محدودية الظاهر الديني
إن وجهة النظر الظاهرية، التي تقوم على حصر الحقائق العليا فيها دون سواها، لا نجدها، بهذا المعنى الحصري، إلا في تقاليد التوحيد، ووجهة النظر هذه في الحقيقة ليست غير وجهة نظر المصلحة الفردية العليا، التي تمتد على كامل دورة الفرد، ولا تقتصر على حياته الأرضية وحسب، فالحقيقة الظاهرية أو الدينية محدودة بحكم طبيعتها، وهذا يرجع إلى محدودية غايتها، لكن هذا التحديد لا يؤثر مع ذلك في التأويل الباطني الذي تحتمله هذه الحقيقية، بما تتمتع به من شمولية في رموزها، أو — بالأحرى وقبل كل شيء — بما يتمتع به «الوحي» نفسه من طبيعةٍ مزدوجة «داخلية» و«خارجية». يترتب على ذلك أن العقيدة الدغماطيقية هي، في آنٍ واحد، فكرة محدودة ورمز غير محدود.
مثال ذلك عقيدة وحدة «كنيسة الله»، هذه العقيدة لا بد لها وأن تستبعد المذهب الذي يقول بصحة الصيغ التقليدية المستقيمة الأخرى؛ لأن فكرة الشمولية التقليدية غير مفيدة لنجاة الفرد، بل ربما تكون ضارة بها، وهي لا بد مفضية بمن لا يستطيع الارتقاء إلى ما فوق وجهة النظر الفردية إلى التسوية فيما بين الأديان، وبالتالي إلى إهمال الواجبات الدينية، التي هي الشرط الأساسي للنجاة. ومن ناحية، يتعذر الاستغناء عن فكرة الشمولية التقليدية الضرورية من أجل سلوك الطريق الذي يوصلنا إلى «الحقيقة الكلية المحايدة». إن فكرة الشمولية هذه ليست مما لم يشتمل عليه، رمزيًّا وميتافيزيقيًّا، التعريف الدغماطيقي أو اللاهوتي ﻟ «الكنيسة» أو «الجسد السري للمسيح»، أو بعبارةٍ أخرى، إن كان لنا أن نستخدم اللغة الدينية للديانتين التوحيديتين الأخريين؛ وأعني بهما اليهودية والإسلام، نقول إن فكرة الشمولية التقليدية المستقيمة قد رمزت إليها الأولى، دغماطيقيًّا، بمفهوم «الشعب المختار»، وهو «إسرائيل»، ورمزت إليها الثانية بمفهوم «الخضوع»، وهو «الإسلام»، وهو نفسه مفهوم «سناتنا-دارما» في الهندوكية.
وغنيٌّ عن البيان أن التحديد «الخارجي» للعقيدة — وهو التحديد الذي يمنحها صفتها الدغماطيقية — يظل تحديدًا مشروعًا ما دامت وجهة النظر الفردية التي تتفق مع هذا التحديد تعبر عن حقيقةٍ على صعيدها الخاص. وبسبب هذه الحقيقة النسبية يمكن لوجهة النظر الفردية — بل يجب عليها — أن تكتمل على نحوٍ ما بكل ما يفضي بها إلى حقيقةٍ متعالية، لا بما فيها من سلبي تجاه منظور أعلى، بل بما فيها من محدودٍ اقتضته طبيعتها. وبمقتضى هذه العلاقة، لا يعود المذهب الظاهري — أو بالأحرى الصورة أو الشكل بما هو كذلك — لا يعود ينطوي على منظورٍ مقيد عقليًّا، بل يقوم بدور واسطة رُوحية تكميلية على نحوٍ فذ، من غير أن يؤثر في استعلاء العقيدة الباطنية، من حيث إنه لم يُفرض عليها تجديد سببه المناسبة الفردية.
والحق، لا يجوز الخلط بين دور وجهة النظر الظاهرية والدور الذي يقوم به مذهب الظاهر بما هو واسطة رُوحية؛ فوجهة النظر الظاهرية تتضارب في الوجدان الواحد نفسه مع «المعرفة الباطنة»، إذ ما تلبث هذه الأخيرة حتى تحل الأولى، ثم تعود فتمتصها عائدة بها إلى المركز الذي صدرت عنه. أما الوسائط الظاهرية فما تنفك تُمدنا بالفوائد، وهذا يتم بطريقتين: إما عن طريق نقل مضمون عقلي إلى نظام الباطن — وفي هذه الحالة تكون بمثابة دعائم «تنشط» العقل — وإما عن طريق قيامها بدور المنظم للنصيب الفردي من الكائن.
والحق أنه عندما لا تعود وجهة النظر الظاهرية تحيا بالحضور الداخلي للباطن — وهي منه إشعاعه الخارجي وحجابه في آنٍ واحد — لا بد وأن يفضي بها ذلك إلى نفي نفسها، ذلك أن الدين بمقدار ما يتنكر للحقائق الميتافيزيقية و«الصوفية»، ويتجمد في دغماطيقيةٍ حرفية، لا بد له وأن يولِّد الكفر. والضمور الذي يصيب الحقائق من جراء حرمانها من «بُعدها الداخلي» إنما يقع عليها في هيئة زندقة أو إلحاد.
