الخصوصية والشمولية في التقليد المسيحي
إن ما يضطرنا إلى القول بظاهريةٍ مسيحية، اللهم
إلا أن يكون ثمة اصطلاح أفضل، لا تشبه الظاهريتين
اليهودية والإسلامية تمام الشبه، لا من حيث النشأة
ولا من حيث البنية. ففي الوقت الذي نجد فيه
الظاهريتين اليهودية والإسلامية قد تأسستا كذلك
منذ بدايتهما، بمعنى أنهما تشكلان جزءًا لا يتجزأ
من «الوحي»، وتتميزان فيه من العنصر الباطني
تميزًا تامًّا، نجد أن ما قد أصبح «ظاهرية مسيحية»
فيما بعد لم يظهر كذلك أبدًا في «الوحي المسيحي»،
أو على الأقل لم يظهر فيه إلا عرضًا. صحيحٌ أن
النصوص القديمة، ولا سيما رسائل القديس بولس،
تجعلنا نتلمس أسلوبًا ظاهريًّا أو دغماطيقيًّا؛ من
ذلك مثلًا تمثيل العلاقة المرتبية المبدئية
القائمة بين الباطن والظاهر بالعلاقة التاريخية
القائمة بين الميثاقين الجديد والقديم، من حيث إن
الميثاق القديم قد ظل حتى ذلك الحين يمثل «الحرف
الذي يقتل»، والميثاق الجديد يمثل «الرُّوح الذي يحيي»،
١ إلا أن هذه الطريقة من التعبير لا
تأخذ في الحسبان الحقيقة الملازمة للميثاق الجديد،
وهي حقيقة تساوي الميثاق الجديد مساواة مبدئية
تامة، من حيث إن هذا الميثاق ما هو غير شكل جديد
منها أو تكييف جديد لها. يعلمنا هذا المثال كيف
تَعمِد وجهة النظر الدغماطيقية أو اللاهوتية،
٢ لأسبابٍ تتعلق بالمناسبة، إلى اختيار
جانب واحد من الحقيقة وإكسابه صفة الحصر والإطلاق،
بدلًا من أن تحيط بالحقيقة بكاملها. بدون هذه
الصفة الدغماطيقية، وهو ما يجب ألا يغيب عن بالنا،
تبقى الحقيقة الدينية غير ذات أثر في تحقيق الهدف
المخصوص الذي ترمي إليه وجهة نظرها اعتمادًا على
نفس أسباب المناسبة المذكورة. هناك إذن تقييد
للحقيقة الصرفة له صفة مزدوجة: فهو، من جهة، يُكسب
جانبًا من الحقيقة صفة الحقيقة الكلية، ومن جهةٍ
أخرى، يُكسب ما هو نسبي صفة الإطلاق، زيادة على أن
وجهة نظر المناسبة هذه تقودنا إلى نفي كل ما
يتجاوز مبرر وجود المنظور اللاهوتي مما ينبغي له
أن يظل بمنأى عنه، بما هو أمر ليس في متناول
الجميع وما هو بالأمر الذي لا غنى للجميع عنه، من
هنا التبسيط أو التركيب الرمزي الخاص بكل ظاهرية،
٣ ثم لنذكر أيضًا — وهذا ما يشكل علامة
بارزة من علامات هذه العقائد (الظاهرية) — امتصاص
الحقائق المبدئية للوقائع التاريخية، وما يترتب
على ذلك من التباساتٍ لا مفر منها؛ فعندما يقال
مثلًا إن على جميع البشر، بدءًا من آدم حتى الذين
ماتوا في عهد المسيح، أن ينتظروا نزوله إلى الجحيم
لكي يخلصهم، يختلط المسيح التاريخي بالمسيح
الكوني، وتبدو الوظيفة الأبدية ﻟ «الكلمة» وكأنها
حقيقةٌ زمانية، لا لشيءٍ إلا لأن يسوع كان
تجلِّيًا لهذه الكلمة، وهذا يعني أنه كان التجسيد
الوحيد للكلمة في العالم الذي حدث فيه هذا
التجلِّي. وهناك مثال آخر على ذلك نجده في
الاختلاف بين المسيحية والإسلام حول موضوع موت
المسيح؛ فالقرآن في نفيه الظاهر لموته، فضلًا عن
أنه لا يفعل في الأساس غير الشهادة له بأنه لم
يقتل يقينًا، وهذا لا ينطبق على الطبيعة الإلهية
للإنسان-الإله وحسب، وإنما ينطبق أيضًا على طبيعته
البشرية التي ما لبثت حتى انبعثت فيها الحياة. إن
القرآن إذ ينفي موت المسيح إنما يرفض التسليم
بالفداء التاريخي، وبالتالي يرفض الوقائع التي
رافقته، والتي تشكل في نظر البشرية المسيحية
التعبير الأرضي الوحيد عن الفداء الشمولي، وهذا
يعني في التحليل الأخير أن المسيح لم يمت من أجل
«الأصحاء»، وهم هنا المسلمون الذين يستفيدون من
صيغةٍ أرضية أخرى من صيغ الفداء الواحد الأبدي.
