حدود الانتشار الديني
في هذا الفصل، سوف نتناول بالدرس تلك المظاهر المتعلقة مباشرة بمسألة وحدة الصور (الأشكال) التي تشتمل عليها الأديان، مبتغين من وراء ذلك إظهار ما تنطوي عليه الشمولية الرمزية في هذه الصور من محدوديةٍ بإزاء الشمولية بمعناها المطلق. فالشواهد الصحيحة المنصبَّة على الوقائع المقدسة — التي تقوم اضطرارًا وبحكم تعريفها بتجلية الحقائق المتعالية — كما هو الحال في شخص المسيح، قد تصبح على شيءٍ من الزيف حين نخرجها، بصورةٍ مصطنعة، عن الإطار الذي رسمته لها العناية، فإطار المسيحية مثلًا هو العالم الغربي حيث المسيح هو «الحياة» ولا أحد سواه، لكن هذا الإطار قد كسرته الفوضى الحديثة بعد أن اتسعت «البشرية» من الخارج اتساعًا مصطنعًا أو كميًّا، مما نتج عنه أن فريقًا من الناس بات يرفض الاعتراف بوجود «مُسَحاء» آخرين، وفريقًا يَخلُص إلى نتيجةٍ معاكسة إذ ينكر على يسوعَ صفته المسيحية، إن هذا لأشبه ما يكون، بعد أن اكتشفنا مجموعات شمسية أخرى، بما لو ذهب بعض الناس إلى القول بألا وجود لشمس غير شمسنا، بينما يذهب آخرون، وهم يرون أن شمسنا ليست وحيدة، إلى إنكار أن يكون ثمة شمس أصلًا، وإلى القول بألا وجود للشمس على الإطلاق ما دامت أي منها ليست وحيدة. إن الحقيقة بين هذين المذهبين؛ فشمسنا هي الشمس حقًّا، وهي الوحيدة في مجموعتنا الشمسية التي هي منها بمنزلة المركز، ولما كان هناك كثير من المجموعات الشمسية، كان هناك كثيرٌ من الشموس بالتالي، وهذا لا يمنع أبدًا، من ناحيةٍ ثانية، أن تكون كل منها هي الوحيدة تحديدًا. كذلك الشمس والأسد وعبَّاد الشمس والعسل والعنبر والذهب مظاهر طبيعية من المبدأ الشمسي، كل منها وحيد ومطلق على صعيده الخاص. أن تفقد هذه المظاهر صفتها الفردية عندما ننزع الحدود التي تُحدِق بهذه الأصعدة ونجعل منها أنواعًا من مجموعاتٍ مغلقة أو من عوالمَ صغرى، وتظهر عندئذٍ نسبية هذه «الوحدانية»، إن هذا لا يتعارض مع كون هذه المظاهر، على صعيد كل منها وبسببٍ من هذا الصعيد، متواحدةً مع المبدأ الشمسي، فيما هو يُلبِسها الأزياء التي تناسب إمكانيات الصعيد الذي ترتد إليه كل منها.
