دراسة مقارنة بين المسيحية والإسلام
الإسلام والمسيحية من الأديان التي تشهد ﻟ «الحقيقة البدئية» شهادة مباشرة بهذه الدرجة أو تلك، فهما يمثلان الميراث الرُّوحي لهذه الحقيقة، كلٌّ من وجهة نظر مختلفة، لكن، قبل كل شيء، يجب علينا أن نعرف ماذا تعنيه «وجهة النظر» بحد ذاتها. ولكي يتسنى لنا فهم ذلك، لا نرى أيسر من أن نتحقق منها بأنفسنا على نفس الصعيد الذي نفهم فيه الرؤية الفيزيائية، من حيث إن وجهة النظر تعيِّن لنا تمامًا منظورًا متناسقًا ضروريًّا، وعلى أكمل وجه دائمًا، ومن حيث إن الأشياء تغير من مظهرها تبعًا لموقع الناظر منها، بالرغم من أن عناصر الرؤية تبقى دائمًا هي نفسها، وهي: العين والضوء والألوان والأشكال والنسب والأوضاع في الفراغ. فالذي يتغير هو نقطة انطلاق الرؤية، لا الرؤية بحد ذاتها. ولئن سلم الناس جميعًا بأن الرؤية هي كذلك في العالم الفيزيائي، وما هو غير انعكاس عن الحقائق الرُّوحية، فلا سبيل إلى نكران قيام نفس العلاقات فيما بين هذه الحقائق، أو سبق قيامها بالأحرى. وعندئذٍ تكون العين هي القلب — وهو عضو «الوحي»، والشمس هي «المبدأ الإلهي» الذي يوزع النور، والنور هو «العقل»، والأشياء هي «الحقائق أو الأعيان الإلهية». لكن في الوقت الذي لا نجد فيه ما يمنع الكائن الحي بعامةٍ من تغيير وجهة نظره الفيزيائية، نجد الأمر على خلاف ذلك تمامًا في وجهة النظر الرُّوحية التي تتخطى الفرد دائمًا، ولا يمكن إلا أن تظل إرادته معينة وسلبية حيالها.
لكي نفهم وجهة نظر رُوحية، أو ما يؤدي إلى نفس الشيء، وجهة نظر دينية، لا يكفي أن نعمد، ونحن في أفضل أحوال حسن النية، إلى إجراء المطابقات فيما بين العناصر الدينية القابلة للمقارنة خارجيًّا، إن هذا لا يؤدي بنا إلا إلى تركيبية بالغة السطحية وقليلة الجدوى، بالرغم مما لهذه المقارنات من مشروعية، لكن شريطة ألا نجعلها نقطة انطلاقنا. قلنا لا يكفي أن نعمد إلى إجراء المطابقات، بل لا بد لنا، قبل كل شيء، من تدبر البنية الداخلية للأديان. لكي نفهم وجهة نظر دينية علينا أن نستشف الوحدة التي تتناسق بواسطتها اضطرارًا جميع عناصرها المكونة لها، هذه الوحدة هي وجهة النظر الرُّوحية نفسها، وهي الوحي. وغنيٌّ عن البيان أن السبب الأول للوحي لا يقبل أبدًا أن تتمثله وجهة نظر، مثلما لا علاقة للنور بموقع العين من الفراغ. إن ما يكوِّن الوحي هو تلاقي نور وحيد مع صعيدٍ محدود وحادث يمثل محل انكسار رُوحي، خارجه يتعذر أن يكون ثمة وحي.