بعبارةٍ أخرى، لئن كان المسيح قد مات مبدئيًّا من
أجل جميع البشر — بمقدار ما يتوجه الوحي الإسلامي
إلى الناس أجمعين — لم يمت في الحقيقة إلا من أجل
الذين يستفيدون، وينبغي لهم أن يستفيدوا، من وسائل
النعمة التي تؤيد فعل الفداء،
٤ فالمسافة التي تفصل التقليد الإسلامي
عن المسيحي توجب عليه أن يرتدي ظاهريًّا صيغة
النفي، تمامًا مثلما كان على الظاهرية المسيحية أن
تنكر إمكانية النجاة خارج الفداء الذي قام به
يسوع. مهما يكن من أمر، إن كانت مناقشة منظور ديني
من خارجه أمرًا ممكنًا، أي من منظورٍ ديني آخر
يكشف عن جانبٍ مختلف من الحقيقة المعنية، فإن
مناقشته من داخله لا تقل عنها إمكانية، من حيث
إنها تتيح لنا أداة التعبير عن الحقيقة الكلية
التي يشكل منها هذا المنظور مفتاحًا لها. كذلك يجب
ألا يغيب عن البال أن القيود التي تلازم وجهة
النظر الدغماطيقية تتفق على صعيدها الخاص مع
«الخير الإلهي» الذي لا يريد للإنسان أن يقع في
مواطن الضلال، وإنما يهبه ما يتيح له الوصول إليه
مما لا غنى عنه للجميع، آخذًا دائمًا بعين
الاعتبار ما عند الجماعة البشرية من استعداداتٍ عقلية.
٥
تسمح لنا هذه الاعتبارات بأن نفهم أن كل ما في
كلام المسيح، مما قد يبدو متناقضًا مع شريعة موسى،
أو ما يُستشم أنه انتقاصٌ منها، لا يعبر في العمق
إلا عن تفوق الباطن على الظاهر،
٦ وأنه — بالتالي — لا يقف على نفس
الصعيد الذي تقف عليه هذه الشريعة،
٧ على الأقل بدئيًّا
a
priori، أي إن هذه العلاقة
المرتبية بمقدار ما تكون غير مفهومة بالطريقة
الدغماطيقية، يكون من الواضح جدًّا أن تعاليم
المسيح الرئيسية تتجاوز هذه الطريقة، وتتجاوز
الشريعة تبعًا لذلك، وهو ما يبرر قيام هذه
التعاليم، وهذا ما يفسر لنا موقف المسيح من حكم
«العين بالعين والسن بالسن»، وموقفه من المرأة
الزانية ومن الطلاق. إن «تحويل الخد الأيسر» لمن
«يضرب الخد الأيمن» لا يمكن تطبيقه في حياة
الجماعة من أجل إقامة التوازن فيها،
٨ وليس له معنى إلا على أساس أنه موقفٌ
رُوحي. وليس إلا صدِّيقًا مَن يربأ بنفسه أن ينقاد
وراء التسلسل المنطقي لردود الأفعال الفردية؛ لأن
هذا الانقياد هو عنده أمرٌ يساوي السقوط، على
الأقل عندما يكون لهذا الانقياد مركز الصدارة أو
عندما يستولي على نفس الإنسان، لا عندما يظل فعلًا
خارجيًّا غير شخصي من أفعال العدالة التي هي نصب
عين الشريعة الموسوية. إلا أن هذه الصفة غير
الشخصية التي يتصف بها حكم «العين بالعين والسن
بالسن» لهي الصفة التي حملت المسيح على التعبير عن
حقيقةٍ رُوحية كانت تبدو وكأنها تُدين الشريعة وهي
لا تُدين غير الادعاء، بعد أن أضحى هذا الحكم غير
مفهوم وحلت الأهواء محله. وما قلناه لتَوِّنا يصح
أيضًا على جواب المسيح على الذين كانوا يَهُمون
برجم المرأة الزانية، فالمسيح في هذا الجواب،
بدلًا من أن ينحو منحًى غير شخصي باسم الشريعة،
كان يريد أن ينحو منحًى شخصيًّا يفضح به نفاقهم.
٩ لم يكن المسيح في هذا يعبر عن وجهة
نظر الشريعة، إنما كان يعبر عن وجهة نظر الحقائق
الداخلية الرُّوحية التي تسمو على الحياة
الاجتماعية، وقد كانت هذه أيضًا وجهة نظره في
مسألة الطلاق. ولعل ما يُجلِّي الجانب الرُّوحي
الصرف من تعليم المسيح، وبالتالي الجانب الذي يعلو
على الحياة الاجتماعية، ويعلو في أخلاقيته، كلمته
التالية: «إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يُبغض أباه
وأمه وامرأته وبنيه وإخوته، بل نفسَه أيضًا، فلا
يستطيع أن يكون لي تلميذًا.» (لوقا ١٤: ٢٦)، واضحٌ
أنه يتعذر مقابلة مثل هذا التعليم بالشريعة
الموسوية.