تثير هذه الاعتبارات مسألة يتعذر علينا أن نمر بها مرَّ الكرام، ونعني بها مسألة نشاط المبشرين الذين يعملون خارج العالم الطبيعي المقدر للمسيحية، هل هو أمرٌ غير مشروع بالمرة؟ على ذلك ينبغي الإجابة بأن طريق المبشرين يحمل صفة التضحية، على الأقل من حيث المبدأ، بالرغم من أنهم يستفيدون ماديًّا من الظروف الشاذة الناشئة عن التوسع الغربي على حساب مدنيات أخرى، ذلك التوسع الذي يرتد حصرًا إلى التفوق المادي الساحق الذي نتج عن الانحراف المعاصر. ثم نقول، تبعًا لذلك، إن الحقيقة الذاتية لهذا الطريق تظل تحتفظ بمعناها الصوفي الذي يقوم بمعزلٍ عن الحقيقة الموضوعية التي يتصف بها النشاط التبشيري. أما الجانب الإيجابي الذي يستمده هذا النشاط من أصله الإنجيلي فلا يمكن أن يتلاشى كليًّا لمجرد تجاوزه حدود العالم المسيحي — وهذا ما حدث مع ذلك قبل العصر الحاضر، ولكنه حدث استثناءً فقط وفي أحوالٍ مغايرة تمامًا — وتعدِّيه على عوالمَ غير مُعدَّة للهداية، بما هي «مسيحية» بدون يسوع المسيح، لكن ليس بدون «المسيح الكوني» الذي هو «الكلمة» التي توحي بكلمة «وحي». لكن هذا الجانب الإيجابي من النشاط التبشيري لا يتبدَّى في العالم الموضوعي إلا في حالاتٍ متفاوتة الاستثناء؛ إما لأن التأثير المنبعث من أحد القديسين أو من رفاته يتجاوز في قوته تأثيرًا رُوحيًّا محليًّا آخذًا في الاضمحلال بسبب مادية الواقع القائمة في المحيط المحلي، وإما لأن المسيحية تتكيف تكيفًا أفضل مع العقلية الخاصة بأفرادٍ معينين، الأمر الذي يفترض في هؤلاء قلة فهم لتقليدهم الخاص، كما يفترض وجود تطلعات رُوحية أو غير رُوحية لديهم تجيب عليها المسيحية بهذه الصيغة أو تلك. إن أكثر هذه الملاحظات تصح بالمفهوم المعاكس لصالح التقاليد غير المسيحية أيضًا، مع الفارق أن الاهتداء في هذه الحالة بالغ الندرة، ومردُّ ذلك لأسباب ليست في صالح الغرب أبدًا:
- أولًا: لأن الشرقيين ليس عندهم مستعمرات ولا «محميات» في الغرب، ولا عندهم بعثات تبشيرية بالغة الحماية.
- ثانيًا: لأن الغربيين باتوا يميلون إلى الإلحاد الصرف أكثر من الْتفاتهم إلى الرُّوحانية الغريبة عنهم.٢
أما فيما يتعلق بالتحفظات التي نبديها على النشاط التبشيري، فمن المهم ألا يغرب عن البال أبدًا أنها لا تتصل بجانبه الإنجيلي المباشر — فضلًا عن أن هذا الجانب يعاني من تضاؤلٍ، بل ومن انحطاطٍ يرجع إلى الظروف غير الطبيعية التي أشرنا إليها — بل تتصل بتضامن التبشير تضامنًا فعالًا مع البربرية الغربية الحديثة.
نغتنم هذه المناسبة لكي ننبه إلى أنه في العصر الذي بدأ فيه التوسع الغربي يمتد نحو الشرق، كان هذا الأخير قد دخل مرحلةً من الانحطاط العميق، لكنه انحطاط يظل مع ذلك لا يقارَن أبدًا بانحلال الغرب الحديث الذي يرتد إلى مبدأ، على الأقل في ظل علاقة ثانوية، يقف من بعض الأوجه على النقيض من انحطاط الشرق. فانحطاط الشرق يتصف بالسلبية، وهو أشبه ما يكون بجسمٍ أصابه الهَرَم بمرور السنين، بينما يتصف انحطاط الغرب بالإيجابية والوعي والإرادة، إن صح التعبير. وإن هذه الصفات لَتُوقِع الغربي في وهم التفوق الذي، إن أمكن وجوده فعلًا على صعيدٍ نفساني معين، وهذا بفضل اختلاف أشكال انحطاطه التي أشرنا إليها توًّا، ما هو إلا تفوق نسبي جدًّا، خصوصًا وأن هذا التفوق قد بلغ من الوهم حدًّا جعله يرتد إلى العدم أمام تفوق رُوحانية الشرق. ولعلنا نستطيع القول أيضًا إن انحطاط الشرق متأتٍّ في الأساس عن «العطالة»، وانحطاط الغرب عن «الضلال»، وأن رجحان العنصر العاطفي هو الذي يجعلهما متضامنين، ذلك الرجحان الذي ليس سواه ما يميز «عصر الظلام»، الذي يغرَق فيه العالم كله، وهو العصر الذي تنبأت به جميع التعاليم المقدسة. إن اختلاف شكل الانحطاط بين الشرق والغرب يفسر لنا، من جهة، ذلك الاحتقار الذي يكنه كثيرٌ من الغربيين لدى احتكاكهم بالشرقيين — وهو احتقار، ويا للأسف، غير ناشئ دائمًا عن مجرد التحامل مثلما هي عليه الحال في كره الشرق التقليدي — ويفسر لنا، من جهةٍ ثانية، ذلك الإعجاب الأعمى الذي يبديه أكثر الشرقيين بما في العقلية الغربية من ملامح إيجابية، فإنه غنيٌّ عن البيان أن نقول إن الاحتقار الذي يبديه الشرق القديم لا يقوم تسويغه على أساسٍ سيكولوجي، وبالتالي نسبي وقابل للأخذ والرد، بل بالعكس إن هذا التسويغ يقوم على أسبابٍ رُوحية هي وحدها الأسباب الحاسمة. في نظر الشرق، الذي لم يزل أمينًا على تقاليده الرُّوحية، لا يمكن أن يكون «تقدم» الغرب غير حلقة مفرغة وسعي لا طائل وراءه إلى تجنب المآسي التي لا بد من وقوعها، وهذا لا يكون إلا على حساب ما يَهَب الحياة معناها.
