شمولية الباطن الديني
قبل أن ندخل في صلب الموضوع، لا بد لنا من إيراد بعض الإيضاحات عن الأشكال الخارجية التي يعتمدها مذهب الباطن، رغم أننا كنا نؤْثِر أن ندع هذا المظهر العارض من المسألة جانبًا لكي نتفرع إلى ما هو أساسي فقط، لكن بما أن حوادث معينة قد تفسح في المجال أمام منازعاتٍ تتعلق بالمبدأ، نجدنا مضطرين إلى الوقوف عندها قليلًا، وهو ما سنفعله على أوجز قدر ممكن.
في الواقع، قد ينهض أمامنا إشكال عندما نعلم أن الباطنية — بحكم حدها وبسبب من طبيعتها بالذات — مقصورة على نخبةٍ فكرية محدودة اضطرارًا، ثم نجد تنظيمات مريديها تنظم عددًا كبيرًا من الأتباع نسبيًّا. هكذا كان، على سبيل المثال، أتباع فيثاغوراس، وهكذا كانت دائمًا — ولعل هذا من باب أولى — الطرقُ الصوفية التي لم تزل قائمة حتى يومنا هذا، رغم ما أصابها من انحطاط، وأعني بها الطرق الصوفية الإسلامية. وحقيقة الأمر أن المسألة عندما تتعلق بتنظيماتٍ صوفية بالغة الانغلاق، تكون هذه دائمًا فروعًا أو نَوَيات من تنظيماتٍ أوسع، ولا تكون هي الطرق بكامل تنظيماتها، ما يشذُّ عن ذلك إلا بعض حالات استثنائية تكون ممكنة دائمًا في ظروفٍ خاصة.
ولعل من أسباب الانضمام شبه الشعبي إلى أكثر عناصر التقليد إيغالًا في الداخلية — وبالتالي إلى أكثرها استتارًا — اضطرارُ الباطنية لأن تتخذ لها شكلًا من أشكال هذا العالم لكي تستطيع البقاء فيه؛ الأمر الذي لا بد له وأن يُقحِم على الجماعة عناصر كبيرة العدد نسبيًّا. من هنا جاء تمييز المشيخات الإسلامية بين الحلقات الداخلية والحلقات الخارجية، فالمنضمون إلى هذه الحلقات غير قادرين على الإحاطة بما يتصف به التنظيم الذي ينتسبون إليه، وهم لا يرونه غير شكل من التقليد الخارجي الذي لا يستطيعون الوصول إلى غيره. وهذا ما يفسر لنا تفريق المشيخات الصوفية بين «المتبارك» أو «المريد» الذي لا يخرج أبدًا عن المجال الظاهري الذي يريد أن يحياه على وجه العزيمة، وبين «السالك» الذي ينتهج الطريق الذي مهده له التقليد الصوفي. صحيحٌ أن عدد «السالكين» قد بات ضئيلًا في هذه الأيام، إلا أن «المتباركين» كثيرون في اعتبار التوازن الطبيعي الذي يجب توفره في الطرق الصوفية، يسهمون، بمقتضى قصورهم، في خنق الحياة الرُّوحية الحقيقية. لكن، حتى حين لا يستطيع المتباركون فهم الحقيقة المستعلية في المشيخة التي تقبلهم في عضويتها، يجنون في الأحوال العادية فائدةً كبيرة تعود عليهم من «البركة» أو «التأثير الرُّوحي» الذي يكتنفهم ويصونهم بمقدار ما يتحلَّون به من حماسة؛ لأنه غنيٌّ عن البيان أن إشعاع الألطاف في قلب الحياة الباطنية يمتد، بسبب شمولية هذه الأخيرة، على جميع درجات المدنية التقليدية، ولا يقف عند حدود الشكل، بمقدار ما لا يقف النور الذي لا لون له عند لون جسم شفاف.
على أن هذه المشاركة الشعبية — أي مشاركة أناسٍ يمثلون متوسط الجماعة — في حياة النخبة الرُّوحية لا تفسره أسباب المناسبة وحسب، وإنما يفسره على وجه الخصوص قانون الاستقطاب أو التعويض الذي لا تتلاقى بمقتضاه الأطراف، ومن أجل هذا كان «صوت الشعب هو صوت الله». نريد أن نقول: الشعب بما هو الحامل السلبي وغير الواعي للرموز يشبه محيط الدائرة أو الانعكاس السلبي أو المؤنث بالنسبة إلى النخبة التي تمتلك الرموز وتنقلها إليه نقلًا إيجابيًّا واعيًا. وهو يفسر لنا تلك الصلة الغريبة البادية التناقض التي تقوم بين الشعب والنخبة. فالطاويَّة، مثلًا، باطنية وشعبية في آنٍ واحد. أما الكونفوشيوسية فظاهرية أرستقراطية، ومثقفة إلى حدٍّ ما. والمشيخات الصوفية كان لها دائمًا مظهرٌ شعبي يتناسب معها، إلى جانب مظهرها النخبوي، وهذا ليس لأن للشعب مظهر المحيط وحسب، وإنما مظهر الكلية أو الجمعية، وبالتالي مظهر المركز. يمكننا القول إن وظائف الشعب العقلية تعبر عن نفسها من خلال الفنون التطبيقية والفنون الشعبية: الأولى تمثل الأسلوب أو التحقيق، والثانية تمثل العقيدة؛ وبذلك يعكس الشعب سلبيًّا وجماعيًّا وظيفة النخبة الأساسية، أي نقل المظهر العقلي للتقليد الذي يرتدي الرمزية بكل صورها.