المسيحية إذن لا تتصف أبدًا بالصفات الطبيعية أو
المعهودة التي تتصف بها ظاهرية قامت على هذا
الأساس، بل تطرح نفسها على أساس أنها ظاهرية
«واقع» لا ظاهرية «مبدأ». ثم إن الصفة الباطنية،
من ناحيةٍ ثانية، هي الصفة التي نجدها دائمًا في
دلالاتٍ معينة ذات أهمية من الدرجة الأولى، حتى
بدون أن نرجع من أجل ذلك إلى فِقَر معينة من
الكتاب المقدس، من ذلك مثلًا عقيدة التثليث، وسر
الأفخارستيا ولا سيما استعمال النبيذ في هذا
الطقس، وكذلك في مصطلحاتٍ باطنية صرفة من مثل «ابن
الله» ولا سيما مصطلح «أم الله». لئن كانت
الظاهرية هي «ما لا غنى عنه لجميع الناس، وما هو
في متناولهم جميعًا في نفس الوقت وبدون ما تمييز»،
١٠ يتعذر على المسيحية أن تكون ظاهرية
بالمعنى المألوف للكلمة، من حيث إنها في واقع
الأمر ليست أبدًا في متناول الجميع، بالرغم من
أنها تفرض نفسها على الجميع في الواقع، بحكم
تطبيقها الديني. وإن امتناع العقائد المسيحية
الظاهرية عن تناول الجميع هو ما نعبر عنه عندما
نصفها ﺑ «الأسرار»، وهي كلمة لا تتضمن أي معنًى
إيجابي إلا على الصعيد الباطني الذي ترتد إليه،
لكننا عندما نطبقها على الصعيد الديني تبدو وكأنها
تبتغي أن تبرر أو تحجب عدم انطواء الدغماطيقا
المسيحية على أي بداهةٍ عقلية مباشرة، إن كان لنا
أن نعبر كذلك. فمثلًا، «الوحدة الإلهية» بداهة
مباشرة، وهي — بالتالي — قابلة للصياغة الظاهرية
أو الدغماطيقية؛ لأن هذه البداهة، في أبسط تعبير
لها، في متناول كل إنسانٍ ذي عقل سليم. أما
«التثليث»، من حيث انطواؤه على وجهة نظر أكثر
تمايزًا، ومن حيث تمثيله لتطورٍ خاص في عقيدة
التوحيد في جملة تطوراتٍ أخرى محتملة هي أيضًا،
فغير قابل للصياغة الظاهرية، بالمعنى الدقيق
للكلمة، لا لشيءٍ إلا لأن أي مفهومٍ ميتافيزيقي
يتصف بالتمايز أو الاشتقاق هو مفهوم لا يقع في
متناول الجميع. من ناحيةٍ ثانية، ينطبق «التثليث»
اضطرارًا على وجهة نظر أكثر من وجهة نظر «الوحدة»،
بمقدار ما يشكل «الفداء» حقيقة أكثر نسبية من
حقيقة «الخلق»، ما من إنسانٍ ذي عقلٍ سليم إلا
ويستطيع أن يفهم الوحدة الإلهية، على هذه الدرجة
أو تلك، من حيث إن هذه الوحدة هي المظهر الأشمل
والأبسط من الألوهة، أما «التثليث» فلا يفهمه إلا
من يستطيع أن يفهم الألوهة، بما هي وحدة وفي نفس
الوقت في المظاهر الأخرى المتفاوتة في درجة
نسبيتها، أي من يستطيع التوغل على نحوٍ ما في
البعد الميتافيزيقي عن طريق مساهمة رُوحية في
العقل الإلهي، لكن هذه إمكانية بعيدة جدًّا عن
متناول جميع الناس، على الأقل في الوضع الحالي
للبشرية الأرضية. وعندما قال القديس أوغسطين أن
«التثليث» غير مفهوم، كان يعبر اضطرارًا — بسبب
عادات العالم الروماني — عن وجهة نظر عقلانية هي
وجهة نظر الفرد، التي لو طبقناها على الحقائق
المباينة لما أثمرت غير الجهل. في ضوء العقل
المحض، ليس أبدًا غير مفهوم إلا ما لا حقيقة له،
أي العدم الذي يتواحد بالمستحيل الذي يتعذر أن
يكون موضوعًا لأي فهمٍ من أي نوع، بما هو لا
شيء.
نضيف أن ما اتصفت به الدغماطيقا المسيحية من
صفةٍ باطنية، وما اشتملت عليه من أسرار، كان هو
السبب العميق وراء الرجع (= رد الفعل) الإسلامي
على المسيحية، فباعتبار أن هذه قد خلطت الحقيقة
(الباطن) بالشريعة (الظاهر)، انطوت على مخاطر
معينة أدت إلى خللٍ في توازن «الحقيقة» على مدى
القرون، وأسهمت بصورةٍ غير مباشرة في الخراب
الرهيب الذي عليه عالمنا اليوم، وفقًا لقول
المسيح: «لا تطرحوا للكلاب ما هو قدسي، ولا
تُلقُوا بدُرَركم قدَّام الخنازير لئلا تدوسها
بأقدامها وترتد إليكم وتمزقكم.»
إن كانت المسيحية قد خلطت بين ميدانين كان ينبغي
أن يظل كل منهما بمعزلٍ عن الآخر على مقتضى ما يجب
أن يكون عليه الأمر في الأحوال العادية، وخلطت بين
نوعين من الأفخارستيا يمثلهما هذان الميدانان، فهل
معنى هذا أنه كان بمقدورها أن تكون غير ذلك؟ قطعًا
لا. إن ما يجب قوله هو أن الحقيقة الداخلية أو
الباطنية يجب أن تتجلى أحيانًا في رائعة النهار،
وذلك بمقتضى إمكانية معينة من التجلِّي الرُّوحي،
وبغض النظر عن عيوب الوسط البشري الذي تتجلى فيه.
بعبارةٍ أخرى، إن هذا «الخلط» لهو النتيجة السلبية
لشيءٍ إيجابي بحد ذاته، وما هو إلا تجلِّي المسيح
نفسه. بهذا التجلِّي، وبكل تجلٍّ آخر مماثل
للكلمة، على درجة الشمول الذي يحدثه، يتم اتصال
الكلمة الموحاة: «وكان هو النور في الظلمة والظلمة
لم تدركه». لقد كان على المسيح، بحكم تعريفه
الميتافيزيقي أو الكوزمولوجي، إن كان لنا أن نعبر
كذلك، أن يكسر القشرة التي كانت تمثلها الشريعة
الموسوية، لكن دون أن ينفيها على أي حال، باعتبار
أنه كان هو النواة الحية لهذه القشرة، وقد كان له
ملء الحق في أن يفعل ذلك، لقد كان «أحق» منها،
وهذا ما تعنيه إحدى كلماته: «قبل أن يكون إبراهيم،
كنت». يمكننا أن نقول أيضًا، إن كان الباطن لا
يعني جميع الناس، فذلك — وهو ما نقوله على سبيل
التمثيل — لأن النور ينفذ في بعض الأجسام ولا ينفذ
في بعضها الآخر، ولئن كان عليه أن يظهر في رائعة
النهار، مثلما كان عليه الحال بالنسبة إلى المسيح،
وعلى درجةٍ أقل من الشمول بالنسبة إلى الحلاج؛
فلأن الشمس — وما زلنا نقول ذلك على سبيل التمثيل
— تشرق على الجميع بدون تمييز، وبالتالي إن كان
النور يضيء في الظلمة؛ فلأنه يبين عن إحدى
إمكانياته، وما الإمكانية بحكم طبيعتها إلا شيء لا
يمكنه إلا أن يكون، بما هي مظهر من مظاهر الضرورة
المطلقة التي ينطوي عليها المبدأ الإلهي.