بعد هذا الاستطراد، نعود إلى مسألة التبشير فنقول: أن يكون الانتقال من صيغةٍ تقليدية إلى أخرى أمرًا مشروعًا لا يمنع أبدًا من وجود حالات من «الصبأ» الحقيقي؛ فالصابئ هو من يبدل صيغته التقليدية بدون سببٍ مشروع. وبالعكس، عندما يكون ثمة «اهتداء» من صيغة تقليد صحيح إلى آخر، تكون الأسباب الداعية إليه ذات مشروعية شخصية أو ذاتية. وغني عن البيان أنه يمكن الانتقال من صيغةٍ تقليدية إلى أخرى دون أن يكون ثمة «اهتداء» حقيقي، وهذا يكون لأسبابٍ من طبيعة باطنية، ورُوحية بالتالي، وعندئذٍ تكون الأسباب التي أوجبت هذا الانتقال مشروعةً موضوعيًّا بمقدار ما هي مشروعة شخصيًّا، أو بالأحرى لا يعود بوسعنا أن نتحدث أبدًا عن أسبابٍ شخصية على وجه التخصيص.
رأينا فيما تقدم أن موقف الظاهرية من الصيغ الدينية الأجنبية يحدده عاملان: أحدهما إيجابي والآخر سلبي، وهما صفة الوحدة الملازمة لكل «وحي»، ونبذ ﻟ «وثنية» خاصة، بما هو نتيجة خارجية للوحدة. فبالنسبة للمسيحية مثلًا، حسبنا أن نضعها في حدود انتشارها الطبيعي — التي ما كانت لتتجاوزها إلا في حالاتٍ نادرة جدًّا لولا انحراف الحديث — حتى نعلم أن هذين العاملين لم يعودا يُطبَّقان خارج حدودهما شبه الطبيعية، وإنما يجب أن يُصار إلى تعميمهما؛ أي نقلهما إلى صعيد «التقليد البدائي» الذي لم يزل حيًّا في كل صيغةٍ تقليدية صحيحة. بعبارةٍ أخرى، ينبغي لنا أن نعرف أن بإمكان كل صيغةٍ من الصيغ الأجنبية أن تدعي هذه الوحدة وهذا النبذ للوثنية؛ أي إن كلًّا منها، بحكم صحتها الداخلية، شكل من أشكال ما يمكننا تسميته باللغة المسيحية ﺑ «الكنيسة الخالدة».
