فرنسا وسياستها «السلبية» في مصر
بدأت المفاوضات بين إنجلترا وفرنسا من أجل الاتفاق على إخلاء الفرنسيين لمصر منذ أن ذاعتْ وتأكَّدت أخبارُ انتصار الإنجليز في موقعة كانوب، فعُقِدت مقدماتُ الصلح في لندن في أول أكتوبر سنة ١٨٠١ بين الدولتين، على أساس إرجاع مصر إلى تركيا والاحتفاظ بممتلكات العثمانيين للباب العالي بتمامها، وكما كانت قبل الحرب الراهنة. ونجح تاليران وزيرُ الخارجية الفرنسية في عَقْد مقدمات الصلح بين دولته وتركيا مع السيد علي أفندي السفير العثماني في باريس في ٩ أكتوبر من العام نفسه، على أساس إخلاء الفرنسيين لمصر وإرجاعها لتركيا. ولمَّا كانت فرنسا تريد استعادةَ ما كان لها من سطوة قديمة في حوض البحر الأبيض وأساكل الليفانت، فقد نصَّتِ المادة الرابعة من هذه المقدمات على أن يُمنَع الإنجليز من إطالةِ بقائهم في مصر، فتبطل بفضل ذلك مساعيهم بها مع البكوات المماليك، وهي المساعي التي خشي بونابرت أن يفيد الإنجليز منها تعزيز نفوذهم بها وإلحاق الأذى بالمصالح الفرنسية، بل إن القنصل الأول في هذه الفترة التي سبقت عقد الصلح العام في أميان في ٢٧ مارس سنة ١٨٠٢، كان يرى ضرورةَ طرد البكوات من مصر كلية، وإتاحة الفرصة للباب العالي لإقامة حكومة «عثمانية» قوية في مصر، عقَدَ بونابرت آمالًا كبيرة على رعايتها للمصالح الفرنسية، إذا استطاع أن يكسب ودَّ وصداقةَ الباب العالي بعد عودة السلام بين فرنسا وتركيا.
ولذلك فقد قوي أمل القنصل الأول بعد إبرام الصلح في إمكان إنشاء العلاقات التجارية والسياسية الوثيقة مع مصر، واقتضت سياسته إلى جانب ذلك حمل الإنجليز على تعجيل جلائهم عن مصر وعن سائر المواقع التي يحتلُّونها في البحر الأبيض المتوسط، واتجهت سياسته منذ مارس سنة ١٨٠٢ نحو تنفيذ معاهدة الصلح دون إبطاء.
ولما كان المماليك بزعامة مراد بك قد أبرموا الاتفاقات مع القواد الفرنسيين وتعاهدوا معهم أيام الحملة الفرنسية، وذلك قبل انضمام البكوات إلى جانب العثمانيين والإنجليز في القتال الذي دار من أجل طرد جيش الشرق من مصر نهائيًّا؛ فقد اعتقد بونابرت أن في وسعه أن يستأنف بسهولة علاقاته مع المماليك، وأن يعتمد عليهم في تأييد النفوذ الفرنسي وخدمة المصالح التجارية الفرنسية، فلم يَعُدْ من أهدافه الآن طرْدُ البكوات من مصر، بل صار يتوسَّط لدى الباب العالي من أجل الوصول إلى تفاهُم بينه وبينهم يكفُل للبكوات ليس البقاء في مصر فحسب، بل واسترجاع نفوذهم وسلطتهم السابقة في الحكومة.
وقد زاد من اهتمامه بهذه المسألة أنه كان يتوقَّع قيامَ الحرب بينه وبين إنجلترا سريعًا، فصار يرقُبُ باهتمامٍ زائد نشاطَ الإنجليز خوفًا من أن يُنزِل هؤلاء حملةً إنجليزية في مصر، كما فعل الفرنسيون أنفسهم من قبلُ وبخاصة عندما كان صلح «أميان» هدنة مسلمة في الحقيقة، ومن المتوقَّع استئناف الحرب بين إنجلترا وفرنسا في أية لحظة، ثم عظم اهتمام القنصل الأول بمصر عندما قامت الحرب فعلًا في مايو سنة ١٨٠٣.
غير أن نشاط بونابرت فيما يتعلق بمصر ظل — بعد صلح إميان — سلبيًّا في جوهره ولا يعدو إظهار عنايته بدقائق الموقف في مصر، ثم بذل الوعود الطيبة للبكوات وإبداء استعداده لنجدتهم وتمكينهم من استرجاع سلطتِهم المفقودة في البلاد، ولكن دون أن «يتورَّط» معهم في أي عمل إيجابي سوف يكون موجَّهًا في هذه الحالة ولا شك ضد الباب العالي، الذي حرص بونابرت كلَّ الحرص بسبب اشتعال الحرب على منعه من الانضمام إلى صفوف أعدائه، فاكتفى بالتوسُّط من أجل تسوية الخلافات بين الباب العالي وبين المماليك، ثم استمرَّ يبذل الوعودَ الطيبة فحسب لطائفة البكوات الذين انحازوا برياسة عثمان البرديسي إلى جانب فرنسا بعد حضور ممثِّليها ومندوبيها إلى مصر، وانحصر اهتمامُه في تبصير الباب العالي بجسامة الأخطار التي يتعرَّض لها سلطانُه في مصر بسبب نشاط الإنجليز الذين أفلحوا في كسب جماعةِ المماليك الأخرى التي يتزعَّمها محمد الألفي.
ولم يعرض بونابرت على الباب العالي حُلولًا إيجابية أو عملية لإزالة هذه الأخطار، وكان طبيعيًّا أن تظلَّ السياسةُ الفرنسية في مصر سياسةً سلبية؛ لأنه تعذَّر في الحقيقة على بونابرت أن يرتبط مع البكوات أو يشترك معهم في أي عمل قد يدل — ولو من بعيد — على أن فرنسا تعتزم معارَضةَ مصالح الباب العالي في مصر، في الوقت الذي حرص فيه بونابرت — وقبل أي اعتبار آخر — على الحيلولة دون انضمام تركيا إلى أعدائه.
وتفسِّر هذه السلبيةُ نشاطَ الدبلوماسية الفرنسية في القاهرة والقسطنطينية في فترة الفوضى السياسية في مصر.
ويتضح من التعليمات التي أعطاها القنصل الأول لهؤلاء جميعًا اهتمامه بتعجيل جلاء القوات الإنجليزية عن مصر، والإبقاء على الصلات التجارية والسياسية بين فرنسا ومصر، واستمالة البكوات المماليك لمناصرة المصالح الفرنسية دون أن يتسبَّب عن ذلك إغضاب الباب العالي، فطلب بونابرت من الجنرال برون (تعليمات ١٨ أكتوبر ١٨٠٢) أن يبعث إليه بكل ما يستطيع جمعه من معلومات عن مجريات الأمور في مصر يومًا بيوم مع العناية — على وجه الخصوص — ببيان العوامل التي يعتبرها السفير الفرنسي معوِّقة لإقامة السيطرة العثمانية في مصر، ثم طلب إليه الوقوف على وجهة نظر البريطانيين بشأن انسحاب قواتهم من مصر وإخلاء البلاد، وبيان مدى ما للإنجليز من علاقات مع البكوات المماليك، مع إظهار ما قد يعتمدون عليه من وسائل للاحتفاظ بمراكزهم في مصر إذا أرادوا البقاء بها بدلًا من الجلاء عنها.
وفي التقرير الذي صدر لتاليران في ٢٩ أغسطس ١٨٠٢ بصدد بعثة سباستياني، طلب إليه القنصل الأول تزويدَ سباستياني بخطاب إلى باشا القاهرة يخطره بوصول قومسيير (أو مندوب) للعلاقات التجارية إلى الإسكندرية والقاهرة قريبًا، كما طلب بونابرت من وزير خارجيته أن يسبق ذلك إيفاد أحد الضباط إلى مصر لمعرفة ما إذا كان الإنجليز قد أخلوا البلاد وفقًا لمعاهدة أميان، وأن الهدوء مستتب ولا يوجد ما يمنع ذهابَ القومسيير التجاري لملء منصبه في مصر.
ورأى بونابرت أن يحمل سباستياني معه كتابًا من السفير العثماني إلى باشا القاهرة يوضِّح له فيه الغرضَ الأعظم أهميةً من رحلته؛ وهو ملاحظةُ ما إذا كان الإنجليز قد أخلوا الإسكندرية أو لا يزالون في احتلالها، وطلب القنصل الأول أن تصحب الفرقاطة التي تحمل سباستياني إلى الإسكندرية مركب بريد حتى يتسنى له إبلاغ حكومته كافةَ المعلومات الخاصة بمركز الإنجليز، وكل ما يهم الحكومة الفرنسية معرفته عن حالة مصر.
وفي التعليمات التي صدرت لسباستياني نفسه في ٥ سبتمبر سنة ١٨٠٢ طلب إليه بونابرت بمجرد وصوله إلى الإسكندرية أن يدوِّن مذكرات وافية عما قد يجده في مينائها من سفن الحرب، وعن قوات الإنجليز بهذا الثغر، وكذلك قوات الأتراك وحال التحصينات، وأن يسجِّل تاريخَ كل ما وقع من حوادث منذ خروج الفرنسيين من الإسكندرية ومن مصر، وأن يجمع معلوماتٍ مفصلة عن حالة البلاد الراهنة، وأن يجتمع بالشيخ المسيري (وهو من أنصار الفرنسيين المعروفين، ومن كبار رؤساء الإسكندرية وأصحاب النفوذ بها) ومع رئيسَي القوات الإنجليزية والعثمانية، فيسجِّل أحاديثه مع هؤلاء جميعًا ويبعث بها إلى القنصل الأول.
وأشار عليه بونابرت إذا كان الإنجليز عند وصوله لا يزالون كذلك بالجيزة (وقد سبق أن غادرها هؤلاء منذ ١٠ مايو)، أن يذهب إليها في حراسة متينة، وأن يتمهل في انتقاله من بلدة إلى أخرى، وأن يتحدث في أثناء سيره مع الأهالي في الرحمانية وطرانة والأماكن الأُخرى التي يمر بها ويدوِّن مذكرات بمحادثاته معهم، حتى إذا بلغ الجيزة بادَرَ بالاجتماع بالمشايخ: المصري والشرقاوي والفيومي وغيرهم — وهم المشايخ الذين تعاوَنوا راضين أو مُكرَهين مع الحملة الفرنسية — ويسجِّل محادثاته معهم كذلك، ويدوِّن مذكرات وافية عن حالة قلعة القاهرة والتحصينات المجاورة، وينقل إلى الأهلين الذين يراهم أقوالًا طيبة عن لسان القنصل الأول، ولكن دون أن «يورط» حكومتَه في شيء، كأن يقول مثلًا: «إن بونابرت يحب أهل مصر ويريد لهم السعادة والرفاهية، ولا يزال يذكرهم ويتحدث دائمًا عنهم.»
وأما فيما يتعلق بالبكوات المماليك، الذين اعتمد بونابرت على كسبهم إلى جانبهم لتعطيل مساعي الإنجليز ووقف نشاطهم وتأييد المصالح الفرنسية في مصر، فقد ذكر بصددهم في تعليماته إلى سباستياني: أنه يجب أن يكون لديه (أي سباستياني) كتابٌ من «تاليران» إلى باشا القاهرة يبلغه رغبةَ القنصل الأول في إرسال قومسيير إلى القاهرة حالًا، واهتمامه بمعرفة ما إذا كانت الأمور هادئة ومستقرة في مصر لحرصه على إسعادها وضمان السلام لها، وحتى يعرف إذا كان في استطاعته (أيْ بونابرت) التدخُّل مع البكوات المماليك من أجل تحقيق هذه السعادة، حتى إذا رغب الباشا أن يذهب سباستياني إلى الصعيد للحديث مع البكوات، ذهب بعد أن يمكث في القاهرة ثمانية أيام أو عشرة، يكون قد استطاع في أثنائها مشاهدةَ كل شيء والحديث مع الناس، وأن يصطحب معه في عودته الفرنسيين الذين بقوا بالمستشفيات، أو أولئك الذين بقوا مع البكوات المماليك ويريدون العودة إلى فرنسا.