قبل أن نتناول بالدرس مختلف العلاقات بين المسيحية والإسلام، نجد من المناسب أن نبين بأن الرُّوح الغربي، بكل ما فيه من إيجابية، يكاد أن يكون كله ذا جوهر مسيحي. ليس في مقدور البشر أن يبطلوا مفعول وراثة في مثل هذا العمق بوسائلهم الخاصة، أي بواسطة حيل أيديولوجية؛ لأن عقولهم لا تعمل إلا وفق عادات دنيوية، حتى ولو كانت اختراعاتها عبارة عن أخطاء، لا يسعنا أن نغض النظر عن هذا التشكل العقلي والنفسي، مهما أردنا أن نقلل من شأنه. وإذا كان الأمر كذلك، وكان ثمة شيء من مثل وجهة نظر تقليدية قائمًا في الخافية (= اللاشعور) حتى عند من يظنون أنهم تحرروا من كل صلةٍ به، أو عند من يحلو لهم أن يضعوا أنفسهم خارج وجهة النظر المسيحية لمجرد حرصهم على الحياد، فكيف نتوقع منهم أن يفسروا عناصر ديانة أخرى على معناها الحقيقي؟ أليس من الأمور الصارخة أن الآراء المتداولة حول الإسلام، مثلًا، تكاد أن تكون واحدة عند أكثر الغربيين، سواء أكانوا من الذين يقولون عن أنفسهم إنهم مسيحيون، أم كانوا من الذين يتباهون بأنهم لم يعودوا كذلك؟ الأخطاء الفلسفية نفسها يتعذر علينا فهمها إن لم تكن تمثل نفيًا لحقائق معينة، وإن لم يكن هذا النفي رجعًا (= رد فعل) مباشرًا أو مداورًا على تحديداتٍ شكلية معينة من الدين، بذلك نرى أنه ما من خطأ، مهما كانت طبيعته، يمكنه الادعاء بأنه مستقلٌّ تمامًا عن المفهوم التقليدي الذي يرفضه أو يشوهه.
الدين جهازٌ أشبه ما يكون بجهازٍ عضوي حي يتطور وفق قوانين ضرورية ومحددة، ويمكننا — تبعًا لذلك — أن نسميه جهازًا رُوحيًّا، أو اجتماعيًّا بما له من مظهرٍ خارجي، لكنه يظل دائمًا جهازًا وليس بناء مؤلفًا من مواضعاتٍ اعتباطية؛ ولذلك لا يمكننا أن ندرس العناصر المكونة لديانةٍ ما بمعزلٍ عن وحدتها الداخلية وتكون دراستنا مع ذلك مشروعة في نفس الوقت، كما لو كان الأمر يتعلق بدراسة وقائع من أي نوعٍ كان.
ذلكم هو الخطأ الذي يقع فيه دائمًا حتى الذين يفصلون في الموضوع بدون تحيز، عندما يسعون إلى إجراء المطابقات من الخارج، من غير أن يأخذوا بالاعتبار أن العنصر التقليدي إنما تعينه نقطة الانطلاق الخاصة بالديانة المتكاملة البنيان، ومن غير أن يأخذوا بالاعتبار أيضًا أن نفس العنصر أو الشخص أو الكتاب مثلًا قد يكون له معنى يختلف قليلًا أو كثيرًا بين دينٍ وآخر.
من وجهة نظر مسيحية، قد يبدو ما أولاه الإسلام من أهميةٍ لفكرة التوحيد أمرًا زائدًا وعقيمًا، أو ضربًا من الحشو بالقياس إلى التقليد اليهودي-المسيحي، إلا أننا ننسى بهذا أن ما يتمتع به الإسلام من عفويةٍ وحيوية لا يمكن أن يرتد إلى استعارةٍ خارجية، وإن ما يتصف به المسلمون من أصالةٍ عقلية لا يمكن أن ترتد إلى غير الوحي. ولئن كانت فكرة التوحيد في الإسلام أساسًا لكل الحياة الرُّوحية ولكل تطبيقٍ اجتماعي، في نطاقٍ معين، فهي ليست كذلك في المسيحية. كما سبق لنا وقلنا، النقطة المركزية في المسيحية إنما هي عقيدة التجسيد والفداء، مفهومة شموليًّا في التثليث، وليس لها تطبيق بشري آخر إلا في الأسرار والاشتراك في جسد المسيح السري. بمقدار ما تسمح لنا المعطيات التاريخية بالحكم، لم يكن للمسيحية تطبيق اجتماعي بتمام معنى الكلمة، المسيحية لم تتكامل كليةً في الجماعة الإنسانية، بل أقامت نفسها، في صورة الكنيسة، في موقع البشر، بدون أن ترتبط بهم عن طريق تعيين وظائف لهم، وهي لو فعلت لربما أتاحت لهم المساهمة في حياتها الداخلية مساهمة أكثر مباشرة؛ لم تُولِ الوقائع البشرية عناية كافية، بل تركت جميع الشئون غير الدينية خارجة عنها، لم تدخر لهم غير مساهمة في التقليد على هذه الدرجة أو تلك. بهذا الشكل يتبدى تنظيم العالم المسيحي من منظورٍ إسلامي.