لا يمكننا أن نبالغ في توكيد محدودية المعنى الحرفي للكلام الإلهي المتعلق بالحوادث البشرية، أي في اقتصاره على الميدان الخاص بتطبيقه فيه بحسب القصد الإلهي، ما دام المعيار لهذا القصد هو، في الأساس، طبيعة الأشياء ذاتها على الأقل في الأحوال الطبيعية، على حين أن المعنى الرُّوحي الصرف وحده هو الذي ينبغي أن يكون ذا بعد مطلق، لا يُستثنى من ذلك الأمر ﺑ «تعليم جميع الأمم»، كما لا يُستثنى منه الكلام الآخر الذي لا يفوت أحدًا محدوديةُ معناه الحرفي، الذي لا شك أنه ليس من مصلحة أحدٍ أن يضفي عليه معنى غير مقيد بشرط. لنذكر، على سبيل المثال، النهي عن القتل، أو الأمر بتحويل الخد الأيسر، أو الأمر بعدم الإكثار من الكلام في الصلاة، أو الأمر بعدم الاهتمام بالغد، مع ذلك لم يبين المعلم الإلهي أبدًا الحدود المرسومة لهذه الأوامر، حتى ليمكننا منطقيًّا أن ننسب إليها من المعاني ما لا يتقيد بشرط، مثلما يمكننا أن نفعل بالنسبة إلى الأمر ﺑ «تعليم جميع الأمم». على أننا لو قلنا هذا، لكان من الهام أن نريد بأن المعنى الحرفي المباشر، كلمة فكلمة، لم يشتمل عليه «تعليم جميع الأمم» وحسب، وإنما أيضًا كلمات المسيح الأخرى التي أشرنا إليها لِتوِّنا. وإن ملاك الأمر أن نعرف كيف نضع المعنى في مكانه الصحيح بدون أن نستبعد المعاني الأخرى الممكنة. ولو صح أن الأمر ﺑ «تعليم جميع الأمم» لا يقتصر على مناسبةٍ وحيدة هي إنشاء العالم المسيحي، وإنه يجب — تبعًا لذلك — أن ينطوي أيضًا، ولو بصورةٍ ثانوية، على دعوة كل أمةٍ يمكن الوصول إليها، لكان صحيحًا أيضًا أن الأمر ﺑ «تحويل الخد الأيسر» يجب أن نفهمه فهمًا حرفيًّا في حالاتٍ معينة من الانضباط الرُّوحي. إلا أنه من الأمور البيِّنة بذاتها أن يكون هذا التفسير الأخير ثانويًّا بقدر ما يكون التفسير الحرفي للأمر ﺑ «تعليم جميع الأمم» ثانويًّا. ولكي نحدد بوضوحٍ الفرق بين المعنى الأول والمعنى الثاني لهذا «الأمر»، نعود فنذكِّر بما قد بينَّاه فيما تقدم من أن الهدف في الحالة الأولى هو هدف موضوعي على وجه الخصوص، من حيث إنه يتعلق بإنشاء العالم المسيحي، وأن الهدف في الحالة الثانية، وهو دعوة أقوام المدنيات الأجنبية إلى المسيحية، هو هدف ذاتي ورُوحي قبل كل شيء، بمعنى أن الصعيد الداخلي ينقله إلى الصعيد الخارجي، الذي ما هو إلا محل تحقيق التضحية (الفداء). ورُب معترض يستشهد بقول المسيح: «هذه البشارة بالملكوت سوف يُكرَز بها إلى العالم أجمع لتكون شهادة لجميع الأمم وعندئذٍ تكون النهاية.» على ذلك نُجيب: حتى وإن كان هذا القول يُقصد به العالم كله لا العالم الغربي فقط، فإنه قولٌ من قبيل النبوءة لا الأمر، ويتصل بأحوالٍ دورية تزول فيها الفوارق بين مختلِف العوالم التقليدية؛ بعبارةٍ أخرى، نقول إن المسيح، الذي هو «كَالْكِي-أَواطارا» عند الهندوس، و«بوذي ساتو-متريا» عند البوذيين، سوف يعيد إقامة «التقليد البدئي».