هذه الاعتبارات يجب ألا تشغلنا عن جانبٍ متمم من
المسألة يتصف بالدنيوية أكثر من الأول على أي حال،
يجب أن يوجد أيضًا في الجانب البشري، أي في الوسط
الذي يحدث فيه مثل هذا التجلِّي، سبب كافٍ
له.
ولقد كان هذا التجلِّي في العالم الذي توجهت
إليه رسالة المسيح منزوعًا فيه الحجاب عن الحقائق
التي ينبغي أن تظل محجوبة في الأحوال الاعتيادية —
في ظروفٍ معينة من الزمان والمكان على الأقل —
وكان الوسيلة الوحيدة لإحداث التقويم الذي كان
يحتاج إليه العالم، وهذا يكفي لكي يسوغ ما لعله
يكون، في الإشعاع المسيحي على النحو الذي حددناه،
أمرًا شاذًّا وغير مشروع في الظروف العادية. إن
تعرية «الرُّوح» الخبيئة في «الحرف» على هذا النحو
لا تستطيع على أي حالٍ أن تبطل بالمرة قوانين
معينة ملازمة لكل باطنية، تحت طائلة سلبها
لطبيعتها الخاصة؛ ولذلك لم يكن المسيح ليكلمهم إلا
بأمثالٍ لكي يتم ما قيل في «النبي»: «… أفتح فمي
بالأمثال، وأنطق بالخفيَّات منذ إنشاء العالم …»
(متَّى ١٣: ٣٤ و٣٥). رغم هذا، إن هذه الطريقة من
الإشعاع، وهي طريقة يتعذر تجنبها في الحالة الخاصة
التي تتعلق بها، ليست أقل من «سيف ذي حدين»، إن
كان لنا أن نعبِّر كذلك. لكن هناك أمر آخر، إن
الطريق المسيحي هو جوهريًّا «طريق نعمة»، وهو في
هذا شبيه بطرق «البهاكتية» في الهند أو طرق معينة
من البوذية، وإننا لنجد في هذه الطرق، بسببٍ من
طبيعتها الخاصة، ضعفًا في التمييز بين الجانب
الخارجي والداخلي حتى ليكون هذا التمييز لا شأن له
أحيانًا، بمعنى أن «النعمة»، وهي من صعيدٍ باطني
في نواتها أو جوهرها، تميل إلى إعطاء نفسها، على
أوسع نطاق ممكن، كل ما تستطيع أن تفعله بفضل ما في
رموزها ووسائلها من بساطةٍ وشمول. ولعلنا نستطيع
القول أيضًا، إن كان الفرق بين «طريق الاستحقاق»
و«طريق المعرفة» هو، بالضرورة، فرقًا بعيدًا بسبب
رجوع أولهما إلى فعل الاستحقاق، والثاني إلى
التأمل العقلي، فإن «طريق النعمة» يحتل بمعنًى ما
مركزًا وسطًا، من حيث إن التطبيقات الداخلية
والخارجية تتقارب فيما بينها عند نقطة المركز وفي
نفس شعاع الرحمة. في نطاق التحقق الرُّوحي فروق في
الدرجة أكثر مما هي فروق في المبدأ، كل عقل، أو كل
إرادة، يمكنه أن ينال نصيبه من نفس النعمة، كلٌّ
في حدود إمكانياته، وهذا ما يسمح لنا بالتذكير
بمثال الشمس التي تشرق على الجميع بدون تمييز،
لكنها تفعل ذلك بصورةٍ مختلفة في مختلف
المواد.
بصرف النظر عن أن هذه الطريقة التركيبية من
الإشعاع كانت — بتعريتها للحقائق التي ينبغي
للظاهرية السوية أن تتركها طي الحجاب — هي الوسيلة
الوحيدة لتحقيق التقويم الرُّوحي الذي كان يحتاج
إليه العالم الغربي، ينبغي لنا أن نقول أيضًا إن
لهذه الطريقة صفة ربانية بالنسبة إلى التطور
الدوري، بمعنى أنها مبطونة في الخطة الإلهية
المتعلقة بالتطور النهائي لهذه الدورة من حياة
البشر. من وجهة نظر أخرى، يمكننا أن نتبين، في عدم
التناسب بين الصفة الرُّوحية الصرفة التي تتصف بها
«هبة المسيح» وبين وسطها البالغ التضارب الذي حصل
فيه تلقِّي هذه الهبة، تلك العلامة الاستثنائية
على الرحمة الإلهية التي تتجدد على الدوام بإزاء
الخلق. لكي ينقذ الله جزءًا من الأجزاء «السقيمة»
من البشرية أو من «إحدى البَشَريات»، يرتضي لنفسه
أن يصير كائنًا دنيويًّا، لكنه من جهةٍ أخرى —
وإننا هنا بإزاء تجلٍّ من «لا شخصيته» التي تنبو
عن التحديد من وجهة نظر دينية — يستفيد من هذه
الصيرورة الدنيوية، ما دام «لا بد من حدوث فضيحة»،
لكي يحدد الانحطاط الدوري النهائي لهذه الدورة،
وهو انحطاطٌ ضروري لاستنفاد جميع الإمكانيات التي
تنطوي عليها هذه الدورة، وبالتالي لإقامة التوازن
وإتمام الإشعاع الشمولي المجيد لله.
