في النرفانا والفناء الرُّوحي
من أكثر الأخطاء شيوعًا في الغرب أن الفناء
الرُّوحي، كما تراه البوذية مثلًا — وهي أكثر ما
تكون في العادة موضعًا للبحث — يمثل العدم، كما لو
كان من الممكن تحقيق شيء ليس له وجود. والحال أننا
نجد أنفسنا أمام أحد أمرين: إما أن تكون النرفانا
هي العدم، وتكون عندئذٍ غير ممكنة التحقيق، وإما
أن تكون ممكنة التحقيق، وفي هذه الحالة يجب أن
تنطبق على شيءٍ حقيقي. إن ما ننساه عن طيب خاطر
مبالغ فيه أن الفردوس — من دون أن نتكلم حتى عن
الغبطة غير المخلوقة
١ التي ما هي إلا المحتوى الإيجابي
للنرفانا — يمكن اعتباره عدمًا هو أيضًا — من حيث
إن العلاقة بين التجلِّيات الصورية وغير الصورية
شبيهة بالعلاقة بين التجلِّي بما هو كذلك واللاتجلِّي.
٢ من جهةٍ أخرى، بما أن الفردوس هو،
اضطرارًا، انعكاس للغبطة الإلهية، تحت طائلة أن
تكون خبيئة أو غير موجودة،
٣ لا يمكنه أن يمثل في كل مظهرٍ من
مظاهره إلا نقصًا بالنسبة إلى نموذجه السماوي،
بمقدار ما يمثل العالم الأرضي الذي نعيش فيه
«نقصًا» بالنسبة إلى الفردوس الذي هو منه نموذجه
السماوي. وهو لو لم يكن كذلك لاختلط العالم
السماوي بالعالم الأرضي اختلاطًا كليًّا، تمامًا
كاختلاط العالم السماوي بالله نفسه لو لم يمثل
العالم السماوي «نقصًا» بإزاء الله،
٤ يترتب على ذلك أننا لو اعتبرنا امتصاص
الكائن في الله إفناءً له،
٥ لتعيَّن علينا منطقيًّا أن نعتبر
أيضًا امتصاص الكائن الأرضي في الوجود الفردوسي
انتقالًا له من الوجود إلى العدم. وبالعكس، لو
اعتبرنا الفردوس تقوية لكل ما هو محبوب وكامل في
هذا العالم أو سموًّا به، لتعيَّن علينا أيضًا أن
نعتبر حالة الفناء الرُّوحي تقويةً لكل ما هو
إيجابي وكامل، أو سموًّا به، لا في العالم الأرضي
وحسب، وإنما تقويةً لكل ما في الكون كله أو سموًّا
به أيضًا. يستتبع ذلك أننا يمكننا أن ننظر في
درجةٍ أعلى من الحقيقة — وأعني بها درجة التجلِّي
غير الصوري أو، فيما وراء الكون، درجة اللاتجلِّي
— إما تحت علاقة المظهر السلبي الذي يظهر اضطرارًا
بإزاء الصعيد الأصغر الذي نقيمه فيها، وإما تحت
علاقة المظهر الإيجابي الذي يحتويه في داخله،
وبالتالي أيضًا — ومن باب أولى — بإزاء الصعيد
الأصغر المذكور. عندما قال المسيح: «في السماء لا
يزوِّجون ولا يتزوجون» إنما أراد بذلك المظهر
السلبي الذي تظهر به الحقيقة منظورًا إليها من
الصعيد الأصغر. في المقابل، عندما يتكلم القرآن عن
الحور العين وعن الملذات الفردوسية الأخرى، إنما
يريد بذلك — كما تفعل كل رمزيةٍ ميثولوجية؛
الرمزية الهندوكية مثلًا — المظهر الإيجابي من نفس
الحقيقة العليا، وهذا يتيح لنا أن نفهم بدون عناءٍ
أن من غير المنطقي إنكار وجود الحور («الأسبارا»
في الهندوكية و«الداكيني» في البوذية) والملذات
الفردوسية الأخرى، من حيث إن وجود مثل هذه الملذات
في الحياة الدنيا، وبالتالي بما يتيح لنا أن ننشئ
رمزية بصددها، إنما يثبت وجود ملذات فردوسية،
تمامًا كما يثبت السراب وجود الشيء الذي يتراءى
عنه.