وهناك مثال آخر شديد الشبه بمثال سليمان، ونعني به داود الذي يعترف له القرآن بصفة النبوة أيضًا، ويَعُده المسيحيون أحد كبار القديسين في «العهد القديم». من الأمور التي تبدو واضحة لنا أن القديس لا يمكنه «ارتكاب الآثام» ناهيك عن إتيان أفعال كالتي تنسب إلى داود. إن ما يجب علينا فهمه أن التجاوز الذي ينسبه «الكتاب المقدس» إلى الملك القديس، من وجهة نظر شرعية، ليس كذلك إلا باعتبار منظور أخلاقي أساسًا، وبالتالي ظاهري، وهو المنظور الذي يحكم نصوص هذا الكتاب. إن هذا يفسر لنا، من جانبٍ آخر، موقف القديس بولس من اليهودية، أو بالأحرى موقف المسيحية عمومًا، من حيث إن وجهة النظر المسيحية ذات طبيعة «داخلية» إلى أبعد حد. بينما يؤكد القرآن، فيما يؤكد جملة أمور أخرى، أن عصمة الأنبياء حقيقة أعمق مما تسمح ببلوغها وجهة النظر الأخلاقية. باطنيًّا، لا تعد إرادة داود الزواج من «بَثْشَبَع» مما ينطوي على تجاوز؛ لأن النبوة لا يتصف بها إلا من تحرر من الأهواء مهما كانت دلالات الظواهر في حالاتٍ بعينها. وما يجب تمييزه من العلاقة بين داود و«بَثْشَبَع» هو، قبل كل شيء، التآلف أو التكامل الكوني الذي أوجبته العناية الإلهية، وكان ثمرته وتبريره سليمان الذي «أحبه يهوه» (صموئيل الثاني ١٢: ٢٤). ولقد كان مجيء هذا النبي الثاني إبرامًا ومباركة من الله لزواج داود من «بَثْشَبَع»، وحقيقة الأمر أن الله لا يعاقب ولا يثيب على الخطيئة. يذهب محيي الدين بن عربي إلى أن سليمان كان بالنسبة إلى داود أكثر من مكافأة؛ كان سليمان هبة الله لداود طبقًا للكلمة الإلهية: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ (ص: ٧)، «والهبة عطاء الواهب بطريق الإنعام لا بطريق الوفاق أو الاستحقاق، فهو النعمة السابغة، والحجة البالغة، والضربة الدامغة» (فصوص الحكم: كلمة سليمانية).
ونحن لو نظرنا في الرواية المتعلقة ﺑ «أُورِيَّا الحِثِّيِّ»، لرأينا أن حكمنا على مسلك داود لا يصح أن نبنيه على وجهة النظر الأخلاقية؛ لأن الدافع إلى هذا المسلك لا يمكننا اعتباره إلا من قبيل الحدس النبوي. هذا، بصرف النظر عن الكلام على الموت البطولي في قتال العدو، الذي هو في نظر المقاتل أقل الأشياء ضررًا بالنسبة إلى الغايات النهائية، خصوصًا إذا كان الأمر يتعلق بحربٍ مقدسة كالحرب التي كان يخوضها بنو إسرائيل، إن موتًا من هذا النوع يتصف بالتضحية المباشرة. ومع ذلك، إن اختيار «بَثْشَبَع»، وإرسال «أُورِيَّا» إلى الموت، رغم أن له ما يسوغه كونيًّا وربانيًّا، لا يتنافى مع ناموس الظاهر إلا قليلًا. لقد كان على داود، وقد وُلِد له سليمان مستفيدًا مما انطوى عليه مسلكه من مشروعيةٍ باطنية، أن يتحمل النتائج التي ترتبت على مخالفته للناموس. أمَّا وقد وجدت هذه المخالفة صداها في «المزامير» — وهو كتاب مقدس بما هو كلام الله، وإن وجود هذا الكتاب بالتالي ليشهد لداود بالنبوة — فإن هذا دليل على أن أفعال داود، إن كانت تنطوي على جانبٍ سلبي من بُعد ظاهري، لا تشكل خطايا بحد ذاتها بالرغم من كل ذلك. بل لعلنا نستطيع القول إن الله قد أوحى له بها لكي يعود فيوحي له من بعدُ بالمزامير التي كان عليه أن يترنم بها على ذلك النحو الخالد، لا بآلامه ومجد نفسه الباحثة عن الله وحسب، وإنما بآلام المسيح ومجده أيضًا. لم يكن مسلك داود منافيًا، بداهةً، للمشيئة الإلهية، بالنسبة إلى أي علاقة؛ لأن الله لم يغفر لداود وحسب، وإنما لم يحرمه من «بَثْشَبَع»، التي كانت مع ذلك السبب والغاية من الخطيئة. كذلك إن الله — إلى أنه لم يحرم داود من هذه المرأة — قد ثبَّت زواجهما ووهب لهما سليمان. وإذا صح — في مثال داود كما في مثال سليمان — أن الشذوذ الخارجي، والظاهري جدًّا، الذي يبدو على أفعالٍ معينة، يحدث صدمة راجعة، فإن من المهم أن نعترف بأن هذه الصدمة تظل قاصرة على الحوادث الأرضية. إن لحكاية امرأة أُورِيَّا جانبين: أحدهما خارجي أو سلبي، والثاني داخلي وإيجابي، يظهران في حادثتين متعاقبتين: في وفاة المولود البكر لهذه المرأة (من زوجها الأول أُورِيَّا)، وفي حياة مولودها الثاني، وهو سليمان الذي «أحبه يهوه»، وفي عظمته ومجده.
لقد كان هذا الاستطراد ضروريًّا لكي نبين ما في الظاهر والباطن من تمايزٍ في طبيعة كل منهما، ولكي نبين أن التضارب إذا وقع فهو لا يقع إلا بسببٍ ناشئ عن الأول (الظاهر)، لا عن الثاني (الباطن)؛ لأن هذا يقف وراء المتناقضات والأشكال والصور.
ولدى الصوفية (المسلمين) صيغة بالغة النقاء والدقة تلقي الضوء على أسباب اختلاف وجهات النظر بين الطريقين الكبيرين: «طريق الظاهر: أنا وأنت، وطريق الباطن: أنا أنت، وأنت أنا، أما المعرفة الباطنية: فلا أنا ولا أنت، بل هو.»