إن وجهة النظر الدغماطيقية مضطرة، إن لم تسلم
بتناقض أفعال إلهها الشخصي، وهو الإله الوحيد الذي
تضعه نصب عينيها، إلى وصف الأفعال المتناقضة
ظاهريًّا الصادرة عن الألوهة غير الشخصية — هنا
حيث لا تستطيع نفيها بكل بساطةٍ مثلما تفعل ذلك في
حالة اختلاف الصيغ الدينية — مضطرة إلى وصفها ﺑ
«الأسرار» وأنها لا يُسبر غورها، ناسبة هذه
«الأسرار»، في الوقت نفسه، إلى «الإله
الشخصي».
إن وجود باطنية مسيحية، أو صفة مغرقة في
الباطنية اتصفت بها المسيحية البدائية، لا يظهر
فقط في نصوص «العهد الجديد»، حيث نجد للمسيح كلمات
ليس لها أي معنى ظاهري، لا لأنها ذات طبيعة طقسية
وحسب — مقتصرين على ما هو في متناول الإدراك، من
الخارج على نحوٍ ما، في الكنيسة اللاتينية — وإنما
في شهاداتٍ صريحة صدرت عن المؤلفين القدامى.
١١ من ذلك مثلًا، القديس باسيليوس، في
مؤلفه «مقال في الرُّوح القدس»، حيث يتكلم عن
«تقليد خفي وسري ظل طي الكتمان حتى أيامنا، وتعليم
سري راعاه آباؤنا بدون مناقشة، ونتبعه نحن ملتزمين
بساطة صمتهم؛ ذلك لأنهم قد تعلموا كم كان الصمت
ضروريًّا للإبقاء على ما يجب لأسرارنا المقدسة من
احترامٍ وإجلال. والحق أنه لم يكن من الملائم
الكشف، كتابة، عن عقيدةٍ تنطوي على أشياء غير
مسموح للمرشحين أن يفكروا فيها.»
يقول ديونيسيوس الأريوباجي: «النجاة غير متاحة
إلا للنفوس المؤلهة، وما التألُّه إلا المواحدة
والمشابهة بالله التي تحصل لنا بالاضطرار … إن ما
هو موزَّع بالتساوي — وإن شئت قلت بصورة كتلة — في
الأعيان السعيدة التي تسكن السموات، ينتقل إلينا
على هيئة شظايا وعلى شكل حشدٍ غفير من الرموز
المختلفة من المعرفة الإلهية.» ويجب ألا نفهم من
هذه الكلمة ما خلَّفه لنا المعلمون الملهمون في
رسائلهم المقدسة وحسب، وإنما ما نقلوه أيضًا إلى
تلامذتهم بنوعٍ من التعليم الرُّوحي شبه السماوي،
حين أسرُّوه لهم رُوحًا لرُوحٍ على نحو جسماني ولا
ريب؛ لأنهم كانوا لا يتكلمون، لكنني أجرؤ على
القول: على نحوٍ غير جسماني أيضًا؛ لأنهم كانوا لا
يكتبون. لكن هذه الحقائق التي لم يكن بدٌّ من
ترجمتها إلى أعرافٍ كَنَسية قام الرسل بعرضها تحت
حجاب الرمز لا في عريها الأسمى؛ لأنه ليس كل أحدٍ
قديسًا، أو، كما قال «الكتاب»: «العلم ليس للجميع.»
١٢
قلنا فيما تقدم إن المسيحية تمثل طريق النعمة أو
المحبة (البهاكتي مارغا عند الهندوس)، وهذا
التحديد يدعونا أيضًا إلى ذكر بعض الإيضاحات
العامة نصوغها على الشكل التالي: في العمق، إن ما
يميز الميثاق الجديد من القديم سيادة الجانب
الإلهي من «الشدة» في الميثاق القديم، وسيادة جانب
«الرحمة» في الميثاق الجديد. وطريق الرحمة هو،
بمعنًى ما، أيسر من طريق الشدة، لأنه يستفيد، بما
هو من صعيدٍ أبعد غورًا، من الرحمة الخاصة: إنه
«النجاة بالإيمان» الذي نَيِّره لطيف وحِماه
خفيف»، الذي يجعل من «نَيِّر السماء» في شريعة
موسى أمرًا غير ذي جدوى. هذه «النجاة بالإيمان»
تماثل بالتالي «النجاة بالمعرفة»، وهي ما يمنحه
بُعدها الباطني، من حيث إن أحدهما كالآخر مستقل
نوعًا ما عن الشريعة، أي عن الأعمال.