وعلى ذلك فقد بدأت — عقبَ عقدِ معاهدة إميان واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا وتركيا — مساعي القنصل الأول من أجل تحقيق غرضه الجوهري؛ إجلاء الإنجليز عن الإسكندرية بكل سرعة، ثم التوسُّط للبكوات المماليك لدى الباب العالي حتى يستطيع الاعتماد عليهم إذا عادت السلطةُ إليهم في رعاية مصالح فرنسا التجارية والسياسية في مصر.
بعثة سباستياني
أما سباستياني، فكان قد غادر طولون في ٢١ سبتمبر ١٨٠٢ قاصدًا إلى طرابلس فبلغها في ٣٠ سبتمبر، ثم غادرها بعد يومين فوصل الإسكندرية يوم ١٦ أكتوبر، وفي نفس اليوم كتب — بوصفه وزيرًا مفوضًا من القنصل الأول في الليفانت — يطلب مقابلةَ الجنرال ستيوارت قائد القوات البريطانية بالإسكندرية للتحدُّث إليه في أمور هامة كلَّفَه بها القنصل الأول، وفي هذه المقابلة أبلغه ما لديه من أوامر من وزير خارجية حكومته «تاليران» الذي طلب إليه الذهاب إلى الإسكندرية حتى إذا وجد الإنجليز لا يزالون بها، طلب منهم إخلاءها بوجه السرعة وتنفيذ معاهدة أميان، ثم أبلغ الجنرال ستيوارت دهشةَ القنصل الأول من استمرار الإنجليز في احتلال مصر، وسأله عن الأسباب التي دعتْ إلى إطالة مدة هذا الاحتلال، وحاول ستيوارت التخلُّص بإجابةٍ مبهمة عن أنه لا خوفَ من تأخير الانسحاب الذي سوف يحدث فعلًا، ولكن سباستياني أصرَّ على جوابٍ أقلَّ إبهامًا وغموضًا، فذكر ستيوارت أنه ليست لديه أية أوامر من حكومته بإخلاء الإسكندرية، ويعتقد أنه سوف يمضي بها فصل الشتاء، وأنهم (أي الإنجليز) لا يخلون مصر ومالطة — حسب اعتقاده — إلا بعد إبرام معاهدة تجارية بين إنجلترا وفرنسا، فاكتفى سباستياني بهذه البيانات واعتبر مهمته بالنسبة للجنرال ستيوارت ومعرفة نوايا الإنجليز في موضوع الجلاء عن الإسكندرية منتهية.
وفي نفس اليوم قابل خورشيد أحمد باشا حاكم الإسكندرية و«القبطان بك» قائد القوات البحرية العثمانية، فأبلغهما سباستياني بقُرب مجيء الوكلاء التجاريين الفرنسيين إلى مصر، وقال سباستياني: «إنهما قد سُرَّا لهذا النبأ سرورًا عظيمًا.» ولم يخفيا عليه أنهما يتألمان من بقاء الإنجليز في هذه البلاد، وأكَّد لهما سباستياني أن مكثهم بها لن يطول الآن، ولا يترك إبرام الصلح العام (معاهدة إميان) أيَّ شكٍّ في أن رحيلهم بات قريبًا.
وقابل سباستياني في اليوم التالي (١٧ أكتوبر) الشيخ المسيري الذي ذكر لسباستياني اعتقادَ الناس لحظةَ وصولِه أنه أغا حضر للاستيلاء على المدينة، وأن سكَّانها قد فرحوا لذلك فرحًا عظيمًا؛ الأمر الذي قال سباستياني إنه لاحظه وشهده بنفسه، ثم قابل في نفس اليوم الشيخ إبراهيم المفتي، وهو رجلٌ قال عنه إنه مخلص كلَّ الإخلاص لفرنسا، وينال من حكومتها معاشًا، ولكنه مذمومٌ من الأهالي ويكاد لا يكون له أي نفوذ عليهم.
وفي ٢٠ أكتوبر غادرها في طريقه إلى القاهرة في حراسة ضابطَيْن فرنسيَّيْن من الفرقاطة التي أحضرتْه، فقضى في أبي قير اليومَ التالي ومساءَه وانتهز فرصة إقامته بها لزيارة قلعتها التي وجدها في حالة تخريب كبير. وفي ٢٢ أكتوبر وصل رشيد بعد أن زار قلعة جوليان، فقابل أغا المدينة ومدير جمركها «عثمان» ثم جميع المسيحيين بها، «وأكَّد له كلُّ مَن قابلهم أن الأهالي يأسفون أسفًا عظيمًا على ذهاب الفرنسيين، ويقدِّسون اسم القنصل الأول». وفي ٢٣ أكتوبر كان سباستياني في «فوه»؛ حيث قابل حاكمها والقاضي والمشايخ، وقد أكَّد له مَن قابلهم من المشايخ ولاءَهم وصداقتهم للقنصل الأول، وفي اليوم التالي وصل سباستياني إلى «الرحمانية» وقابَلَ بها الشيخ «محمد أبو علي»، ولاحظ أن قلعة الرحمانية تكاد تكون مهدمة تمامًا. وفي ٢٥ أكتوبر بلغ منوف فاجتمع بالشيخ عابدين الذي عيَّنه القنصل الأول قاضيًا بها، وقد أكَّد له الشيخ «أن مصر ترغب في الدخول مرةً أخرى تحت سيطرة بونابرت»، وأكَّد له سباستياني بدوره ما كان يؤكده دائمًا للمصريين الذين قابلهم؛ وهو اهتمام القنصل الأول بسعادة أهل مصر ورفاهيتهم ومحبته لهم. وقال سباستياني إن الشيخ عابدين وسائر مشايخ منوف الذين جاءوا لزيارته في بيت هذا الشيخ حدَّثوه في نفس ما حدَّثه به مشايخ «فوه»، وكان جواب سباستياني: «إن القنصل الأول يشعر نحو بلادكم بحب عظيم، ويتحدث عنها كثيرًا، ويهتم بكل ما فيه سعادتكم ولا ينساكم أبدًا، وقد أوصى بكم خيرًا لدى الباب العالي، وإن «بونابرت» يحكم أغنى وأقوى دولتين في أوروبا: فرنسا وإيطاليا، وقد عقد السلام مع أوروبا، وسوف ترى هذه البلاد مدى اهتمامه بها ومدى الأثر الذي تركتْه في نفسه ذكرياتُه الطيبة عن مشايخ مصر السيئي الحظ …» وقد ذكر سباستياني فيما بعد أن «محمد كاشف» حاكم منوف كان نصيبه القتل وقطع رأسه — بعد مرور سباستياني — بتهمة وجود علاقات بينه وبين المماليك، وأما قلعتا منوف فقد وجدهما سباستياني مخرَّبتين تمامًا.
وفي نفس اليوم (٢٥ أكتوبر) وصل سباستياني إلى بولاق، وبعث في التو والساعة المواطنَ جوبير لإخطار باشا القاهرة خسرو محمد بوصوله، فأرسل إليه في صبيحة اليوم التالي (٢٦ أكتوبر ١٨٠٢) قوةً من ثلاثمائة فارس ومائتي جندي من المشاة لاصطحابه في أثناء سيره إلى بيت خسرو باشا، وأطلقت المدافع ترحيبًا به.
وكان أول ما فعله سباستياني عند دخوله القاهرة، ومقابلته لخسرو باشا؛ أنْ أبلغه عقد الصلح بين فرنسا والباب العالي، واستئناف صِلات المودة والصداقة والعلاقات التجارية بينهما، وأن بونابرت القنصل الأول قد كلَّفه بأن يؤكد لخسرو باشا حُسنَ نواياه، وأن يُنبِئه بخبر وصول المندوبين التجاريين الفرنسيين قريبًا إلى مصر.
وشكر خسرو باشا للقنصل الأول نواياه الطيبة ورحَّبَ بقدوم مندوبيه التجاريين، وبعد هذه المقابلة انتقل سباستياني إلى المنزل الذي أعَدَّه له الباشا، وجاء لزيارته كبار المدينة ورؤساؤها والمباشرون أو المعلمون الأقباط، ثم اجتمع بالباشا مرةً أخرى في ٢٧ أكتوبر، وكان اجتماعًا طويلًا، وذكر له «أن القنصل الأول مهتمٌّ به وبالبلاد التي يحكمها أبلغ الاهتمام، ويريد أن يوفِّر له وللبلاد أسبابَ السعادة، وأنه لذلك قد كلَّف «سباستياني» بعرض وساطته على «خسرو باشا» من أجل الصلح بينه وبين البكوات المماليك»، فشكره خسرو على عنايته واهتمام القنصل الأول، ولكنه قال: «إن تعليمات حكومته القاطعة هي حرب الفناء ضد البكوات، وعدم الدخول بتاتًا في أية اتفاقات معهم.»
وعندئذٍ لاحظ سباستياني أن سبب انهزام الأتراك في عملياتهم العسكرية الأخيرة مع البكوات لا أقلَّ من خمس مرات، أن الحالة النفسية التي صار عليها الجنود العثمانيون جعلتْ مركزهم دقيقًا للغاية، وأن العناد والإصرار على المُضيِّ في قتال المماليك مِن شأنه أن يُمهِّد في النهاية لضياع مصر ذاتها، وقال سباستياني: إن الباشا يدرك تمام الإدراك أنه لا يستطيع مقاومة البكوات طويلًا، وطلب إليه أنْ يرجو القنصل الأول حتى يبدأ هذه المفاوضة في القسطنطينية، وأن يصل إلى نتيجة سريعة من هذه المفاوضة (لأجل الصلح مع البكوات)، ثم أطلع سباستياني على ما لديه من أوامر الباب العالي، وكان من رأي سباستياني عندئذٍ أنه يستحيل على خسرو باشا بسببها قبول أي اتفاق مع البكوات، وفي هذه المقابلة أبلغه سباستياتي عزْمَه على الاجتماع بمشايخ القاهرة، وأرملة مراد بك، وكذلك زيارة الجهات المجاورة للقاهرة وتحصينات المدينة، وأمر خسرو بأن يصحب سباستياني في كل مكان يقصد إليه الحرس الذي كان قد خصَّصه له قائلًا: إنه يسرُّه دائمًا أن يقضي الأخير المدةَ التي يمكثها بالقاهرة في راحة وسرور.
وفي ٢٧ أكتوبر بدأ سباستياني زياراته بزيارة الشيخ عبد الله الشرقاوي، وحضر للاجتماع به في بيت الشيخ عددٌ كبيرٌ من المشايخ، ودار الحديثُ حول اهتمام القنصل الأول بمصر، وعظم قوته وما كسبه من أكاليل المجد والفخار، وتقديره واحترامه ورعايته لعلماء القاهرة، وانسجام العلاقات بين السلطان سليم الثالث وبونابرت، وقد أظهر المشايخ في كلامهم مقدارَ ما يكنُّونه لشخصِ القنصل الأول من محبة وود. وعلَّقَ سباستياني على هذا الحديث بقوله: «إنه دهش مما أبداه المشايخ من شجاعة في إعلان رغبتهم في أن يصبحوا مرةً أخرى رعايا للقنصل الأول.» وفضلًا عن ذلك فإنه يكفي للتأكد من صدق رغبتهم هذه وعواطفهم نحو القنصل الأول؛ ملاحظةُ ذلك الحماس العظيم الذي شاهده سباستياني بنفسه، والذي أظهره المشايخ عند إهدائهم صورةَ بونابرت. وقد أهدى سباستياني صورةَ بونابرت لكل كِبار المشايخ ليس في القاهرة فحسب، بل وفي البلدان الأخرى التي مَرَّ بها، وقد ظهر مثل هذا الحماس في كل مكان مرَّ به.
وفي ٢٨ أكتوبر زار سباستياني السيدَ «الشيخ» عمر مكرم نقيبَ الأشراف، وكان مريضًا فقابله ابنه، وأمَّا الشيخ الآخر الذي أراد سباستياني زيارتَه فكان الشيخ البكري، وكان على علاقاتٍ سيئة مع الباشا، فرجاه عدم زيارته خوفًا من زيادة هذه العلاقات سوءًا، وقد قال لسباستياني مثلَ هذا القول كلٌّ من المشايخ: أحمد العريشي ومحمد المهدي ومحمد الأمير، وأما الشيخ سليمان الفيومي فقد رحَّب بزيارته ترحيبًا كبيرًا، وأبدى له «إعجابَه الذي يفوق كلَّ الحدود بالقنصل الأول».