تقوم الظاهرية على ثنائية «الحق والخلق»، أو «الخالق والمخلوق»، بإضفاء صفة الإطلاق على هذه الثنائية، كما لو أن «الحقيقة الإلهية» — وهي الحقيقة الوحيدة ميتافيزيقيًّا — لا تمتص أو لا تنفي حقيقة الخلق النسبية، وبالتالي كل حقيقةٍ نسبية أخرى تزيد على الحقيقة الإلهية، ظاهريًّا. ولئن كانت الباطنية تسلِّم بالتمييز بين «الأنيَّة الفردية» و«الذات الشمولية»، في الألوهة، فليس ذلك إلا بصفةٍ وقتية ومنهجية، ومن غير أن تضفي على هذا التمييز صفة الإطلاق. فالباطنية تتخذ نقطة انطلاقتها أولًا، في مستوى هذه الثنائية التي تتفق تمامًا مع الحقيقة النسبية، لكي تَخلُص من ثَم إلى تجاوزها ميتافيزيقيًّا، الأمر الذي تعتبره الظاهرية مستحيلًا لأن هذه تقوم على إضفاء صفة الإطلاق على ما هو حادث أو نسبي، تحديدًا. بهذا نصل إلى تعريف المنظور الظاهري، ثنائية لا يُنتقص منها، وسعيٌ يقتصر على النجاة الفردية، وهي ثنائية لا تنظر إلى الله إلا من حيث صلته بالخلق، من غير النظر إليه في حقيقته الكلية غير المنتهية وفي «لاشخصيته» التي تقضي على كل حقيقةٍ سواها. وليست هذه الثنائية الدغماطيقية محل مؤاخذة بحد ذاتها، إن ما هو محل مؤاخذةٍ الخللُ الذي تقع فيه وجهة النظر الظاهرية حين تضفي صفة الحقيقة المطلقة على ما هو نسبي. ميتافيزيقيًّا، تصبح الحقيقة البشرية حقيقة إلهية، وما هي — الحقيقة البشرية — غير وهم في حد ذاتها. لاهوتيًّا، تصبح الحقيقة الإلهية حقيقة بشرية ظاهريًّا، بمعنى أن الحقيقة الإلهية لا تتجاوزها في وصفها الوجودي، بل في وصفها السببي فقط.
لا يبدو المنظور الباطني على أنقاه بأكثر مما يبدو في نظرته إلى ما يُسمى عادة بمسألة «الشر». كثيرًا ما يُنسب إلى تعاليم الباطن أنها تنفي الشر نفيًا مطلقًا، لكن هذا الفهم أولي جدًّا ولا يفيد في غير الانتقاص من التعاليم التي يصدر عنها. صحيحٌ أن هناك فرقًا في مفهوم الشر بين التعاليم الدينية والتعاليم الميتافيزيقية (الباطنية)، إلا أن هذا الفرق لا يعني أن أحدهما خطأ والآخر صواب، بل يعني أن المفهوم الديني (الظاهري) جزئي وفي نفس الوقت فردي، والمفهوم الميتافيزيقي (الباطني) كلي وفي نفس الوقت شمولي. ما هو شر أو «شيطان» في المنظور الديني لا ينطبق إلا على نظرةٍ جزئية، وليس أبدًا ذلك المعادل الكوني السلبي الذي تريده التعاليم الميتافيزيقية، وهو ما تطلق عليه العقيدة الهندوكية اسم «طاما». ولئن كان «طاما» ليس هو الشيطان، بل ينطبق على «القدرة الخالقة»، بما هي ميل إلى «تصليب» التجلي وجره إلى الأسفل، مبتعدة به عن «المبدأ-الأصل» فإننا لا نعدو الصواب إذا قلنا إن الشيطان شكلٌ من «طاما» عندما لا ننظر إليه إلا من حيث علاقته بالنفس البشرية. هذا، ولما كان الإنسان كائنًا فردًا واعيًا، كان لا بد للميل المذكور من أن يتخذ له، فيما هو يحتك بالإنسان، مظهرًا فرديًّا واعيًا، وبالتالي مظهرًا شخصيًّا بحسب التعبير الدارج، ثم إن هذا الميل نفسه يستطيع أن يتخذ له مظاهر غير شخصية وحيادية تمامًا، خارج العالم الإنساني، وذلك عندما يتبدى، على سبيل المثال، ثقلًا فيزيائيًّا أو كثافة مادية، أو يستتر تحت مظهر حيوان قبيح، أو معدن خسيس ثقيل كالرصاص. لكن المنظور الديني لا يهتم إلا بالإنسان تحديدًا، ولا يعتبر الكون إلا بالقياس إليه؛ ولذلك لا محل لمؤاخذة هذا المنظور عندما ينظر إلى «طاما» في مظهره المتشخص، أي في المظهر الذي له مساس بعالم الإنسان. يترتب على ذلك أنه إذا بدا على الباطنية نفيٌ للشر، فلا يعني هذا جهلًا بطبيعة الأشياء أو رفضًا لها كما هي في الواقع. على العكس، تنفذ إليها في كلِّيتها؛ ولذلك يتعذر عليها استبعاد هذا المظهر أو ذاك من الواقع الكوني، والاقتصار على وجهة نظر أحادية، هي وجهة نظر الفرد البشري. ولعل من الأمور الجلية ألا يكون الميل الكوني، الذي يشكل منه الشيطان تشخيصه البشري، «شرًّا» بحد ذاته، من حيث إن هذا الميل نفسه هو الذي يكثف الأجسام المادية، وهو لو لم يكن موجودًا — وهذا افتراضٌ سخيف بحد ذاته — لكانت تلاشت في التو واللحظة جميع الأجسام أو المركبات الطبيعية والنفسية. ولذلك كانت الأشياء المقدسة بحاجةٍ إلى ذلك الميل المذكور لكي تستطيع أن توجد ماديًّا، إذ من يجرؤ على الادعاء بأن «القانون الطبيعي» الذي يكثف الكتلة المادية في «الخبز والنبيذ» في المناولة، مثلًا، هو قوة شيطانية، أو شرٌّ من أي وجهة نظر كانت؟ وبسببٍ من هذه «الصفة الحيادية» التي يتصف بها هذا الميل الخالق (أي بمعزلٍ عن التمييز بين «الخير» و«الشر»)، بدا على تعاليم الباطن، التي تردُّ كل شيء إلى حقيقته الجوهرية، وكأنها تنفي وجود ما يُسمى بالشر، على الصعيد البشري.