كل ما قلناه توًّا يجعلنا نتبين أنه، عندما نكون
أمام تعليمٍ يحافظ، فيما يتعلق بذروة كل تحققٍ
رُوحي، على التمييز الذي لا يُرَد بين الخلق
والله، لا يحق لنا أن نخلُص، في غياب معياراتٍ
أخرى، إلى أن الأمر يتعلق بوجهة نظر محدودة؛ لأنها
لا تتجاوز التمييز المذكور. ذلك أن هذا التمييز له
نموذجه الثابت في النظام الإلهي نفسه، مثل كل
تمييزٍ ممكن؛ أي التمييز الأساسي — بإطلاق في
الميتافيزياء الصرفة — بين الكائن والكائن الأعلى.
أو، بمصطلح اللاهوت الشرقي، التمييز بين القدرات
أو الصدورات الموحية وبين القاع
Substratum
الذي لا سبيل إلى بلوغه. أو، أيضًا، بين صفات الله
أو أسمائه — التي هي وحدها القابلة للمعرفة
تمييزيًّا — وبين الذات الممتنعة على كل نفوذٍ
إليها من جانب العقل المتعين في الإنسان الفرد،
وبالتالي الممتنعة على كل تحديد. إنه أيضًا،
بعبارةٍ أخرى، التمييز القائم في الاتجاه الصاعد
بين الواحدية
Unicité
والأحدية
Unité.
هذا الاصطلاح الأخير يعبر رمزيًّا عن «اللاغيرية»
Non-Altérité
(الأدوايتا
ADWAITI في الهندوكية).
٦ فإذا استطاع المخلوق أن يرى، مداورةً،
مظهرًا من الله، فلأن «الكلمة»
le
Verbe تُرى (أو يُرى) جوهرها
أزلًا في الله نفسه، الذي هو كلية الصدورات
والصفات. أو، بعبارةٍ أخرى، لأن «الابن» يرى
«الآب»، على الرغم من أنه لا يوجد، وهذا غني عن
القول، مقياس بين علاقة المخلوق بالخالق وبين
علاقة الابن بالآب. مهما يكن من أمر، فإن كان من
المشروع مواحدةُ الملائكة — الذين ما هم إلا
انعكاسات مباشرة وبالتالي غير صورية، أو فوق صورية
إن شئنا، للمظاهر أو الأسماء الإلهية بالفردوس
أيضًا، أي بأحوال الغبطة، كان من المشروع أيضًا،
ومن باب أولى، مواحدة هذه المظاهر أو الأسماء
الإلهية نفسها بأحوال أو أماكن الغبطة، وبالتالي
بالفراديس. من هنا التعبير، من أجل التحقق
الرُّوحي الأعلى، الخاص ﺑ «جنة الذات».
البحث في مسألة أن نعرف إن كان الأولياء الناجون
ينعدمون في الله أو يبقَون منفصلين فيه بحث ليس له
موضوع، ما دام يرتد إلى معرفة إن كانت الأسماء
الإلهية متميزة أو غير متميزة في الله. والحال أن
كل اسمٍ إلهي هو الله، لكن ما من اسمٍ هو الأسماء
الأخرى، وخصوصًا، أن الله لا ينحصر في أيٍّ منها.
فالإنسان الذي «يدخل» في الله لا يمكنه بكل بداهةٍ
أن يضيف شيئًا إلى الله، ولا أن يدخل فيه تعديلًا،
من حيث إن الله هو الامتلاء الساكن. ومع ذلك، حتى
ولو حقق الكائن اﻟ «باري نرفانا»؛ أي حتى ولو لم
يَعُد يحدُّه مظهر إلهي حصري، بل كان «متواحدًا» ﺑ
«الذات الإلهية»
٧ يظل دائمًا — أو بالأحرى «أزلًا» —
«هو نفسه»؛ لأن الصفات الإلهية لا يمكنها بداهةً
إلا أن تكون ملازمة للذات.
