عقبتان في طريق السالك
في طبيعة البشرية الساقطة عيبان أو عقبتان تقفان حائلًا بين الإنسان وتحققه الرُّوحي؛ أولاهما الهوى الذي يلقي به خارج نفسه فيما هو يجمعه، وثانيتهما الكبرياء التي تحبسه داخل نفسه فيما هي تفرقه. وعلامة الهوى التعلق، وعلامة الكبرياء التطلع؛ وهذا التطلع وإن كان تطلعًا رُوحيًّا، إلا أنه لا يقل عن التطلع المادي دنيوية، اللهم إلا أن نعطي كلمة «التطلع» — كما يحصل ذلك أحيانًا — معنى آخر محايدًا. وعلى نحوٍ مماثل، إن كنا نريد بكلمة «الهوى» قوة ذاتية محايدة وجاهزة، أمكننا بداهةً أن نتكلم عن «الأهواء المقدسة»، أو التي تقدست بسبب موضوعها، لكننا لا نريد هذا التحويل للطاقة الطبيعية عندما نريد أن نتكلم عن العيوب أو العقبات. هذا، ونَلفت الانتباه، بهذه المناسبة، إلى أن الكبرياء لا تقبل مثل هذا التحويل، فهي لا يمكنها أن تكون إلا منهدمة أو منحلَّة، من حيث إن التعبير الأول يدل على زهدٍ وحرمان أو ندم، والثاني على كيمياء حب حقيق ﺑ «تذويب القلوب»، تبعًا لدرجة المعاناة أو نمطها. صحيحٌ أننا أحيانًا نتكلم عن «الكبرياء المشروعة»، لكن هذه تنهض على صعيدٍ ليس منه ضرر، ولا علاقة له بالعيب أو الخطيئة.
الهوى، كما ينبغي لنا أن نفهمه هنا، هو إيثار العالم على الله، أما الكبرياء فهي إيثار النفس عليه، أو إيثار الشعور بالحسي على «الذات» الكامنة، بالتعبير الميتافيزيقي. أو كما عبر عن ذلك أحد القديسين: الهوى هو الابتعاد عن الله، والكبرياء هي الخروج عليه. بطريق الاستنتاج يمكننا القول إن إيثار العالم — في هيئة شيء ما — على الحق أو الخير هو من الهوى، وإيثار النفس — في هيئة غرور من أي نوع — على الحق أو الخير هو من الكبرياء؛ لأن الحق أو الخير أثرٌ من الله ومرتبطٌ به.
لا يعبر الهوى عن نفسه بالتعلق وحسب، وإنما بطريقةٍ أشد ضررًا وأعني بها عدم الاكتفاء. كذلك الكبرياء لا تعبر عن نفسها بالتطلع وحسب، وإنما تصير على أسوأ ما يكون إذا ما انضم إليها العناد. وهذا يُظهر أن النقيصتين تتداخلان اضطرارًا: الهوى المعاند لا يكون بغير الكبرياء، والكبرياء التي لا ترتوي لا تكون بغير الهوى، ومن لا كبرياء عنده لا هوى عنده، ومن لا هوى عنده لا كبرياء عنده.
قد يتحلى المتكبر بالفضائل كلها، بل ربما لا يخلو من قليل اتضاع، لكنه يدعيها لنفسه وينتزعها، ضلالًا، من الله، وبذلك يجردها من كل قيمةٍ ذاتية ومن كل تأثيرٍ عميق، أي إن الفضائل المنسوبة إلى المتكبر فضائل مجردة من محتواها، أما من يتضع فيعلم أن ما يُنسب إليه من فضائل إنما تُنسب إليه عارية، مثلما يرجع النور، على نحوٍ ما، إلى الماء الذي يعكسه، ولا يغيب عنه أبدًا أنه ليس هو صاحب هذه الفضائل، بمقدار ما ليس الماء هو مصدر النور، وأن أجمل الفضائل ليست بشيءٍ من دون الله. بالمفهوم المعاكس، حتى ولو أردنا أن نفصلها عن الله بغية الاستيلاء عليها، تظل ترجع إلى الله ما ظل لها قيمة.
