تركيا والمماليك
اعتقد المماليك أن الأمور سوف تعود إلى حالها السابق بمجرد خروج الفرنسيين من مصر، وأن الفرص قد سنحت لاسترجاع السلطة التي فقدوها والتمتع بالنفوذ الفعلي والمطلق في إدارة شئون البلاد واستعادة الامتيازات القديمة التي كانت لهم قبل الاحتلال الفرنسي.
ولكن رغبة المماليك في استرجاع نفوذهم وسلطانهم السابق لم تلبث أن اصطدمت برغبة الباب العالي، صاحب السيادة الشرعية على البلاد، الذي كان مُصِرًّا بعِناد على إرجاع مصر — خُمس ممتلكات الدولة العثمانية — كمجرد مقاطعة عادية من مقاطعاتها، وصحَّ عزمه من هذا الوقت المبكر، وبالرغم من اشتراك البكوات في الحرب الدائرة ضد الفرنسيين، على القضاء على كل نفوذ لهم وإقصائهم عن الحكم، بل وإبعادهم عن البلاد كذلك، حتى إن «هتشنسون» سرعان ما صار يشكو إلى الريس أفندي في ١٧–٢٣ يوليو سنة ١٨٠١ من مسلك الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا معهم، الذي لم يَكْتفِ بمنع البكوات من الإقامة بمنازلهم في القاهرة، بل طردهم منها وطرد الست نفيسة المرادية أرملة مراد بك، وذلك بالرغم من تأكيدات الصدر الأعظم ووعودِه القاطعة بإرجاع كل أملاك البكوات إليهم.
ويبدو أن «هتشنسون» قد فطن إلى السبب الحقيقيِّ الذي جعل الباب العالي لا يرضى عن استرجاع البكوات لنفوذهم وسيطرتهم السابقة، فكتب في رسالته إلى الريس أفندي في ٢٣ يوليو: «إنه ينبغي للباب العالي أن يكون لديه من الجُند ما يكفي لاحتلال المراكز الهامة في البلاد، ولن يبقى الباشا المرسل من القسطنطينية سجينًا.» وقد تحدث إلى البكوات المماليك، وجعلهم يشعرون أن إنجلترا تهتم كثيرًا بشأنهم، ولكنها لا تستطيع أن تعترف بهم إلا كرعايا للسلطان، وأنه وعدهم ببذل كل جهوده لتخفيف غضب الحكومة العثمانية عليهم، وأن المماليك عليهم في نظير ذلك أن يزيدوا «الخراج» المرسَل سنويًّا للباب العالي.
ونشطت بعد تسليم الجنرال منو بالإسكندرية في أغسطس سنة ١٨٠١ مساعي الإنجليز في القسطنطينية من أجل إنشاء حكومة منظمة في مصر بعد جلاء الفرنسيين، وكان عندئذٍ أن طلَبَ الريس أفندي (شلبي مصطفى أفندي) في أوائل شهر سبتمبر الاجتماع باللورد إلجين لاقتراح عقد مؤتمر يبحث في الوضع المنتظر للحكومة التي يجري إنشاؤها في مصر، وأشار تلميحًا في حديثه مع إلجين إلى أنه في وسعه الالتجاء إلى روسيا وطلب نجدة جنود من الروس إذا نشأت حالات معينة متعلقة بالأنظمة الواجب اتخاذها مع المماليك، فهدَّد إلجين بقطع محادثاته مع الوزراء العثمانيين في موضوع المؤتمر المقترَح عَقْده، إذا كان هناك أي احتمال لاستخدام جنود أجنبية، أو اللجوء إلى نفوذ أجنبي عند وقوع «حالة» غير منتظرة في مصر، غير الجنود أو النفوذ الذي استُخدِم في إعادة فتح هذه المقاطعة العثمانية، فعدل الباب العالي عن موقفه، وفي ١٤ سبتمبر عقد المؤتمر فأوضح اللورد إلجين مدى ارتباطات الجنرال هتشنسون مع المماليك، وكان جواب الريس أفندي حاسمًا، ومنه يتبين إصرار الباب العالي على حرمان البكوات من كل نفوذ وسيطرة في مصر، بل وإبعادهم عنها.