١٣ والحق أن الإيمان ليس إلا طريق
«البهاكتي» إلى المعرفة واليقين، وهذا يعني أن
الفعل السلبي من العقل، عندما لا تكون الحقيقة بما
هي كذلك موضوعَه المباشر، بل رمز هذه الحقيقة، ومن
طبيعة هذا الرمز أن يبوح بأسراره لمن كان إيمانه
عظيمًا ويكون ذلك بموقفٍ من الثقة، أو اليقين
العاطفي، وبالتالي بواسطة عنصر من «البهاكتي» أو
المحبة. والإيمان، بما هو موقف تأملي، يجعل العقل
موضوعه، حتى ليمكننا القول إن الإيمان معرفةٌ
فعلية، لكن بما أن طريقته سلبية، كان لا بد له من
الاستعاضة عن هذه السلبية بموقفٍ إيجابي يكمِّله،
أي بموقفٍ إرادي قوامه ثقة وحماسة، بفضلهما يتلقى
العقل يقينه الرُّوحي. والإيمان، بدهيًّا، استعداد
طبيعي في النفس للتسليم بعالم الغيب، وهو،
جوهريًّا، حدس لعالم الغيب، تستثيره النعمة التي
تنشطها الثقة المفعمة بالحماسة،
١٤ وعندما يصبح الإيمان كاملًا بفضل
النعمة ينحلُّ في الحب، الذي هو الله؛ ولذلك لا
يبقى سعداء السماء مؤمنين، من وجهة نظر لاهوتية،
ما داموا يعاينون موضوع إيمانهم؛ وهو الله الذي هو
الحب والغبطة. ونضيف أن هذه المعاينة يمكن أن
تحصل، بل يجب أن تحصل، من وجهة نظر صوفية، في هذه
الحياة، على ما تقول به تعاليم التقليد
الأزيكياستي، لكن الذي يهمنا هنا هو الجانب الآخر
من الإيمان الذي يجدر بنا أن نأتي على ذكره. نريد
أن نتكلم عن العلاقة بين الإيمان والمعجزة، وهي
علاقة لا تفسر الأهمية العظمى التي تحتلها هذه
الأخيرة عند المسيح وحسب، وإنما عند المسيحية بما
هي كذلك. خلافًا لما هي عليه الحال في الإسلام،
تلعب المعجزة في المسيحية دورًا مركزيًّا يكاد أن
يكون عضويًّا، دون أن ننفي عنها علاقتها بالصفة
«البهاكتية» الخاصة بالطريق المسيحي. إن المعجزة
تغدو أمرًا لا تفسير له إن لم يكن لها هذا الدور
الذي تتخذه في الإيمان، من حيث إنها ليس لها قيمة
إقناعية بحد ذاتها، وإلا كانت المعجزات الشيطانية
معيارًا للحقيقة، إن لها — على العكس — جانبًا
يتصل بجميع العوامل الأخرى التي تتدخل في الوحي
المسيحي. بعبارةٍ أخرى، إذا كانت معجزات المسيح
والرسل والقديسين ذات قيمة ومحل تقدير، فما ذلك
إلا لأنها تنضاف إلى المعيارات الأخرى التي تسمح
لنا، بدهيًّا، بأن نعزو إلى هذه المعجزات قيمة
«الآيات السماوية». الوظيفة الأساسية والأولية
للمعجزة هي أن تستثمر نعمة الإيمان، وهذا يفترض
استعدادًا طبيعيًّا للتسليم بعالم الغيب لدى
الإنسان الذي مسته هذه النعمة، لا فرق بين أن يكون
هذا الاستعداد واعيًا أو خافيًا (= لا شعوريًّا)،
أو أن تكمِّل إيمانًا مكتسبًا من قبل. ولكي نوضح
دور المعجزة في المسيحية وفي غيرها من الصيغ
الدينية الأخرى — لأنه ما من دينٍ يخلو من الحوادث
الخارقة — نقول إن المعجزة، بصرف النظر عن صفتها
الرمزية التي تواحدها بنفس موضوع الإيمان، جديرة
بأن تستثير حدسًا يصبح عنصر يقين في النفس
المؤمنة. ثم إن كانت المعجزة تستثير الإيمان، فإن
الإيمان بدوره يستثير المعجزة التي تأتي مصداقًا ﻟ
«الإيمان الذي ينقل الجبال». هذه العلاقة
المتبادلة بين الإيمان والمعجزة تُظهر أن هذين
العنصرين مترابطان كوزمولوجيًّا، وأن العلاقة
بينهما لا تقوم على الاعتباط أو التحكم، باعتبار
أن المعجزة تقيم اتصالًا مباشرًا بين القدرة
الإلهية والعالم، وأن الإيمان بدوره يقيم اتصالًا
مماثلًا، لكن سلبيًّا، بين العالم الأصغر
(الإنسان) وبين الله. إن مجرد المماحكة النظرية أو
الكلامية بعيدة عن الإيمان بُعد القوانين الطبيعية
عن المعجزة، على حين أن المعرفة العقلية (=
الصوفية) ترى المعجز في الطبيعي، والطبيعي في
المعجز.
أما المحبة، وهي من الفضائل الإلهية الثلاث
أفضلهن، فلها وجهان: أحدهما سلبي والآخر إيجابي،
الحب الرُّوحي مساهمة سلبية في الله الذي هو حب لا
انتهاء له، لكن الحب إيجابي بإزاء المخلوق.
حب القريب، من حيث هو تعبير ضروري عن حب الله،
تكملة للإيمان لا غنى له عنها. هذان الجانبان من
المحبة (السلبي والإيجابي) يؤكدهما التعليم
الإنجيلي المتعلق بالناموس الأسمى، من حيث إن
الأول ينطوي على الشعور بأن الله وحده هو الغبطة
والحقيقة، وأن الثاني ينطوي على الشعور بأن
«الأنيَّة»
EGO
ليست إلا وهمًا، باعتبار أن «أنيَّة غيري» متواحدة
في الحقيقة مع «أنيَّة نفسي».
١٥ وإذا كان عليَّ أن أحب «القريب» لأنه
«أنا»، فهذا يعني أن أحب «أنيَّة نفسي» بدئيًّا
a Priori؛
لأنه لا يوجد إلا القريب، وإذا كان عليَّ أن أحب
نفسي، سواء أكانت في «أنيَّة نفسي» أم في
«القريب»؛ فلأن الله يحبني وعليَّ أن أحب ما يحب.
