانية (مرتَين أو ثلاثًا) وإن خير الدين عند الله الحنيفية السمحاء.»
١٣
ورُويَ عن النبي
ﷺ أنه نهى عن صيام الأبد فقال: «لا صام من صام الأبد.»
١٤ وكان صيام الأبد سنَّة جاهلية، وأنه نهى كهمس الهلالي عن مثل هذا الصوم،
١٥ وأمره بصوم شهر رمضان ويومٍ أو يومَين أو ثلاثة من كل شهر.
هذا هو موقف الإسلام من الرهبنة ومن الزهد اللذَين يجب أن نُفرق بينهما. ليس من
شكٍّ في أن القرآن وسيرة النبي يُشيران إلى الزهد في الدنيا، لا إلى هَجرها
والخروج منها أو العيش فيها عيشة الأموات. لم يُحرِّم الإسلام التمتُّع بالحلال من
أمور الدنيا، ولكن الذي حرَّمه هو الانغماس في شهواتها التي تشغل القلب عن ذكر
الله:
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ
لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ
الْقِيَامَةِ،
١٦ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا
وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ.
١٧ الإسلام دين يأخذ بفضيلة الوسط: لا إفراط ولا تفريط. يدعو إلى
الزهد في الدنيا: أي القصد في الشهوات، لا إلى الحرمان واعتزال الدنيا ومن
فيها وما فيها. يَدعو إلى التمتُّع بالحلال، لا إلى الانهماك في الحلال والحرام؛
لأن الإسلام قبل كل شيء وبعد كل شيء دِين عملي اجتماعي، والزُّهد بالمعنى المسيحي
أو البوذي مخالف لرُوح الحياة الاجتماعية.
وقد اعتمد زهاد المسلمين الأوائل كل الاعتماد على ما ورد في القرآن من آيات
تُشير إلى الزهد وموقف الإنسان من الدنيا ومن النفس ومن الله والدار الآخرة،
واستوحوا معاني هذه الآيات في إقامة نظامٍ للزهد له قواعد وأصول ورياضات. ثم
جاء المتأخِّرُون فخرجوا من الآيات القرآنية ما شاء لهم التخريج وتوسعوا في
معانيها توسعًا ارتفع بها إلى مستوى البحوث النظرية، وذلك في ظل تجاربهم
الروحية من جهة، وظلِّ الثقافات والفلسفات الأجنبية غير الإسلامية من جهة
أخرى.
(٢) العامل الثاني
والعامل الثاني في نشأة الزهد في الإسلام هو ثورة المسلمين الروحية ضد نظام
اجتماعي وسياسي قائم؛ وذلك أن المسلمين عندما اتَّسعت فتوحاتهم وكثرت غنائمهم أقبل
الكثيرون منهم على الدنيا وجنحوا إليها، وشجَّعهم على ذلك الثراء المفاجئ الذي
أصابوه، وكانت نتيجة ذلك أن قامت في نفوس أتقيائهم ثورة داخلية هي نزاع بين نفس لا
تزال على إيمانٍ غضٍّ قويٍّ، ودنيا مُقبِلة عليهم بشهواتها ومباهجها، وكان الطريق
الوحيد للتخلُّص من هذا المأزق هو الفرار من الحياة وما فيها من لذات، ورياضة النفس
على الطاعات والمجاهَدات، وربما كانت دعوة أبي ذر الغفاري صدًى لهذه الثورة تمثَّلت في
النقمة على أصحاب الثراء من بني أمية وغيرهم.
وتظهر آثار هذه الثورة ضد مطامع النفس من جهة ومُغريات الحياة من جهة أخرى، من بين
ثنايا أقوال الصوفية في كل العصور، ولكنها أظهر ما تكون في مواعظ الحسن البصري
ووصايا المُحاسبي، فإن الصوفية بتنظيم حياتهم الروحية قاوموا الحياة الاجتماعية
الجارفة وحيوا حياة مُطمئنة لا تَستهدف لخطر.
ولكن أتقياء المسلمين ثارُوا على النظام السياسي القائم كما ثارُوا على النظام
الاجتماعي غير العادل، فكما قاوموا الحياة ومُغرياتها بطريقة إيجابية، قاوموا الحكم
السياسي الجائر بطريقة سلبية، فكأنهم بذلك ثارُوا على السلطتَين جميعًا؛ سلطة الحكام
وسلطة النفس.
لقد حدثت في المائة الأولى من عهد الإسلام حوادث سياسية خطيرة مثل الحروب الأهلية
الدامية الطويلة التي وقَعَت بين علي ومعاوية، والفتن والقلاقل في عهد عثمان من قبل،
والاضطرابات بين بني أمية والبيت العلوي بعد ذلك، وتبع كل هذا اضطهاد لآل البيت
وتَشريد وتقتيل وكبت للحرية الشخصية لم يَسبِق له مثيل.