وزار سباستياني في ٢٩ أكتوبر أرملة مراد بك، وكان في عزمِ هذه السيدة أن تزور سباستياني في بيته، وقد اشتكت بشدةٍ عند اجتماعه بها من مظالم الأتراك، وأَلحَّتْ عليه في الرجاء أن يعمل لإعادة حكومة البكوات الذين يحفظون في نظير ذلك للفرنسيين وللقنصل الأول حُسْنَ صنيعهم معهم إلى أبد الآبدين، فأبلغها سباستياني رغبةَ بونابرت في توسيطه من أجل الوصول إلى السلام بين البكوات والباب العالي.
ولكن خسرو باشا كانت لديه أوامرُ قاطعةٌ بمنعه من الدخول في أية مفاوضات معهم، ومع ذلك ففي وسع السيدة أن تؤكد للبكوات — وهي التي قال سباستياني عنها: إنها بمثابة الوكيل لهم في القاهرة — أن القنصل الأول قد تسلَّم خطاب إبراهيم بك وعثمان بك البرديسي الذي بعثا به إلى بونابرت مؤرخًا في ١٢١٧ﻫ عقبَ مكيدتَي الصدر الأعظم والقبطان باشا ضد البكوات في أكتوبر سنة ١٨٠١، وقد طلب إبراهيم والبرديسي في هذا الخطاب نجدةَ بونابرت وحمايته للبكوات الذين عقد رئيسهم المتوفى مراد بك معاهدتَه المعروفة مع الجنرال كليبر، وأبلغوه استعدادهم لقتال العثمانيين إذا منحهم حمايتَه، واثقين من الانتصار على هؤلاء إذا ظفروا بهذه الحماية، ويرجون القنصل الأول مساعدتَهم على الاستمرار في البقاء بمصر، واسترجاع سُلطتهم وحكومتهم.
فأبلغ سباستياني أرملة مراد بك رَدَّ بونابرت على هذه الرسالة، وهو اعتزام التدخُّل لإنهاء خلافاتهم مع الباب العالي بما يُناسب الفريقين.
وقال سباستياني إنه حدث في نفس اليوم تهييج الألبانيين (الجند الأرنئود) ضده، وأن المحميين الإنجليز في رشيد قد بعثوا بكتابين يؤكدون فيهما مشاهدة أسطول فرنسي قريبًا من شواطئ الأناضول في طريقه إلى القسطنطينية، وأن زيارة سباستياني لمصر لا غرضَ لها سوى خديعة المسئولين بهذه البلاد وصرفهم عن اتخاذ الحيطة لدفع الخطر الذي يهدِّدهم، فعمل سباستياني على تكذيب هذه الإشاعات، واستدعى لمقابلته التاجرَ الذي وصلتْه رسالة رشيد، وسلَّمَه هذا الأخير الرسالةَ التي بعث بها سباستياني إلى خسرو باشا مبيِّنًا له ما تستهدفه هذه الإشاعات الكاذبة والأخبار المغرضة من إحداث الاضطرابات لتكدير صفو العلاقات بين فرنسا والباب العالي، ولكن خسرو — على حد قول سباستياني — لم يقع في الشَّرَك، بل أطلعه على رسالةٍ وصلته من الجنرال ستيوارت كان مرفقًا بها أمرٌ يومي (أو بلاغ) من القنصل الأول وقت قيادته لجيش الشرق في مصر بتاريخ فركتيدور من سنة الجمهورية السابعة، يذكر للمصريين أن القسطنطينية كانت تابعة لبلاد العرب، وأنه قد حان الوقت لإعادة سيطرة القاهرة القديمة إليها والقضاء على إمبراطورية العثمانيين في الشرق، ورجا ستيوارت من خسرو أن يتمعَّن مليًّا فيما جاء بهذا الأمر اليومي؛ حتى يُدرك مدى إخلاص الفرنسيين للباب العالي وقيمة صُلْحهم مع تركيا.
ولاحظ سباستياني أن أصحاب النفوذ الأكبر في القاهرة — بعد خسرو باشا — كان «راشته» والسيد أحمد المحروقي، وقال عنهما إنهما يكرهان كلاهما فرنسا، وإن العداء — مع ذلك — مستحكم بينهما، والمعتقد أن «روشتي» أو «راشته» قد خان قضيةَ البكوات المماليك، وانحاز الآن إلى جانب العثمانيين، ومع ذلك فإن هذا «الداهية» يعرف كيف يكسب صداقة وعطف المماليك إذا استعادوا نفوذَهم، وهو الآن يُتاجر مع خسرو باشا في الزعفران والحبوب، وهي تجارة عادت عليه بالربح الوفير حتى أثرى ثراءً فاحشًا في وقت قصير، ويتذمر من نفوذ المحروقي وروشتي الدفتردار شريف أفندي، وهو ذو سمعة طيبة، قابله سباستياني وأثنى عليه، وقال عنه إنه كان دائمًا من الحزب المُوالي لفرنسا في الديوان العثماني بالقسطنطينية، وقت عضويته به قبل مجيئه إلى هذه البلاد، وقد عيَّنه الباب العالي — قبل مغادرة سباستياني لمصر — باشا على جدة، ولكنه اعتبر هذا التعيين دون ما يستحق، فرفضه، وعيَّن الباب العالي في منصب الدفتردارية رجائي أفندي الذي غادر القسطنطينية في طريقه إلى القاهرة.
وقابل سباستياني عددًا من رؤساء ومشايخ البدو، وقد أظهر جميعُهم تذمرَهم من العثمانيين.
وفي ٢ نوفمبر قابل سباستياني خسرو باشا مودعًا، وفي ٣ نوفمبر نزل في النيل (في ذهبية خصَّصها له الباشا) من بولاق في طريقه إلى دمياط للسفر منها إلى الشام، وانتهت مهمته في القاهرة.
وكان رأي سباستياني في خسرو باشا أنه «رجل يحب المجد دون أن يعرف ما هو المجد؛ ولذلك فقد صرف كل جهوده للعناية بتَوافِه الأمور، مثل كساء الجنود وما إلى ذلك، وهو رجل يجهل كل الجهل فنونَ الحرب والسياسة وشئون الحكم وأساليب الإدارة، ولا يُتْقن سوى قطع الرءوس.» حقيقة قد أصدرت إليه حكومتُه أوامر على غاية من الوحشية، كما ذكر سباستياني أن «ستفاناكي» تُرجمان خسرو قد أطلعه على أوامرَ من الباب العالي تطلبُ من باشا القاهرة إهلاكَ كل المماليك المنتشرين في مختلف الجهات في مصر، سواء احتفظ هؤلاء بعلاقاتهم مع البكوات أو قطعوها، كما طلب إليه الباب العالي إذلال رؤساء المشايخ وكبارهم ومصادرة أموالهم وأملاكهم بقدر استطاعته، وإيذاء الشيخَيْن البكري والسادات، على وجه الخصوص.
كما ذكر سباستياني نتيجةً لملاحظاته في القاهرة أن الإشاعات تروج بها عن عودة الفرنسيين إليها قبل مُضِيِّ عامين، وأن القنصل الأول سوف يكون عندئذٍ سيد مصر والشام معًا، وتنبَّأ «مُنجِّموهم» بذلك، ويتكلم الناس في هذا الموضوع كأنه حقيقةٌ ثابتةٌ لا مفرَّ من حدوثها، وقال سباستياني: «إن مَن يعرف البلاد وأوضاعها لا يشك في مدى ما يُحدِثه ذيوعُ مثل هذه الآراء فيها.»
وكان في أثناء رحلته إلى دمياط، أنْ وقف سباستياني بعض الوقت في سمنود في ٥ نوفمبر، ثم في المنصورة في اليوم التالي، وقابَلَ حاكمَها والشيخ السيد محمد الشناوي، وقد زاره كلاهما مع «كل المشايخ» بالمنصورة، وتحدث معهم بنفس الكلام الذي تحدَّث به مع مشايخ القاهرة وغيرها، وأظهروا نفس الولاء والمحبة لفرنسا ولقنصلها الأول، وفي مساء اليوم نفسه وصل سباستياني دمياط.
وفي أثناء وجوده بدمياط زار قلعة «العزبة» — عزبة البرج — وأبراج البوغاز (٧ نوفمبر) ولاحظ أن القلعة في حالة سيئة ولو أن أبراج البوغاز تنال قسطًا طيبًا من العناية، وتقيم بالقلعة والأبراج حاميةٌ من مائتَيْ رجل. وفي ٨ نوفمبر زاره ابن حسن طوبار الذي لا يزال يتمتع بنفس النفوذ دائمًا على أهل المنزلة، وقد شكا شكوى مُرَّة مما يُلحِقه به الأتراك من أذًى؛ بسبب ما أظهره من ولاء للجيش الفرنسي، وأعلن لسباستياني أنه يتربص للفرصة التي تُتيح له البرهنة من جديد على صدق عواطفه نحو فرنسا.
وفي دمياط قابل سباستياني جميع مشايخها، وخصوصًا الشيخ علي خفاجي الذي كان بونابرت قد أنعم عليه بفروة من السمور، وهو رجل قال عنه سباستياني إنه يتمتع بسمعة ونفوذ كبيرَيْن، ولا يزال على ولائه لفرنسا.
وفي دمياط كذلك تسلَّم سباستياني في ١١ نوفمبر رسالةً من عثمان بك البرديسي بادر سباستياني بالرد عليها، فأبلغه أن القنصل الأول قد كلَّفه بإنهاء الخلافات بين البكوات والعثمانيين، ولكن هذه المسألة لا يمكن الكلام فيها إلا في القسطنطينية، وأن القنصل الأول لا يزال يرجو لهم الخير ويبغى مساعدتهم.
وفي ١٤ نوفمبر ١٨٠٢ غادر سباستياني دمياط قاصدًا إلى عكا لإنجاز مهمته، فقابل الجزار باشا، ثم غادر عكا في ١٧ نوفمبر، فوصل زنطة بعد ثلاثة عشر يومًا ثم غادرها إلى مسينا.
وكان لبعثة سباستياني في القاهرة آثار بعيدة؛ فقد سبَّبت «الحفاوة» التي قُوبِل بها رسميًّا في القاهرة من جانب الباشا العثماني عند وصوله إليها ثم عند مغادرته لها القلقَ للإنجليز؛ لا سيما وأن سباستياني قد أظهر للجنرال ستيوارت ما جعل الأخير يعتقد أن القنصل الأول مصمِّم على خروجهم بكل السرعة، وأنه يبغي من الصلح مع الباب العالي استئنافَ فرنسا لنشاطها التجاري واستعادتها لنفوذها السياسي في مصر، وأزعجت القائدَ الإنجليزي رغبةُ بونابرت في التوسُّط لإنهاء الخلافات بين الباب العالي والبكوات، ومسعى سباستياني نفسه لكسب مودة الأخيرين ومقابلته — لهذه الغاية — لأرملة مراد بك الست نفيسة، بالقاهرة، وتراسُله مع البرديسي؛ الأمر الذي هدَّد بفشل سياسة الإنجليز في مصر، وهم «الذين استطاعوا استمالةَ البكوات إلى الوثوق بهم والاعتماد عليهم في بلوغهم السلطة والحكم في مصر». وكان القوَّاد والوكلاء الإنجليز بدورهم يعتمدون عليهم كالقوة المحاربة التي في استطاعتها عند استقرار الأوضاع الجديدة دَفْع خطر الغزو الأجنبي عن البلاد، وخصوصًا من ناحية الفرنسيين أنفسهم، وفضلًا عن ذلك فقد دلَّ اجتماع سباستياني بالمشايخ في القاهرة وغيرها، على أن هؤلاء أو فريقًا كبيرًا منهم أصدقاء لفرنسا، وقد يرضون بحكم بونابرت في مصر مرة أخرى، يشاركهم في هذا الشعور أكثريةُ السكان المتذمرين من مظالم العثمانيين واعتداء الجند عليهم.