لا يستطيع المسيحيون أن يدَّعوا لأنفسهم فكرة التوحيد على نفس المستوى الإسلامي بأن فكرة الفداء غير مرتبطة اضطرارًا بفكرة التوحيد الإلهي؛ فهذه الفكرة يمكن أن تشتمل عليها عقيدة تقوم على تعدد الآلهة، أما التوحيد الإلهي الذي تسلم به المسيحية تسليمًا نظريًّا فلا يظهر فيها عنصرًا «ديناميكيًّا»، فالقداسة المسيحية، والمساهمة التامة في جسد المسيح السري، لا تصدران عن فكرة التوحيد إلا بطريقةٍ غير مباشرة. العقيدة المسيحية، كالعقيدة الإسلامية، تنطلق من فكرةٍ إلهية، إلا أنها تصر صراحةً «على المظهر الثلاثي للألوهة، الله تجسد وافتدى العالم، «المبدأ» ينزل في التجلِّي لكي يعيد إليه توازنًا مفقودًا.» في العقيدة الإسلامية، الله يشهد لنفسه بالوحدانية، لا يتجسد بناء على تمايزٍ داخلي، ولا يفتدي العالم، بل يمتصه بإسلامه له. لا ينزل في التجلِّي، بل يعكس نفسه فيه، كما تعكس الشمس نفسها بأشعتها، وليس كهذا الانعكاس، ما يتيح للبشرية أن تأخذ نصيبها منه تعالى.
يحدث أن نجد من المسلمين، الذين ينزل القرآن منهم بمنزلة المسيح من النصارى، من يأخذون على هؤلاء افتقارهم إلى كتابٍ كالقرآن، أي كتاب واحد، هو في نفس الوقت كتاب عقيدة وشريعة، مكتوبٌ بنفس لغة الوحي التي نزل بها. ويرون في أسفار «العهد الجديد» علامة انقسام يزيد في خطورته أن هذه الأسفار غير محفوظة باللغة التي نطق بها يسوع، بل بلغةٍ غير ساميَّة، أو حتى مترجمة عن لغة الأصل إلى لغةٍ أخرى غريبة عن الأقوام المنحدرة من نسل إبراهيم، وأن هذه الأسفار قابلة للترجمة إلى أي لغةٍ أجنبية أخرى. يشبه هذا الخلطُ تمامَ الشبه الخلطَ الذي يأخذ على «النبي» أنه مجرد إنسانٍ فانٍ. والحق أنه في الوقت الذي يكون فيه القرآن هو «الكلام الإلهي»، يكون المسيح الحي في طقس الأفخارستيا هو «الكلمة الإلهية»، لا «العهد الجديد». إن هذا ليس له غير دور المؤيد أو السند، بنفس المقدار الذي لا يلعب فيه «النبي» غير دور المؤيد أو السند للرسالة الإلهية، دون أن يكون هو نفسه الرسالة نفسها. فذكر النبي والاقتداء به وشفاعته؛ كل ذلك تابع للكلام الموحى.
إن عقد المقارنات فيما بين العناصر التقليدية التي أشرنا إليها آنفًا لا يستبعد عقد مقارنات أخرى منظورًا إليها من وجهة نظر مختلفة، وبذلك يظل التشابه بين «العهد الجديد» والقرآن أمرًا واقعيًّا على صعيده، وبين المسيح والنبي اللذين يتشابهان اضطرارًا من وجهة نظر معينة. وما إنكار هذا النوع من المقارنات إلا زعم بوجود مشابهات بدون سببٍ كاف، وبالتالي مجردة من المعنى. لكن الطريقة الخارجية الصرفة، أو حتى التوفيقية، التي كثيرًا ما تنعقد بها هذه المقارنات، والتي يكاد أن يكون فيها دائمًا واحد من العنصرين موضوع البحث على حساب الآخر، إنما تنتزع كل قيمة حقيقية من نتائج هذه المقارنات. والحق أنه يوجد نوعان من المقارنات التقليدية، فهناك المقارنات المبنية على ظاهرة العناصر التقليدية، إن صح التعبير، من جهة، وهناك المقارنات التي تكشف عن البنية الداخلية في كل دين، من جهةٍ ثانية.