٨ يمكنها تبعًا لذلك أن تفنى في الذات،
لكن دون أن تنعدم فيها. بكلمةٍ واحدة، للأولياء
«وجود سابق» أزلًا في الله، وليس تحققهم الرُّوحي
إلا عودة إلى أنفسهم. وعلى نحوٍ مماثل، كل صفةٍ،
كل متعةٍ أرضية لا يمكنها إلا أن تكون انعكاسًا
محدودًا للكمال غير المنتهي أو الغبطة غير
المنتهية. إذن، لا شيء ينعدم. إن مجرد أننا نتمتع
بشيءٍ دليل على أن هذه المتعة موجودة في الله على
نحوٍ لا نهاية له، وهذا ما يعبر عنه القرآن (سورة
البقرة، الآية ٢٥)، بهذه الصياغة:
كُلَّمَا رُزِقُوا (السعداء)
مِنْهَا (الجنة) مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا
قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ
قَبْلُ، أي: علمنا بالذي رزقنا (لدى
الله أو في الله) في الأزل.
في حديثٍ عن النبي محمد: «الدنيا سجن المؤمن
وجنة الكافر.»
٩ وفي حديثٍ آخر: «أكثر أهل الجنة
البُلْه»، وفي معنى مشابه يقول الصوفي أحمد بن
معاذ الرازي: «جنة المؤمن سجن العارف»، وهو ما
يبين أن النجاة إن كانت تتضمن فناءَ
١٠ كل شيء مخلوق، فإنها لا تتضمن أبدًا
أن حالة الكائن «الفاني» (أو المنطفئ) هي نوع من
العدم. العكس هو الصحيح: كل شيء مخلوق — فردوسي أو
أرضي — هو عدم من منظور الغبطة الإلهية، أو الله
عاريًا من صفاته. بعد الفناء، أو بالأحرى بالتعاقب
معه، يأتي البقاء؛ إنه تواحد الولي بنموذجه
الأزلي، الاسم الإلهي، ومن ثَم تواحده بالله. إن
اصطلاح البقاء هذا يُظهر أن حالة الكائن المتواحد
بالله حالة إيجابية إلى أبعد قدر، أي أنها إيجابية
بلا حدود. ولذلك قال المسيح عن نفسه إنه هو
«الحياة»؛ إذ لا يوجد بين درجتي الحقيقة تشابه
وحسب، وإنما يوجد تضاد
Inversion
كالذي رأيناه: إن كان الفردوس حياة لأن نموذجه
الإلهي حياة، وإن كانت الأرض، لنفس السبب، تحوي هي
أيضًا نمطًا معينًا من الحياة، نمطًا تكون فيه
الحياة السماوية، ومن باب أولى الحياة الإلهية،
نموذجه الأصلي، كان العكس صحيحًا أيضًا: الحالة
الأرضية، بمقدار ما هي وميض شاحب من السماء، هي
أيضًا موت، أولًا الحالة الأرضية بالنسبة إلى
السماء، ثم الأولى (الأرض) كالأخرى (السماء)
بالنسبة إلى الله. ذلك أن الله إن كان هو «الحي»،
فلا يمكن كائنًا أن يكون خارجه.
إن مسألة اﻟ «نرفانا»، من حيث هي تمثل عبورًا من
الدنيا إلى الحقيقة الإلهية، أو من التجلِّي إلى
المبدأ، تستثير مشكلة
١١ المداومة — أو الانقطاع — بين النسبي
والمطلق. فمذهب الحلول، وهو فلسفة غربية، يسلِّم
بالمداومة، طبعًا «انطلاقًا من الأسفل»، بحيث يرتد
في الحقيقة إلى نوعٍ من الإلحاد الذي يزيِّن
العالم باسم «الله». مهما يكن من أمر، هناك نوع من
الحلول ينطوي على نوعٍ من الإلهية
Théisme
الفضفاضة، نجده عند اللاهوتيين «الليبراليين»، أو
عند الهندوس الذين تثقفوا على الغرب الذين
يستخلصون من رمزية كتبهم المقدسة تبسيطات فادحة.