لعلنا نستطيع أن نتساءل عن الآثار التي يُحدِثها في نفس المريد مثل هذا المفهوم «اللاأخلاقي»، ولا نقول «المنافي للأخلاق» عن الشر. والجواب أن الخطيئة تجد نفسها وقد استُعيض عنها في ضمير المريد، وبالتالي في حياته، ﺑ «التبديد»، أي بكل ما ينافي «التركيز الروحي» أو «التوحيد». وغنيٌّ عن البيان أن الأمر يتعلق هنا، قبل كل شيء، باختلاف المبدأ أو اختلاف المنهج أيضًا، وهذا الاختلاف لا يحصل على نفس النحو لدى جميع الناس. ومن ناحيةٍ ثانية، إن ما يُعتبر خطيئة من الناحية الأخلاقية يكاد أن يُعتبر دائمًا «تبديدًا» من وجهة نظر باطنية. إن هذا التركيز — أو هذا الميل إلى «التوحيد» — يصبح في الإسلام الظاهري (الشرعي) إيمانًا ﺑ «وحدانية الله». ولذلك كانت الخطيئة الكبرى في الإسلام هي أن تشرك مع الله إلهًا آخر، وهو ما أضحى عند المريد (الفقير) ذا بعد شمولي يجعل من كل إثبات فردي مشوبًا بألوهةٍ زائفة. ولئن كانت الفضيلة الكبرى، من وجهة نظر دينية، هي الإيمان الخالص بوحدانية الله، فإن الفقير يحقق هذا الإيمان وفقًا لطريقةٍ روحية، وبالتالي وفقًا لمعنًى يحيط بجميع أنظمة الكون، وهذا لا يتم إلا بتركيز كيانه كله نحو «الحقيقة الإلهية الواحدة».
ولكي نبين العلاقة بين الخطيئة والتبديد، نقول — على سبيل المثال — إن قراءة كتاب جيد لا تستطيع الظاهرية أن تعتبره فعلًا موجبًا للوم والتثريب، لكنه قد يُعتبر عرضيًّا موجبًا لذلك في الباطنية، وهذا يكون في الأحوال التي تكون فيها القراءة سببًا للغفلة، أو بمقدار ما يكون هذا المظهر من الغفلة محمولًا على المنفعة. وبالعكس، الشيء الذي يكاد أن يُعتبر بمثابة إغراء دائمًا في الأخلاق الدينية، وبالتالي طريقًا يؤدي إلى الخطيئة أو إلى الشروع فيها، ربما يكون له في الباطنية دور مناقض تمامًا، لا من حيث إن هذا الشيء يشكل تبديدًا أو خطيئة، بل من حيث إنه عامل تركيز بفضل ما تبعثه رمزيته من قابليةٍ للفهم المباشر. حتى إنه في «الطانطرية» مثلًا، أو في بعض النِّحَل القديمة التي تشكل فيها أفعالٌ معينة خطايا بحد ذاتها، لا من وجهة نظر أخلاقيات ديانة بعينها وحسب، وإنما أيضًا من وجهة نظر التشريع الذي استنَّته المدنية التي جرى اقتراف هذه الأفعال بين ظهرانيها، نجد فيها حالات تكون هذه الأفعال فيها محرضة على النشاط العقلي، الأمر الذي يفترض رجحانًا للعنصر التأملي على العنصر العاطفي منها. غير أن الأخلاق الدينية لم توضع أبدًا لأرباب التأمل وحدها، بل للناس كافة.
سوف نرى أن الأمر لا يتعلق أبدًا بالانتقاص من قيمة الأخلاق، وهي المؤسسة الإلهية، لكنها أن تكون كذلك لا يمنع من أن تكون مؤسسة محدودة. كذلك يجب ألا يغرب عن البال أن القوانين الأخلاقية تصبح في أكثر الأحوال، خارج نطاقها العادي، رموزًا وأدوات للمعرفة بالتالي. كل فضيلة هي، في الحقيقة، علامة على توافق مع «وضعٍ إلهي»، وهي بالتالي طريقة غير مباشرة وشبه وجودية لمعرفة الله، وهو ما يعنيه القول إنه إن كان بالإمكان معرفة شيء محسوس بواسطة العين، فإن معرفة الله لا تكون إلا بالله. لكي نعرف الله، يجب أن نتشبه ﺑ «ﻪ»، أي أن يتوافق العالم الأصغر مع العالم الإلهي المفارق، وبالتالي مع العالم الأكبر أيضًا، كما تعلمنا صراحة «الأزيكياستية» التي توجب أن نبين بوضوحٍ أنَّ «لاأخلاقية» الموقف الروحي أمرٌ يسمو على الأخلاق بأكثر مما يتنافى معها. الأخلاق، بالمعنى الواسع للكلمة، وعلى صعيدها الخاص، هي انعكاسٌ للروحية الحقيقية، ويجب أن تنضم إلى الكائن الكلي في نفس الوقت الذي تنضم إليه الحقائق — أو الأباطيل — الجزئية. بعبارةٍ أخرى، كما أن الإنسان — بالغًا ما بلغت قداسته — لا يستطيع أن يتحرر تمامًا من العمل على هذه الأرض ما دام يرسف في قيد الجسد، كذلك هو لا يستطيع أن يتحرر تمامًا من التمييز بين الخير والشر، ما دام هذا التمييز يسري في كل فعلٍ من أفعاله اضطرارًا.