بوسعنا الآن أن ننبه إلى موضوع «استحقاق النجاة بالعمل»، بالمعنى الواسع للكلمة، وهو ما يفسر لنا كيف يصل الأمر ببعضهم إلى الانتقاص من شأن العقل الذي يمكنه أن يجعل من العمل شيئًا عديم الجدوى، ويتصف بإمكانيات تكشف عن نسبية الثواب والمنظور الذي يرتد إليه. كذلك إن في وجهة النظر الدينية ميلًا إلى اعتبار الفاعلية العقلية الصرفة — التي لا تكاد تميزها من الفاعلية الراسيونالية (العقلانية) المجردة — قائمة على شيءٍ من التعارض مع الفعل المثاب، وبالتالي خطرًا على النجاة. ولذلك كان من اليسير إلباسُ العقل لباسَ الشيطان، والكلام على «غطرسة العقل»، كأنما ليس في هذا تناقض في التعبير. ومن هنا جاءت الإشادة العالية ﺑ «إيمان الأطفال»، أو «إيمان السذج»، الذي نحن أول من يحترمه إن كان عفويًّا طبيعيًّا، لا نظريًّا متكلَّفًا.
كثيرًا ما نسمع من يقول إنه ما دامت النجاة تنطوي على حالةٍ تامة من الغبطة، وما دام الدين لا يريد شيئًا غير هذا، فلماذا إذن كان اختيار الطريق الموصل إلى «التأله»؟ نجيب على هذا الاعتراض بالقول إن الطريق الباطني لا يمكن أبدًا أن يكون محلًا ﻟ «اختيارٍ» مِن الذين يتبعونه، ذلك أن الإنسان ليس هو الذي يختار الطريق، بل إن الطريق هو الذي يختار الإنسان. بعبارةٍ أخرى، إن مسألة الاختيار ليست واردة هنا؛ لأن المنتهيَ لا يسعه اختيار غير المنتهي؛ إنما المسألة التي نحن بصددها هنا هي مسألة «دعوة» أو «نداء»، و«المدعوُّون» لا يسعهم التهرب من هذه «الدعوة» تحت طائلة «الخطيئة بحق الرُّوح»، على حد تعبير الإنجيل، بأكثر مما يسع إنسانًا أن يتهرب من واجباته الدينية ويكون تهربه مشروعًا.
لئن كان من غير المناسب أن نتكلم على الاختيار حيال غير المنتهي، كذلك إن من غير المناسب أن نتكلم على التمني، ذلك أن الأمر لا يتعلق بتمني المريد للحقيقة الإلهية، بل يتعلق بميله منطقيًّا وأنطولوجيًّا نحو جوهره المتعالي بالذات. إن هذا التعريف لذو أهمية بالغة.
العقيدة الظاهرية بما هي كذلك، أي منظورٌ إليها بعيدًا عن التأثير الرُّوحي الذي قد يفعل في النفوس بمعزلٍ عنها، لا تتمتع باليقين المطلق أبدًا. كذلك ليس بوسع المعرفة اللاهوتية أن تطرد الوسوسة والشك حتى من نفوس أكابر الصوفية. أما الألطاف التي قد تتدخل في مثل هذه الحالات فلا يجمعها والعقلَ جوهرٌ مشترك، بحيث لا يتوقف دوامها على الإنسان الذي ينعم بها. والمذهب الظاهري، إذ يقتصر على وجهة نظر نسبية هي نجاة الفرد، وهي وجهة نظر هامة تؤثر حتى في مفهوم الألوهة بالمعنى الضيق، نجده لا يمتلك وسيلة للبرهان أو للمشروعية المذهبية تتناسب مع مقتضياته. والحق أن ما يميز المذاهب الظاهرية جميعًا هو فقدان التناسب بين مقتضياتها الدغماطيقية وضماناتها الجدلية؛ لأن هذه المقتضيات مطلقة، بما هي مستمدة من «الإرادة الإلهية»، وبالتالي من «معرفة إلهية»، على حين أن ضماناتها نسبية، بما هي مستقلة عن الإرادة وغير قائمة على هذه المعرفة، بل على وجهة نظر بشرية مِلاكها الفكر والعاطفة. فعلى سبيل المثال، قد نذهب إلى البراهمة ونطلب منهم التخلي عن تقليدهم الذي جعلت منه خبرتَها الرُّوحية أجيالٌ لا حصر لها على مدى آلاف السنين، ولم يزل حتى يومنا هذا يُزهر ألوانًا من الحكمة والقداسة. إن ما نسوقه من حجج، تسويغًا لهذا الطلب الغريب، لا يتضمن شيئًا يمكننا اعتبارُهُ حاسمًا من الناحية المنطقية، أو متناسبًا مع خطورة الطلب الذي نحن بصدده. فالأسباب التي تجعل البراهمة أمناء على تراثهم الرُّوحي أقوى بكثيرٍ من الأسباب التي نسوقها حججًا لكي نحملهم بواسطتها على أن يكونوا على غير ما هم عليه، فمن وجهة النظر الهندوكية، أن فقدان التناسب الناشئ عن بعد الشُّقة بين حقيقة التقليد البراهماني وبين قصور الحجج الآتية من قِبل الأديان الأخرى لهو من نوعٍ يقتضي لإزالته ألا تكون هذه الحججُ بالغةَ الضعف، ولا تكون حججُ مَن نزعم أنهم «كفار» بالغةَ القوة، لو كان الله يريد إخضاع العالم إلى سلطان ديانة واحدة. بعبارةٍ أخرى، لو كان الله يقف إلى جانب صيغةٍ واحدة من التقليد، لكانت بلغت من قوة الإقناع حدًّا تجعل كل إنسان، خالٍ من الغرض، عاجزًا عن الإفلات من قبضتها. زد على ذلك، أن مجرد وصمنا ﺑ «الكفر» مدنياتٍ أقدم من المسيحية بكثير، عدا استثناءٍ واحد، وهي مدنيات لها كل الحقوق الرُّوحية والتاريخية في تجاهل هذه الأخيرة، لَيجعلنا نُوجِس خيفةً من كل ما في المزاعم الدينية من اعتسافٍ حيال الصيغ التقليدية المستقيمة الأخرى، لما فيها من سذاجة ادعاء ومجافاة منطق.