وإذا كان الله يحبني فلأنه يحلب خلقه، أو بعبارةٍ
أخرى لأن الوجود نفسه «حب»، وإن الحب لهو بمثابة
عطر الخالق الذي يلازم كل مخلوق. كذلك إن «حب
الله»؛ أي الحب الذي يكون موضوعه «الكمالات
الإلهية» لا رغد العيش، هو معرفة الحقيقة الإلهية
الواحدة التي تنحلُّ فيها حقيقة الخلق الظاهرة،
وهي معرفة تنطوي على تواحد النفس بجوهرها غير المخلوق،
١٦ وهذا أيضًا جانب من رمزية الحب. كذلك
إن حب القريب ما هو في العمق غير معرفة
«اللاتمايز» في الخلق أمام الله. قبل الانتقال من
الخلق إلى الخالق، أو من التجلِّي إلى المبدأ،
ينبغي لنا أن نكون قد أدركنا «اللاتمايز» أو
«العدم» في محل التجلِّي، وهذا هو ما يرمي إليه
التعليم الأخلاقي الذي يعلمه المسيح، لا عن طريق
اللاتمايز الذي يقيمه بين «الأنا» و«اللا-أنا»
وحسب، وإنما أيضًا عن طريق عدم الاكتراث — وهذا
على نحوٍ ثانوي — بالنجاة الفردية والتوازن
الاجتماعي. المسيحية، إذن تضع نفسها خارج «الأفعال
ورجوعاتها»، التي هي من صعيدٍ بشري، وهي — بالتالي
— ليست ظاهرية بمقتضى طبيعتها الأولى. المحبة
المسيحية لا تهتم، ولا يمكنها أن تهتم، ﺑ «رغد
العيش» من أجل ذاته؛ لأن المسيحية الحقة، وشأنها
في هذا كشأن كل ديانةٍ قويمة، ترى السعادة
الحقيقية التي يمكن للمجتمع البشري أن يتمتع بها
في الارتقاء الرُّوحي أو رغد الحياة الرُّوحية
الذي يصاحبه حضور المقدس كزهرةٍ فيه، وهو الهدف
الذي تسعى إليه كل مدنيةٍ سوية؛ ذلك لأن في «كثرة
الحكماء خلاص العالم» (الحكمة ٦: ٢٦). ثمة حقيقة
لا يحفل بها علماء الأخلاق، وهي أنه عندما يكتمل
فعل المحبة بحب الله، أو بمقتضى معرفتي «أنني أنا
قريب» وأن «القريب أنا نفسي» — وهي معرفة تنطوي
على هذا الحب — فإن فعل المحبة المبذول من أجل
القريب لا يكون له قيمة المحبة الخارجية وحسب،
وإنما قيمة البركة أيضًا. وفي المقابل، عندما لا
نمارس فعل المحبة عن طريق حب الله، ولا بمقتضى
المعرفة المذكورة، وإنما ابتغاء رغد العيش البشري
حيث يعتبر غاية بحد ذاته، فإن البركة التي تلازم
الحب الحقيقي تفارق المحبة الظاهرية ولا تصاحبها
أبدًا، سواء بالنسبة لمن يمارسها أو بالنسبة لمن
يتلقاها.
إن وجود طرق للرهبنة يتعذر أن يجد تفسيره إلا في
وجود تقليد باطني، سواء في الكنيسة الغربية أو
الشرقية، وهو تقليد يرجع إلى آباء الصحراء،
وبالتالي إلى التلاميذ ثم إلى المسيح، كما يؤكد
ذلك القديس «بنوا» وأتباع الرهبنة الأزيكياستية.
ويثبت رجوع ترهُّب الكنيسة اللاتينية إلى نفس
الأصول التي ترجع إليها الكنيسة اليونانية —
وترهُّب هذه الأخيرة يشكل جماعةً واحدة لا طرقًا
مختلفة — يثبت أن ترهُّب الأولى هو من جوهرٍ باطني
مثلما هو ترهُّب الثانية. كذلك إن مذهب الزهاد
والنساك يُعتبر من جانبٍ أو آخر بلوغًا بالكمال
الرُّوحي إلى غايته — قاله القديس «بنوا» في
قاعدته — وهو ما يسمح لنا أن نستنتج من غياب
النساك أنه كان علامة على انحطاط الازدهار
المسيحي. الحياة في الأديرة، من دون أن تكون
طريقًا مكتفية بنفسها، إنما تعيِّنها قاعدة القديس
«بنوا» بأنها «بداية الحياة الدينية»، أما «الذي
يسرع الخطى نحو كمال الحياة في الأديرة، فمن أجله
وُجدَت تعاليم الآباء القديسين التي إذا سار عليها
الإنسان يصل إلى الهدف الأسمى من الدين»،
١٧ وهذه التعاليم هي التي تكوِّن الجوهر
العقدي عند أتباع الرهبنة الأزيكياستية.
عضو الرُّوح، أو المركز الرئيسي في الحياة
الرُّوحية، هو القلب، وهنا أيضًا تتفق تعاليم
الرهبنة الأزيكياستية مع تعاليم جميع التقاليد
الباطنية الأخرى اتفاقًا تامًّا. لكن أهم شيء عند
الأزيكياستية، من وجهة نظر التحقق الرُّوحي، هو ما
تُعلِّمه من وسيلةٍ تتم بها المشاركة الطبيعية من
العالم الأصغر البشري في «ما بعد العالم الإلهي»،
إذ تحولها إلى مشاركةٍ فائقة للطبيعة ثم إلى
اتحادٍ وهوية؛ هذه الوسيلة هي «الصلاة الداخلية»
أو «صلاة يسوع»، هذه الصلاة تتجاوز مبدئيًّا جميع
الفضائل الأخرى؛ لأنها فعلٌ إلهي فينا، وهي —
تبعًا لذلك — خير فعل ممكن، وليس كهذه الصلاة ما
يتيح للمخلوق أن يتحد بخالقه حقيقة، وهدفها هو —
بالتالي — بلوغ الحالة الرُّوحية العليا التي
يتجاوز فيها الإنسان كل ما يمت إلى الخلق بسبب، إذ
يستنير بالنور الإلهي فيما هو يتحد بالألوهة من
الداخل، هذه الحالة هي «الصمت القدسي»، الذي
يُرمَز إليه مع ذلك باللون الأسود الذي تتشح به
بعض «العذراوات».