قبل أن نتطرق إلى مسألة وجود الشر، نرى أن نضيف ما يلي: إن لم يكن في وسعنا تعريف البعدين التقليديين الكبيرين — الظاهري والباطني — فإن في وسعنا على الأقل وصفهما على نحوٍ معين، وذلك بالقول إن أولهما يستعين باصطلاحات «الأخلاق، العمل، الاستحقاق، الفضل»، والثاني يستعين باصطلاحات «الرمزية، التركيز، المعرفة، الاتحاد»، وهو ما سنتولى تبيانه فيما يلي:
يتقرب الإنسان العاطفي إلى الله متوسلًا بالعمل ودعامته الأخلاق، أما الإنسان التأملي فيتحد ﺑ «جوهره الإلهي» متوسلًا إلى ذلك بالتركيز ودعامته الرمزية، وهذا لا ينفي، بطبيعة الحال، الموقف السابق في الحدود الخاصة به. الأخلاق هي مبدأ العمل، وبالتالي الاستحقاق، في حين أن الرمزية هي دعامة التأمل وأداة تنشيط للعقل. الاستحقاق الذي نكسبه بالعمل يبتغي الحصول على فضل الله، على حين أن ما يبتغيه التأمل هو المواحدة مع ما لم ننقطع قط عن أن نكونه في «جوهرنا الوجودي أو العقلي». بعبارةٍ أخرى، إن هذه الغاية العليا تنطوي على تكامل الإنسان بالله، والنسبي بالمطلق، والحادث بالقديم، والمنتهي بغير المنتهي. بداهةً، ليس للأخلاق بهذا الاعتبار معنًى خارج النطاق المحدود نسبيًّا المتعلق بالعمل والاستحقاق؛ ولذلك لا تصل أبدًا إلى الحقائق التي تصل إليها الرمزية والتأمل والعقل والمواحدة بواسطة «المعرفة». أما «الفلسفة الأخلاقية»، التي يجب ألا تختلط علينا بالأخلاق، فليس عندها غير ذلك الميل إلى الاستعاضة بوجهة النظر الأخلاقية عن كل وجهة نظر أخرى، مما ينتج عنه — في المسيحية على الأقل — نوعٌ من التحامل أو الارتياب في كل ما له صفة محببة، والاعتقاد الخاطئ بأن كل الأشياء المحببة إن هي إلا أشياء محببة فقط، ونسيان ما تتحلى به هذه الأشياء من صفاتٍ إيجابية — وبالتالي من قيمٍ رمزية وروحية بوسعها أن تكفي المتأمل الحقيقي عناء السعي إلى إرضاء طبيعته البشرية إرضاءً عابرًا، إلى حدٍّ كبير … ذلك أن كل صفةٍ إيجابية تتحد جوهريًّا — لا وجوديًّا — بصفةٍ من صفات الله أو كمال من كمالاته، التي هي من هذه الصفة الإيجابية أو تلك بمنزلة نموذجها الأول الأزلي غير المنتهي. ولئن رأينا في الاعتبارات المتقدمة مظهرًا من تناقض، فإن مرد ذلك إلى أننا نظرنا إلى الأخلاق بما هي كذلك، أي بما هي مناسبة اجتماعية أو سيكولوجية، من جهة، وبما هي عنصرٌ رمزي ودعامة لفعل العقل أو التأمل من جهةٍ ثانية. وفي ظل هذه العلاقة الأخيرة، يتضح أنه لا معنى للتناقض بين الأخلاق والرمزية أو الفاعلية العقلية.
ولنأت الآن إلى مسألة «وجود» الشر، إن وجهة النظر الدينية لا تجيب على هذه المسألة إلا مداوَرَةً، وبنوعٍ من التنصل، حين تؤكد أنه لا سبيل إلى معرفة كنه الإرادة الإلهية، وأن كل شر لا بد وأن ينتج عنه خيرٌ في النهاية، لكن هذه «الأُطرُوحة» لا تفسر الشر. أما أن نقول إنه لا سبيل إلى معرفة كنه الإرادة الإلهية، فمعناه أننا لا نستطيع أن نحل هذا المظهر من التناقض البادي على «تصرفاتها».
باطنيًّا، ترتد مسألة الشر إلى سؤالين: لماذا كان حتمًا على الخلق أن ينطوي على نقص؟ ولماذا كان الخلق؟ على السؤال الأول يأتي الجواب أنه لو لم يكن الخلق ناقصًا فلا شيء يميزه من الخالق. بعبارةٍ أخرى، إن الخلق في هذه الحالة لا يكون «أثرًا»، أو «تجلِّيًا»، بل «علة» و«مبدأ». وعلى السؤال الثاني نجيب أن الخلق أو التجلِّي مبطونٌ في «لانهائية المبدأ»؛ بمعنى أنه مظهرٌ أو أثرٌ منه، وهذا يؤدي بنا إلى القول إنه لو لم يكن العالم موجودًا، لم يكن «اللانهائي» لانهائيًّا، ذلك أنه لكي يوجد ما هو موجود، أو لكي يكون ما هو كائن، فلا بد من أن «يتنكر» اللانهائي «لنفسه» ظاهريًّا ورمزيًّا، وهو ما حدث في التجلِّي الشمولي الذي كان به العالم. كذلك يتعذر على النقص ألا يوجد، ما دام مظهرًا من وجود العالم نفسه، وإن وجود العالم لا بد وأن يكون مبطونًا في لانهائية «المبدأ الإلهي»، فالله هو «الخير المحض»، وما العالم إلا صورة منه، لكن، لما كانت الصورة، بحكم طبيعتها، يتعذر عليها إلا أن تكون غير «ما» تمثل، كان لا بد للعالم من أن يكون محدودًا بالقياس إلى «الخير الإلهي»، ومن هنا كان النقص في الوجود. وما النقص إلا ضربٌ من شقوقٍ طرأت على الصورة المنتزعة من «الكمال الإلهي»، وبديهي أن هذه الشقوق لم تأت من قِبل «الكمال»، بل من الصفة النسبية أو الثانوية التي تتصف بها الصورة اضطرارًا. فالتجلِّي، بحكم طبيعته، ينطوي على النقص، كما ينطوي «اللامنتهي» على التجلِّي، بحكم طبيعته. هذه الصيغة الثلاثية من «اللامنتهي والتجلِّي والنقص» كفيلة بتفسير كل ما يعترض الفكر البشري من إشكالياتٍ ناشئة عن تقلبات أحوال الوجود. عندما يصبح في مقدورنا أن نرى بعين العقل، لا نعود نجد الأسباب الميتافيزيقية لكل مظهرٍ جامدة في تناقضاتٍ لا سبيل إلى حلها، كما لا بد لنا أن نجد ذلك في المنظور الظاهري حيث يتعذر على منهج «التأنيس» أن يحيط بجميع جوانب «الحقيقة الشمولية».