قال الريس أفندي إن المماليك أجانب عن مصر اغتصبوا فيها السلطة، وتجعلهم مبادئهم وأنظمتهم في نضال مستمر ضد كل حكومة منظمة يُقيمها الباب العالي في مصر، ومع أن العفو العام الذي صدر منذ دخول الجيش العثماني مصر يشمل المماليك كما يشمل سائر السكان؛ فإن واجب الباب العالي أن يتخذ من الضمانات ما يكفلُ إزالةَ الأخطار من ناحيتِهم في المستقبل؛ ولذلك يرى الباب العالي أن يكون للمماليك وضعٌ مناسبٌ يَسمح لهم بالدخول في خدمة السلطان في الوظائف وبنفس المراتب التي لضباطه، ولكن على شريطة ألا يقيم المماليك بالقاهرة؛ حيث إنهم يكونون إذا ظلوا بها مصدرَ أخطار ومبعثَ انزعاج مستمر، أما إذا فُصِلوا عن رؤسائهم ومعاونيهم فسوف لا يكون هناك سببٌ للخوف منهم، وفيما يتعلق بعساكرهم فهؤلاء يدخلون كذلك في خدمة الباب العالي.
وقد عَلَّلَ الريس أفندي السبب في تقدُّمه بهذه العروض، بقوله: إن من المتعذَّر قطعًا إعطاءَ المماليك كل ممتلكاتهم السابقة من غيرِ أن يحفظ لهم ذلك السلطة والسيطرة التامة في البلاد، وعندما ألحَّ «إلجين» في ضرورة بقائهم بمصر واسترجاعهم لممتلكاتهم، تساءل الريس أفندي عما إذا كان «بلاط إنجلترا» عند تدخُّله لتخليص مصر من الفرنسيين كان يعتزم إعادةَ هذه البلاد إلى السلطان أو إعطاءَها للبكوات المماليك.
وهكذا لم يكن لدى اللورد «إلجين» أي أمل في نجاح مساعيه في القسطنطينية لصالح البكوات المماليك على أساس إرجاع السلطة والنفوذ إليهم في مصر، وفي أكتوبر فُوجِئ «إلجين» بأخبار مكيدة القبطان باشا في «أبي قير» والصدر الأعظم في القاهرة للقضاء على المماليك.
فقد كان لدى يوسف ضيا والقبطان حسين باشا تعليمات محددة من الباب العالي لتغيير نظام الحكم القديم في مصر، بإنشاء أربع باشويات تحلُّ محلَّ سلطة البكوات المماليك حتى يتسنى إخضاع هذه البلاد لسلطان الدولة كسائر مقاطعاتها، وطلب الباب العالي إليهما إلقاء القبض على أكبر عدد مستطاع من البكوات، وإرسالهم إلى القسطنطينية على أساس أن يعطيهم الباب العالي من الأملاك هناك ما يعادل إيرادها ما كانوا يعيشون به في مصر، وخُيِّل إليه أن هذا الانقلاب سوف يحدث بسهولةٍ لاعتقاده أن معاهدة التحالف المبرمة بينه وبين الإنجليز (منذ ٥ يناير سنة ١٧٩٩) تجعل هؤلاء الأخيرين يقفون موقف الحياد من مشروعاته.
ولكن الصدر الأعظم والقبطان باشا لم يستطيعا تنفيذ أوامر الباب العالي بشأن المماليك؛ لأن هؤلاء لقوا كل تأييد من جانب القُوَّاد الإنجليز في مصر، كما لم يكن من المنتظر إلى جانب هذا أن يوافِق الأهلون على حدوث الانقلاب المنشود، بسبب سخطهم على العثمانيين الذين اشتطُّوا في معاملتهم عند دخولهم القاهرة، واعتدى جنودهم على الأهلين وآذَوْهم في القاهرة والأقاليم حتى «تمنَّى أكثر الناس على حد قول الجبرتي — وخصوصًا الفلاحين — أحكام الفرنساوية.»
وعلى ذلك فقد عمد الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا — تمهيدًا لإجراء التغيير الحكومي المطلوب — إلى أساليب الغدر والوقيعة بالمماليك، وبذر بذور الشقاق بينهم لتفريق كلمتهم قبل البطش بهم، فأعطى «إمارة الصعيد»؛ أي إقطاعة أقاليم الوجه القبلي، إلى محمد بك الألفي، وكانت هذه الأقاليم «ملكًا» مشاعًا بين البكوات حتى هذا الوقت، ويقتسم «الإمارة» عليها البكوات من بيت مراد، الذين اشتدت المنافسة بينهم وبين البكوات من بيت الألفي دائمًا، وفضلًا عن ذلك، فقد كان البكوات من مرادية أو ألفية متألمين من وقوع الصعيد في قبضة مراد بك وحده، منذ أن عقد معه الجنرال كليبر معاهدة أبريل سنة ١٨٠٠، التي أعطت مراد «إمارة الصعيد» وجعلته يتمتع وحده بإيرادات هذه الأقاليم القبلية، فجاء تعيين الألفي الآن لهذه الإمارة ضغثًا على إبالة، وزاد الانقسام بين البكوات.