في الحالة الأولى، ننظر في عنصر التقليد باعتباره شخصًا أو كتابًا أو طقسًا أو مؤسسة، وفي الحالة الثانية، ننظر فيه باعتباره يتضمن هذا المعنى العضوي أو ذاك من التقليد. هنا نعقد المقارنة بين وجهة النظر الرُّوحية ووجهة النظر الفيزيائية: بالنسبة إلى هذه الأخيرة، كائنة ما كانت، يظل الموضوع دائمًا هو نفس الموضوع، لكنه قد يغير مظهره وأهميته بالنسبة إلى المنظورات المختلفة، وإن هذا القانون لينتقل في يسرٍ إلى الصعيد الرُّوحي.
يهمنا أن نبين أن الأمر في جميع هذه الاعتبارات لا يتعلق إلا بالأديان بما هي كذلك، أي بما هي مؤسسات، لا بما هي إمكانيات رُوحية صرفة، وهي إمكانيات واحدة مبدئيًّا، وواضحٌ أننا لا نستطيع من هذه الوجهة أن ندخل في مسألة المفاضلة؛ إذا كان الإسلام، بما هو مؤسسة تقليدية يتمتع بانسجامٍ وتماسك في بنيته الداخلية أكثر مما تتمتع بهما المسيحية، فإن اتصافه بذلك يظل أمرًا ممكنًا. ومن ناحيةٍ أخرى، إن الصفة المركزية التي تمنحها المسيحية للمسيح لا تمنحها تفوقًا على الإسلام، ولسوف نعمد إلى إيضاح أسباب ذلك فيما بعد، أما هنا فنقتصر على التذكير بأن كل صيغةٍ تقليدية تتفوق اضطرارًا على الصيغ الأخرى التي تقف معها على نفس الصعيد، وهو تفوق لا ينهض إلا بالنسبة إلى علاقةٍ معينة وإلا مظهر هذه الصيغة أو تلك، لا بالنسبة إلى جوهرها وإمكانياتها الرُّوحية. وللذين يريدون الاعتماد على عقد مقارنات سطحية واعتباطية بالضرورة بين الصيغتين الإسلامية والمسيحية بهدف النيل من الإسلام، نقول: إن الإسلام، من حيث انطباقه على إمكانية رؤية رُوحية، هو كل ما يجب أن يكون من أجل تحقيق هذه الإمكانية. كذلك، إن «النبي»، رغم أنه لم يكن كالمسيح، كان كل ما ينبغي أن يكون عليه من أجل تحقيق الإمكانية الرُّوحية المتمثلة بالإسلام، ولئن كان النبي ليس بالمسيح، وكان يظهر بمظهرٍ بشري أكثر من المسيح، فلأن مبرر وجود الإسلام لا يقوم على الفكرة المسيحية أو الأواطارية (= التنزل الإلهي في الإنسان)، بل على فكرةٍ لم يكن أمامها بد من استبعاد هذه الفكرة. الفكرة التي تحققت بالإسلام والنبي هي فكرة «التوحيد الإلهي»، التي ينطوي جانبها المباين مباينة مطلقة — بالنسبة إلى عالم الخلق أو عالم التجلِّي — على جانبٍ يناسبه من نقص الكمال، وهذا ما قد أتاح للمسلمين منذ البداية أن يستخدموا وسائل بشرية كالحرب من أجل إقامة عالمهم التقليدي، بينما اقتضى ذلك المسيحية بضعة قرون من الزمن الرسالي لاستخدام نفس الوسيلة، وهي مع ذلك وسيلة لا بد منها لانتشار الدين. أما الحروب التي خاضها صحابة النبي أنفسهم فتمثل العذاب الإلهي الذي يرمي إلى ما يمكن تسميته بإحكام — أو بلورة — المظاهر الشكلية التي سوف يكون عليها العالم الجديد. الحقد لم يكن له دور في هذه الحروب، والصدِّيقون الذين يقتتلون على هذا النحو لا يقاتلون من أجل منافع بشرية، بل بالمعنى الذي اشتملت عليه تعاليم اﻟ «بهاكفات جيتا»؛ «كرشنا» يأمر «أرجونا» بأن يقاتل لا عن حقدٍ ولا في سبيل الغلبة، بل تنفيذًا لما قدِّر عليه باعتباره أداة في الخطة الإلهية، وبدون أن يكون له تعلق بثمار أعماله. هذا الاصطراع في وجهات النظر، عند تأسيس عالم تقليدي، إنما يعكس تزاحم إمكانيات التجلِّي فيما بينها عند «الخروج من العَماء» الذي يحدث في أصل العالم الكوني، وهو