مصادر التصوف الإسلامي
سبق أن ذكرنا محاولة بعض المُستشرقين ردَّ التصوف برمَّته، الفلسفي منه وغير الفلسفي، إلى مصدر واحد، وأورَدنا ما أوردنا من الاعتراضات على مثل هذه المحاوَلة وبينَّا استحالتها.
والحق أن التصوُّف الفلسفي لم يظهر في الإسلام إلا بعد أن تهيَّأت الظروف الصالحة لظهوره واستعدَّت النفوس لقبوله وتوافَرَت العوامل على نموه، وقد كانت هذه الظروف وتلك العوامل مزيجًا مختلطًا لا يقلُّ في اختلاطه عن الأمم التي تألفت منها الإمبراطورية الإسلامية ذاتها، وأقصى ما يَستطيع البحث العلمي أن يكشف عنه هو أصول النظريات والأفكار الفردية عند هذا الصوفي أو ذاك، لا النظريات الصوفية الفلسفية في جملتها. أما فكرة الأصل الواحد فسأُغفلها كل الإغفال، وسأشير فيما يلي إلى أهم المصادر التي أثَّرت في التصوُّف الفلسفي في صورته العامة مع الإشارة إلى بعض المسائل الصوفية المتصلة بهذه المؤثِّرات.
(١) المصدر الأول: القرآن والحديث
(٢) المصدر الثاني: علم الكلام
وهو مصدرٌ أغفَلَه كثيرٌ من الباحثين ولم يُقدروا أثره في تطور العقائد الصوفية مع أن كثيرًا من المسائل الصوفية الفلسفية مُتصلٌ بمسائل علم الكلام، أو هي هي ظاهرة في ثوبٍ صوفي، والناظر في كتب التصوف أمثال «اللُّمع» للسراج و«التعرُّف» للكلاباذي و«الرسالة» للقشيري، يجد في أقوال الصوفية مدى استغلالهم لعلم الكلام ومَزجهم لنظريات المتكلِّمين وأساليبهم بنظريات التصوُّف وأساليبه، وقد تسرَّب إلى التصوف الفلسفي كثير من نظريات الأشاعرة والكرَّامية والشيعة والإسماعيلية الباطنية والقرامطة.
ونكتفي بالإشارة هنا إلى فكرة وحدة الوجود التي هي أخص مظهر للتصوف الفلسفي الإسلامي. فإنها — فيما نعتقد — راجعة في أصل نشأتها إلى تفكير كلامي بحت، وليست، كما يقول بعض المستشرقين، وليدة عامل خارجي كالفلسفة الهندية. فقد بدأ المسلمون يَبحثون في عقيدة التوحيد، فوقَعوا من حيث لا يعلمون في القول بوحدة الوجود؛ بدءوا ببحث معنى الوحدانية، فقالوا بنفْي الشريك والضد والنِّد والشبيه والمثيل، وفسَّروا الله الواحد الواجب الوجود بمعنى أنه يَنفرد بالوجود الحقيقي وأن كل ما عداه عدمٌ محض؛ لأن كل ما عداه مُمكن الوجود (أي وجوده من غيره لا من ذاته). ثم فسَّروا «واجب الوجود» بأنه الفاعل الحقيقي والقادر الحقيقي والمُريد الحقيقي. سُئل الجنيد عن التوحيد فقال: «هو معرفتك أن حركات الخلق وسكونهم فعل الله عز وجل وحده لا شريك له.» ثم توسَّعُوا في معنى التوحيد فلم يقفُوا عند نفْي الشريك لله، بل نفَوا وجود كل ما سوى الله، وأنكروا الكثرة وعدُّوها من فعل الخيال والوهم، كما ذهَب إليه ابن عربي، وهكذا انتهى بهم الأمر إلى أن يقولوا بدلًا من «لا إله إلا الله»: «لا موجود على الحقيقة إلا الله.» أو ما شاكل ذلك من العبارات الصريحة الدلالة على وحدة الوجود، وسموا عقيدة التوحيد الأصلية توحيد العوام، ووحدة الوجود توحيد الخواص، وأوردُوا لكلٍّ منهما تعريفات. يقول الجنيد في تعريف العوام: «هو إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته.» وفي تعريف الخواص: «إنه الخروج من ضيق الرسوم الزمانية إلى سعة فناء السرمدية.»