وانتهز الصدر الأعظم والقبطان باشا فرصةَ هذا الانقسام الذي أضعف البكوات؛ ليضربا ضربتهما الأخيرة، فدبَّر الصدر الأعظم مكيدته المعروفة في القاهرة في ٢٠ أكتوبر سنة ١٨٠١ (وفي رواية الجبرتي يومَ ١٩ أكتوبر)، بأنْ دعا إليه في منزله البكوات الموجودين بالقاهرة، وألقى القبض على «شيخ البلد» إبراهيم بك، ومرزوق بك، وتسعة من البكوات الآخرين، وأرسل على الفور طاهر باشا إلى الصعيد للقبض على محمد بك الألفي. وكان من المفهوم — كما جاء في تقرير القواد الإنجليز عن هذا الحادث، إلى اللورد إلجين بالقسطنطينية بعد وقوعه بيومين — أن يحذو القبطان باشا حذو الصدر الأعظم بالإسكندرية، ولكن مكيدة القبطان باشا تأخرتْ حتى يوم ٢٢ أكتوبر، وقد دعا القبطان باشا جماعة البكوات هناك لمقابلته، حتى يُبلغهم أمر الباب العالي بإلحاقهم بخدمة السلطان بالقسطنطينية، وضرورة ترحيل مَن لا يرضى منهم بهذه العروض عن مصر إلى أية جهةٍ يشاؤها.
وكان في أثناء نقل البكوات إلى إحدى سفن عمارته أنْ حدث الفتك بجماعة منهم؛ فقُتِل عثمان بك الطنبورجي (المرادي)، وعثمان بك الأشقر، ومراد بك الصغير، وإبراهيم كتخدا السناري، وصالح أغا، ومحمد بك، كما جُرِح كثيرون، واقتيد الجرحى إلى سفينة القبطان باشا؛ حيث أُرغِموا على القَسَم على ألَّا يذهبوا إلى الأجنبي، وحلف يمين الولاء للسلطان العثماني، وكان من بين هؤلاء عثمان البرديسي، واستعدَّ القبطان باشا لإرسالهم إلى القسطنطينية.
غير أنه ما ذاعتْ أخبار هاتين المكيدتين حتى أسرع القُوَّاد الإنجليز؛ هتشنسون في القاهرة والجنرال ستيوارت في الإسكندرية، بالتدخُّل لدى الصدر الأعظم والقبطان باشا لإطلاق سراح البكوات الأسرى، واحتجَّا احتجاجًا شديدًا على هذه المؤامرة، فأطلق سراح البكوات.
وفي ٢٣ أكتوبر أبلغ القبطان باشا الديوانَ العثماني ما حدث، فقال إنه وصلت تعليمات الباب العالي المتضمنة الصفح عن جرائم البكوات السابقة، بسبب إلحاح هتشنسون في حمايتهم وعدم إيذائهم — ولو أن هؤلاء يستحقون العقابَ فعلًا — ولذلك فقد قرَّر الباب العالي لهم معاشات سنوية من ١٢، ٢٤، ٢٣ كيسًا للبكوات، وستة أكياس للكشاف مع إبعادهم في الوقت نفسه من الديار المصرية، كما تقرَّر إعطاءُ مَن يرغب منهم خدمةَ الباب العالي وظائفَ معينة، وأما الذين يرفضون هذا الترتيب فعليهم أن يذهبوا إلى أيِّ مكان آخرَ يختارونه.
ويستطرد القبطانُ باشا فيقول إنه وصَلَه من الصدر الأعظم ما يُفيد أن جواب السفير الإنجليزي «إلجين» في المؤتمر الذي عُقِد في القسطنطينية لبحث موضوع المماليك (١٤ سبتمبر)؛ قطع بأنه لم يكن لدى السفير أية تعليمات من حكومته بشأن وضع البكوات تحت حماية دولته المباشرة، كما أكَّد السفير أنه لا يجول في خاطر «بلاط إنجلترا» بتاتًا التدخل في شئون الدولة الداخلية، وتعهَّدَ بإقناع هتشنسون بذلك، على أن الصدر الأعظم أبلغه كذلك أنه بينما كان يبحث حلًّا لإنهاء مسألة البكوات، اتضح أن هؤلاء يبذلون قصارى جهدهم لاستمالة الجنود الأرنئود (الألبانيين) إليهم، الأمر الذي دلَّ على أنه لو تأجَّل موضوع المماليك أكثر من اللازم، استطاع البكوات تقويةَ أنفسهم بدرجةٍ تمكِّنهم من إعلان عصيانهم.