القول بوجوب الإيمان بدينٍ معين دون غيره وجوبًا مطلقًا لن يجد له ما يسوغه في غير الاعتماد على أدواتٍ نسبية، كالتماس أدلة من الفلسفة اللاهوتية، أو من التاريخ أو العاطفة، وفي الحقيقة، لا يوجد برهان يؤيد الادعاء بامتلاك الحقيقة الواحدة على وجود الانفراد، وكل محاولةٍ تُبذل في هذا السبيل لا يمكنها أن تعني غير ما عند الناس من استعداداتٍ فردية، وهي استعدادات نسبية بما هي ترتد إلى سرعة التصديق، في الأساس.
ما من رؤيةٍ ظاهرية إلا وتزعم، بحكم طبيعتها بالذات، أنها هي وحدها الحقيقة والمشروعة؛ وهذا لأن وجهة النظر الظاهرية، وهي لا تهتم بغير المصلحة الفردية المتمثلة في النجاة، لا تتمتع بميزة التعرف على ما في الصيغ التقليدية الأخرى من حقيقة. وهي، إذ تهمل حقيقتها هي بالذات، حريٌّ بها أن تهمل حقيقة الصيغ الأخرى، بل أن تنكرها، ذلك لأن مفهوم تعددية الصيغ التقليدية من شأنه الإضرار بالمسعى الوحيد الذي يقوم به الإنسان من أجل نجاته الفردية. وهذا بالضبط هو ما يلقي الضوء على الصفة النسبية التي تتحلى بها الصيغة التي هي ضرورية ضرورةً مطلقةً من أجل نجاة الفرد.
وإذا لم يكن هناك من دليل قوي يؤيد دعوى الظاهرية القائمة على الاستئثار بالحقيقة، أفلا يؤدي ذلك إلى الاعتقاد بأن صحة صيغة تقليدية ما أمرٌ لا يمكن البرهان عليه؟ مثل هذا الاستنتاج تكلفٌ محضٌ وشديد البعد عن الصواب؛ ذلك أن كل صيغةٍ تقليدية تنطوي على برهانٍ مطلق على صحتها، وبالتالي على استقامتها. أما الذي لا يمكن البرهان عليه، بصرف النظر عن البرهان المطلق، فليس هو الحقيقة الداخلية، وبالتالي الشرعية التي تتمتع بها صورة الوحي الشامل، إنما هو — على وجه الحصر — الافتراض بأن هذه الصيغة بعينها هي وحدها الصيغة الوحيدة والشرعية. وإذا كان إثبات هذا غير ممكن فما هو إلا لأن هذا الافتراض غير صحيح.
إذن، هناك براهين على صحة ديانة ما يتعذر دحضها، لكن هذه البراهين، وهي من صعيدٍ رُوحي صرف، بما هي البراهين الوحيدة المتاحة لتأييد حقيقة موحًى بها، تنطوي في الوقت نفسه على نفي الاستئثار الذي تدعيه الصيغ التقليدية لنفسها. بعبارةٍ أخرى، إن من يريد أن يبرهن على صحة ديانة ما، إما ألا يكون عنده براهين لأنها غير موجودة أصلًا، وإما ألا يكون عنده غير البراهين التي تؤيد كل حقيقةٍ دينية بلا استثناء، مهما كانت الصورة التي ترتديها هذه الحقيقة أو تلك.