تزاحم ذو طبيعة مبدئية صرفة، بطبيعة الحال. ولقد كان من طبيعة الإسلام، أو من طبيعة رسالته، أن يقف منذ بداياته على صعيدٍ سياسي لإثبات وجوده الخارجي، وهو أمرٌ ما كان ليتناقض مع طبيعة المسيحية البدائية أو مع رسالتها وحسب، وإنما كان أمرًا متعذرًا تحقيقه في محيطٍ متماسك ومستقر كمحيط الإمبراطورية الرومانية، ومع ذلك لم تكد تصبح المسيحية دينًا للدولة حتى وقفت على صعيدٍ سياسي تمامًا كما فعل الإسلام. والتغييرات التي طرأت على الإسلام من الخارج منذ وفاة النبي لا يمكنها أبدًا أن ترتد إلى نقصٍ رُوحي، وإنما هي من العيوب الملازمة للصعيد السياسي بما هو كذلك. أن يكون الإسلام قد أقام نفسه خارجيًّا بالاعتماد على وسائل بشرية؛ فلأن له أساسًا فريدًا في المشيئة الإلهية التي تستبعد، على وجه التحديد، كل تدخلٍ باطني في البنية الأرضية للصيغة التقليدية الجديدة. من جهةٍ أخرى، فيما يتعلق بالفرق بين «المسيح» و«النبي»، نضيف أن كبار الرُّوحيين، كائنةً ما كانت درجة كل منهم، إما أن يُظهِروا ترفعًا عن العالم أو توجهًا إليه؛ الحالة الأولى هي حالة بوذا والمسيح مثلما هي حالة جميع القديسين من الرهبان أو النسَّاك، والثانية هي حالة إبراهيم وموسى ومحمد مثلما هي حالة جميع القديسين الذين يعيشون في هذا العالم، ومنهم القديسون من الملوك والمحاربين. موقف الأولين ينطبق عليه قول المسيح: «مملكتي ليست من هذا العالم»، وموقف الآخِرين ينطبق عليه قوله: «ليأت ملكوتك.»
الذين يحسبون أن عليهم أن ينكروا على نبي الإسلام كل مشروعيةٍ متذرعين بحججٍ تتعلق بالمناقب ينسَون أن المسألة الوحيدة التي ينبغي طرحها هنا هي معرفة ما إن كان محمد موحًى له من الله أم لا، لا مسألة ما إن كان يمكن مقارنته بيسوع، أو ما إن كان متوافقًا مع أخلاقياتٍ معينة. عندما نعلم أن الله قد أباح للعبريين تعدد الزوجات، وأمر موسى أن يُعمل السيف في رقاب الكنعانيين، تكون المسألة الأخلاقية المتعلقة بهذا النوع من الفعل غير مطروحة على أي حال. فالذي يهمنا، دومًا وحصرًا، هو أن نعلم أن الإرادة الإلهية لا تغير من هدفها، وأن الذي يتغير هو وسائلها وأساليبها بسببٍ من «لا نهائية إمكانياتها» أولًا، وبسببٍ من تنوع الممكنات تنوعًا غير محدود ثانيًا. من الجانب المسيحي، يؤخذ على النبي قضاؤه على يهود بني قريظة، لكننا ننسى أن ما من نبيٍ من أنبياء بني إسرائيل إلا وكان يفعل نفس الشيء بل وأشد منه وأقسى، ولعله يحسن بنا أن نتذكر ما فعله صموئيل بالعمالقة ومليكهم بأمرٍ من الله. إن قضية بني قريظة تقدم لنا مثالًا على «تمييز النفوس» الذي يحدث بنوعٍ من التلقائية لدى احتكاكه بأحد تجلِّيات «النور»، وهو نورٌ حيادي من بعض الأوجه، ومن شأنه إظهار إنسان طالما أقام في وسطٍ عَمائي أو غير متمايز — وهذه الصورة تتفق مع صور جميع الأوساط التي يجب أن يحدث فيها إعادة تكييف للدين — لكن على شيءٍ من الوهن، أو لِنَقُل على شيءٍ من الرجوع إلى حالةٍ كامنة يمكنها أن تُظهر الميل الأساسي عند إنسانٍ مقيم في وسطٍ من عدم التمايز الرُّوحي، ومن شأن هذا الميل أن ينشط بصورةٍ عفوية أمام الخيار الذي يطرح نفسه عند احتكاكه ﺑ «النور»، وهذا ما يفسر لنا لماذا تنفتح أبواب السماء كما تنفتح أبواب الجحيم، عند انبثاق الوحي، تمامًا كما ينشر النور ظلًّا في العالم المحسوس.