١٨
الذين يعتبرون «الصلاة الرُّوحية» أمرًا يسيرًا،
وحتى مجانيًّا، تقول لهم «البالامية» إن هذه
الصلاة هي أضيق الطرق، لكنها — في المقابل — تصل
بالإنسان إلى أعلى قمم الكمال، شريطة أن تتطابق
فاعلية هذه الصلاة مع كل الفاعليات البشرية الأخرى
— وهذا أمرٌ جوهري يجعل من شكوك الأخلاقيين
السطحية لا قيمة لها على الإطلاق. بعبارةٍ أخرى،
إن الفضائل — أي موافقة الشريعة الإلهية — تشكل
الشرط اللازم الذي بدونه لا تكون فاعلية للصلاة
الرُّوحية. نحن إذن بعيدون جدًّا عن التوهم الساذج
الذي يقع فيه من يتصورون أن بمقدورهم الوصول إلى
الله بالاعتماد على رياضاتٍ آلية دونما ارتباط أو
التزام. تعلمنا العقيدة البالامية أن «الفضيلة
تُعِدُّنا للاتحاد بالله، لكن النعمة هي التي تحقق
هذا الاتحاد الذي لا يعبَّر عنه». ولئن كانت
الفضائل تؤدي إلى المعرفة؛ فلأنها تتأثر مواقف
إلهية عن طريق التخلق بها، والحق أنه ما من فضيلةٍ
إلا وتستمد أصلها من نموذجٍ إلهي، وهذا هو الموقف
الأعمق للفضائل، «أن تكون» هو «أن تعرف».
ثم لنَلفت الانتباه إلى ما لذكر اسم الله من
أهميةٍ أساسية وما فيه من شموليةٍ حقيقية. فالذكر،
في المسيحية، كما في البوذية وفي بعض السلاسل
المريدية في الهندوكية، إنما يكون لاسم الكلمة المتجلية،
١٩ وهو هنا اسم «يسوع» الذي يتواحد
سرِّيًّا بالألوهة، مثله في هذا كمثل كل اسمٍ إلهي
موحًى ومنطوق طقسيًّا. واللقاء الخفي بين المخلوق
وغير المخلوق، بين الحادث والقديم، بين المنتهي
وغير المنتهي، إنما يحدث في الاسم الإلهي، وبذلك
يكون الاسم الإلهي تجلِّيًا للمبدأ الأسمى، أو إن
شئنا التعبير بطريقةٍ أكثر مباشرة قلنا: إن المبدأ
الإلهي هو الذي يتجلى، وإنه — بالتالي — ليس
تجلِّيًا في المحل الأول، بل هو «المبدأ» نفسه،
٢٠ «الشمس لا تتحول إلى ظلماتٍ، ولا
القمر إلى دم، قبل أن يأتي اليوم العظيم والرهيب،
يوم الرب، يقول النبي يوئيل، لكن ما من أحدٍ يذكر
اسم الرب إلا وتُكتب له النجاة.»
٢١ ولنذكر أيضًا مطلع رسالة القديس بولس
إلى القورنثيين التي تخاطب «كل الذين يذكرون، في
كل مكان، اسم ربنا يسوع المسيح»، وفي الرسالة
الأولى إلى أهل تسالونيكا جاء الأمر بالصلاة بدون
توقف، وهو الأمر الذي يفسره القديس يوحنا الدمشقي
بهذه العبارات: «يجب أن نتعلم ذكر اسم الله في كل
لحظة، وفي كل مكان، وفي أثناء كل عمل.»
٢٢ لذلك لم يكن أمرًا بلا سبب اعتبار
الأزيكياستية لذكر اسم يسوع أمانةً عَهِدَ بها
المسيح إلى الرسل: «تقول مئوية الرهبان الكاليين
والأغناصيين: هذا ما عهد به ربنا يسوع المسيح
الرحيم الحبيب، في اللحظة التي دنا فيها قربًا من
آلامه، المقبولة منه بكل حريةٍ من أجلنا، وكذلك في
اللحظة التي أعقبت قيامته وأظهر فيها نفسه بصورةٍ
مرئية إلى تلاميذه، وحتى حين أعد نفسه للصعود إلى
الآب … عهد إلى أتباعه بهذه الأشياء الثلاثة (بذكر
اسمه وبالسلام وبالحب، التي تنطبق تعاقبًا على
الإيمان والرجاء والإحسان). إن بداية كل فاعليةٍ
للحب الإلهي هي في الذكر الخالص لاسم المخلِّص
ربنا يسوع المسيح، كما قال ذلك هو نفسه (يوحنا ١٥:
٥): «بدوني لا تستطيعون فعل شيء …»، بالذكر الخالص
لاسم ربنا يسوع المسيح، يكون لنا وطيد الأمل
بِنَيْل الرحمة والحياة الحقيقية الكامنة فيه. إنه
لأشبه بينبوعٍ إلهي آخر لا ينضب معينه أبدًا
(يوحنا ٤: ١٤) الذي يجعل عطاياه تتدفق عندما يُذكر
اسم ربنا يسوع المسيح، بدون شوائب، في القلب.» ثم
لنورد أيضًا هذه الفقرة من رسالة القديس
كريزوستوم: «سمعت الآباء يقولون: ما لهذا الراهب
يترك القاعدة ولا يحترمها؟ أوْلَى به، حين يأكل
ويشرب، وحين يجلس أو يخدم غيره، أو حين يمشي أو
مهما يفعل، أن يذكر بدون توقف: أيها الرب يسوع
المسيح، ابن الله، لتكن لك رأفةً بي …
٢٣ داوِم على ذكر اسم ربنا يسوع بلا
توقف، حتى يتشرب قلبك الرب، والرب يتشرب قلبك،
فيصير الاثنان واحدًا.»