إن دعوى الظاهرية القائمة على الاستئثار بحقيقةٍ واحدة، أو ﺑ «الحقيقة» على وجه الإطلاق، لهي خطأ محض قولًا واحدًا، فكل حقيقةٍ ما نكاد نعبر عنها حتى ترتدي صورة هي صورة التعبير نفسه؛ ولذلك كان من المتعذر، ميتافيزيقيًّا، على أي صورةٍ أن تنفرد بالقيمة أو الحقيقة من دون الصور الأخرى، ذلك أن الصورة، بحكم طبيعتها بالذات، لا يمكنها أن تكون وحيدة أو انحصارية، أي أن الصورة لا يسعها أن تكون الإمكانية الوحيدة للتعبير عما تعبر عنه، فإذا قلنا: صورة، فمعنى ذلك أنها تنويع أو تمييز، والمتنوع لا يُدرَك إلا من حيث هو نمط من النوع، أي من فصيلةٍ تشتمل على مجموعةٍ من الأنماط المتشابهة. أو بعبارةٍ أخرى، إن المحدود إذ يحد نفسه باستبعاد ما هو غير داخل في حدوده، يُضطر إلى التعويض عما استبعده بالإصرار على توكيد نفسه أو تكرارها خارج حدوده؛ وهذا يعني أن الأشياء المحدودة الأخرى داخلة حكمًا في حد المحدود. والزعم بأن تحديدًا ما، مثلما هو الحال في صورةٍ معتبرة كذلك مثلًا، هو نسيج وحده، ولا يقارَن بتحديدٍ آخر، ويستبعد بالتالي جميع الأنماط الأخرى المشابهة له، إن هذا الزعم يعني أننا ننسب إليه أنه وحده الموجود دون سواه، بينما لا يسع أحدًا أن ينازع في أن الصورة هي دائمًا تحديد، وفي أن الديانة لا بد وأن تكون صورة دائمًا، لا من حيث حقيقتُها الداخلية التي هي من صعيدٍ أعم وأشمل، وبالتالي يتجاوز جميع الصور، بل من حيث طريقتُها في التعبير، وهي طريقة، بحكم كونها كذلك، لا يمكنها إلا أن تكون صورية، وبالتالي متنوعة ومحدودة، يجب ألا نملَّ من تكرار القول بأن الصورة إن هي إلا مظهر من مظاهر التجلِّي الصوري الذي يقضي بأن تكون متميزة ومتعددة، أن تكون بالتالي — كما قلنا لتوِّنا — مظهرًا في جملة مظاهر أخرى لا يجمع بينها غير أصلها الواحد الذي يتعداها جميعًا. ولكيلا يغيب هذا عن ذهننا نعود فنقول إن الصورة، بحكم محدوديتها، لا بد لها من أن تدع شيئًا خارج حدودها، شيئًا مما تستبعده حدودها بالذات، ولا بد لهذا الشيء المستبعد، إن كان من نفس الفصيلة، من أن يكون مشابهًا للصورة التي نحن بصددها. فتميز الصورة ينبغي أن يعوِّض عنه عدم تميزها، فلا يكون لها — تبعًا لذلك — غير شخصية أو هوية نسبية، ولو لم تكن هذه الشخصية أو الهوية لكان تميز الصور بعضها من بعضها الآخر تميزًا مطلقًا، مما يترتب عليه القول بتعدد «الوجودات» الذي يفضي بنا إلى القول بأن كل صورةٍ هي نوع من الألوهة لا صلة لها بغيرها من الصور، وهذا فرض مستحيل.
إذن، إن دعوى الظاهرية المبنية على الاستئثار بالحقيقية تصطدم باعتراضٍ بديهي يقوم على عدم وجود واقعية دينية وحيدة، لا لشيء إلا لأن من المستحيل استحالة مطلقة أن توجد مثل هذه الواقعة الوحيدة، فالله وحده هو الوحيد، والواقعة ليست هي الله، وهو ما لا تعرفه الأيديولوجية «المؤمنة»، التي ليست في الأساس غير تخليط منحاز بين الصوري والشمولي. فالأفكار التي ترسخت في صورةٍ دينية معينة، كفكرة «الكلمة»، أو، فكرة «الوحدانية الإلهية»، لا يمكنها إلا أن تترسخ على نحوٍ أو آخر في الديانات الأخرى. كذلك إن أسباب اللطف أو النعمة التي يتمتع بها هذا الكهنوت لا يمكن إلا أن نجد لها ما يكافئها في كهنوتٍ آخر. ونضيف أنه بمقدار ما تكون أسباب اللطف هامة أو لا غَناء عنها، بمقدار ما نجدها اضطرارًا في جميع الصور الصحيحة الأخرى على نحوٍ يتناسب مع محيطها الخاص.
لعلنا نستطيع إيجاز الأفكار المتقدمة بالصيغة التالية: لا وجود للحقيقة المطلقة إلا فيما وراء تعبيراتها الممكنة، ولا يمكن هذه التعبيرات، بما هي كذلك، أن تدعي الاستئثار بأوصاف هذه الحقيقة؛ لأن ابتعاد هذه التعبيرات عن الحقيقة يترجمه تمايزها وتعددها، وهذا لا بد له من أن يحدَّها.