وعلى ذلك فقد اهتم «ستيوارت» بأمر هذه «البعثة» منذ مجيء سباستياني إلى وقت مغادرته البلاد، فنقل إلى حكومته في ١٨ أكتوبر سنة ١٨٠٢ كلَّ ما دار بينه وبين سباستياني من حديثٍ في مقابلتهما، وكان من رأي ستيوارت أن الفرنسيين يدبرون بعض الخطط التي تُمكِّنهم — سواء بالمفاوَضة أو بطريق آخر أكثر صراحةً وعلانيةً — من استعادة سلطانهم ونفوذهم الممقوت في مصر، وأن الغرض من محاولة «سباستياني» مع خسرو باشا من أجل الاتفاق والصلح مع المماليك؛ هو تحقيق هذا المأرب.
وزاد من قلق «ستيوارت» أن خسرو كتب إليه في ٩ نوفمبر — دليلًا على الود والصداقة القائمة بينه وبين ستيوارت — يبلغه اقتراحَ سباستياني عليه توسُّطَ القنصل الأول من أجل الاتفاق مع البكوات، وكيف أنه أَلحَّ على خسرو في الاتصال بالبكوات، أو على الأقل الكتابة إليهم، ولكن خسرو رفض التدخُّل في مسألةٍ من خصائص الباب العالي نفسه، ثم أضاف أنه ذكر لسباستياني «أنه لَمَّا لم يكن لديه أيةُ سلطات تخوِّله الاتفاق مع الجنرال ستيوارت (في هذه المسألة)، وهو يمثِّل دولة حليفة لتركيا، فإن معنى قبوله لوساطة فرنسا الإقدامُ على عمل لا يتفق والاعتراف بالجميل نحو حلفاء الدولة، فضلًا عن أنه مُخالِف لأوامر السلطان»، وتعدَّدت رسائل ستيوارت إلى حكومته وإلى اللورد إلجين سفيرها بالقسطنطينية عن نشاط سباستياني، بناءً على المعلومات التي بلغتْه عنه من الوكلاء الإنجليز طوال شهرَيْ أكتوبر ونوفمبر.
وكان مما أبلغه هؤلاء الأخيرون من القاهرة إلى الجنرال ستيوارت (١٥ نوفمبر) «أن سباستياني يريد الاتصال بالمماليك، ولا يهمل أيةَ وسيلة قد تُعِينُه على بلوغ غرضه، وأنه بعد أن حاول عبثًا إقناعَ خسرو باشا بأن الإنجليز على الأقل سوف يتحدون بقواتهم مع المماليك، متخذًا من بقاء الإنجليز بالإسكندرية — بالرغم من انتهاء المدة المنصوص عليها في معاهدة صلح «أميان» لجلائهم — برهانًا على صدق مزاعمه؛ لم يلبث أنْ صار يهدِّد خسرو باشا بجلب سخط القنصل الأول عليه قائلًا: إن نفوذ القنصل الأول لدى الباب العالي قد يبلغ درجةً يستطيع بها طلبَ استدعاءِ خسرو إذا ظل يعارض سباستياني في أغراضه.»
واهتمَّ اللورد إلجين السفير البريطاني بالقسطنطينية بهذه الأخبار، فأبلغها إلى الريس أفندي الذي أظهر دهشته من زيارة سباستياني للقاهرة؛ لأن الريس أفندي كان يعتقد أن سباستياني سوف يذهب إلى الجزائر وتونس وربما زار المورة وكورفو، ولكنه يجهل أنه كان مكلَّفًا بزيارة مصر والشام، ويجهل أكثر من ذلك «مهمته الدبلوماسية» التي لم يُبلَّغ شيءٌ عنها لحكومته.
وذكر التقرير المنشور نشاطَ سباستياني ومقابلاته التي سبق الحديث عنها، وكان مما جاء فيه أن هناك سوءَ تفاهمٍ كبيرًا بين خسرو باشا والجنرال ستيوارت. وتضمَّن — علاوة على ذلك — تفصيلاتٍ هامةً عن حالة الأبراج والقِلاع في المراكز المختلفة، وأكثرها مهدَّم ولا توجد به سوى حامياتٍ ضعيفة وضئيلة، كما هو الحال في حصون وقلاع «أبي قير»، و«جوليان»، والبُرُلُّس، والرحمانية، ومنوف، وبولاق، والجيزة، وبركة الحاج، وبلبيس، والصالحية، والمنصورة، وبرجَي البوغاز، و«دمياط»، والديبة، والقطية، والعريش، والسويس. بينما لا يوجد في الإسكندرية من القوات العثمانية سوى ستمائة رجل، وفي أبي قير مائة، وفي قلعة جوليان خمسة عشر، وفي رشيد مائتان، وفي الرحمانية خمسة وعشرون، وفي إقليم منوف خمسمائة، وفي القاهرة وبولاق والجيزة خمسمائة، وفي السويس مائة، وفي إقليم المنصورة خمسمائة، وفي إقليمَيْ دمياط والغربية ستمائة، وعددهم جميعًا في كل المراكز ٧٦٤٠ فحسب، كما تبلغ قوات العثمانيين العاملة ٦٠٠ من المشاة، و٢٠٠٠ من الفرسان، و٥٠٠ من المدفعية، والمجموع ٣١٠٠.
وأما القوات العثمانية فتبلغ كلها حوالي الستة عشر ألفًا، ويؤلِّف الألبانيون أو الأرنئود القسمَ الأكبر منها تحت قيادة طاهر باشا، وأضاف التقرير: «أنه من العبث وصف هذه القوات بأنها جيش؛ لأنهم رجال ينقصهم السلاح، ولا نظامَ لهم ولا يثقون في رؤسائهم وضباطهم، وقد أُنهِكت قُوَاهم بسبب انغماسهم في الملَذَّات والموبِقات، ويتساوى الرؤساء مع جنودهم في جهلهم التام بفنون الحرب والقتال الأولية، ولا يستأثر باهتمامهم سوى الرغبة الملِحَّة في جمع المال والإثراء سريعًا، حتى يتسنى لهم عند التقاعد العيشُ في يسرٍ وطمأنينة.»
وفي هذه المناسبة جاء في التقرير: «أنه يكفي اليومَ لفتح مصر ستةُ آلاف فرنسي فحسب.»
وأما القوات الإنجليزية فقد ذكر التقرير أنها تبلغ ٤٤٣٠ تحتل الإسكندرية والحصون المجاورة لها التي أهمل الإنجليز العنايةَ بها.
وأما المماليك، فكان جيشهم يتألف من ٣٠٠ من المماليك، و٣٥٠٠ من الأعراب من قبيلة العبايدة في الشرق، و٣٥٠٠ من قبيلة بني علي، وقد تزوَّجَ محمد بك الألفي من ابنة شيخ القبيلة الأولى، بينما تزوَّجَ مرزوق بك ابن إبراهيم بك من ابنة شيخ القبيلة الثانية، ويقتسم الألفي وإبراهيم والبرديسي السلطةَ في هذا الجيش، ويتخذون جميعهم مقرَّهم العام في جرجا، ولديهم أربع وعشرون فرنسيًّا من الذين تخلَّفوا في البلاد وقتَ خروج جيش الشرق منها، ويُؤلِّف هؤلاء «مدفعيةً» صغيرة، وقد انتصر المماليك — حتى كتابة هذا التقرير — في جميع المعارك التي اشتركوا فيها على الأتراك، ويفضِّلهم المصريون على العثمانيين، بينما يخضع الوجه القبلي بأسره لهم، ويُعتبر عثمان بك البرديسي صاحبَ أعظم ميول ودية نحو فرنسا؛ الأمر الذي أكسَبَه — على حد قول سباستياني — نفوذًا كبيرًا.
وقد أظهر تقرير سباستياني عند نشره أن الباشا العثماني بالقاهرة «خسرو محمد» كان مُصِرًّا على متابعة «حرب الفناء» ضد المماليك، وأن البكوات من ناحيتهم كانوا مُصِرِّين أيضًا على استعادة نفوذهم وسلطانهم السابق، وأنهم يطلبون وساطة فرنسا لبلوغهم مقصدهم. أضِفْ إلى هذا أن نشر التقرير دلَّ على أن فرنسا لا تزال مهتمةً بأمر مصر، بل وساد الاعتقاد بأنها لا تزال ذات أطماع صريحة في امتلاك هذه البلاد مرةً أخرى؛ بدليلِ كل تلك البيانات المفصلة عن حالة الحصون والقلاع وعن عدد قوات الجيوش، سواء البريطانية منها أو العثمانية أو المملوكية، التي لم يكن من المنتظر — حسب ما يُستدلُّ مما جاء بالتقرير — أنها سوف تستطيع مقاومة أي غزو فرنسي؛ لضَعْفها من ناحية، ولِما كان متوقَّعًا من انضمام البكوات للجيش الفرنسي عند غزوه لهذه البلاد، إلى جانب ترحيب أهل البلاد ومشايخهم بعودة الحكم الفرنسي من ناحيةٍ أخرى، وكان ممَّا قوَّى الاعتقادَ بأن فرنسا تنوي غزو مصر ما ذكره التقرير من «أنه يكفي اليومَ لفتح هذه البلاد ستةُ آلاف فرنسي فحسب.»
وعلى ذلك فقد أحدث نشر تقرير سباستياني ضجة كبيرة في جميع الدوائر السياسية، وخصوصًا في لندن والقسطنطينية، فنشرتْه الجريدة الرسمية في لندن، وكان موضع تعليقات جميع سفراء الدول وممثِّليها في القسطنطينية، وكتب الجنرال برون في ١٠ مارس ١٨٠٣ أن هؤلاء جميعًا اتخذوا منه دليلًا لإقناع الباب العالي ﺑ «نوايا فرنسا» التي كشفت في هذا التقرير عن خططها المرسومة نحو مصر، واضطرَّ برون للدخول في تفسيرات يبغي منها إزالةَ الآثار السيئة «التي ترتَّبت على هذه الأقوال»، والتي من شأنها إلحاق الأذى من طرقٍ خفية بذلك المركز الممتاز الذي بدأ يناله في القسطنطينية، ولكن جهود «برون» لم تنجح؛ لأن رسوخ الاعتقاد — نتيجةً لنشر تقرير سباستياني — بأن فرنسا تريد غزو مصر، لم يلبث أن أثَّرَ تأثيرًا مباشرًا على سياسة كلٍّ من تركيا وإنجلترا نحوها.
ثم زاد هذا الاعتقاد رسوخًا أن القنصل الأول ما لبث أنْ أظهر بصورة عملية اهتمامه بمصر ورغبته في استعادة علاقاته معها، ودعمها عندما أصدر أمره في ٧ مارس ١٨٠٣ بتعيين المواطن «ماثيو لسبس» — مأمور القنصلية السابق في قادش — نائبَ قومسيير للعلاقات التجارية الفرنسية بدمياط، على أن يذهب إلى القاهرة ليملأ بها مؤقتًا منصبَ القومسيير العام للعلاقات التجارية حتى يتم تعيين مَن يشغله، كما أوفد القنصل الأول معه إلى مصر «دروفتي» مساعد قومسيير العلاقات التجارية المعين للإسكندرية منذ ٢٠ أكتوبر ١٨٠٢.
ماثيو لسبس
وعندما أُرسِل «ماثيو لسبس» إلى مصر كان يبلغ حوالي الثلاثين عامًا؛ وُلِد في همبرج في مارس سنة ١٧٧٤، ونشأ في أسرة شغل أعضاؤها — والده وعمومته — وظائفَ هامة في السلك السياسي من مدة طويلة، ومنذ سنة ١٧٩١ تقلَّد «ماثيو لسبس» نفسه مناصبَ سياسيةً هامة في مراكش، وكان عند إرساله إلى مصر نائبَ قومسيير للعلاقات التجارية في قادش.
ويُؤخَذ من التعليمات التي صدرت له في ٢٢ مارس سنة ١٨٠٣ أنه كان عليه القيام من طولون إلى الإسكندرية مع المواطن دروفتي — وللأخير شأنٌ يُذكَر كذلك في تاريخ هذه الفترة — فيذهب «لسبس» إلى دمياط ومنها إلى القاهرة، ولا يبقى بالإسكندرية إلا ما يكفي من الوقت لتقديم نفسه إلى السلطات العليا بها وتعريفهم — إذا رأى ذلك — بالصفة التي أُعطِيت له؛ أيْ تعيينه نائبَ قومسيير للشئون التجارية للجمهورية الفرنسية، حتى إذا انتهت هذه الرسميات غادر الإسكندرية فورًا إلى القاهرة. وهنا نصَّتِ التعليماتُ على أنه بمجرد وصوله إلى القاهرة، عليه أن يؤكِّد للسلطات القائمة إخلاصَ الحكومة الفرنسية وصدق نواياها الطيبة.