فرأى الصدر الأعظم إحباطًا لخطتهم أن يُلقِي القبض على شيخ البلد إبراهيم بك وغيره من البكوات الذين كانوا معه، وحدَّد لذلك يوم الثلاثاء ١٢ جمادى الآخرة ١٢١٦، الموافق ٢٠ أكتوبر سنة ١٨٠١، وطلب من القبطان باشا إرسال البكوات الموجودين لديه بالإسكندرية إلى سفن الأسطول العثماني؛ وبناءً على ذلك فقد نقل القبطان باشا هؤلاء في سفن إلى الأسطول يوم ١٤ جمادى الآخرة/٢٢ أكتوبر، وكانوا خمسة بكوات؛ حامي إبراهيم بك، وكخيا (أو كتخدا، والمعنى واحد)، ومراد بك المنوفي، وثلاثة من الكشاف، ثم آخرين.
وفي القسطنطينية استمر اللورد «إلجين» يتوسط لدى الباب العالي في صالح المماليك بمناسبة الحديث مع الديوان العثماني عن مقدمات الصلح المبرَمة في لندن مع فرنسا في أول أكتوبر سنة ١٨٠١، وهي التي تلاها عقد صلح أميان في مارس من العام الثاني، الذي نصَّ في مادته الثامنة على تأييد حقوق الباب العالي وسلطانه الكامل على أملاكه بتمامها، وكما كانت قبل الحرب، عظم اهتمام الإنجليز مدة وقت «مقدمات الصلح» بمسألة إنشاء الحكومة المستقرة في مصر، والتي كانوا يرون تعذُّر إنشائها دون استرجاع البكوات المماليك لسيطرتهم السابقة.
وقد استمر القواد الإنجليز في مصر يؤيدون البكوات ويُناصرونهم، حتى إن السلطان سليم الثالث ما لبث أنْ بعث بكتابٍ شخصيٍّ إلى ملك إنجلترا جورج الثالث في ٢٣ نوفمبر سنة ١٨٠١، يرجوه باسم الصداقة والمحالفة التي بينهما أن يأمر قواده وسائر ضباطه بمصر بأن يَكُفُّوا عن إعطاء حمايتهم للبكوات وعن إصرارهم على تمكينهم من مصر، ويكفي أن نالَ معظمُهم الصفحَ والعفو عن جرائمهم وعصيانهم، وأن تُرتَّب لهم الوظائف ويُعطَوْا المعاشات عند دخولهم في خدمة السلطان، وقال سليم: «إن خروج البكوات من مصر بالشكل المعروض الآن يكون مبعثَ ارتياح له، كما كان خروجُ الفرنسيين وتخليص مصر من قبضتهم مصدرَ الارتياح الكامل الذي شعر به.»
ونفى اللورد كافان في جوابه على رسالة الريس أفندي في ٢٨ يناير، أنه يسمح أو يناصر بأية صورة من الصور البكواتِ أو غيرَهم على سلوك مسلك مناوئ لسلطة «سلطانهم الشرعي، إمبراطور الأتراك، وحليف ملك بريطانيا القديم والمخلص له»، ولكنه من جهة أخرى اعتذر عن عدم إمكانه إصدار التصريح المطلوب، بدعوى أن إصداره بالشكل المقترح إنما يعني التدخل من جانبه في شئون مصر الداخلية، الأمر الذي يخالف ما لديه من تعليمات من جانب حكومته.
ومع ذلك فقد دلَّت الحوادث التالية على أن استمر السفير الإنجليزي بالقسطنطينية والقواد الإنجليز في مصر، ثم الوكلاء الإنجليز بعد انسحاب القوات البريطانية؛ يبذلون قصارى جهدهم لمناصرة البكوات المماليك لأسبابٍ أشرنا إليها وسوف يأتي ذكرها مفصلًا في حينه، بينما استمر الباب العالي من جهته مُصِرًّا على موقفه منهم.
ولكن كان في مصر بسبب الخطة التي اتبعها ممثلو الباب العالي معهم، وبسبب مسلك البكوات أنفسهم واختلافاتهم وانقساماتهم أنْ تقرَّر مصيرهم في النهاية، وكان من الواضح أن رغبة الباب العالي في التخلُّص من المماليك وتحطيم كل قوة لهم، ثم تدبير المؤامرات التي شهدناها للإيقاع بهم، قد قضى على كل أمل في حدوث أي تفاهُم بين العثمانيين والمماليك، بل إن مكائد الصدر الأعظم والقبطان باشا في شهر أكتوبر سنة ١٨٠١، كانت بمثابة إشارة لقيام الحرب الأهلية في البلاد وبداية عهد من الفوضى السياسية جعل من المتعذَّر إنشاء الحكومة الموطدة القوية التي تستطيع — في نظر الإنجليز خصوصًا — حمايةَ مصر من الاعتداء الخارجي إذا تجدَّد، ومنعَ الغزو الأجنبي عنها، بل وأفسحت هذه الفوضى السياسية ذاتها المجال لتدخُّل كلٍّ من الدولتين المتنافستين إنجلترا وفرنسا في شئون مصر لخدمة مآربهما الخاصة.