قد يحدث أن يرغب إنسانٌ، مخلصًا في الاتضاع، وبالتالي في الموضوعية تجاه نفسه، ويحقق بفضله نمطًا من الضَّعة الحقيقية، لكنه في نفس الوقت لا يتحمل الذل ولو كان مستحِقًّا له أو كان ذلًّا ليس منه ضرر، عندئذٍ يكون الاتضاع مشوبًا شوبًا كبيرًا بعنصرٍ من الكبرياء الذي يتجلى أيضًا نوعًا من الميل إلى إذلال الآخرين؛ وهذا لا يكون إلا بالتقليل من شأنهم، وتأويل ما فيهم من ملائمٍ تأويلًا غير ملائم. إن إمكانية شَوْب الاتضاع بالكبرياء يبرهن على أن الكبرياء، كالهوى، يتألف من درجاتٍ. يحسن بنا أن نميز بين نقيصةٍ هي من طبيعة تكوين الإنسان، وبين أخرى لا تكون غير أمر عارض، العارض يُشفَى، أما الجوهري فلا دواء له.
قلنا إن معيار الكبرياء — لعلها الكبرياء العارضة لا الأساسية — هو الميل إلى عدم تحمل الذل وإلى إنزاله بالآخرين. الموقف الصحيح هو ألا نثور على الذل عندما يبين عن الحق، وأن نتقبله عن طيب خاطر عندما لا يستهدف كرامتنا الحقيقية، تلك التي منحنا الله إياها بفعله الخلاق، والتي هي تابعة له. لا شيء يضر بكرامتنا بما «نحن صورة الله» أكثر من الكبرياء؛ لأنه يفصلنا عن الجوهر الإلهي لكرامتنا. نحن نعلم، من وجهة نظر زهدية وعاطفية، ألَّا ذل بغير حق، لكن هذه مسألة منهج لا مسألة عُرف، بمقدار ما يكشف منظورنا عن طبيعة الأشياء ولا يكشف عن تلقائيةٍ مريدة وعاطفية.
من المتكبرين أناس يبدون متواضعين لأنهم يجتنبون بذلك ازدراء الآخرين، بينما هم مغترون بأنفسهم مع ذلك، كما أن منهم، على خلاف من أولئك، من يبدون متواضعين يقللون من شأن أنفسهم بينما هم يقللون من شأن غيرهم. ثم إن من الناس من نظن أنهم متواضعون لأنهم متواضعون ظاهريًّا أمام الله أو أمام المرشد الرُّوحي أو أمام عظيم من عظماء هذا العالم، بينما هم ليسوا كذلك أبدًا أمام أمثالهم، وهو ما يدل دلالةً قاطعة على أنهم ليسوا مخلصين في تواضعهم أمام من هم أكبر منهم، ولا أمام الله.
التعلق والأنانية وعدم الارتواء؛ كل هذه النقائص مناسبة للهوى. التطلع والدعوى والعناد؛ كل هذه نقائص مناسبة للكبرياء. النقيصتان؛ الكبرياء والهوى، تقتسمان، في نهاية المطاف، الخبث والحمق، بصرف النظر عن التضامن غير المباشر فيما بين النقائص جميعها.
يطيب للرأي الشائع أن يقرن — وهو على حقٍّ في ذلك — التكبر بالحمق. في الواقع، يمكن المرءَ أن يكون دعيًّا في حمقه، كما يمكنه أن يكون أحمق في ادعائه؛ فالحمق والادعاء متلازمان. والحق أن نقص العقل لا يُجبر صاحبه على الادعاء، لكن الادعاء لا بد وأن يُلحِق ضررًا بالعقل. ولئن كان الحمق، كما هو مسلَّم بذلك عمومًا، هو العجز عن التمييز بين الجوهري والثانوي، أو بين السبب والنتيجة، فإنه يشكل بذلك جانبًا من التكبر، لكنه عندما يكون مرتبطًا بالاتضاع والزهد لا يظل حمقًا، بل بساطة رُوح لا تزعج عاقلًا ذا فضل.
ما هو قريبٌ جدًّا من الادعاء الاكتفاءُ، لكن هذا سلبي وذاك إيجابي، فصاحب الاكتفاء ليس من يعي، عن حقٍّ وبكل تواضع، قيمة ما يعلم وما يفعل، بل من امتلأ بما في ذاته من قيمةٍ وهمية راح «يسقطها» على ضآلة علمه وتفاهة فعله. ليس الاتضاع نقيض الجاه أبدًا، ولا يمكنه أن يكون كذلك أبدًا ما اتصف الجاه بالإيجابية، وليس الاتضاع هو التواضع، أي إن الجاه ينفي التواضع فيما ينطوي على الضَّعة ويتضمنها. بصرف النظر عن الضَّعة التلقائية والمفرطة — لكن الضرورية والمؤثرة على الصعيد السيكولوجي الذي يتطابق معها — إن الضَّعة هي الشعور بالجوانب المختلفة من ضآلتنا الحقيقية، لا الوهمية، وفي نفس الوقت الشعور بغياب الرغبة في التوكيد الفردي، أما التواضع فهو الشعور، لا بحدِّنا الأُنطولوجي أو بنقصنا البشري، بل هو مجرد شعورنا بعدم كفاءتنا أو بعدم قدرتنا، كلما دعت الحاجة. من جهة، يقترب التواضع من الاتضاع، لكنه يبتعد عنه من جهةٍ أخرى، وهو ما نريد توضيحه عندما نقول إن المتضع يجب أن يكون متواضعًا دومًا، لكن ليس على المتواضع أن يكون متضعًا دائمًا.