لعلنا نستطيع أيضًا أن نبين الاستحالة الميتافيزيقية للاستئثار بالحقيقة، الذي تدعيه العقائد، بالصيغة التالية، في ضوء المعطيات الكوزمولوجية التي ييسرها لنا استخدام اللغة الدينية:
أن يكون الله قد أذن لمدنياتٍ معينة أن تهرَم وتنهار بعد أن كان منحها ازدهارًا رُوحيًّا على مدى آلاف السنين لَمِمَّا لا يتنافى أبدًا مع طبيعة الله، إن جاز لنا مثل هذا التعبير. كذلك أن تكون البشرية قاطبةً قد دخلت في حقبةٍ قصيرة نسبيًّا من عصر الظلمات عقب آلاف السنين من الوجود السليم المتوازن لَمِمَّا يتفق أيضًا مع «الأسلوب الذي يتصرف به» الله. أما أن يكون الله، وهو يريد الخير للبشرية، قد ترك الأغلبية الواسعة، وفيهم أصحاب مواهب، يسقطون بلا أملٍ ولا رجاءٍ في غياهب الجهل القاتل على مدى آلاف السنين، وأن يكون قد تخير، وهو يريد إنقاذ الجنس البشري، من الوسائل أقلَّها فاعلية، من الناحيتين المادية والنفسية، من مثل ديانةٍ جديدة ظلت مدة طويلة قبل أن تتوجه إلى الناس كافة، مضطرةً لا إلى ارتداء صفة الخصوصية والمحلية وحسب، وإنما إلى أن ينالها الوهن جزئيًّا أو تتقوض حتى في محيط نشأتها بفعل قوة الأشياء. أن يكون الله قد تصرف على هذا النحو لهو استنتاج بالغ الاعتساف من حيث إنه لا يأخذ بعين الاعتبار الطبيعة الإلهية، التي قوامها «الخير» و«الرحمة». فقد تكون هذه الطبيعة رهيبة، لكنها ليست فظيعة أبدًا، وعلماء اللاهوت لا يجهلون ذلك. كذلك أن يكون الله قد أباح للعَماية البشرية أن تبتدع زندقات أو هرطقات في قلب المدنيات التقليدية، لَمِمَّا يتفق مع «النواميس الإلهية» التي تحكم الخلق أجمعين. أما أن يكون قد أباح لديانةٍ اخترعها إنسانٌ أن تفتح جزءًا من العالم وترسخ أقدامها في ربع المعمورة مدة يزيد على ألفٍ من الأعوام، وأن تخدع أفواجًا من المخلصين ذوي الحماسة عن محبتهم وإيمانهم ورجائهم، فمما يتنافى أيضًا مع «نواميس» الرحمة الإلهية، أو بعبارةٍ أخرى، يتنافى مع «الإمكانية» الكونية.
إن الفداء فعلٌ أزلي يتعذر حصره في الزمان والمكان، وما تضحية «المسيح» غير مظهر خاص منه، أو تحقيق خاص له على الصعيد البشري. ولقد كان بوسع الناس — وبوسعهم الآن — أن يستفيدوا من «الفداء» قبل مجيء المسيح استفادتهم منه بعد مجيئه، خارج الكنيسة المنظورة أو في داخلها.
لو كان المسيح هو التجلِّي الوحيد للكلمة، على فرض إمكان أن يكون كذلك، لكانت ولادته أحالت العالم رمادًا في التوِّ واللحظة.
لنأت الآن إلى موضوع رفض كبار الأنبياء، خارجيًّا، لهذه الصورة أو تلك من الصور التقليدية، عالمين مبدئيًّا بما تتمتع به «الحقيقة» من صفة الشمول؛ إن لهذا الموقف سببًا مباشرًا من جهة، ومعنى رمزيًّا من جهةٍ ثانية، فيما يتوضع المعنى فوق السبب، إن جاز لنا التعبير. لئن كان تَعيَّن على إبراهيم وموسى والمسيح أن يرفضوا «الوثنيات» التي واجهوها، لقد كان هذا الرفض منصبًّا على تقاليد منقرضة لم يبق منها غير صورٍ مفرغة من الرُّوح، وكانت أحيانًا تقوم بتعزيز التأثيرات المضلة، مما يجعل من استمرارها أمرًا لا مسوغ له، في وقتٍ كان فيه «المختارُ»، هيكلُ الحقيقة الحي، غيرَ ملزم أبدًا أن يرعى شئون صور ميتة أضحت عاجزة عن القيام بدورها الأوَّلي. ثم إن لهذا الموقف السلبي الذي يتخذه من يكشف عن «الكلمة الإلهية» طبيعةً رمزية، وهذا هو معناه الأعمق والأصح، ذلك أنه حتى حين لا يتصل هذا الموقف بالنواة الباطنة التي استطاعت أن تبقى حية في قلب مدنيات نفِدت طاقتُها وأُفرغت منها الرُّوح، يبقى لهذا الموقف ما يسوِّغه تسويغًا لا تَحفُّظ فيه، فيما لو طبقناه على واقعةٍ بشرية معينة، أعني على انحطاطٍ يعم الناس كلهم، أو على «وثنية» تشيع في الناس كلهم، والإسلام أقرب مثال على ذلك:
لئن كان تعين على الإسلام أن يرفض، على نحوٍ ما، صور التوحيد التي تقدمته، فقد كان لديه سببه المباشر فيما رسمته هذه الديانات من حدودٍ لصورها. لم يكن ثمة شك في أن اليهودية كانت وصلت إلى حدٍّ لم تعد تصلح معه أساسًا تقليديًّا لبشرية «الشرق الأدنى»، بما اتخذته صورتها من خصوصيةٍ باتت معها غير قادرة على الامتداد والانتشار. أما المسيحية فسرعان ما جعلت تتخصص على نحوٍ مماثل تحت تأثير البيئة الغربية — وربما تحت تأثير الرُّوح الروماني على وجه الخصوص — حتى لقد أصبحت سببًا في نشوء جميع أنواع الانحرافات في البلاد العربية وما جاورها، وباتت منطقة الشرق الأدنى حتى الهند مشرفةً على الغرق في طوفان زندقات أو هرطقات بعيدة جدًّا عن رُوح المسيحية الأولى. تجاه هذه الأحوال، لا جرم أن يكون للوحي الإسلامي حقُّه الأقدس — بمقتضى السلطة الإلهية الملازمة لكل وحي — في أن ينأى بدعوته عن المعتقدات المسيحية التي كانت أيسرَ ما تكون مصدرًا للانحرافات بمقدار ما كانت تعبر عن حقائق باطنة صارت إلى الابتذال دون أن تتكيف التكيف الصحيح. لكننا نجد، من جهةٍ ثانية، أن المقاطع القرآنية المتعلقة بالنصارى واليهود والصابئة والمشركين تنطوي على معنًى رمزي قبل كل شيء، ولا تتناول صحة التقاليد أبدًا. كذلك نجد الأسماء المتعلقة بهؤلاء لا تعود تُستعمَل إلا لكي تدل على وقائع خاصة ذات صفةٍ بشرية عامة. فعلى سبيل المثال، عندما يذكر القرآن الكريم أن إبراهيم عليه السلام ما كان يهوديًّا ولا نصرانيًّا بل حنيفًا مسلمًا (أي «على الهدى» بالنسبة إلى التقليد البدئي)، يصبح من الواضح أن كلمتَي «يهودي» و«نصراني» يتعذر أن تدلَّا إلا على مواقف رُوحية عامة لم تكن تحديداتها الصورية أو الشكلية في اليهودية والنصرانية غير مظاهر خاصة من هذه المواقف، أو أمثلة عليها. نقول «تحديدات صورية»، دون أن نتكلم — بطبيعة الحال — على اليهودية والنصرانية بحد ذاتهما، إذ لا مجال للبحث في صحتهما.
عودًا إلى ما بين الصور الدينية من تضاربٍ نسبي، وعلى الأخص بين صورٍ معينة منها، نقول أنه من الضروري أن يسيء بعضها تفسير بعضها الآخر، إلى درجةٍ معينة؛ ذلك لأن وجود الديانة، من بعض الأوجه على الأقل، يقوم على ما يميزها من غيرها من الديانات. لقد دأبت العناية الإلهية على عدم قبول الاختلاط فيما بين صور الوحي، منذ أن انقسمت البشرية الواحدة إلى «بشريات» مختلفة، وابتعدت عن التقليد البدائي، وهو التقليد الوحيد الممكن. فعلى سبيل المثال، نقول إن سوء التفسير الإسلامي لعقيدة التثليث المسيحية ذو طبيعة ربانية؛ لأن التعليم الذي تنطوي عليه هذه العقيدة تعليمٌ باطني جوهريًّا وحصريًّا، ولا يقبل أبدًا أن يصير تعليمًا «ظاهريًّا» بالمعنى المخصوص للكلمة. ولقد كان على الإسلام أن يحد من انتشار هذه العقيدة، لكن هذا ليس من شأنه أن يمنع من أن تكون الحقيقة الشاملة التي تعبر عنها هذه العقيدة ماثلة في الإسلام نفسه. ولعله ليس من غير المفيد، من جهةٍ أخرى، أن نبين ها هنا أن تأليه عيسى ومريم، الذي ينسبه القرآن بصورةٍ غير مباشرة إلى النصارى، يفسح في المجال أمام تثليثٍ لا يواحده هذا الكتاب مع ذلك بالتثليث الذي تعلمه النصرانية، رغم أنه لا يقل عنه اعتمادًا على الوقائع. فهناك أولًا مفهوم «أم الله»، وهو تعليمٌ غير ظاهري يتعذر عليه، بما هو كذلك، أن يجد له مكانًا في المنظور الديني الإسلامي. وهناك ثانيًا «الماريانية»، التي يرفضها الإسلام، بما هي اغتصاب جزئي لحق الله في العبادة. ثم هناك أخيرًا «الوثنية المريمية»، التي كان يدين بها بعض الفرق في «الشرق»، وكان على الإسلام أن يحاربها حربًا تشتد عنفًا كلما دنت قربًا من الوثنية العربية. لكن يقول الصوفي عبد الكريم الجيلي، من جهةٍ أخرى، أن التثليث المذكور في القرآن قابل للتأويل الباطني. كان الغنوصيون يفهمون الرُّوح القدس على أنه الأم الإلهية، لكن هذا لا يعدو كونه إكسابًا لهذا المعنى صفة الظاهرية أو تحريفًا له، من أجله تعرض للتقريع كلٌّ من النصارى الحقيقيين والزنادقة من «عبدة» العذراء على حدٍّ سواء. ومن جهة نظر أخرى، لعلنا نستطيع القول — وإن وجود الزنادقة المذكورين شاهد على ذلك — إن التثليث القرآني ينطبق أساسًا على ما قد آلت إليه المعتقدات المسيحية نتيجة لتكييف غير صحيح كان لا بد للعرب أن يقعوا فيه لأن هذه المعتقدات لم تكن معدة من أجلهم.