واستطردت التعليمات المُعطاة له، فذكرت كيف أن الموقف في مصر لا يزال ينقصه الاستقرار بسبب إطالة الإنجليز بقاءَهم بها، وبسبب الحرب القائمة بين الجند العثمانيين والمماليك مما يقتضي «ماثيو لسبس» أن يتخذ جانب الحيطة والحذر بكل ما يسعه من جهد في علاقاته ومسلكه مع الرؤساء النائبين عن الباب العالي في هذه البلاد، فيعمل جادًّا للظفر باحترامهم وكَسْب ثقتهم، وذلك بتجنُّبه التدخل في المنازعات السائدة بين فريقَي العثمانيين والمماليك، وعليه — علاوةً على ذلك — ملاحظة «الامتيازات» المبرَمة بين فرنسا والباب العالي ويطلب تنفيذها بكل دقة، وكان لرعاية المصالح الفرنسية أنْ أجاز له القنصل الأول أن يعين «مؤقتًا» — وإذا رأى ضرورةً لذلك — خِدمةً لهذه المصالح وكلاءَ للقومسييرية العامة في الموانئ المصرية التي لم تعيِّن بها حكومته وكلاءَ لها، ويعرض اختياره على حكومته للموافقة عليه.
وذكرت التعليمات أن «سباستياني» وقت وُجُوده بدمياط كان قد عيَّن «باسيلي فخري» من أثرياء المسيحيين نائبَ قومسيير مؤقتًا، فأشارت التعليمات ببقاء باسيلي تحت إشراف «لسبس» حتى يتسنى للأخير استلام هذا المنصب نفسه في دمياط، ولما كان القنصل الأول ينتوي تعيين نائب قومسيير في رشيد، فقد طلب إلى «لسبس» أن يختار شخصًا لهذا المنصب، إذا وجد ذلك ضروريًّا، ويعرض هذا الاختيار على الوزير المختص للتصديق عليه.
- أولًا: أن القنصل الأول أراد أن يكون مقره بالقاهرة، فلا يمكث بالإسكندرية إلا أقصر وقت ممكن.
- ثانيًا: أنه مع اهتمام القنصل الأول بمسألة المماليك وسعيه بواسطة سفيره «برون» في القسطنطينية من أجل حسم الخلاف بينهم وبين الباب العالي؛ فقد طلب من «لسبس» عدم التدخل في الخلافات السائدة بين الفريقين، وكان السبب في ذلك أن القنصل الأول اعتبر مهمة «لسبس» ثم زميله «دروفتي» كذلك تجاريةً بحتة، وجرت تقاليد الحكومة الفرنسية على الفصل بين المهام التجارية والسياسية.
- ثالثًا: أن هذه التعليمات دلَّتْ على أن القنصل الأول كان يجهل ما يمكن أن تتمخض عنه الحوادث في مصر، شأنه في ذلك شأن سائر معاصريه لهذه الحوادث، فلم يلبث أن وجد «لسبس» ثم زميله وخلفه «دروفتي» أنفسَهما في حاجةٍ ملِحَّة إلى تعليمات جديدة من حكومتهما لتحديد مسلكهما وموقفهما من الحوادث التي تلاحقت في إثر بعضها بعضًا بسرعة عظيمة.
- رابعًا: أن القنصل الأول حرص على إبقاء علاقاته الودية مع الباب العالي، لا سيما وقد وقَّعَ تاليران مع السيد محمد سعيد غالب أفندي السفير العثماني الجديد في باريس في ٢٥ يونيو سنة ١٨٠٢ (أيْ بعد معاهدة إميان بثلاثة شهور)، معاهدةَ تحالُفٍ دفاعية هجومية بين الدولتين صدَّقَ عليها الباب العالي في ٢٥ أغسطس من العام نفسه، فحرص القنصل الأول على أن يطلب من «لسبس» كسب ثقة مندوبي الباب العالي في مصر، وهم الذين اعتقد «بونابرت» فضلًا عن ذلك أنهم أصحاب السلطة الفعلية في البلاد، فلم يكن ظاهرًا عند صدور هذه التعليمات أن الباشا العثماني «خسرو محمد» — ممثل السلطان وصاحب السلطة الشرعية في مصر — محرومٌ من كل نفوذ وسلطة فعلية بها، فكان بسبب ذلك كله أن وجد «لسبس» نفسه عند وصوله في موقفٍ لا يُحسَد عليه وفي حيرة من أمره.
وعند وصول «لسبس» إلى الإسكندرية في أواخر مايو سنة ١٨٠٣ كان الجنرال «ستيوارت» قد غادر مصر منذ مارس سنة ١٨٠٣، ونُحِّي خسرو باشا عن الولاية، وصارت السلطة الفعلية في القاهرة في يد الألبانيين (الأرنئود) والبكوات المماليك، وأن البدو يقطعون باعتداءاتهم المواصلات النهرية بين الإسكندرية والقاهرة، وأنه لا يستطيع تنفيذَ ذلك القِسم من تعليماته الذي يطلب إليه الذهابَ فورًا إلى القاهرة مقرِّ ممثِّلي الباب العالي صاحب السيادة الشرعية على البلاد، والذين اعتقد القنصل الأول خطأً أنهم أصحابُ السُّلطة الفعلية بها، فكتب «لسبس» من الإسكندرية إلى الجنرال «برون» في ٩ يونيو سنة ١٨٠٣ يشرح له «المركز الدقيق» الذي وجَد فيه نفسه بسبب العقبات التي تَحُول دون ذهابه إلى القاهرة، وأثار «لسبس» في هذه الرسالة موضوعًا يتصل بجوهر تعليماته هو في إغضاب مندوبي الباب العالي إذا ذهب إلى القاهرة، وأصرَّ أصحاب السلطة الفعلية بها، الذين ذكر «لسبس» أنهم الأرنئود والبكوات المماليك، على أن يقوم بوظائفه في القاهرة بصفته الرسمية؛ أيْ نائب قومسيير للشئون التجارية للحكومة الفرنسية؛ ولذلك طلب «لسبس» تعليمات جديدة من حكومته، ثم لم يلبث أن كتب في اليوم التالي: «إن طاهر باشا الذي يتزعم حوالي الثمانية أو العشرة آلاف جندي ألباني بالقرب من القاهرة؛ قد أعلن فجأةً عداءَه لخسرو باشا وطرده من القاهرة.» وقال «لسبس» إنه يخشى أن يكون للإنجليز يدٌ فيما حدث.
وكانت هذه الحوادث التي ذكرها «لسبس» قد وقعت في أثناء شهر مايو، وتأخر وصول أخبارِها إلى الإسكندرية كما هو ظاهر بسبب قطع المواصلات في النهر بينها وبين القاهرة — كما سبقت الإشارة إليه — ولذلك ففي الوقت الذي بعث فيه «لسبس» رسالتَه الأخيرة بتاريخ ١٠ يونيو، لم يكن خسرو باشا قد طُرِد من القاهرة، وأُعلِنت قائمَّقامية طاهر باشا في القاهرة فحسب، بل وكان الإنكشارية قد ثاروا على طاهر باشا وقتلوه في ٢٥ مايو سنة ١٨٠٣، وحاول الإنكشارية تنصيبَ أحمد باشا (والي جدة والمدينة) وأخفقوا في مسعاهم، وطُرِد أحمد باشا بدوره من القاهرة، واستأثر بالسيطرة والنفوذ بها محمد علي والبكوات المماليك «إبراهيم والبرديسي»، وتهيَّأ محمد علي والبرديسي لمطاردة خسرو باشا والزحف على دمياط لقتاله.
وعلى ذلك فإنه ما بلغت «لسبس» معلومات أوفى عن مجريات الأمور، حتى بعث يذكر للجنرال «برون» في القسطنطينية في ١٢ يونيو «أن الأخبار التي وصلته أمس تقول إن الهدوء والسلام مستتبان في القاهرة بفضل مسلك وتدابير البكوات الحكيمة»، وأما دمياط التي كانت التعليمات قد طلبت إليه الذهابَ إليها قبل المضي في طريقه إلى القاهرة، فقد كتب «لسبس» في نفس هذه الرسالة: «إن الأرنئود يحاصرونها ونجحوا في الاستيلاء على مواقع الدفاع الأمامية عنها، كما استولوا على مدفعين وعلى سفينتين من سفن المدفعية في النيل»؛ أيْ إنه يتعذَّر عليه كذلك الذهاب إلى دمياط.
وفي هذه الظروف إذن بقي «لسبس» في الإسكندرية، وصرف وقته في جمع المعلومات ومُراقبة الحوادث، واهتمَّ أكثر ما اهتمَّ بملاحظة نشاط الوكلاء الإنجليز من ناحية، ومعرفة غايات البكوات المماليك ورغائبهم والصلات القائمة بين الوكلاء الإنجليز وبينهم، وقد تبيَّنَ له أن الإنجليز يولون المماليك حمايتهم ويبذلون قصارى جهدهم لكسبهم حتى يجعلوا من مصر ميدانًا لتصريف تجارتهم، وبلدًا تخضع حياته التجارية لنشاط الإنجليز التجاري، وذلك بإنشاء الحكومة التي تمكِّنهم من بلوغ هذه الغاية، وهم يعتمدون في ذلك على نفوذهم السياسي وعلى مؤامراتهم حتى يفوز البكوات المماليك صنائعهم بالسلطة العليا والحكومة في مصر، ويتعارض ذلك كله — كما رأى لسبس — مع مصالح فرنسا التجارية. وأما البكوات فكانوا يسعون لاسترجاع سلطتهم السابقة، ويجتمع إبراهيم بك مع الرسل الذين قال لسبس إن الباب العالي كان يوفدُهم لمقابلة إبراهيم، كما صار إبراهيم بك ينهج طريقَ «مراعاةِ الخواطر كثيرًا» مع الباب العالي؛ الأمر الذي جعل لسبس يعتقد بسير المفاوضات بين الفريقين بنشاط وهمة كبيرة، وأنها قد تنتهي في صالح البكوات، ينهض في رأيه دليلًا على ذلك أن الباب العالي صار يبطئ في إرسال النجدات إلى مصر لتأييد سلطة باشا القاهرة، بعد أن وصلت عمارة عثمانية صغيرة إلى الإسكندرية من أربع فرقاطات.
وكان مِن رأي «لسبس» أن البكوات يريدون الوصول إلى السلطة والحكم، سواء عن طريق الاتفاق مع الباب العالي وإبرام المعاهدات معه، أو الانتقاض على تركيا واللجوء إلى القوة والحرب السافرة لتحقيق هذه الغاية، مع الاحتفاظ في كل الحالات بالتبعية لصاحب السيادة الشرعية، ودفع الخراج السنوي، والقيام بالالتزامات الأخرى نحوه على غرار ما حدث في الماضي. واعتقد «لسبس» أنه في استطاعة البكوات الظفر بحكومة القاهرة إن لم يكن بحكومة مصر بأسرها؛ لأنهم يحتلون القلاع والمراكز الرئيسية في داخل القُطر؛ مما يحفظ لهم التفوُّق على الأتراك دائمًا.
ولكنه اتضح ﻟ «ماثيو لسبس» أن هؤلاء البكوات أنفسهم يعتقدون — كما قال في كتابه إلى حكومته في ٢٠ يونيو سنة ١٨٠٣ — «أنهم لا يصبحون حقًّا أصحابَ السلطة في مصر وسادتها إلا إذا وافق القنصل الأول واعتمد ما قد يتم من ترتيبات في صالحهم؛ لأنهم يعرفون قوة القنصل الأول وسلطانه ونشاطه، وهم الذين شهدوه عن كثب، وتعوَّدوا الخوف منه واحترامه.»