وظهرت الآراء السياسية في النظريات الدينية وأصبحت جزءًا من عقائد المسلمين، مثل
قول الناس في عليٍّ ومعاوية، وفي مسألة التحكيم والإمامة ونحوها، وتطرَّف القائلون في
أقوالهم وآرائهم، وساهَمَ الخلفاء في هذه الآراء واضطهدوا مُخالفيهم فيها، وكثر اضطهاد
كل من وُصف بأنه زنديق أو مُبتدِع.
كل ذلك أدخل الرعب في قلوب المسلمين وأحدث القلق وقضى على الشعور بالأمان، وحرَّكَ
في
الناس الميل إلى العُزلة والفرار من الحياة طلبًا للسلامة وراحة الضمير، ووجَدُوا ما
يَطلُبون في عزلة الزهَّاد وخلوات العابدين، وهنا حلَّ النظام الروحي الداخلي محل النظام
السياسي الخارجي.
(٣) العامل الثالث: الرهبنة المسيحية
وُجِدَت المسيحية في بلاد العرب قبل الإسلام بنحو مائتي سنة، كما كانت موجودةً قبل
الإسلام في مصر والشام وشمال أفريقية، وكان للمسيحيِّين في جميع أنحاء البلاد التي
صارَت فيما بعد إسلامية أديرة كثيرة، وكان الرهبان المسيحيُّون يَجُوبون الصحراء ويطوفون
القرى، كما كانوا موضع احترام وتقدير الناس في بلاد العرب وغيرها، وقد سجَّل الشعرُ
الجاهلي كثيرًا من مناقبهم. بل إنهم كانوا موضعَ احترام المسلمين على عهد الرسول
نفسه، فقد ورَدَت الأخبار بأنه
ﷺ كان يُجلهم ويحبُّ مجالستَهم والتحدث إليهم، وكان
أبو بكر يَحترم الرهبان ويَنهى عن اضطهادِهم، قيل إنه لما فتح المسلمون الشام نصَحَهم
بأن يتركوا الرهبان في صوامعهم لأنهم يبتغون وجه الله، ولِمَ نذهب بعيدًا والقرآن
نفسه صريح في مدح المسيحيِّين والثناء على رهبانهم حيث يقول:
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ
وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ
آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ
قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ *
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ
مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا
فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ.
١٨
كان للرهبان المسيحيِّين — لا للدين المسيحي من حيث هو دين — أثر غير قليل في بعض
الوثنيِّين من العرب في الجاهلية. أما عامة العرب فقد بقوا على وثنيتهم مشتغلين بأمور
الدنيا ومتاعبها ولذاتها، غير مُكترثين ولا مفكِّرين في حياة أخروية يعدون لها أنفسهم
قبل الموت. هؤلاء الرهبان هم الذين بذَرُوا بذور الزهد في الجزيرة العربية قبل
البعثة، فلما جاء الإسلام واعتنقَ الزُّهد من أهله من اعتنق، لم يكن الزهد غريبًا
عليهم ولم يكن بدعًا، ولكن البدعة فيه — من وجهة النظر الإسلامية — أنه كان من نوع
خاص قاوَمَه الإسلام على نحوِ ما أسلفنا، وقد استمرَّ تأثير الرهبان المسيحيِّين في زهاد
المسلمين بعد ظهور الإسلام، وكان تأثيره في الناحية التنظيمية أكثر منه في ناحية
المبادئ العامة في الزهد، تلك المبادئ التي ظلَّت إسلامية في الصميم.
وكثيرًا ما نقرأ عن زيارات عُبَّاد المسلمين للرهبان في صوامِعهم وأخذهم عنهم بعض
تعاليمهم، من ذلك ما رُويَ عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: «تعلمت المعرفة من راهب يقال
له سمعان.»
١٩
(٤) العامل الرابع: الثورة ضد الفقه والكلام
يَرجع هذا العامل إلى ظروف إسلامية بحتة شأنه في ذلك شأن العاملَين الأول والثاني؛
وذلك أن أتقياء المسلمين لم يَجدوا في فهم الفقهاء والمتكلِّمين للإسلام ما يُشبع
عاطفتهم الدينية، فلجئوا إلى التصوُّف لإشباع هذه العاطفة. أما الفقهاء فقد استنبطُوا
نوعًا من الشريعة ليس فيه من التقوى إلا اسمُها أو رسمُها، كما أنهم وقفوا موقف عداءٍ
صريح من كل من يُخالف موازينَهم حَرفيتهم في فهم الدين، وأما المتكلِّمون فقد ولَّدت
حركتهم العقلية العنيفة شكًّا في كل شيء وأشاعت الحيرة والبَلبلة في الأفكار، فدفع
ذلك بالناس إلى تلمُّس اليقين من طريقٍ آخر وهو طريق الوجدان والشهود الذي هو طريق
الصوفية، وسيأتي تفصيل الكلام في موقف الصوفية من الفقهاء والمتكلِّمين في الفصل الذي
عقدناه عن الثورة الرُّوحية في الإسلام.