مثالٌ آخر على عجز العقل البشري حين يعتمد على موارده وحدها: مشكلة القضاء والقدر، فهذه الفكرة لا تعبر، في لغة الجهل البشري، إلا عن «المعرفة الإلهية» التي تحيط، في كمال تزامنها، بجميع الإمكانيات من دون أن يقيدها قيد. بعبارةٍ أخرى، إن كان الله كلي المعرفة، فإنه يعرف جميع الأشياء المقبلة، أو بالأحرى الأشياء التي تبدو للكائنات المحدودة بالزمان أنها كذلك. وإن كان الله لا يعرف هذه الأشياء، لم يكن كلي المعرفة، لكن، ما دام الله يعرفها، تبدو للإنسان وكأنها مقدرة عليه سلفًا. الإرادة الفردية حرة بقدر ما هي حقيقية، وهي إن لم تكن حرة إلى درجةٍ ما وعلى نحوٍ ما، كانت وهمًا من الأوهام، والتالي عَدَمًا. وهي، مقارنةً بالحرية المطلقة، ما هي إلا عدم، بل لا وجود لها على أي وجهٍ كان. لكن الإرادة مع ذلك أمرٌ حقيقي من وجهة النظر الفردية، وهي وجهة نظر الكائنات البشرية الذين لا يكونون أحرارًا إلا بقدر نصيبهم من «الحرية الإلهية» التي تستمد منها الحرية الفردية، عن طريق العلاقة السببية، كلَّ حقيقتها. ينتج عن ذلك أن الحرية، شأنها كشأن كل صفةٍ إيجابية، إلهية من حيث ذاتها، بشرية بما هي ليست ذاتها تمامًا، بنفس المقدار الذي يكون فيه انعكاس نور الشمس متواحدًا بالشمس، لا بوصفه انعكاسًا بل بوصفه نورًا، من حيث إن النور جوهرٌ واحد لا ينقسم.
لعلنا نستطيع أن نعبر عن العلاقة بين القضاء والقدر وبين الحرية بتشبيه هذه الأخيرة بسائلٍ يملأ جميع تجاويف القالب الذي يمثل القضاء والقدر، حركة السائل بمثابة ممارستنا الحرة لإرادتنا، وإن نحن لم نستطع أن نريد ما هو غير مقدر علينا، فإن هذا لا يمنع من أن تكون إرادتنا ما هي عليه أي مقاسمة حقيقية نسبيًّا مع نموذجها الشمولي؛ لأن هذه المقاسمة هي، ما يجعلنا نختبر ونحيا إرادتنا بوصفنا كائنات حرة.
إن حياة الإنسان، وبالتالي مجمل دورته الفردية التي ليست هذه الحياة ولا الوضع البشري نفسه غير أنماطٍ منها، مبطونة في «العقل الإلهي» بما هي كل متناهٍ، أي من حيث هي إمكانية معينة. وبما هي كائنة ما هي، لا يمكنها أن تكون غير ذلك في أي جانبٍ من جوانبها؛ لأن الإمكانية ما هي إلا تعبير عن الضرورة المطلقة ﻟ «الكائن»، ومن هنا الوحدة أو الانسجام الذي تتصف به كل إمكانية، وهي ما لا يمكن إلا أن يكون. وأن نقول إن الدورة الفردية مبطونة في قلب صيغة محددة من «العقل الإلهي»، معناه أن إمكانية ما مبطونة في «الإمكانية الكلية»، وهذه الحقيقة هي ما يمدنا بالجواب الحاسم على مسألة القضاء والقدر. وعندئذٍ تبدو الإرادة الفردية سياقًا يحقق، على نحوٍ متتابع، ذلك التسلسل الضروري لأنماط إمكانياتها الأولية، الموصوفة أو المختزلة رمزيًّا. ولعلنا نستطيع القول أيضًا: لما كانت الإمكانية لكائنٍ ما إمكانية تجلٍّ بالضرورة، كان السياق الدوري لهذا الكائن هو مجموع جوانب تجلِّيه وبالتالي إمكانيته، وكانت إرادته ليست غير إظهار تجلِّيه الكوني والمتزامن على نحوٍ آخر. بعبارةٍ أخرى، إن الفرد يقف، على نحوٍ مماثل، أثر إمكانيته التركيبية الأولى التي لها مكانها المحتم — بما هو ضروري — في سلَّم مراتب الإمكانيات، وقد رأينا أن ضرورة كل إمكانيةٍ إنما تقوم ميتافيزيقيًّا على الضرورة المطلقة التي تتصف بها «الإمكانية الإلهية الكلية».
كذلك يجب أن نضيف أن عالم الظاهر أو عالم الخلق ذو جذر مزدوج: «الوجود» و«العقل»، بما يشبه الحرارة والنور في الأجسام المحترقة، فكل كائن، أو كل شيء، يكشف لنا عن هذين الوجهين من الحقيقة النسبية. وما يميز الكائنات أو الأشياء بعضها من بعض هو، كما قلنا، نمطها «العقلي» أو الدرجة التي بلغتها من العقل، وفي المقابل، إن ما يوحد الأشياء فيما بينها وجودُها الذي هو نفسه بالنسبة إليها جميعًا. لكن هذه العلاقة ما تلبث حتى تنقلب عندما لا ننظر في الاستمرارية الكونية «الأفقية» لعناصر العالم المنظور، وننظر في صلتها «العمودية» بمبدئها المتعالي. إن ما يوحد الكائن — وعلى الاخص الكائن الرُّوحي المتحقق — بالمبدأ الإلهي هو «العقل»، وما يفرق العالم عن «المبدأ» هو «الوجود». وعند الإنسان، العقل داخلي والوجود خارجي، ولكن هذا الأخير لما كان لا ينطوي على تمييزٍ في حد ذاته، كان الناس جميعًا نوعًا واحدًا، لكن الفروق في النماذج وفي الحياة الرُّوحية كبيرة إلى أبعد الحدود. أما كائنات المملكة المحيطية فوجودها شبه داخلي من حيث إن تمايزه لا يظهر للوهلة الأولى، بينما العقل عندها خارجي لأن تمايزه يظهر في أشكالها نفسها، ومن هنا اختلاف الأنواع الذي لا نهاية له في جميع هذه الممالك. كذلك نستطيع القول إن الإنسان، في حالته الطبيعية وبمقتضى تعريفه الأولي، معرفة صرفة، والمعدن وجود صرف؛ فالألماس، وهو في ذروة مملكة المعادن، يوحِّد وجوده أو ظهوره، بطريقةٍ سلبية أو غير شعورية، بالعقل بما هو كذلك، ومن هنا صلابته وشفافيته وبريقه، أما الرُّوحي الكبير، وهو في ذروة النوع البشري، فيوحد معرفته، بطريقةٍ إيجابية واعية، بالوجود الكلي، ومن هنا شموليته.