(٣) المصدر الثالث: الأفلاطونية الحديثة
من غريب الأقدار أن يكون ذلك المصدر الهام الذي أثَّر في جميع مناحي الفلسفة الإسلامية والتصوف الإسلامي مجهول الأصل عند المسلمين مما يدلُّ على أنهم لم يَعرفوه في منبعه، وإنما عرفوا ما عرفوا عنه بطريق التلقين الشفوي من جهة، وبواسطة المختصَرات التي ألَّفها بعض السريان المسيحيِّين من جهة أخرى. فهم لا يعرفون «أفلوطين» المؤسس الحقيقي لمذهب الأفلاطونية الحديثة ولا كتابه «التاسوعات»، وإن كان يُشير إليه الشهرستاني إشارة عابرة ويُلقبه بالشيخ اليوناني، وهم لا يعرفون عن «فورفوريوس» تلميذ أفلوطين المقرَّب وناشر كتبه أكثر من أنه صاحب كتاب «المدخل» إلى منطق أرسطو، وهو المدخل المعروف باسم «إيساغوجي»، ولا يَعرفون عن «أبروقلس» إلا رأيه في قِدَم العالم الذي رد عليه من المسيحيِّين يحيى النحوي ومن المسلمين الغزالي، ولا يعرفون إلا القليل المشوه عن «يمبليخوس» أكبر رجال الفرع الثاني لمدرسة الأفلاطونية الحديثة.
وقد يطول بنا الكلام لو عددنا الأفكار الأفلاطونية الحديثة التي تسرَّبت إلى التصوف الفلسفي الإسلامي وامتزجت بعناصره الأخرى، ويكفي أن نقول على سبيل المثال: إن نظرية المتصوفين في الكشف والشهود أفلاطونية حديثة في صميمها، وكذلك نظرياتهم في المعرفة التي هي ترجمة لكلمة «غنوص» اليونانية، وفي النفس وهبوطها إلى هذا العالم، وفي العقل الأول والنفس الكلية، بل في الفيوضات: كلها مستمَدَّة من مصادر أفلاطونية حديثة مع قليل أو كثير من التحوير.
- أولها: كتاب أثولوجيا أرسطاطاليس، أو «قولٌ في الربوبية»، ويُشير عنوان الكتاب إلى نسبتِه إلى أرسطو، وهي نسبة برهن البحث الحديث على خطئها؛ إذ الكتاب ملخَّص لبعض أبواب كتاب التاسوعات لأفلوطين.
- الثاني: وهو أقلُّ شهرةً من الأول وإن لم يكن أقل منه أثرًا في الفلسفة
والتصوف الإسلاميين، وهو كتاب «الإيضاح في الخير المحض»، وهو
منسوبٌ خطأً إلى أرسطو أيضًا؛ إذ الكتاب في الحقيقة ملخَّص مهوش
لكتاب «المبادئ الإلهية» «أسطخيوسيس ثيولوغيقي» الذي ألفه
أبروقلس أعظم رجال المذهب الأفلاطوني الحديث في مدرسة
أثينا.
وإننا لا نعرف حتى الآن إذا كان كتاب الإيضاح من تلخيص بعض المسلمين ممَّن كان له علم بكتاب أبروقلس، أو أنه ترجمة لأصل يوناني أو سرياني ضاع، ولكنَّنا نعرف أن الكتاب قد ترجم من نسخته العربية إلى اللغة اللاتينية، وعرف في هذه الترجمة باسم «كتاب العلل» الذي وضَع عليه القديس توما الأكويني (المُتوفَّى سنة ١٢٧٤) شرحه المشهور.
وبين كتابَي أثولوجيا أرسطاطاليس والإيضاح في الخير المحض مشابهةٌ كبيرةٌ، لا في المادة فحسب بل في الأسلوب والاصطلاحات، مما حمل بعض النقاد على القول بأن الكتابَين صدرا عن قلم واحد.
- الثالث: هو الكتابات التي كتَبها كاهن سوري مجهول الاسم من تلامذة استيفن بارصديلي (من رجال القرن الخامس الميلادي)، وقد نُسبَت خطأً إلى المدعو ديونسيوس الأريوباغي أحد الذين تنصَّروا على يد القدِّيس بولص، ولكن هذا المدعو ديونسيوس الأريوباغي لم يكن إلا كاهنًا سوريًّا أخفى اسمه لأمرٍ ما، وعنوان الكتابات «الله المقدَّس»، والمعروف أنها تُرجمت فور ظهورها مباشرةً إلى اللغة السريانية، ثم إلى اللغة اللاتينية سنة ٨٥٠ على يد سكوتس إريجينا، وأنه لم ينتهِ القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري) حتى كانت معروفة في العالم المسيحي من ضفاف دجلة إلى المحيط الأطلنطي.