ولاية خسرو
ورفضوا في هذه الظروف الاستجابةَ لرغبات الباب العالي، وصمَّموا على المقاومة، ووجد خسرو نفسه مضطرًّا إلى الالتحام معهم، واللجوء إلى المخادعة لإضعافهم ببذر بذور التفرقة بينهم وتحطيم جيشهم.
وبدأ خسرو من أجل توطيد حكومته بتأليف حرس خاص من النوبيين ومن الرقيق الأسود اشتراهم من الجلابة (تجار الرقيق) وعهد بتعليمهم وتدريبهم إلى طائفة من الفرنسيين الذين آثروا البقاءَ بالبلاد بعد خروج جيش الشرق منها، ثم وجد أنْ لا سبيلَ إلى مطارَدة المماليك إلا باعتماده على الجند الأرنئود (الألبانيين) بقيادة طاهر باشا ومحمد علي، وكان الأول قد بعث به الصدر الأعظم وقتَ مكيدته المعروفة لقتال البكوات بالصعيد وتعقُّب الألفي.
ولما كان البكوات منقسمين على أنفسهم، وتشتدُّ المنافسة — على وجه الخصوص — بين محمد الألفي وبين عثمان البرديسي؛ فقد استطاع خسرو أن يستميل للتفاهُم معه عثمان بك حسن، وكان هذا رجلًا مسالمًا ظل بمنأًى عن مُشاحنات البكوات ومنافساتهم، واستند خسرو في مفاتحة عثمان بك حسن في موضوع التفاهُم والاتفاق معه على كتابٍ بعث به إليه قائمقام الصدارة العظمى بالآستانة سيد عبد الله باشا في ٣٠ يوليو سنة ١٨٠٢، يبلغه فيه رسميًّا قرارَ الباب العالي بشأن المماليك بعد أن صفح عنهم بسبب وساطة حلفائه وأصدقائه الإنجليز، وهو يطلب من البكوات الخروجَ من مصر والانسحابَ إلى أي مكان يختارونه من بين رودس وكريت وسالونيك وأزمير والقسطنطينية، وأن ينالوا من المرتبات ضِعفَ ما اقترحه لهم الصدرُ الأعظم سابقًا، وقد طلب عبد الله باشا من خسرو أن يُعلن للمماليك عفو الباب العالي عنهم إذا قرَّروا قبولَ هذه الشروط، وأن يهيئ لهم أسبابَ الانتقال من مصر مع قبول مَن يعثر عليه منهم بعد انسحاب البكوات كجند في جيش الدولة.
وكان غرض خسرو من استمالة عثمان بك حسن إغراء البكوات زملائه الآخرين على الحضور إلى القاهرة لإرسالهم إلى القسطنطينية أو إلى أي مكان آخر يريدونه حسب التعليمات المرسَلة إليه من الباب العالي، وأفلح مسعى خسرو مع عثمان بك حسن، فحضر إلى القاهرة مع صالح بك الكبير (أو العجوز) وصالح بك الصغير في أواخر يوليو سنة ١٨٠٢، ومعهم حوالي الثلاثمائة مملوك، وصرَّحوا لخسروا بأنهم تركوا البكوات الآخرين؛ لأنه لا يجوز في نظرهم مخالَفة أوامر السلطان، ولاعتقادهم بأن إخوانهم عاجِزون عن مقاومة حكومة السلطان العثماني في مصر.
واعتزم خسرو أن يتخذ من عثمان بك حسن تُكَأةً في تدابيره مع سائر البكوات، فأكرمه إكرامًا كبيرًا على أمل أنْ تغري هذه المعامَلةُ البكوات الآخرين على الاقتداء به والمجيء إلى القاهرة.
ولكن خسرو — الذي عزا إليه مُعاصِروه الجهلَ بفنون الحرب والسياسة وشئون الحكم والإدارة — لم يلبث أن ارتكب في معاملته مع المماليك خطأَيْن ظاهرين؛ وذلك أن بكوات الصعيد الذين استمر يطاردهم طاهر باشا بعثوا إلى القاهرة يطلبون هدنةً لمدة خمسة شهور، فاتخذ خسرو من هذا الطلب دليلًا على أنهم وصلوا إلى درجة من الضَّعْف والبؤس جعلتْهم يقبلون التسليمَ والخضوعَ لحكومته، فطلب إليهم بدوره أن يحضروا إلى القاهرة حتى يعيشوا بها كرعايا للسلطان العثماني، خاضعين لسيادته إذا شاءوا أن يعيشوا في أمن وسلام كما فعل عثمان بك حسن، وأبلغهم أنه لَمَّا كان البابُ العالي قد أصدر صفحه وعفوه عنهم، ففي وسعهم إذا قبلوا عروضه عليهم أن يعتمدوا على حماية الباب العالي لهم.