على الصعيد البشري، ثمة نوع من علاقةٍ واقعٌ بين الهوى والجمال من جهة، وبين التكبر والذكاء من جهةٍ ثانية؛ أي إن الجمال والذكاء أصبحا عند الإنسان الساقط سيفين ذَوَي حدين، ومن هنا اللعنة التي يصبها الأخلاقيون عليهما، ويصدق الشيء نفسه على المستوى اللاهوتي. في المقابل، الذكاء والجمال مبرآن ومستحسنان كل البراءة والاستحسان لدى الباطنية التي تنظر إلى ذاتية الأشياء لا إلى المناسبة الناقصة؛ فالباطنية تعترف بأن الأشياء التي قد تكون بالنسبة إلى البعض غواية وسببًا للهلاك، قد تكون بالنسبة إلى الآخرين دعوة إلى الله، وهذا هو كل سر اللطافة الميتافيزيقية في الأشياء.
بصرف النظر عن ضعف الطبيعة البشرية، وعن دقائق هذا الضعف، نقول إن الحقيقة التي نحن بصددها بسيطة للغاية، فالذكاء والجمال إيجابيان داخليًّا، لكنهما — خارجيًّا وعمليًّا — ليسا إيجابيين أو خيِّرين إلا على الشرط البيِّن: ألا ينفصلا ذاتيًّا عن الله، ولا يُنظر إليهما موضوعيًّا بمعزلٍ عن الله وفي مضادةٍ مع الله في النهاية. ولقد كانت هذه خطيئة الإغريق في في العصر الكلاسيكي كما كانت خطيئة عصر النهضة، من جهة الازدواجية في كل من الفكر والفن تحديدًا.
في الهوى، يكون لأشياء هذا العالم شيء من المطلق. وفي الكبر، تتخذ الأنيَّة هذا المظهر. ومن الواضح أن هذين العيبين لا يتنافران مع مفهوم الله وحسب، وإنما، ومن باب أولى، مع رياضتي التأمل والتحقق اللتين ترجعان إليه. إن الوثنية والنرجسية، في الطبيعة الساقطة، بالرياضات المنصبَّة على غير المنتهي — من ناحية البطون كما هو من ناحية المباينة — لهو من أشد أنواع النفاق إيلامًا وسُخْفًا.
ينتج عن معظم اعتباراتنا المتقدمة أن وجهة نظرنا ليست وجهة نظر الإرادة الفردية والعاطفية، كذلك لا تلتقي وجهة نظرنا مع مذهب الندامة أو التوبة الذي يرى أن المقيت وحده هو الذي يودي إلى الله، ولا مع مذهب إذلال النفس أو تعذيبها الذي يرى أن على كل إنسانٍ أن يؤمن بأنه أكبر الخَطَأة. عندما نتكلم عن الهوى والتعلق لا نعني بذلك التعلق الطبيعي الذي يستشعره كل إنسانٍ في متعٍ معينة ولا يتعارض أبدًا مع الحس بالنسبية، ولا مع طمأنينة النفس أو الزهادة الكلية؛ إنما نعني بالتعلق ذلك التعلق العاطفي الذي — كما قلنا — يمنح الأشياء النسبية صفة مطلقة على حساب حب الله. وعندما نتكلم عن الكبر والتطلع والدعوى لا نريد بذلك الشعورَ الذي يشعر به الإنسان الموضوعي بقيمته واعتزازه الطبيعي بنفسه أو بكرامته وشرفه، مما لا يتعارض أبدًا مع الشعور بعدمنا الميتافيزيقي ولا مع اتضاعنا الحقيقي للآخرين؛ إنما نريد بذلك حصرًا المبالغة في تقدير النفس التي لا بد وأن يترافق معها انتقاص من الآخرين، مما يجعل من الفناء في الله أمرًا مستحيلًا. الكبر هو «الحرص على الحياة»، هو «رفض الموت قبل الموت».