يؤدي الانحطاط الدوري إلى شبه ظلامٍ شامل، ويمشي جنبًا إلى جنب مع تكاثر السكان، وخصوصًا عند الطبقات الدنيا. غير أن هذا الانحطاط ينطوي على ميلٍ كوني إلى التكملة والتعويض، وهو ميل يعمل في قلب الجماعة على استعادة صفتها البدائية، ولو رمزيًّا. فمن ناحية، تصبح هذه الجماعة متخلخلة من كثرة الاستثناءات التي تثقبها، ومن شأن هذا أن يوازي تكاثرها الكمي، حتى لكأن الجانب النوعي الذي تنطوي عليه الجماعة لا ينصب إلا على حالاتٍ خاصة تعويضًا لها عن التخلخل الكمي. ومن ناحيةٍ ثانية، تصبح الوسائل الرُّوحية أيسر على المؤهلين من ذوي التطلعات الجادة، ويرجع هذا إلى نفس قانون التعويض المذكور، فهذا القانون يتدخل حين تدنو الدورة البشرية التي يصلح لها نظام الطبقات قربًا من نهايتها؛ ولهذا السبب لا يميل هذا القانون إلى إعادة البشرية إلى ما كانت عليه في حالتها الأصلية رمزيًّا وفي حدودٍ معينة وحسب، وإنما إلى إعادتها إلى ما كانت عليه قبل نشوء الطبقات أيضًا. جميع هذه الاعتبارات تسمح لنا بفهم الدور الإيجابي والإلهي الذي قام به الإسلام في الهند:
- أولًا: امتصاص العناصر التي لم يعد لها «مكان» في التقليد الهندوكي بسبب الظروف الدورية الجديدة التي ألمحنا إليها آنفًا؛ ونعني بها العناصر التي تنتمي إلى الطبقات العليا على وجه الخصوص، وهي طبقات «الدويجاس».
- ثانيًا: امتصاص عناصر النخبة من الطبقات الدنيا، مما يتيح لها رد الاعتبار أو الأهلية على نحوٍ من المساواة البدئية أو الفطرية. فالإسلام، بما تمتاز به صيغته ووسائله الرُّوحية من بساطة تركيب، أداة إلهية معدَّة لرأب صدوع معينة أمكن حدوثها في المدنيات الأقدم والأعرق، أو لمكافحة جراثيم التخريب التي عششت في صدوع تلك المدنيات، وما دخلت هذه المدنيات جزئيًّا في المجال الإلهي لانتشار الإسلام إلا في ظل هذه العلاقة.
لكيلا نهمل جانبًا واحدًا من المسألة، نعود فنوضح هذه الاعتبارات على النحو التالي، مع احتمال لجوئنا إلى بعض التكرار: يجب أن تنتهي الإمكانية البراهمانية بالتجلِّي في جميع الطبقات، حتى فيما بين المنبوذين أنفسهم، لا على نحوٍ تمثيلي صرف وحسب، مثلما كانت عليه الحال دائمًا، وإنما على نحوٍ مباشر أيضًا، بحيث تصبح الطبقة الدنيا في نهاية الدورة كُلًّا ما دامت تشكل «جزءًا» مما كان في الأصل، وهذا «الكل» هو أشبه ما يكون بالكلية الاجتماعية، والعناصر العليا من هذه الكلية ما هي إلا «استثناءات سوية». بعبارةٍ أخرى، إن الطبقات في حالتها الراهنة تتبع مبدأ عدم التمييز، رمزيًّا وإلى حدٍّ ما، ما دامت الفروق العقلية فيما بين الطبقات آخذة في التلاشي تدريجيًّا. أما الطبقات الدنيا، التي تكاثرت جدًّا، فتمثل الشعب كله في الواقع، وتحتوي بالتالي على جميع الإمكانيات البشرية، على حين أن الطبقات العليا، التي لم تتكاثر بنفس النسبة، باتت تعاني من انحلالٍ ظاهر جدًّا يتعدى «فساد الأحسن هو الأسوأ». ومع ذلك، ولكي نتجنب كل الْتباس، ينبغي لنا أن نبين أن عناصر النخبة في الطبقات الدنيا ما زالت تحتفظ، اجتماعيًّا ووراثيًّا، بصفة «الاستثناء الذي يثبت القاعدة»، وإنها لا تستطيع، لهذا السبب، أن تختلط بصورةٍ مشروعة بالطبقات العليا، لكن هذا لا يمنع أبدًا من أن يكونوا مؤهلين فرديًّا لاتباع الطرق الموقوفة عادة على الطبقات النبيلة. وهكذا لم يكن بدٌّ لنظام الطبقات، الذي ظل عامل توازن على مدى آلاف السنين، من أن يتصدع بنيانه في نهاية اﻟ «مها-يوغا»، على غرار ما أصاب المحيط الأرضي نفسه من اختلال. أما الجانب الإيجابي الذي تنطوي عليه هذه الصدوع فيتكشف عن نفس قانون التعويض الكوني الذي كان في ذهن «ابن عربي» عندما قال، استنادًا إلى أحاديث مختلفة مروية عن النبي: إن نار جهنم سوف تبرد في آخر الزمان. كل الذي بيناه لا يتعلق بالطبقات الهندوكية وحسب، وإنما بالبشرية قاطبة، فالصدوع التي كشفنا عنها في البنية الخارجية للهندوكية نجد لها ما يماثلها تمامًا في كل صيغةٍ تقليدية أخرى على هذه الدرجة أو تلك. أما التشابه الوظيفي في البوذية والإسلام بالنسبة إلى الهندوكية من حيث إن للتقليدين نفس الدور السلبي والإيجابي معًا، فقد كان البوذيون، سواء أكانوا مَهايانيين أم هِنايانيين، على علمٍ تام به، إذ رأوا في الفتح الإسلامي الذي أخضع الهندوس لسلطانه عقابًا إلهيًّا على ما لحقهم هم أنفسهم من اضطهادٍ على يد الهندوس.