هذه المداومة أو الاستمرارية المفترضة بين الله
والعالم، كما يفهمونها، لا تتفق بداهة مع أي
حقيقة، إذ لو كان الأمر على ما يذهبون إليه، لما
أمكن أن يكون ثمة انقطاع في العالم. والحال أن
الانقطاع الذي نشهده في كل مكانٍ لا يمكنه أن يكون
إلا انعكاسًا للانقطاع الذي يفصل التجلِّي عن
المبدأ أو العالم عن الله، والذي لا يلغيه إلا
إرجاع أُنطولوجي — أو رُوحي — للتجلِّي إلى مبدئه
أو العالم إلى الله، أو بإشعاعٍ فائق للطبيعة من
المبدأ في نظام التجلِّي. في الحقيقة، يوجد في نفس
الوقت انقطاعٌ ومداومة بين النسبي والمطلق؛ أي
مداومة في انقطاع، وتحت علاقةٍ معينة، انقطاع في
مداومة. غنيٌّ عن البيان أن الانقطاع لا يمكن فهمه
إلا من وجهة نظر الوهم؛ وجهة نظر كل مخلوقٍ بما هي
كذلك، ما دام لا يوجد شيء في «الحقيقة» يمكنه أن
ينقطع عن هذه «الحقيقة»، فالانقطاع، تبعًا لذلك،
إنما أعطاه التجلِّي نفسه، وهو يتواحد بمعنًى معين
مع هذا الأخير.
أما المداومة في الانقطاع فما هي غير حضور
المبدأ في التجلِّي، بحسب أنماط مخصوصة، لأن
«براهما ليس في العالم»؛ معنى هذا أنه لا يوجد
باعتباره براهما، بل بما هو انعكاس، أي «ساتو»
و«بودهي» (التجلِّي الوجودي والعقلي ﻟ «الرُّوح
القدس») — وهما الاصطلاحان اللذان يقابلهما في
التصوف «النور» و«الرُّوح» — وتجلِّياتها الخاصة،
من مثل «أواطارا» و«يوغي»، أي التأثيرات الرُّوحية
— كتأثيرات الحضور الأفخارستي على سبيل المثال —
على نحوٍ عمومي تمامًا. هذه الحقائق، على الرغم من
أنها نظامٌ كوني اضطرارًا، إلا أنها هي «براهما» —
أو الله — تحت علاقة الوحدة الجوهرية
identité
essentielle. فالنور ليس هو
الشمس، لكنه يتواحد بها جوهريًّا ويمثل حضور الشمس
على الأرض. هنا أيضًا انقطاعٌ في المداومة في نفس
الوقت، من حيث إن المداومة الجوهرية لا يمكنها
أبدًا أن تبطل الانقطاع بين المبدأ والتجلِّي؛ لأن
هذا الانقطاع يقوم بمعزلٍ عن المداومة الملاحظة،
على حين أن المداومة تفترض وجود الله في العالم
الخارجي، وبالتالي الانقطاع. يمكن أن توجد الشمس
من غير الأرض، لكن النور لا يمكن أن يوجد من غير
الشمس. «الحقيقة» مستقلة عن الوهم، لكن أن يوجد
هذا مرتبطًا تكامليًّا مع الحقيقة لا يُبطل أبدًا
المفارقة المطلقة لهذه الأخيرة.
يقول شري راما كرشنا: «في المطلق لا أكون أنا،
ولا تكون أنت، ولا يكون براهما (في تعينه الشخصي)؛
لأن المطلق وراء كل كلامٍ وفكر. لكن ما دام يوجد
شيء خارج نفسي (أي ما دمت أجد نفسي على صعيد الوعي
الفردي)، يتعين عليَّ أن أعيد براهما في حدود
عقلي، كشيءٍ موجود خارج نفسي.» أن يستطيع
الرُّوحي، بعد بلوغه النرفانا، العودة إلى حالته
الفردية، وأن يظل يحافظ بالتوازي على وحدته العليا،
١٢ لَدليلٌ على أن الفناء ليس يعني
العدم، إذ لا شيء موجودًا يمكن أن ينقطع عن
الوجود.