ولما كان لسبس مقيَّدًا بتعليماته التي قصرتْ نشاطه على رعاية المصالح التجارية الفرنسية، وأوصتْه بكسب ثقة واحترام ممثِّلي الباب العالي الشرعيين في البلاد، وأزعجه ما شاهده من نشاط الوكلاء الإنجليز مع البكوات، واعتقد أن الأخيرين يطلبون صداقةَ فرنسا ومساعدتَها، وهم في رأيه — كما قدَّمنا — الذين كان من المنتظَر أن تُصبح لهم السلطةُ والحكومة الفعلية في مصر، فقد عَزَّ لذلك كله على المندوب التجاري الفرنسي أن يمتنع عن مصارحة حكومته برأيه، فقال إن الفكرة أو الاعتقاد الذي يجعل المماليك يطلبون في واقع الأمر وساطةَ القنصل الأول ومساعدته لهم «إنما هي فكرة مفيدة لنا، وقد تكفي وحدها لإحباط مشاريع الإنجليز.» ثم استدرك فقال: «ولو أن ما يذكره لا يعدو أن يكون مجرد ملاحظة فحسب تبعًا ﻟ «نص تعليماته»، ولكنه يرى من واجبه أن يحيط «تاليران» وزير الخارجية علمًا بأن كل ما شاهده يحمله على الاعتقاد بأن المماليك سوف يقابلون بنَهمٍ زائد كلَّ مفاتَحةٍ «في موضوع مساعدتهم» قد تأتيهم من جانب الحكومة الفرنسية.»
وكان في أثناء وجود «لسبس» بالإسكندرية أن وصله من عثمان البرديسي من القاهرة كتابٌ يُظهِر فيه صداقتَه للحكومة الفرنسية، ويدعو «لسبس» للمجيء إلى القاهرة والإقامة بها، وصار لسبس في حيرة من أمره؛ لأن «الحكومة» القائمة بالقاهرة وقتئذٍ بزعامة إبراهيم والبرديسي ومحمد علي لم تكن «حكومة» شرعية، وكان «الباشا» العثماني خسرو هاربًا من القاهرة، بينما كان «ضباط أو مندوبو الباب العالي» الشرعيون يمثِّلهم في هذه الظروف أحمد خورشيد حاكم الإسكندرية، ويجب على لسبس بمقتضى تعليماته أن يحصُر اتصالاته مع مندوبي الباب العالي، بل ويجب عليه كذلك «عدم التدخل» في أية نزاعات قد تقوم بين هؤلاء الأخيرين، وبين البكوات المماليك وغيرهم ممن قد ينازعونهم السلطة كالجند الأرنئود الذين صار زعيمهم محمد علي متضامنًا مع البكوات في إقامة «حكومة» القاهرة غير القانونية.
يقابل ذلك كله أن هذه «الحكومة القاهرية غير القانونية كانت السلطات القائمة» فعلًا، وقد نصَّت التعليمات على وجوب مقابلته ﻟ «السلطات القائمة» بالقاهرة ليؤكد إخلاص وصدق نوايا حكومته لها، فصح عزم «لسبس» على الذهاب إلى القاهرة بعد أن جاءتْه دعوة البرديسي، وبخاصة لأنه «حسب الأوضاع القائمة قد ينجم تعريض الفرنسيين للخطر وإيذاء مصالحهم التجارية، إذا هو أغضب الحزب الذي يحكم القاهرة يقينًا، والذي من المحتمل أن يُصبح صاحب السلطان على مصر بأسرها»، وعلاوةً على ذلك فقد كان من رأي «لسبس» إذا هو أهمل الجواب على كتاب البرديسي فقد فرصة استمالة البكوات إلى جانب فرنسا وتعطيل نشاط الوكلاء الإنجليز؛ وعلى ذلك فقد وجد من حسن السياسة، وتمشيًا مع تعليماته التي أوصته بكسب ثقة واحترام مندوبي الباب العالي وممثِّلي صاحب السلطان الشرعي في البلاد، أن يُطْلع أحمد خورشيد على كتاب البرديسي، وأن يستشيره في أمره مؤملًا إقناع خورشيد بفضل ما يُظهِره له من «ثقة» ينمُّ عليها اطِّلاعه على الرسالة بتمكينه من السفر إلى القاهرة.
وعندئذٍ طلب «لسبس» أن يجتمع سرًّا بخورشيد باشا، وأطلعه على «جزء» من كتاب البرديسي، راجيًا منه الكتمان والسرية، وسأله رأيه في الجواب عليه، «فأظهر الباشا تأثُّره من هذه الثقة» التي وضعها المندوب التجاري الفرنسي في شخصه، وأشار عليه بأن يجيب على رسالة البرديسي بعبارات الملاطفة والمسايرة فحسب؛ لأن «لسبس» — كما قال خورشيد — لا يجب أن يغيب عن ذهنه «أن المماليك أعداءُ الباب العالي حليف فرنسا، ولا يجب أن يكون لأحدٍ أية علاقات وثيقة معهم»، وحاول «لسبس» أن يظفر من خورشيد — بناءً على هذه «الثقة» التي تُوهِم أن خورشيد باشا صار يُقدِّرها حق قدرها — بإجازة السفر له إلى القاهرة، ولكن خورشيد رفض، بل استطاع أن يُفهِم محدِّثه أنه لن يتوانى عن استخدام كل وسيلة لمنع «لسبس» من السفر، وكان في استطاعة خورشيد أن يفعل ذلك؛ لأن «براءة» اعتماد الباب العالي ﻟ «ماثيو لسبس» التي تخوِّله مباشَرةَ مهام وظيفته لم تكن قد جاءته بعد، ولأن خورشيد اعترض على إقامة «لسبس» بالقاهرة «بالقرب ممَّن سمَّاهم عصاةً» ثائرين على الباب العالي، واضطر «لسبس» إزاء ذلك إلى التصريح بأنه لا رغبةَ له بتاتًا في الذهاب إلى القاهرة، وأجاب على رسالة البرديسي بعبارات ملؤها الأدب والود، منتحلًا في الوقت نفسه مختلف الأعذار عن تأخره بالإسكندرية.
وارتكب «لسبس» خطأ كبيرًا ﺑ «كشف» البرديسي الذي يسعى لكسب صداقة حكومته وخيانة ثقته به، واعتقد أن في وسعه تبريرَ هذا المسلك الشائن إذا ادَّعى — على نحوِ ما كتَبَ إلى «تاليران» في ٢٠ يونيو ١٨٠٣ — أنه خشي أن تكون الرغبة في جس نبض الحكومة الفرنسية هي التي جعلت البرديسي يدعوه للحضور إلى القاهرة، أو أن يكون في عزم البرديسي «حمله على إتيان شيء قد يكون موضعَ استنكارِ حكومته فيما بعد، فضلًا عن أنه كان يخشى إذا علمت الحكومة العثمانية استلامَه هذا الكتاب — وهي التي لا يمكن أن تجهل ذلك — أن يسيئها استلامُه له، وأن تخرج بسبب ذلك إلى نتائج غير حميدة»، بينما هو إذا أطلع مندوبي الباب العالي على رسالة البرديسي، استطاع «أن يكسب ثقة قوات أو مندوبي السلطان العثماني، وإعطاءهم فكرة عظيمة عن نوايا «فرنسا» الصريحة والموالية لهم».
ثم زادت حيرة «لسبس» عندما وصل أخيرًا إلى الإسكندرية في ٨ يوليو سنة ١٨٠٣ «علي باشا الجزائرلي» الوالي الجديد الذي اختاره الباب العالي لباشوية مصر، وكان من أسباب حيرة «لسبس» أنه صار — بقدوم علي باشا — ممثلًا ومندوبًا شرعيًّا للسلطان في مصر، ولا يبدو أنه بوسع هذا الباشا العثماني الذهابُ إلى القاهرة لتسلُّم منصبه بها بسبب «الحكومة» التي أوجدها بها الحلفاءُ الجُدُد محمد علي والبكوات المماليك، إلا إذا أذِنَ له هؤلاء بالحضور إليها، وقبلوا تنصيبه واليًا عليهم، وكانت قواتُهم في الوقت نفسه قد استولت على دمياط وبعثت بخسرو محمد باشا أسيرًا إلى القاهرة، وكان واضحًا أن «محمد علي» والبكوات هم أصحاب السلطة الفعلية، أو أن المماليك — على حد قول لسبس نفسه — «أسياد مصر بأسرها ما عدا الإسكندرية»، وكان عليه حينئذٍ أن يختار بين الإقامة بالإسكندرية، وقد باتت مقر «السلطة الرسمية»، ويُقيم بها ممثل الباب العالي، ويكون في هذه الحالة قد نفَّذ تعليمات حكومته، وبين الذهاب إلى القاهرة، مقر «السلطة الفعلية» الموزَّعة بين محمد علي وإبراهيم والبرديسي بالاتفاق فيما بينهم جميعًا، وفي ذهابه إلى القاهرة مخالفةٌ صريحةٌ لتعليماته.
واختار «لسبس» ترك الإسكندرية إلى القاهرة، وكان «لسبس» إلى جانب هذه الحيرة، في حالة نفسية سيئة على ما يبدو مبعثها خوفه من امتداد عمليات الأرنئود العسكرية إلى الإسكندرية، بعد أن سقطت دمياط في أيدي محمد علي والبرديسي في ٣ يوليو، ولم تبلغه أية تعليمات عن الوكيل الفرنسي بدمياط «باسيلي فخري» الذي نُهِب منزلُه في حادث سقوطها، ثم بعد أن صارت رشيد في يد البكوات الذين لم يخلوها حتى منتصف يوليو تقريبًا، وكان إخلاؤهم لها بسبب انتشار إذاعة في القاهرة عن اعتزام الوهابيين الهجومَ على مصر، جعلتْ إبراهيم بك يحشد قواته بالقاهرة، وعلى ذلك فقد كان الذعر منتشرًا بالإسكندرية عند وصول علي باشا الجزائرلي من قدوم الأرنئود إليها من رشيد التي لم يوجد بها ماءٌ صالح للشرب أو أغذية تكفي هؤلاء، فيضطر الأرنئود والعربان للنزوح إلى الإسكندرية، أضِفْ إلى هذا أن «براءته وبراءة زميله دروفتي» لا زالت لم تصل من القسطنطينية، كما لم يصل التراجمة المخصصون للعمل بالقاهرة والإسكندرية، فصح عزم «لسبس» على ترك الإسكندرية.
وطلب «لسبس» مقابلة علي الجزائرلي، في نفس اليوم الذي وصل فيه، وتحدث إليه في موضوع سفره إلى القاهرة، وفي ١٥ يوليو كتب إلى «برون» في القسطنطينية ينقل إليه ما دار بينه وبين الجزائرلي، فقال «إنه اجتمع به طويلًا ويبدو له — بالرغم من حذر علي باشا الجزائرلي في حديثه — أنه يميل لمناصرة الإنجليز، أو يريد استخدامَهم في الوساطة بينه وبين البكوات للوصول إلى اتفاقٍ معهم.»
ثم إنه عندما تحدَّث إليه «لسبس» في مسألة سفره إلى القاهرة، لم يلبث أن صار يُهوِّل كثيرًا في جسامة الأخطار التي سوف يتعرَّض لها، واستند علي الجزائرلي في تهويله هذا على ما هو قائمٌ من علاقات وثيقة الآن بين الإنجليز والمماليك، وغرضه من ذلك منع «لسبس» بكل الوسائل من الذهاب إلى القاهرة.
ثم استطرد «لسبس» يقول «إنه أعلمه بتصميمه على الذهاب إليها دون أن يذكر له أن المماليك لا يريدون إهلاكه أو إفساد أعماله، ولكنه تذرَّعَ بأسبابٍ أخرى، كرغبته في القيام بواجبه وحماية الفرنسيين الموجودين بها، فوافق «علي الجزائرلي»، ولو أنه قال «إنه يعرف أن وجود «لسبس» بالقاهرة لا يمكن أن يُفيد لا أطماع دولته ولا صالح حكومة علي باشا نفسه».»