وكان خطأ خسرو الظاهر أنه استثنى من هذا العفو الذي وعد به، ومن هذه الحماية التي ذكرها، رؤساءَ البكوات وكبارَهم: عثمان البرديسي، ومحمد الألفي، وإبراهيم بك (الكبير)، وسليم بك أبو دياب؛ الأمر الذي قرَّب بين البكوات ثانية، فجمعوا كلمتهم ونبذوا عروضه وأوقعوا بجيشه هزيمةً كبيرة في أوائل سبتمبر سنة ١٨٠٢، في «ألهوه-أولهو» بإقليم بني سويف، ومكَّنهم هذا النصر من النزول إلى الوجه البحري ينهبون ويسلبون ويفرضون على القرى الغرامات والإتاوات الفادحة.
وأخطأ خسرو مرةً ثانية عندما استمر في استعداداته العسكرية للانتقام من هذه الهزيمة، في الوقت الذي اعتزم فيه مفاتحة البكوات في الصلح والاتفاق معهم، فعرض عليهم بواسطة عثمان بك حسن، دون أن يأمر بوقف القتال، إقطاعَهم الأراضي الممتدة من إسنا إلى آخر الحدود المصرية، ولما كان هؤلاء قد ساورتهم الشكوك في نواياه، ولم تشتمل عروض خسرو على إقليم جرجا الذي كان قد اقترح الوسطاء الإنجليز على الباب العالي إعطاءَه لهم، فقد صمَّموا على ضمِّ هذا الإقليم بأسره إليهم، ورفض خسرو وصمَّم بدوره مناجَزتهم.
وكان خسرو في أثناء مفاوضته مع البكوات قد سيَّرَ جيشين إلى الوجه البحري؛ أحدهما بقيادة يوسف بك من أعوانه ومعه طاهر باشا، والآخَر بقيادة محمد علي؛ وذلك للإطباق على دمنهور، المكان الذي اجتمعت به — منذ نزولها من الصعيد — قواتُ المماليك بقيادة البرديسي والألفي، وقصد خسرو من إرسال جيشَيْه تعزيزَ مفاوضاته، فلما فشلت هذه المفاوضات ظهر جيش يوسف بك أمام دمنهور، وكان جيشًا كبيرًا أزعج الإنجليز أصدقاء البكوات، وكانوا — كما قدَّمنا — لا يزالون مرابِطِين بالإسكندرية، فنصحوا للألفي أقربِ أصدقائهم بضرورة تجنُّب الالتحام مع الأتراك؛ توقيًا للهزيمة التي توقَّعوها، ولكن الألفي عجَزَ عن إقناع زملائه، وانقسم البكوات مرةً أخرى؛ فغادَرَ الألفي دمنهور بأتباعه متجهًا صوب الإسكندرية، وترك البرديسي لقتال العثمانيين.
واعتمد يوسف بك على اشتراك جيش محمد علي معه في المعركة المنتظرة، ولكن محمد علي لم يَجِدَّ في سيره، وآثَرَ عند وصوله أنْ ينالَ جندُه قسطًا من الراحة، فخاضَ يوسف بك المعركةَ وحده في ٢٣ نوفمبر سنة ١٨٠٢، ودار القتال في سهلٍ منبسط بالقرب من دمنهور، مكَّن المماليك من استخدام فرسانهم بصورةٍ ألحقت بجيش يوسف بك هزيمةً كبيرة، ونجا يوسف بك نفسه من الهلاك بمشقَّة عظيمة، ثم صار يشكو شكوى مُرَّة من إبطاء محمد علي وتقاعُسه وعدم الدخول بقواته في المعركة.