ترفض الظاهرية أن يكون للعقل غير المخلوق حضور، بالقوة أو بالفعل، في الكائن المخلوق، وهذا الرفض قائمٌ على اعتقادٍ خاطئ مؤدَّاه ألا وجود لمعرفةٍ فائقة (الطبيعة) خارج نطاق «الوحي». والحق أنه لمن قبيل التحكم أو الاستبداد أن نزعم أننا لا نملك معرفةً مباشرة بالله في هذه الدنيا، أو أنه يتعذر علينا أن ننال قسطًا منها. ونحن نذهب إلى أن هذا الاعتقاد ناشئ عن ضرورة المناسبة، وهي ضرورة تنكر حقيقة «العقل» من جهة، وتنكر على من يتمتعون بنعمته حق معرفة من جعلهم يعرفون من جهةٍ ثانية. وهذا يرجع أولًا إلى أن المساهمة المباشرة فيما يمكننا أن ندعوه «الموهبة الفارقليطية» ليست في متناول الجميع، وثانيًا لأن عقيدة «العقل غير المخلوق» الحاضر في الخلق من شأنها الإضرار بإيمان البسطاء، من حيث تبدو وكأنها تذهب بهم إلى ما يخالف إمكانية استحقاق النجاة. إن ما لا تستطيع وجهة النظر الظاهرية أن تسلِّم به، يستوي في ذلك الإسلام والمسيحية واليهودية، أن يكون لقدرةٍ فائقة (للطبيعة) وجود «شبه طبيعي»، وهو ما تسلِّم به المسيحية مع ذلك في شخص المسيح، لكن يبدو أن التمييز بين ما هو «فائق»، وما هو «طبيعي» ليس بالتمييز المطلق — إلا أن يكون بمعنى «المطلق نسبيًّا» — وإن «الفائق» يمكن أن نقول عنه إنه «طبيعي» بما هو يعمل وفقًا لنواميس معينة. وبالعكس، إن الطبيعي ليس مجردًا من «صفته الفائقة» بما هو يظهر «الحقيقة الإلهية» التي لولاها لكانت الطبيعة عدمًا محضًا.
القول أن «معرفة» الله الفائقة، أي الرؤية السعيدة في الماوراء، هي معرفة خالصة ﺑ «الجوهر الإلهي» تتمتع بها النفس الفردية، معناه القول إن «المعرفة المطلقة» يمكن أن تكون من فعل كائن نسبي منظورًا إليه كذلك، في حين أن هذه «المعرفة»، بما هي معرفة مطلقة، ليست غير «المطلق نفسه»، فيما هو «يعرف نفسه». ولئن كان «العقل» الحاضر حضورًا فائقًا (للطبيعة) في الإنسان، قد يجعل الإنسان يسهم في هذه «المعرفة» التي تملكها الألوهة عن نفسها؛ فلأن ذلك يجري وفق «سنن» يخضع لها «الفائق» نفسه — إن كان لنا أن نأخذ حريتنا في التعبير — بمقتضى إمكانياته نفسها. كذلك، إن كان «الفائق» يختلف عن «الطبيعي» اختلافًا كبيرًا، فإننا لا نعدو الصواب عندما نقول إنه لا يختلف عنه بالنسبة إلى علاقةٍ أكثر شمولًا، أعني أنه هو أيضًا، بل في المحل الأول، يخضع إلى «نواميس ثابتة».
المعرفة مقدسة في جوهرها، وهي لو لم تكن كذلك لم يكن بوسع دانتي أن يتكلم على «السلطة المحترمة» التي يتمتع بها الفيلسوف، وقدسية المعرفة ذات صفة فارقليطية: «فَإِنَّ مَعْرِفَتَكَ هِيَ الْبِرُّ الْكَامِلُ، وَالْعِلْمَ بِقُدْرَتِكَ هُوَ أَصْلُ الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ» (الحكمة ١٥: ٣). في هذه العبارة ثراءٌ تعليمي بالغ، فهي من الصيغ النقية والصريحة عن التحقق بالمعرفة بواسطة العقل الذي يفضي إلى هذه القدسية «الفارقليطية». وفي عباراتٍ أخرى لا تقل عنها امتيازًا، يبين «كتاب سليمان» نفسه صفات الحياة العقلية الصرفة، التي هي جوهر كل حياةٍ رُوحية. فهذا النص يُظهر وحدة الحقيقة الشمولية، بواسطة الشكل اللغوي نفسه، مما يذكرنا من بعض الأوجه ﺑ «كتب الهند»، ومن بعضها الآخر ﺑ «الطاويَّة»: «فإن فيها (أي الحكمة) الرُّوح، الفهم، القدوس، المولود الوحيد، ذا المزايا الكثيرة، اللطيف، السريع الحركة، الفصيح، الظاهر، النير، السليم، المحب للخير، الحديد، الحر، المحسن، المحب للبشر، الثابت، الراسخ، المطمئن، القدير، الرقيب، الذي ينفذ جميع الأرواح الفهيمة الظاهرة اللطيفة؛ لأن الحكمة أسرع حركة من كل متحرك، فهي لطهارتها تلج وتنفذ في كل شيء، فإنها بخار قوة الله، وصدور مجد القدير الخالص؛ فلذلك لا يشوبها شيء نجس؛ لأنها ضياء النور الأزلي، ومرآة عمل الله النقية، وصورة جودته. تقدر على كل شيءٍ، وهي واحدةٌ، وتجدد كل شيءٍ وهي ثابتةٌ في ذاتها. وفي كل جيلٍ تحل في النفوس القديسة؛ فتنشئ أحباء لله وأنبياء؛ لأن الله لا يحب أحدًا إلا من يساكن الحكمة. إنها أبهى من الشمس، وأسمى من كل مركزٍ للنجوم، وإذا قيست بالنور تقدمت عليه؛ لأن النور يعقبه الليل، أما الحكمة فلا يغلبها الشر» (الحكمة ٧: ٢٢–٣٠).