ويبدو أن «علي الجزائرلي» ظل ممانعًا في سفر «لسبس» إلى القاهرة، كما فعل خورشيد من قبل، وساعد قطع المواصلات بين القاهرة والإسكندرية — بسبب انسحاب المماليك من رشيد في طريقهم إلى القاهرة — على تعطيل «لسبس» الذي خشي كذلك أن يجد نفسه إذا هو غادر الإسكندرية في هذه الظروف وسطَ بعض المناوشات أو المعارك، ولو أنه كان أكثر خوفًا من دخول الأرنئود والمماليك إلى الإسكندرية في وقتٍ كان حلفاء القاهرة «محمد علي – إبراهيم – البرديسي» يستعدون للزحف عليها وحصارها.
وعلى ذلك فقد تريَّث «لسبس» حتى علم أن الطريق قد صار مؤمَّنًا، فخشي من ضياع الفرصة، وراح يُلِحُّ من جديدٍ على «علي الجزائرلي» حتى يسمح له بالسفر، ولم يجد في هذه المرة وسيلةً أفضل من «التشاوُر معه في مسألة العقبة الوحيدة التي كان يُثيرها لمنعه من السفر، وهي تعرُّضُه للأخطار»، وظفر منه «لسبس» بجواز سفر، فغادر الإسكندرية في ٢٤ يوليو ١٨٠٣، ولكنه ما لبث أنْ علِمَ بأن «علي الجزائرلي» كتب إلى البكوات بالقاهرة حتى لا يقابلوه، وأنذرهم بأنهم إذا رحَّبوا به أثاروا عليهم غضب الباب العالي «وعدم رضا دولة أخرى لم يذكرها»، فدهش «لسبس» وكان من حقه أن يدهش.
ذلك بأن «لسبس» ارتكب في مقابلته هذه مع الجزائرلي نفسَ الخطأ الذي ارتكبه عند محاولته التأثير على «أحمد خورشيد» لتسهيل حصوله على جواز للسفر إلى القاهرة، فقد حدث أن صار البرديسي يلحُّ في طلب مقابلته بعد أن بعث إليه رسالته، وتردَّد «لسبس» طويلًا خوفًا من إثارة غضب «علي الجزائرلي»، ولكنه اقتنع أخيرًا بمقابلته صونًا للمصالح الفرنسية، فاجتمع به سرًّا وتحدَّث البرديسي بصراحة عن آماله ومشروعاته، وعن كراهيته للإنجليز وصداقته لفرنسا، فرأى «لسبس» في «مشاورته» مع علي باشا لإزالة «العقبة» التي أثارها الأخير دائمًا لمنعه من السفر؛ أن ينقل إليه كلَّ ما تحدَّث به البرديسي.
ومع أن «لسبس» تذرَّع بحُجج كثيرة في رسالته التي كتبها في القاهرة في ١٩ أغسطس إلى «تاليران»، ينقل إليه خبرَ حصوله على جواز سفر إلى القاهرة من «علي باشا»، فإنه لم يذكر شيئًا عن هذه الخيانة الجديدة للعهد مع المماليك.
ولكن المؤرِّخين الفرنسيين أنفسهم يؤكدون هذه الخيانة؛ فقد قال أصحابُ التاريخ العلمي والعسكري للحملة الفرنسية في مصر (المجلد التاسع)، إنه بعد مقابلة البرديسي لماثيو لسبس التي ذكرناها، «إن لسبس نسي الواجب الذي تفرضه عليه فرضًا ثقة «البرديسي» المطلقة به، فلم يرَ ما يمنعه من طلب مقابلة سرية مع الوالي «علي الجزائرلي» في اليوم التالي، وأبلغه كل تفاصيل ما دار بينه وبين الزعيم المملوكي، فألحَّ الإنجليزُ في ضرورة استبقاء «لسبس» في الإسكندرية، وكان غرض «لسبس» من هذه الخطوة أنْ يحصل بسرعة على جواز المرور الذي كان قد ظلَّ يطلبه من مدة طويلة للسفر إلى القاهرة. حقيقة انتهى الأمر ﺑ «علي الجزائرلي» بإعطائه هذا الجواز، ولكنه حرص في الوقت نفسه على الكتابة إلى البكوات يطلب منهم مَنْعَ «لسبس» من الوصول إلى القاهرة حتى لا يجلبوا عليهم سخطَ الباب العالي وبريطانيا العظمى.»
وقد قابل «لسبس» في طريقه إلى القاهرة عثمان بك البرديسي في بلدة «فوة» واجتمع به، وذكر «لسبس» في رسالته السالفة الذكر إلى تاليران «أنه تبيَّن له أن البرديسي أمينٌ في ولائه للفرنسيين، ومتذمِّر من الإنجليز، ولكنه لا يستطيع الجهرَ بعدائه لهم إلا إذا وقف على حقيقة نوايا القنصل الأول.»
وعند وصول «لسبس» إلى القاهرة قُوبِل — على حد قوله — بترحيب عظيم، وأرسل إليه إبراهيم بك يطلب الاجتماعَ به سرًّا، وتم هذا الاجتماع في بيت إبراهيم بك في ٧ أغسطس، فقال له إبراهيم بك: «إن الفرنسيين تسبَّبوا في إيذاء المماليك وأفقدوهم سلطانهم، وغادروا مصر دون أن يفعلوا شيئًا لتمكين البكوات من استرجاع نفوذهم وسلطتهم، ولم يُجيبوا بشيء على مقترحات وكلاء البكوات الذين لم يطلبوا سوى مؤازرة مَن كانوا بالأمس أعداءَهم، فقد حارب البكوات وتمسَّكوا بمعاهدة مراد بك مع «كليبر»، وإذا كان البكوات الآن غير متحدين فإنما ذلك خطؤهم هم وحدهم، وقد كلَّفهم قصر نظرهم هذا ثمنًا غاليًا، ولقد عرفوا الآن حقيقةَ الإنجليز والعثمانلي، وخدعهم الإنجليز بوعودهم الخلابة، ولا غرضَ لهم سوى صرف البكوات عن صداقة ومحبة الفرنسيين، ولكنهم يعرفون مصالحهم، وهم (أي البكوات) لا يريدون رئيسًا لهم وحاميًا سوى السلطان العظيم بونابرت.»
ورجا إبراهيم بك «لسبس» أن يوفد رسولًا يثق به إلى فرنسا؛ «لأن كل خطابات البكوات التي أرسلوها إلى فرنسا لم تصل، وهم لا يعرفون لذلك نوايا القنصل الأول أو ما يريده منهم، وطلب إبراهيم أن يبلغ هذا الرسول «بونابرت» أنهم على استعداد لقبول أية حلول قد يراها، فإذا شاء إعطاءهم الشام تركوا له مصر وقاموا هم بفتح الشام، وإذا شاء بقاءهم بالقاهرة كما كانوا سابقًا في نظير دفع الميري للسلطان كانوا طوع إرادته، وإذا شاء أن يعودوا إلى الصعيد أجابوه إلى ذلك أيضًا، وإذا شاء أنْ يساعدهم سرًّا ودون أن تفسد علاقته بالباب العالي قبلوا مساعدته ونُصْحه وإرشاداته، وإذا شاء جهرًا أن يستقلوا حاربوا من أجله ومعه وهم واثقون من النصر، وأخيرًا إذا فرض عليهم «بونابرت» شروطًا فهم يطيعون كلَّ ما يمليه عليهم.»
ولكن ترحيب البكوات بالمندوب أو «القنصل» الفرنسي، وحُسْن معاملتهم له ما لبثت أن تغيَّرت في الشهور التالية، وأما سبب تغيُّر مسلك البكوات معه فهو وقوفهم — على ما يبدو — على «خيانة» لسبس و«كشفه» لهم مع الجزائرلي، وقد شكا «لسبس» من مسلك البكوات معه ومع المحميين الفرنسيين في القاهرة.
ولا شك في أن خيانة «لسبس» لثقة البكوات به كانت خطأ جسيمًا — كما ذكرنا — بل إن «تاليران» وزير خارجية حكومته ما لبث أن وجَّه إليه اللومَ الشديد عندما علم بما فعله، فكتب إليه في ٢٦ سبتمبر أنه أخطأ في إطلاع «علي الجزائرلي» على كتاب عثمان بك، ولما كان تاليران يعتقد أنه ما زال بالإسكندرية، فقد أبلغه إرادةَ القنصل الأول الذي يطلب منه الإسراع بالذهاب إلى القاهرة. وأما القنصل الأول فقد ثارتْ ثائرتُه عندما بلغه ما فعله «لسبس»، فكتب إلى تاليران في ٢٤ نوفمبر أن يبلغ «لسبس» «أنه كان مخطئًا عندما أطلع باشا القاهرة (علي باشا الجزائرلي) على خطاب المماليك (عثمان البرديسي)، وأنه يجب عليه أن يرسل إلى فرنسا كلَّ ما قد يعرضه عليه البكوات بعد ذلك، من غير أن يخبر الأتراكَ بشيء من ذلك.»
وقد ظهر تغيُّر البكوات من ناحيته، عندما فرضت «حكومة القاهرة» في أغسطس إتاواتٍ شديدةً على المسيحيين دون استثناء المحميين الفرنسيين، الذين تعفيهم فرمانات الباب العالي — أو الامتيازات — من هذه الإتاوات والمغارم، وتدخَّل «لسبس» لإعفاء هؤلاء والمحميين التابعين للسويد، والذين لم يكن لهم قنصل بالقاهرة، كما نجح في تخفيف الإتاوات على سائر المسيحيين، وانتهز هذه الفرصةَ حتى يُبلغ إبراهيم بك أنه يَعدُّه هو وعثمان البرديسي — الذي كان مع محمد علي بدمنهور وقتئذٍ استعدادًا للزحف على الإسكندرية وحصارها — مسئولَيْن عن أمن الفرنسيين بها عند سقوطها، وطلب إلى إبراهيم أن يُصدِر «أوامرَ» صريحةً بذلك إلى البرديسي، كما أبدى اهتمامه بصالح وكيل الجمهورية الفرنسية بدمياط «باسيلي فخري» وتعويضه عما ناله من أضرارٍ وقتَ سقوط دمياط.
وأساء البكوات عمومًا تمسُّك «لسبس» بالفرمان — أو الامتيازات — وعندما فرض البكوات في أكتوبر «قرضًا» على المسيحيين، لم يفلح «لسبس» هذه المرة في إعفاء «الرعايا» الفرنسيين منه فدفعوا نصيبهم منه، وشكا من عثمان بك الذي وصفه بأنه «رجل أهواء وظالم»، وكان «لسبس» قد أبلغ حكومته عن تقرير هذا القرض وقدره ٢٠٠ كيسٍ منذ ٢٠ سبتمبر، وقال إنه لم يجد مناصًا من قبول «الرعايا» الفرنسيين لدفع نصيبهم منه؛ تفاديًا للمخاطر التي قال البكوات: «إن هؤلاء والمسيحيين عمومًا سوف يعرضون أنفسهم لها إذا امتنعوا عن الدفع.» فقبلوا الدفع أو إقراض «الحكومة» بضمانة الميري «خوفًا مما يلحق من أذًى بالرعايا الفرنسيين وبالراية الفرنسية.»
وحاول «لسبس» استرضاءَ عثمان البرديسي منذ عودته إلى القاهرة في ٢٠ سبتمبر، فهنَّأَه على سلامة العودة وبعث إليه بالهدايا كسائر الوكلاء، وطلب مقابلته، ولكنه انتظر أيامًا كثيرة حتى نفد صبره، وأراد الاتصال بإبراهيم بك «شيخ البلد» للبحث معه في المصالح الفرنسية، ولكن هذا الأخير أحاله دائمًا على البرديسي، فلم يجد «لسبس» مناصًا من أن يبعث إليه بترجمانه، وتردَّد هذا الأخير في شهر أكتوبر مرات كثيرة على البرديسي دون طائل، ولما ذكر له الترجمان بناءً على أمر «لسبس» أن هناك معاهدات (امتيازات) قائمة بين الباب العالي وفرنسا، كان جواب البرديسي: «وهل عقدتم معاهدات معي؟ فإني لا أعتقد بغير المعاهدات المعقودة معي، لقد سلبتمونا «سلطاتنا»، وطردتمونا «من القاهرة ومن الحكم»، وذلك هو كل ما نحن مدينون لكم به.» وعندئذٍ هدَّد لسبس بمغادرة القاهرة حالًا إذا كان البكوات لا يعتبرون فرنسا صديقةً لهم، فأكَّد له البرديسي عندئذٍ صداقتَه لفرنسا وصداقتَه الشخصية له، وادَّعى أن المرض وحده هو الذي جعله شديدًا في كلامه.