من الناحية النفسية أو الأخلاقية، نميز بين المتكبرين وغير المتكبرين مهما كانت درجة التكبر عندهم. وفي المستطيقا (التصوف) الإرادية والعاطفية، يقال إن الناس متكبرون جميعًا، وهو قول خطأ؛ لأن الكلمات — في هذه الحالة — لا يبقى لها معنى عمليًّا، لكنه صحيحٌ من ناحيةٍ أخرى من حيث حقيقة الكبر الذي نجده عند كل إنسان، ويمكنه أن ينشط تبعًا للظروف، ولا يكون إلا على درجةٍ ضعيفة. يريد مذهب المستطيقا الإرادية أن يقطع الطريق على كل لطيفةٍ غير مجدية، أما مذهب التفكر الرُّوحي فيتعامل مع الحقيقة لا مع الحماسة، وبالتالي فإن العلاج الذي يصفه ليس تخمينًا مستويًا وناجعًا، بل هو معرفة دقيقة بالشر ومحددة. العارف، بالمعنى الأصلي للكلمة لا بمعناها الانتمائي، لا يسأل: ما هو ألد أعداء الكبر إراديًّا وعاطفيًّا؟ بل يسأل: ما هي طبيعة الأشياء هنا، وبالتالي ما هو الموقف الإيجابي الذي ينبغي أن تتخذه الرُّوح والنفس بغية نفي الكبر والقضاء عليه؟ فموقف الرُّوح أولًا هو التمييز بين المطلق والنسبي، وفي النسبي التمييز بين الجوهري والثانوي، وهو التمييز الذي يفضي إلى التفكر المقدس والموحد بالمطلق والجوهري. وموقف النفس بالتالي، قيامًا بهذا التمييز وهذا الإحساس بالتناسب والتوازن، هو المحو من جهة، والكرم من جهةٍ ثانية، جميع الفضائل الأساسية إنما نجدها متضمنة في هاتين الصفتين.
المحو أمام الله أولًا. ثم، تحقيقًا لهذه الصفة العمودية، المحو أمام العالم، وبالتالي في البعد الأفقي. كل فضيلةٍ وكل مرتبة ننالها إنما تأتي من الله، وما نحن غير صفائح ترجيعية، وصاحب البصيرة والفضل، إذ يعلم أن ليس باستطاعته أبدًا أن يضيف قيمة الشخصية إلى الكمال الإلهي، وهو الكمال الوحيد الموجود، ويدرك — بالتالي — أنه لا شيء أمام الله إلا أن يفتقر إليه، لا يريد كذلك أن يمنح نفسه قيمة أمام الناس، أي لا يتطلع إلى فرض نفسه عليهم أو تقديم نفسه إليهم بما هو عليه، بل يقوم بوظيفته، ويؤدي واجباته، ولعله أن يكون ملِكًا، ولا يسعى إلى إثبات شخصيته الفردية حتى ولو اضطرته وظيفته أن يفرض نفسه بما هو وكيل أو رمز. الملك والحبر يتقابلان على نحوٍ غير شخصي ومتضع لله، التكريم الذي يجب لهما، المتضع لا يجني المتعة ولا يفكر في المغنم من كونه «أنا»، ولا يضمر تحاملًا على «الآخر».
وهذا ينطبق على الكرم أيضًا: يجب بذله لله أولًا، ثم للناس. كلنا يعرف ما الكرم تجاه القريب، لكن ما الكرم تجاه الله؟ هو أن نهب أنفسنا لله في التفكر حتى الفناء — بمقدار ما هو ممكن — في الحياة الإلهية في أعماق قلوبنا.
إن ما يهم الإنسان ويقرر مصيره النهائي هو معرفته وإيمانه، صفاته وأفعاله. وقوام الصفات النبيلة المحو والكرم: المحو أو الفقر، الذي ينطوي على الزهادة والقناعة وعلى الصبر والرضا، والكرم والأريحية، الذي ينطوي على الحمية والمثابرة والثقة والفرح في الله.
الهوى والكبر يشكلان بدهيًّا آفة وعقبة، فإذا اختلطا بالتطلعات الرُّوحية العليا يصبحان من الرجس. قد يقول لنا قائل، نحن نعلم هذه الأشياء فهي بديهية ولا شك فيها. لكن الأشياء التي لم تكن قط مجهولة هي في نفس الوقت الأشياء نفسها التي يبذل الناس أقصى جهدهم في سبيل تعلمها.