أما عقيدة التثليث التي تقول بها النصرانية الحقة فالأسباب التي تحمل الإسلام على رفضها، فضلًا عن أسباب المناسبة التقليدية، هي أسباب من صعيدٍ ميتافيزيقي؛ فاللاهوت المسيحي لا يريد ﺑ «الرُّوح القدس» حقيقة أولية صرفة، ما بعد كونية، إلهية وحسب، وإنما يريد به أيضًا انعكاسًا مباشرًا لهذه الحقيقة في نظام التجلِّي الكوني المخلوق. والحق أن الرُّوح المقدس، بناء على تعريف اللاهوت له، يشتمل — خارج النظام المبدئي أو الإلهي — على الذروة أو المركز المشع على الخلق كافة. أو بعبارةٍ أخرى، يشتمل على التجلِّي غير الصوري الذي لا شكل فيه. وإن هذا الانعكاس لهو الانعكاس المباشر للمبدأ الخالق (بُورُوشا) في «مادة» الكون (براكريتي)، بالمصطلح الهندوكي. وهو أيضًا الرُّوح الإلهي المتجلِّي (بودهي)، والرُّوح والعقل في التصوف. أو هو أيضًا «الملائكة الأربعة الكبار»، الذين يشبهون اﻟ «ديفا» وما يتبعهم من اﻟ «شاكتي»، ويمثلون الكثير من مظاهر هذا الرُّوح أو وظائفه. نقول إن هذا الانعكاس هو «الرُّوح القدس»، إذ ينير حياة الإنسان ويلهمه ويقدِّسه. إن اللاهوت على حقٍّ عندما يواحد بين هذا الانعكاس وبين الله في كينونةٍ واحدة؛ بمعنى أن «البودهي»، أو «الرُّوح» (المِيطاطرون في القَبالا) «هو» الله من حيث صلته الجوهرية، وبالتالي «العمودية»؛ بمعنى أن هذا الانعكاس متواحد «جوهريًّا» بعلَّته. ثم إن اللاهوت على حقٍّ أيضًا، عندما يميز «كبار الملائكة» من الله/الرُّوح القدس، ولا يرى فيهم غير كائنات مخلوقة؛ بمعنى أنه عندئذٍ يميز الرُّوح القدس، منظورًا إليه في جملة الخلق، من أصله المبدئي أو الإلهي. لكن هذا اللاهوت إلى ذلك يتناقض مع نفسه، بحكم قوة الأشياء، عندما يبدو وكأنه قد غاب عن نظره أن كبار الملائكة ما هم غير مظاهر أو وظائف من هذا الجزء المركزي، أو الجزء الأسمى، من الخلق، الذي هو الرُّوح القدس بوصفه «الفارقليط».
من وجهة نظر لاهوتية أو دينية، لا يتعذر علينا أن نسلم بالفرق بين الرُّوح القدس الإلهي المبدئي، ما بعد الكوني من جهة، وبين الرُّوح القدس المتجلِّي أو الكوني، و«المخلوق» بالتالي، ومواحدته في كينونةٍ واحدة مع كبار الملائكة من جهةٍ أخرى. لكن وجهة النظر اللاهوتية يتعذر عليها أن تجمع في معتقدٍ واحد ما بين رؤيتين مختلفتين. من هنا التباين بين المسيحية والإسلام؛ فبالنسبة إلى هذا الأخير، يشكل «التأليه» المسيحي للعقل الكوني «شرك» شيء مخلوق بالله، حتى وإن كان هذا الشيء تجلِّيًا لا صورة فيه ولا شكل، تجلِّيًا ملائكيًّا فردوسيًّا فارقليطيًّا. وفيما عدا هذه المسألة المتعلقة بالرُّوح القدس، لا اعتراض للإسلام أبدًا على فكرة وجود مظهر ثلاثي في «الوحدة الإلهية»، إن ما يرفضه الإسلام أن يكون الله تثليثًا على وجه الحصر، وعلى نحوٍ مطلق؛ لأن هذا معناه، من وجهة نظر إسلامية، أننا نُكسب الله صفة النسبية، أو نضفي «عليه» مظهرًا نسبيًّا على نحوٍ مطلق.