وفي رأي كثيرين من المعاصرين أن معركة دمنهور تحدِّد بداية ذلك التطوُّر الذي أخذ يَحدث تدريجيًّا في تفكير محمد علي، وبداية تعيين موقفه من مجريات الأمور في مصر؛ إذ من الثابت أنه لو اشترك في معركة دمنهور لَكانت النتيجة على خلاف ما حدث، ولكنه تعمَّدَ عدم الدخول في هذه المعركة لإنقاذ البكوات من هزيمة محقَّقة، وذلك لأسباب عدة: فقد لاحَظَ محمد علي أن الأمور صارت تجري في مصر منذ عودة العثمانيين إليها، كما لو كانت مصر «بلدًا مفتوحًا»، تخضع لنهب وطغيان عصابات من اللصوص وقُطَّاع الطرق الذين لا هَمَّ لهم سوى استنزاف مواردها والاستبداد بالسلطة فيها؛ لتنفيذ مآربهم حتى أضحت الأطماع والمصلحة الذاتية وحدها هي المتسلِّطة وسط هذه الفوضى الشاملة.
ورسَخَ في ذهن محمد علي أن الباشا العثماني خسرو محمد رجلٌ محكومٌ عليه بالفشل سلفًا؛ لأنه لن يستطيع جمْعَ زِمام الأمور في يده بسبب ما هو واقعٌ فعلًا من تنازُع على السلطة بينه وبين المماليك من جهة، ثم بينه وبين رؤساء الجند من جهةٍ أخرى، ويعتمد هؤلاء الأخيرون على ما لديهم من قوات يعجز خسرو عن إخضاعها له بسبب مطالَبة الجند المستمرة بمرتباتهم المتأخرة، وخلوِّ خزانة الباشا من المال اللازم لدفعها، وفضلًا عن ذلك فقد رأى محمد علي أن البكوات مستأثرون بإيرادات البلاد بسبب خضوع القسم الأكبر من الأقاليم المصرية لسلطانهم، ولهم فوق ذلك من الإرادة والعزم — كعنصرٍ شهدَ بنفسه نشاطَه — ما يضمن تفوُّقهم على الباشا العثماني؛ وعلى ذلك، فقد كان من رأي محمد علي قبل المساعدة على تحطيم البكوات أن يتم أولًا تقرير المسألة في القاهرة ذاتها مَوئل السلطة العثمانية التي يمثِّلها خسرو باشا؛ أي تحرير خسرو من العوامل المتعددة الضاغطة عليه والتي حكم محمد علي سلفًا بأنها قاضية عليه لا محالة.
ولم يَفُتْ على خسرو مغزى امتناع محمد علي عن الاشتراك في معركة دمنهور، وكان مما زاد في حنقه عليه أنه اعتبر «محمد علي» مدينًا له بكل شيء، فأضمر له العداوةَ والكراهية في ذلك الوقت، بل وحاول البطش به عند عودته بعد ذلك من دمنهور، فطلب حضوره في «المساء» إلى القلعة، ولكن «محمد علي» أجابه بأنه يحضر في «وضح النهار» ومعه جنده.
وأما المماليك فإنهم لم يستفيدوا من النصر الذي أحرزوه لعدم زحفهم على القاهرة مباشَرةً، فآثر البرديسي وزملاؤه أن يجعلوا مركز عملياتهم العسكرية قريبًا من الإسكندرية ومن أصدقائهم الإنجليز، ولم يحاولوا الانضمام إلى بكوات الصعيد لتعزيز قوات هؤلاء بهم في وقتٍ كان للأتراك فيه بالصعيد ثلاثةُ مراكز رئيسية: في المنيا وأسيوط وجرجا، ولكن الإنجليز ما لبثوا أن أخلَوْا الإسكندرية وغادرها أسطولُهم في ١٦ مارس سنة ١٨٠٣، وتسلَّمَ أحمد خورشيد باشا حكومتها في اليوم التالي، وكان قد عيَّنه خسرو في هذا المنصب، فأنهى جلاء الإنجليز تردُّدَ البكوات فانسحبوا من دمنهور إلى الصعيد، وكان أول أثر لانسحابهم سقوط «المنيا» التي هاجمها البرديسي مع إبراهيم بك.
وكان للمنيا أهميةٌ «استراتيجية» كبيرة؛ لوقوعها على مسافة أربعين فرسخًا من حدود الصعيد السفلى، ولتحكُّمها — إذا وُجِدت بها حامية قوية — على الملاحة في النهر الأعلى بسبب ضِيق مجرى النهر أمامها؛ الأمر الذي يترتب عليه عند استيلاء العدو عليها قطع المواصلات النهرية بين الصعيد وسائر الأقاليم الوسطى والبحرية وتقسيم البلاد إلى شطرَيْن، كما يؤدي سقوطها إلى سقوط أسيوط وجرجا، وعلى ذلك فقد جمع البكوات قواتهم في أبريل سنة ١٨٠٣، وهاجموا المنيا هجومًا عنيفًا لم تقْوَ على دفعه بسبب ضَعْف تحصيناتها فسقطت في يد البرديسي، وبلغ الخبر القاهرة في ١٧ أبريل ففزع القاهريون فزعًا كبيرًا؛ لأنهم باتوا يتوقَّعون الآن عدم مجيء المؤن من الصعيد، وهي التي تعتمد عليها القاهرة في تموينها، وخاف الناس من انتشار المجاعة، وخاف خسرو من سقوط أسيوط وجرجا تبعًا لتسليم المنيا فاستدعى جُند طاهر باشا ومحمد علي من إقليم البحيرة إلى القاهرة.