بعد هذا الاستطراد الذي لم يكن منه بدٌّ لتبيان جانب هام من جوانب انتشار الإسلام، نعود إلى مسألةٍ أكبر أهمية، ألا وهي ازدواجية المعنى الملازمة للأوامر الإلهية المتعلقة بأحوال البشر. هذه الازدواجية نجدها مقدرة في اسم «يسوع-المسيح»، فالاسم «يسوع» — كما هو الشأن في «غوتاما» و«محمد» — يدل على الجانب المحدود والنسبي من تجلِّي «الرُّوح»، ويعيِّن المحل الذي يقع عليه هذا التجلِّي. أما «المسيح» — كما هو الشأن في «بوذا» و«رسول الله ﷺ» — فيدل على «الحقيقة الكونية» لهذا التجلِّي، أي على «الكلمة» بما هي كذلك. وإننا لنجد هذه الازدواجية في التمييز بين «الطبيعة البشرية» و«الطبيعة الإلهية» في المسيح، رغم أن اللاهوت لا يلتزم بوجهة نظر تسمح لنا باستخلاص جميع النتائج المترتبة عليه.
لئن كان رسل المسيحية قد فهموا المسيح والرسالة التي نُدبوا لها بمعنى الإطلاق، إن من المهم ألا نرُد ذلك إلى تحديدٍ عقلي، بل يجب علينا، قبل كل شيء، أن نأخذ بالحسبان ما اتصف به المسيح وكنيسته من صفةٍ وحيدة في العالم الروماني، وبالتالي «مطلقة نسبيًّا». ولقد يبدو هذا التعبير متناقضًا في الصيغة، وإنه لكذلك من الناحية المنطقية، لكنه يتفق مع الحقيقة، برغم ذلك؛ فالمطلق هو أيضًا يجب أن ينعكس «بما هو كذلك» في النسبي، فيكون هذا الانعكاس «مطلقًا نسبيًّا» بالقياس إلى الأشياء النسبية الأخرى. مثال ذلك: الفرق بين خطأين لا يكون أبدًا إلا فرقًا نسبيًّا، على الأقل في نطاق علاقة الخطأ، من حيث إن أحدهما أكثر خطأ ليس غير، أو أنه أقل خطأ من الآخر. أما الفرق بين الخطأ والصواب فمطلق، لكن على نحوٍ نسبي، أي بدون الخروج من الأشياء النسبية، من حيث إن الخطأ يتعذر عليه أن يستقل عن الصواب، بما هو غير نفي مدان على تفاوتٍ في الدرجة. بعبارةٍ أخرى، إن الخطأ، بما هو غير إيجابي في شيء، يتعذر عليه أن يقف مع الصواب على قدم المساواة، وبصورةٍ مستقلة عنه تمامًا، وهذا يتيح لنا أن نفهم لماذا تعذر وجود «نسبي مطلقًا»؛ لأن هذا «يكون» عدمًا، والعدم «لا يكون» على أي نحوٍ من الأنحاء.