الجسد دنس بحد ذاته، بالجنس أو بدونه، والجنس نبيل بحد ذاته، داخل الجسد أو خارجه. ونبالة الجسد مستمدة من نموذجه السماوي؛ لأن «الله محبة». بالتعبير الإسلامي نقول إن «الله واحد»، والمحبة بما هي شكل من التوحيد، إنما تتفق في هذا مع «الطبيعة الإلهية». المحبة قد تطهر الجسد، كما أن الجسد قد يحط من المحبة. الإسلام يولي الأهمية لأولى هاتين الحقيقتين، على حين تولي المسيحية الأفضلية للثانية، اللهم إلا في سر الزواج حيث تنضم راغمة، وبنوعٍ ما عرضًا، إلى النظرة اليهودية والإسلامية.
نأتي الآن إلى بيان العناصر التي تشكل في الحقيقة الفرق بين المظاهر المسيحية والمظاهر المحمدية. يهمنا أن نذكر بجلاءٍ أن هذا الفرق يتعلق حصرًا بمظهر الإنسان-الإله، لا بحقيقته الداخلية والإلهية التي هي شيء واحد، وهي الحقيقة التي أعلن عنها المعلم إكهارت: «كل ما يقوله الكتاب المقدس عن المسيح يصدق كليًّا على كل إنسانٍ صالح وإلهي أيضًا»؛ أي على كل إنسانٍ يتوفر لديه امتلاء التحقق الرُّوحي، على حسب «السعة» و«الارتقاء»، يقول شري راما كرشنا: «في المطلق لا أكون ولا تكون ولا يكون الله؛ لأنه وراء الكلام والفكر. لكن، بما أنه موجودٌ خارج أنيَّتي، يجب عليَّ أن أجد براهما، في حدود العقلي، بما هو شيء موجود خارج نفسي.» يفسر لنا هذا التعليم كيف تسنى للمسيح أن يصلي في الوقت الذي فيه هو نفسه كائنٌ إلهي من جهة، ويفسر لنا كيف أمكن النبي أن يكون إلهيًّا في حقيقته الداخلية من جهةٍ ثانية، فيما يظهر إنسانًا صريحًا بسبب الطريقة الخاصة من تجلِّيه. على هذا الصعيد من الأفكار، يقتضي أيضًا أن نوضح ما يلي: يقوم المنظور الدُّغماطيقي أساسًا على «واقعة» تُنسب إليها صفة مطلقة، فمثلًا، يقوم المنظور المسيحي على الحالة الرُّوحية العليا المتحققة بالمسيح، ولا تقع في متناول الخبرة الصوفية الفردية، بل تنسبها إلى المسيح وحده، ومن هنا نفي الاتحاد الميتافيزيقي، في اللاهوت العادي على الأقل، أو نفي الرؤية السعيدة في هذه الحياة. ونضيف أن الباطنية، على لسان المعلم إكهارت، تُرجع سر التجسد إلى صعيد القوانين الرُّوحية، إذ تنسب صفات المسيح إلى الإنسان الذي وصل إلى مرتبة القداسة العليا، باستثناء المهمة النبوية، أو الافتدائية بالأحرى. وشبيه بهذا ما ينسبه بعض الصوفية إلى بعض كتاباتهم من وحيٍ يساوي وحي القرآن الكريم، بينما لا تُنسب هذه الدرجة من الوحي في الإسلام الظاهري إلا للنبي وحده، طبقًا للمنظور الدغماطيقي الذي يقوم دائمًا على «واقعة مفارقة» تدعي حصرًا هذا المظهر أو ذاك من الكلمة.