بقي علينا أن نرد اعتراضًا كثيرًا ما يتردد على ألسنة بعض من يحلو لهم اتهام أصحاب العقول المتفوقة، الواعية لذاتها، بالغطرسة، كما لو أن الأمر يتعلق بوجود أغبياء يعتقدون في أنفسهم الذكاء رأوا أن واجبهم يملي عليهم أن يمنعوا الحكماء من معرفة ما يعرفون. الغطرسة، عقلية أو غير عقلية، لا تكون إلا عند الجاهل الذي يجهل أنه لا شيء. وكذلك التواضع — على الأقل بالمفهوم السيكولوجي للكلمة — لا معنى له إلا لمن يعتقد نفسه غير ما هو. الذين يريدون تفسير كل ما يتجاوزهم بالغطرسة، وهي عندهم والحلول شيئان متساويان، يجهلون جهلًا فاضحًا أن الله إذا كان خلق مثل هذه العقول (المتفوقة)، لكي يُعرف ويتحقق بها وفيها، فإن الناس لم يُخلقوا عبثًا وأنه ليس في مقدورهم أن يغيروا من ذلك شيئًا. إن الحكمة موجودة لأنها تتفق مع قيام البشر بتجلية العلم الإلهي: «فإنها بخار قوة الله، وصدور مجد القدير الخالص؛ فلذلك لا يشوبها شيءٌ نجسٌ … النور يعقبه الليل، أما الحكمة فلا يغلبها الشر.»
كذلك إن كان «شرِي راما كِرِشْنا» لم يستطع أن يتوقع انحراف طريقته الروحية؛ فلأنه — وهو الجاهل بالرُّوح الغربي المعاصر — كان يستحيل عليه أن يفسر رؤًى معينة بغير المعنى الهندوكي. ونضيف أن هذا الانحراف، وقد كان على صعيدٍ معتقدي من وحي الغرب المعاصر، لا يُبطِل أبدًا فعل اللطف الصادر عن «شرِي راما كِرِشْنا»، إنما يضيف إليه نوعًا من «التزيين» أو «الديكور» الحشوي، أي لاشيئية رُوحية. بعبارةٍ أخرى، إنَّ تَنكُّر «بَهاكْتي» في القديس شري راما كرِشْنا بلباس «جنانا» المزيف ومن طرازٍ فلسفي ديني، وبالتالي أوروبي، لا يمنع أبدًا التأثيرَ الرُّوحي أن يكون ما هو كائن.
كذلك إن كان «شري راما كرِشْنا» يبتغي أن ينشر ما تشعه «البهاكتي» التي حصل عليها على نطاقٍ واسع، طبقًا لشروط معينة ذات غاية دورية، فإن هذا لا علاقة له بما استطاعت حماسة بعض تلامذته أن تتخذه من صورٍ أو أشكال. لقد كانت إرادته واضحة أن يسلم قديس «داك شنشوار» نفسه إلى «عائلة المسيح الرُّوحية»، على نحوٍ يتيح لكل ما يمكن قوله عن الطبيعة الخاصة بإشعاع المسيح من إمكان انطباقه أيضًا على إشعاع «باراماهمسا»: «والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه» (يوحنا ١: ٥). (انتهت حاشية المؤلف)
نقول، شرحًا لبعض المصطلحات التي أوردها المؤلف: إن الديانة الهندوكية تقوم على ثلاثة اتجاهات؛ أولها: جنانا، وهو طريق المعرفة. والثاني: كرما، وهو طريق العمل (العبادة). والثالث: بهاكتي، وهو طريق المحبة. وأما راما كرشنا باراماهمسا (١٨٣٤– ١٨٨٦م)، فكان على اتصالٍ وثيق بحركة «بهاكتي»، وكان يمثل تقليدًا يختلف كثيرًا عن الاتجاه البراهمي، لم يكن اتجاهه عقليًّا، وإنما ألح إلحاحًا شديدًا على محبة الله، وقد ضم إلى مذهبه الاتجاه الشعبي من الهندوكية وما يحتويه من صورٍ وأشكالٍ كثيرة، وأدمجه مع الإيمان بإلهٍ محب قدير، وكان يقول إنه يستطيع رؤية الله في صورٍ كثيرة جدًّا. (المترجم)
أقول: إن هذا التمييز، الذي أورده المؤلف، بين الذات المتجلية (الحق) والذات غير المتجلية (الحقيقة)، يسمح لنا بإلقاء الضوء على قول أبي القاسم الجنيد البغدادي: «الحق يفرقني والحقيقة تجمعني»، كما يسمح لنا، من جهةٍ ثانية، بإلقاء ضوء على المبدأين المذكر والمؤنث في الألوهة. (المترجم)
قبل أن نختتم هذه الحاشيات نورد قولًا للخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إمام علم الباطن الإسلامي: من روى سيرة داود كما يرويها القصاصون (أي بحسب تفسير ظاهري أو دنيوي)، جلدته مائة وستين جلدة، وهي حد من يقذف الأنبياء أو يشهد عليهم بغير الحق.