كان لهذه الكتابات تأثيرها في التصوف المسيحي ثم في التصوف الإسلامي من ناحية أنها تُؤكد الجانب الإلهي لا في المسيح وحده بل في الإنسان من حيث هو إنسان، وخلاصة الفكرة الرئيسية فيها أن طبيعة الإنسان والطبيعة الإلهية موجودتان في كل إنسان، وأن الحياة الدنيا (حياة البدن) ليسَت سوى صورة من الحياة الإلهية العُليا، وأن مصير الإنسان إلى الله، ولا وسيلة للاتصال بالله إلا برياضة النفس وتصفيتها ومعالجة الأحوال الصوفية، بل لا وسيلة لمعرفة الله إلا بها، وإذن لا مجال للقول بالثالوث المسيحي ولا بالمَعصية ولا بالكفَّارة من الذنوب.
وليس «الحلول» على هذه النظرية سوى صورة من صور اتحاد اللاهوت بالناسوت. كل شيء فيضٌ من الله أو تجلٍّ له، وليس شوق الإنسان إلى الله إلا علامة حنين النفس إلى الرجوع إليه، فإن كل شيء منه وإليه.
كانت هذه تعاليم الكنيسة الشرقية، وكان لها صداها في الفكر الإنساني عامةً، وفي التصوف الإسلامي بوجهٍ خاص. فليس كلام الصوفية في الفيض الإلهي والتجليات، وقولهم في الله أنه الأول والآخر والظاهِر والباطن — بالمعنى الفلسفي — إلا صدًى لبعضِ المعاني السالفة الذكر.
(٤) المصدر الرابع: التصوف الهندي
أشَرنا فيما مضى إلى رأي مَن يقول إن الفناء الصوفي نوعٌ من النرفانا الهندية، ورفضنا هذا الرأي على أساس أن النرفانا ظاهرة سلبية محضة وفكرة متفرِّعة عن مذهب تشاؤمي شامل، في حين أن «الفناء» الصوفي له ناحيته الإيجابية كما أن له ناحيته السَّلبية، وأنه لا دخل له في فلسفة تشاؤمية في طبيعة الوجود، ومع ذلك فقد كان للتصوُّف الهندي أثره في بعض نواحي التصوف الإسلامي لا سيما ما يتَّصل منها بالطقوس الدينية والرياضات الرُّوحية وأساليب مجاهَدة النفس.
(٥) المصدر الخامس: المسيحية
ذكرنا ما فيه الكفاية عن صلة الزهد في الإسلام بالرهبنة المسيحية وأشرنا إلى الفوارق الأساسية بينهما، كما بينَّا أن الذي كان له شيء من التأثير في الزهد الإسلامي هو الرهبنة المسيحية لا الدين المسيحي من حيث هو دين. أما التصوف الإسلامي فقد كان لبعض العقائد المسيحية أثرٌ فيه، فقد قال بعض الصوفية بالحلول بالمعنى المسيحي كالحسين بن منصور الحلاج الذي يقول:
وفي هذه الأبيات إشارة إلى ثنائية الطبيعة الإنسانية؛ اللاهوت والناسوت، وهما اصطلاحان أخذهما الحلاج عن المسيحيِّين السريان الذين استعملوهما للدلالة على طبيعة المسيح، وقد رُويَ عن الحلاج أبيات أخرى صريحة في الحلول، والحلول عقيدة يقرنها المسلمون دائمًا بالمسيحية، فهو يصف روحه والروح الإلهي في حالة مزج تام حيث يقول:
أو اتحاد تام حيث يقول:
ويجهر ابن عربي برأيه في التثليث في صراحة عجيبة حيث يقول:
ويتَّخذ من التثليث أساسًا لكل إنتاج وكل إيجاد في عالَمَي الكائنات والمعاني على السواء. فالإنتاج في العالم الطبيعي قائمٌ على ثلاثة؛ الأب والأم والابن، والإنتاج في الاستدلال القياسي قائمٌ على ثلاثة حدود وثلاثة قضايا، وهكذا.