عندما نقول إن صيغة دينية معينة قد أُعدت، إن لم تكن من أجل هذه الأمة أو تلك، فعلى الأقل من أجل مجموعةٍ بشرية تضافرت على تعيينها ظروف خاصة، لعلها من طبيعةٍ بالغة التعقيد، كما هي حال ظروف العالم الإسلامي. عندما نقول هذا، لا يصح أن يعترض علينا أحدٌ بالقول إنه يوجد مسيحيون بين ظهراني جميع الشعوب تقريبًا، أو بأي حجةٍ من هذا القبيل. لكي نفهم الصيغة التقليدية، لا يتعلق الأمر بمعرفة إن كان يوجد في قلب الجماعة التي أُعدت من أجلها هذه الصيغة أو تلك، أفراد أو مجموعات لديهم قابلية للتكيف مع صيغةٍ أخرى، وهو أمرٌ لا يمكن مناقشته أبدًا، وإنما يتعلق الأمر فقط بمعرفة إن كانت الجماعة كلها تستطيع أن تتكيف مع هذه الصيغة أو تلك. فمثلًا، لا يكفي أن نتحقق من وجود مسيحيين عرب لكي نضع مشروعية الإسلام موضع ارتياب؛ ذلك لأن السؤال الوحيد الذي يجدر بنا أن نطرحه هنا هو معرفة ماذا يحل بالمسيحية لو اعتنقتها الجماعة العربية كلها؟
تفيدنا جميع هذه الاعتبارات في أن نفهم كيف تَعمِد «الألوهية» إلى إظهار «شخصيتها» بواسطة هذا «الوحي» أو ذاك، وكيف تظهر «لاشخصيتها» العليا عن طريق مختلف الصيغ التي تتخذها «كلمتها».
عودًا إلى الاعتبار الرُّوحي الصرف في الصلة بين الصورة والرُّوح، لا نستطيع أن نفعل خيرًا من إيراد فقرة، على سبيل الإيضاح، من «رسالة الأحدية» لمحيي الدين ابن عربي، يبين فيها على وجه التحديد وظيفة الباطنية التي تقوم على «اختراق الصورة باسم الرُّوح» كما قلنا؟ يقول الشيخ الأكبر:
«الرُّوح يهبُّ حيث يشاء»، وبسبب من شموليته يخترق حجاب الصورة، لكنه مضطرٌّ مع ذلك إلى ارتدائه على صعيد الشكل.
يقول المعلم إكهارت: «إن كنت تبغي النواة فعليك بكسر القشرة.»
(يوحنا ١٤: ١٦–١٧، ٢٦ و١٥: ٢٦ و١٦: ٧–٨ و١٣–١٤–١٥). ويذهب جمهور علماء المسلمين إلى أن المراد بالفارقليط، المشار إليه في إنجيل يوحنا، هو الرسول العربي ﷺ مصداقًا لقوله تعالى في القرآن الكريم على لسان السيد المسيح (عليه السلام): وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (الصف: ٦)، هكذا يؤكد الشيخ رشيد رضا في مقدمته التي عقدها على «إنجيل برنابا»، والمؤلف «شيئون» يُذهِب نفسه مذهب علماء الإسلام في هذا الموضوع.
وعلى صعيدٍ مماثل من الأفكار، لعلنا نتساءل لماذا نجد في الجدل الديني كثيرًا من الغباء وسوء الطوية، وهو ما نجده حتى لدى من نُجلُّهم، عنه في مجالاتٍ أخرى. إن هذا لدليل ثابت على وجود جزء من «الخطيئة بحق الروح» في أكثر هذا الجدل. لا تثريب ولا ملامة على من ينتقص تقليدًا غريبًا باسم إيمانه الخاص إن كان ذلك عن جهل. أما عندما لا يكون الأمر كذلك، فالمنتقص يدين نفسه بقذف المقدسات ما دام — وهو يشتم الحقيقة الإلهية الموضوعة في صيغةٍ غريبة — لا يدع فرصةً يسيء فيها إلى الله إلا ويغتنمها من دون أن يجعل من هذه الإساءة قضية أمام الضمير، وإن هذا لهو سر الحميَّة الرعناء والقذرة التي تظهر على من يمحضون حياتهم، باسم معتقدهم الديني، لقذف المقدسات، وهو ما لا يستطيعونه إلا أن يتوسلوا إلى ذلك بالأساليب الدنيئة.
نقول تعقيبًا على حاشية المؤلف: إن النص العربي من «الكتاب المقدس» (المطبعة الكاثوليكية، بيروت ١٩٦٠م)، قد جاء خِلْوًا من العبارة المحصورة بين القوسين كما في المتن (ويكون لهم محل في المأدبة)، ويقابلها في النص الفرنسي الذي أورده المؤلف: et auront place au festin. (المترجم)
«إن أغلب من يعرفون الله يتصورون أن الفناء وفناء هذا الفناء شرط للوصول إلى معرفة الله، وهذا خطأ واشتباهٌ واضح؛ لأن معرفة الله لا تستلزم فناء ولا فناء هذا الفناء، فالأشياء لا وجود لها، وما لا يوجد لا يستطيع أن يفنى، فالفناء يتطلب فرض الوجود، وذلك شرك، فلو أنك عرفت نفسك بلا وجود أو فناء لثَمَّ عرفت الله وإلا فلا.»
(سيد حسين نصر، ثلاثة حكماء مسلمين، دار النهار للنشر، بيروت، ١٩٧١م). (المترجم)