نسمع أحيانًا سؤالًا يُطرح حول معرفة كيف يتوافق
ظهور حسي أو فعالية على الأرض لكائنٍ يمتلك
القدسية العليا — القديسة مريم على سبيل المثال —
مع حالته المتعلقة بما بعد الموت، من حيث هي حالة
إلهية، وراء كل تعينٍ فردي، وبالتالي وراء كل
صورة؟ على ذلك نجيب؛ أولًا: إن القداسة هي
الانمحاء في النموذج الأول الكوني؛ فالعذراء، بما
هي قديسة، لا يمكنها إلا أن تتواحد مع مثالٍ إلهي
هي منه انعكاس على الأرض. هذا المثال الإلهي هو
قبل كل شيء مظهر أو اسم من أسماء الله، ويمكن
القول تبعًا لذلك إن العذراء، في حقيقتها أو في
معرفتها العليا، هي هذا المظهر الإلهي نفسه، لكن،
لهذا المظهر اضطرارًا انعكاس أول في النظام الكوني
أو المخلوق: إنه «الرُّوح»، الميطاطرون في
القَبالا، أو كبار الملائكة في العقيدة الإسلامية،
واﻟ «تريمورتي» الهندوكية، أو على نحوٍ أخص، ما
دام الأمر يتعلق بالعذراء، الجانب المؤنث والنافع
من اﻟ «تريمورتي». فإذن إن «لاكشمي» القابعة في
ذروة كل العوالم، هي الأثر المباشر للخير والجمال
الإلهيين، ومن هذا الأثر تستمد كل الجمالات
والخيرات المخلوقة وجودها. أو بعبارةٍ أخرى، إنه
من خلال هذا الأثر يرسل الله جماله وخيره إلى
العالم.
السيدة مريم العذراء هي إذن — فيما يمكن أن
ندعوه حالتها بعد الموت بالإشارة إلى وجودها
البشري — مخلوقة وغير مخلوقة في وقتٍ واحد، مهما
كانت التحديدات التي يفرضها على نفسه هنا اللاهوت
الظاهري لأسبابٍ تتعلق بالمناسبة (التاريخية)،
التي لا نرى أخذها بالحسبان، ما دامت وجهة نظرنا
باطنية. مهما يكن من أمر، حتى حين لا تستطيع
الظاهرية، بدون أن تدخل في تناقضاتٍ لا حل لها، أن
تعترف بحقيقة السيدة مريم الإلهية، وتعترف بها مع
ذلك ضمنًا على الأقل، مثلًا عندما تُعرَّف العذراء
بأنها «الفادية بالاشتراك»
corédemptrice،
و«أم الله»، و«زوجة الرُّوح القدس». لكنها تستطيع
أن تعترف، بدون أن تتعرض لخطر الصيغ التي تؤذي
السمع، بأن العذراء مخلوقة قبل خلق الخلق، وهذا
يعني أنها متواحدة بالرُّوح الكوني منظورًا إليه
على نحوٍ أخص في وظيفته المؤنثة؛ الأمومية
الخيرة.
هذا الأثر الإلهي في التجلِّي فوق الصوري أو
النوري يضم أيضًا، بفضل الانعكاس الكوني، أثرًا
نفسيًّا، أو بالأحرى نفسيًّا-فيزيائيًّا، ما دام
الجسماني يمكنه دائمًا أن يخرج وأن يمتصه النفساني
الذي ليس الجسماني إلا نمطًا منه في التحليل
الأخير، وهذا الأثر ما هو إلا السيدة مريم في
هيئتها البشرية. وإنه لمن أجل هذا كانت النماذج
الكونية الأولى، عندما تتجلى في جزءٍ من البشرية
التي من أجلها عاشت السيدة مريم على الأرض. إن هذه
النماذج تفعل ذلك في الصورة النفسية،
١٣ وبالتالي الفردية والبشرية، للسيدة
العذراء. هذه الصورة يمكنها دائمًا أن تمتصها
نماذجها الأولى
١٤ كما تمتص النفس الجسد، وكالنموذج
الأولي المخلوق — اﻟ «رُوح» في وظيفته الرحمانية —
يمكن أن يمتصه نموذجه الأولي غير المخلوق، الذي هو
الجمال والغبطة والرحمة الإلهية التي لا نهاية
لها.