رغم أن النبي لا يحتل في الإسلام نفس المكانة التي يحتلها المسيح في المسيحية، إلا أن مكانته في المنظور الإسلامي لا تقل مركزية عنه، اضطرارًا. يبقى علينا أن نوضح الأساس الذي يمكن أو يجب أن تنهض عليه هذه المكانة من ناحية، ومن ناحيةٍ ثانية أن نعلم كيف يُدخل الإسلام المسيح في منظوره، في الوقت الذي يعترف له فيه بنوعٍ من الصفة المركزية من خلال ولادته العذرية. «الكلمة»، في المنظور الإسلامي، لا تتجلى أبدًا في مثل هذا الإنسان المفرد، بل في الوظيفة النبوية، بأعلى ما في الكلمة من معنًى، وقبل كل شيء، بالكلمة الموحاة. وبما أن وظيفة النبوة حقيقة عند محمد، والقرآن وحيٌ صحيح، والمسلمون لا يسلِّمون بغير هذين المعيارين؛ لذلك نجدهم لا يرون سببًا يفضلون به يسوع على محمد، بل لا بد لهم من أن يمنحوا هذا الأخير تفوقًا على الأول، لا لشيءٍ إلا لأنه الممثل الأخير للوظيفة النبوية، يدمج ويركِّب جميع أنماط هذه الوظيفة، ويَقفِل دورة تجلِّي «الكلمة»؛ ومن هنا اسم «خاتم الأنبياء». إن هذا الوضع الفريد هو الذي يمنح محمدًا تلك المكانة المركزية التي يعترف له الإسلام بها، ويسمح بتسميته ﺑ «الكلمة» نفسها وﺑ «النور المحمدي».
«الفتح العربي، الذي انطلق نحو آسيا وأوروبا في وقتٍ واحد، حدث لا مثيل له من قبل، لا يمكن مقارنة سرعة الفوز الذي حققه بالسرعة التي نشأت بها، في عصورٍ لاحقة، إمبراطوريات المغول؛ كإمبراطورية أتيلا أو جنكيز خان أو تيمورلنك. وهذه الإمبراطوريات ما لبثت أن زالت، على حين ثبت الفتح الإسلامي. إن هذه الديانة (الإسلام) لم يزل لها أتباع يؤمنون بها إلى اليوم في كل مكانٍ من العالم تقريبًا، منذ أن فرضت نفسها في ظل الخلفاء الأولين. وإنها لمعجزةٌ حقيقية حين يقارن انتشارها الصاعق ببطء انتشار المسيحية.» (هنري بيرين، محمد وشارلمان).
«القوة لم يكن لها علاقة بانتشار القرآن؛ لأن العرب كانوا دائمًا يتركون المغلوبين أحرارًا في الاحتفاظ بأديانهم. وإذا كانت الشعوب المسيحية قد تحولت إلى دين الغالبين؛ فلأن الفاتحين الجدد كانوا أكثر إنصافًا لهم من أسيادهم القدماء؛ ولأن دين العرب كان أبسط مما كانوا تعلموه حتى يومِئذٍ. القرآن لم ينتشر بالقوة، وإنما انتشر بالاقتناع، وليس كالاقتناع ما حمل فيما بعد أقوامًا غلبت العرب على أمرهم، كالترك والمغول، على الإيمان بالإسلام. في الهند، حيث لم يكن الوجود العربي غير وجود عابر، بلغ انتشار القرآن فيها مبلغًا بات معه أتباعه يُعدُّون اليوم (١٨٨٤م) أكثر من خمسين مليونًا، وإن عددهم ليزداد يومًا بعد يوم … كذلك ما كان انتشار القرآن في الصين ليقل عنه أهمية، ورغم أن العرب لم يفتحوا حتى ولا جزءًا صغيرًا من «إمبراطورية السماء»، يشكل المسلمون فيها اليوم أكثر من عشرين مليونًا.» (غ. لوبون: حضارة العرب).