وأخطأ خسرو عندما فرَّقَ بين جند طاهر باشا وجند محمد علي، وهم المشتبه في أمرهم، فأجاز للأولين أن يدخلوا العاصمة، بينما أبقى «محمد علي» وجنده خارجها معسكِرين بالجيزة، وكان وجه الخطأ في هذا التمييز بين الفريقين في المعاملة، مع أنه لم يكن قد بَدَا من جانب طاهر باشا ما يدل على أنه مخلصٌ حقًّا لخسرو باشا.
ثم أخطأ مرةً ثانية عندما أراد إرجاع الجند الأرنئود إلى أوطانهم من غير أن يدفع لهم مرتباتهم المتأخرة، فقال «مسيت» في رسالته إلى حكومته بتاريخ ٤ مايو: «إن سلوك الأرنئود المنطوي على الجُبن، كما ظهر في التحاماتهم مع المماليك عدا ما يتكلَّفونه من نفقات طائلة، جعل الباب العالي يأمر من مدة بإخراجهم من مصر، وعندما وصل فرمان الباب العالي بذلك كان قد صار للأرنئود متأخرات كثيرة، فحصَّلتِ «الحكومةُ» إتاواتٍ عظيمةً من أهل البلاد لدفعها، ولكنه ما وُضِعت هذه المبالغ في خزينتها حتى طمع ضباط الباشا فيها ونصحوه بطرد الألبانيين (الأرنئود) دون دفع مرتباتهم، فجمع خسرو باشا قواتٍ كافيةً حوله ثم استدعى إليه طاهر باشا زعيم الأرنئود ليُبلِغَهم الأمرَ بإخلاء القاهرة حالًا، وإلا أطلق الباشا عليهم النارَ إذا عصَوْا أمره، فكان طاهر باشا الذي آثَرَه خسرو على محمد علي هو الذي تزعَّمَ حركةَ تمرُّد الجند وعصيانهم، فقد ثار هؤلاء في ٢٣ أبريل يطالبون بمرتباتهم المتأخرة.»
ولزم محمد علي جانب الحيطة والحذر في أثناء هذه الحوادث، فترك طاهر باشا يتهور في إعلان عصيانه على ممثل الباب العالي الشرعي في مصر، وقد كان من صالح محمد علي أن يرقب ما يترتب على ذلك من آثار في القسطنطينية، وملاحظة وَقْع هذا «الانقلاب» على الدول ذات المصلحة في استقرار الأمور في البلاد، ثم موقف البكوات المماليك ومراقبة مسلك الإنكشارية؛ وهم طوائفُ الأجناد الأخرى الذين لم يشتركوا في هذا الحادث.
وقد دلَّ فرارُ خسرو من القاهرة على أن العثمانيين عاجزون عن إنشاء تلك الحكومة القوية التي في وسعها صوْنُ البلادِ من أي غزو أجنبي جديد قد يقع عليها، كما دلَّ عصيان الجند وتمرُّدهم، على أن هذه القوات الألبانية (عماد الجيش العثماني في مصر) لا يمكن الاعتماد عليها في الدفاع عن مصر، وعزَّز عصيانَهم هذا رأيُ القوَّاد الإنجليز فيهم من أيام القتال ضد الفرنسيين لإخراجهم من هذه البلاد، لا سيما بعد أن دلَّتْ هزيمتهم في دمنهور والمنيا على أن المماليك وبكواتهم هم القوة العسكرية المفضَّلة التي في وسعها ردُّ الغزو الأجنبي، على نحوِ ما اعتقد القوَّاد والوكلاء الإنجليز خصوصًا، فأقبلوا الآن أكثر من ذي قبل على مناصرتهم، وانصرف الوكلاء الفرنسيون بدورهم إلى تعطيل مساعي خصومهم الإنجليز ومحاولة إنشاء الصلات الوثيقة مع البكوات؛ حتى يستطيعوا كذلك تأييدَ المصالح الفرنسية عن طريقهم، فصارت البلاد مسرحًا للصراع بين السياستين: الإنجليزية والفرنسية من أجل الظفر بالنفوذ الأعلى فيها، وكان هذا الصراع من أسباب زيادة حدة الفوضى السياسية في مصر في السنوات التالية.