ولكن الواقع — كما أشرنا — أن لسبس قد فقد مركزه مع البكوات المماليك، وشعر بامتهان هؤلاء له، ومنذ ٢٠ سبتمبر صار يكتب لحكومته حتى تنقله من القاهرة للعمل في أي ميناء أو مكان آخر في أوروبا متعلِّلًا بمرضه وسوء صحته حتى قبلَ مغادرتِه باريس، وبحرارة الجو المحرق في مصر وحاجته إلى العلاج وإلا أهلكه المرض، ويطلب عرض مسألته على القنصل الأول، وفي ٢٤ أكتوبر شكا ﻟ «تاليران» من سوء معاملة البرديسي له الذي رفض الاجتماع به بينما هو يقابل الوكيلين؛ النمساوي «روشتي» والإنجليزي «مسيت»، ويجتمع الأخير على وجه الخصوص برؤساء «الحكومة» المملوكية، وينال التجار البريطانيون في رشيد كل التزامات الاحتكارات، وينعمون بمزايا «الامتيازات» وحدهم، ويبغي «روشتي» السيطرةَ على تجارة البلاد وحده، حتى إن «لسبس» شكا هذه الحالة للست نفيسة المرادية، فقابله في اليوم التالي لزيارته لها عثمان البرديسي في بيته ورحَّبَ به، وشكا له بدوره من عدم وصول جوابٍ من بونابرت على رسائله له، وفي ٣ نوفمبر شكا «لسبس» لزميله «دروفتي» بالإسكندرية من بقائه بالقاهرة مهدَّدًا بالقتل والنهب على أيدي القَتَلة المهيجين في الوقت الذي لا يستطيع فيه أن يفعل شيئًا في مسألة «الامتيازات» ورعاية المصالح التجارية الفرنسية، وشكا له من البكوات الذين أعلنوه أنهم لا يعترفون بالامتيازات التي يتكلم عنها، وقال «لسبس» مهتمًّا إنه «لا يجد نفسه سعيدًا في وكر اللصوص هذا الذي يتظاهرون فيه بالحيدة الكاذبة والمزيفة، بينما هم جميعًا قد باعوا أنفسهم للإنجليز». وفي ٢٢ نوفمبر أخطر «دروفتي» أنه يفكِّر في مغادرة القاهرة وما عاد يمكنه البقاء بها، ويظن أن بوسعه الالتجاء إلى «علي باشا الجزائرلي» بالإسكندرية، ويوصي دروفتي بملاطفته وملاينته.
ومنذ ٢٨ أكتوبر كتب «مسيت» أن لسبس قد لقي من البكوات في القاهرة معاملةً غير تلك التي يتوقعها، حتى إنه طلب فعلًا من حكومته أن تبعث في استدعائه من مصر، وحتى إنه قال ذات مرة عندما نفد صبره بسبب إهمال البكوات له «إنه من المتعذر تمامًا تفسير مسلك هؤلاء معه بعد كل تلك الخطابات التي كتبوها للقنصل الأول، والتي قرأها «لسبس» نفسه، والتي قالوا فيها إنهم جنوده، وإنه والدهم، وإنهم يرجونه ألا يتركهم أبدًا»، ثم أضاف: «إن مسلك حسين بك الزنطاوي لا يقل في غرابته عن مسلك الآخرين؛ لأنه عند وصول «لسبس» القاهرة قال له إنه جعله يمر بطريقٍ يمكِّنه من السير تحت نوافذ بيت القنصل الإنجليزي، حتى يعرف هذا الأخير مدى تعلُّق الناس ومحبتهم لفرنسا، واليوم يرفض حسين بك الزنطاوي السماح ﻟ «ماثيو لسبس» بشراء بعض القمح لحاجته الخاصة.»
وبقي «لسبس» بالقاهرة على مضض، ووقعتْ — وهو لا يزال بها — حوادثُ قتل علي باشا الجزائرلي في يناير سنة ١٨٠٤، وإعلان «قائمَّقامية» إبراهيم بك في القاهرة، وخشي «لسبس» على حياته بسبب الاضطرابات التي وقعتْ في القاهرة وقتئذٍ نتيجةً لاصطدام «الأرنئود وزعيمهم محمد علي» مع البكوات البرديسي وإبراهيم بك، وانهيار المحالفة التي كانت بين هؤلاء البكوات ومحمد علي لأسبابٍ سوف يأتي ذكرها في حينه.
وفي أثناء هذه الاضطرابات التي بدأت من أواخر يناير واستمرتْ طيلة شهر فبراير، صمَّمَ «لسبس» على مغادرة القاهرة، ولكن البكوات حاولوا منعه، فبعث إليه حسين بك الزنطاوي حتى يصرفه عن عزمه.
وكان في أثناء هذه الاضطرابات أنْ خطا محمد علي خطوته العملية والإيجابية الأولى لاستمالة الوكلاء الفرنسيين وكَسْب ثقتهم، فأخبره — بعد أن طلب منه الكتمان والسرية — «أن جميع الأرنئود يريدون مرتباتهم، وأنهم بمجرد حصولهم على بعض المال سوف يقومون بحركةٍ جليلة تُكسِبهم رضاء الباب العالي عليهم ثانيةً، وتقضي قضاءً مبرمًا على المماليك.»
وعندما تحرَّجت الأمور في القاهرة منذ ٢٧ يناير، أسرع التجارُ الأوروبيون الذين بقوا في القاهرة بمغادرتها إلى الإسكندرية، فبعث محمد علي والزعماء الأرنئود إلى «لسبس» أنهم عاجزون عن توجيه الجند الأرنئود وإرشادهم، وليسوا لذلك مسئولين عن فِعالهم، وأن انفجار العاصمة على وشك الوقوع في أية لحظة؛ ولذلك فهم — لصداقتهم له — ينصحونه بالذهاب إلى الإسكندرية، وأعطاه محمد علي كتابَ توصيةٍ لسلامته في أثناء رحلته، مُعَنْونًا باسم عمر بك في رشيد، وهو من رؤساء الأرنئود وصديق لمحمد علي، وصديق كذلك — على حد قول لسبس — لفرنسا، فغادر «لسبس» القاهرة وبيده كتاب محمد علي، فرحَّبَ به عمر بك في رشيد، واستطاع الدخول إلى الإسكندرية بسلام في ٤ مارس سنة ١٨٠٤، وفي اليوم التالي كتب يطلب تعليماتٍ من حكومته.
وحضر «لسبس» عهدًا من حكومة خورشيد باشا بالإسكندرية، وحصل منه على وعود طيبة باحترام «الامتيازات» وعدم إيذاء المحميين أو الرعايا الفرنسيين بها، وتدخَّلَ «لسبس» حتى يعيد خورشيد إلى هؤلاء الأموالَ التي اغتصبها منهم باسم «القروض» وأعادها خورشيد فعلًا، وشهد «لسبس» ذهابَ خورشيد إلى القاهرة وتولِّيه الباشوية بها، وظلَّ يرسل إلى حكومته كل ما وقف عليه من معلومات عن الحوادث التي وقعت بالقاهرة بعد طَرْد البكوات منها، إلى وقت المناداة بخورشيد باشا واليًا على مصر، ثم ما وقع من حوادث بين المماليك والباشا العثماني. وقد عاد من الإسكندرية إلى القاهرة حسب تعليمات بونابرت، لكنه لم يمكث بها إلا قليلًا فارتحل إلى الإسكندرية في يوليو، وكان الإمبراطور نابليون قد أمر بإعطائه إجازة للعودة إلى فرنسا منذ ٧ يوليو سنة ١٨٠٤، وكان آخِر نشاط له أن استقدم من القاهرة إلى الإسكندرية جميع الفرنسيين الذين كانوا بها بسبب الاضطرابات في القاهرة والخوف على أنفسهم وسلامتهم، فوصلوا الإسكندرية في ١٧ سبتمبر سنة ١٨٠٤، وفي ١٩ نوفمبر غادر «لسبس» الإسكندرية.
وأخفق «لسبس» في مهمته في مصر، فهو لم يستطع منع اعتداءات السلطات القائمة بالقاهرة على المحميين أو الرعايا الفرنسيين، ولم يُفلح في إقناع هؤلاء باحترام «الامتيازات» التي تصون التجارة الفرنسية، وكان كل ما أدركه من نجاح في هذه المسألة إقناعه خورشيد باشا بالإسكندرية بإرجاع الأموال التي اغتصبها من المحميين بالإسكندرية تحت ستار «القروض»، ثم بذل الوعود الطيبة والمبهمة بعد ذلك باحترام «الامتيازات»، وأخفق «لسبس» في الظفر بثقة البكوات المماليك وإن ظل هؤلاء وخصوصًا عثمان البرديسي يرجون الاعتماد على فرنسا ومناصرتها لهم، وأخفق «لسبس» في كسب احترام وثقة «السلطات العثمانية»، وممثِّلي الباب العالي الشرعيين في مصر، وأخفق في إحباط مساعي الإنجليز الذين نجحوا في استمالة فريق من البكوات لتأييد سياستهم ومصالحهم في مصر.
وفضلًا عن ذلك فقد ارتكب «لسبس» أخطاء كثيرة، أبشعها «خيانة» عهد البكوات المماليك، وأظهر في مهمته عجزًا وقصر نظر كبيرَيْن، وخصوصًا في علاقاته مع رؤساء الأرنئود ومع محمد علي، على وجهٍ أَخَص، وفات الوكيلَ الفرنسي أن يدرك أن السلطة — لا مفرَّ — من نصيب محمد علي عاجلًا أو آجلًا، ولم يفعل شيئًا لمساعدة محمد علي، ولم يخطُ خطوةً من جانبه لاستمالته، بل كان لمحمد علي فضلُ السبق في محاولة استرعاءِ انتباهِ الوكيل الفرنسي له، وجذبه إليه وتوسيطه لدى القنصل الأول حتى يكسب الحكومة الفرنسية لمؤازرته. وأما رأي «لسبس» في محمد علي فقد عبَّرَ عنه صراحةً في رسالته إلى تاليران من القاهرة في ٢٣ فبراير ١٨٠٤ — أيْ قُبَيْل الحوادث التي أفضت إلى طرد البكوات من القاهرة بأيام معدودات — فقال: «إن «محمد علي» زعيم الأرنئود يريد حمايةَ فرنسا وتوسُّطَها لدى السلطان العثماني، وفي وسعي أن أؤكد لك سلفًا أنه لا لبسَ ولا إبهامَ في مقاصده، وأنه يريد الاستيلاء على السلطة العليا، ولكني لا أعتقد بتاتًا أن هذا الزعيم «الألباني» — ولو أنه يقلُّ قسوةً وتوحُّشًا عن نظرائه ويبدو مواليًا لنا — يتمتع بعبقريةٍ أو نبوغٍ يمكِّنه من ابتكار خطة واسعة وبرنامج شامل والوسائل اللازمة لتنفيذه.»
وكان السبب الأكبر في فشل «لسبس» في مهمته إصرار القنصل الأول على المُضيِّ في سياسته السلبية نحو مصر، بالرغم مما بذله «لسبس» نفسه لتوجيه أنظار حكومته لحقيقة الموقف في مصر، وكان مبعث هذه الخطة السلبية محاولة بونابرت — قبل أي اعتبارٍ آخَر — في الإبقاء على علاقاته الودية مع الباب العالي، ومنع تركيا من الانضمام إلى أعدائه، أضِفْ إلى هذا توهُّمه أن ممثِّلي السلطان العثماني كانوا أصحاب السلطة في مصر، فانحصرتْ سياسته بالنسبة لمصر في عدم إغضاب أو إزعاج مندوبي الباب العالي صاحب السيادة الشرعية فيها، ثم مُداراة البكوات المماليك، واستعادة صلاته بهم، وجذبهم إلى جانب فرنسا خدمةً لمصالحها التجارية في مصر، ولكن دون أن يقوم بأي عمل «إيجابي» من أجل تحقيق رغبة البكوات الرئيسية؛ وهي استرجاعهم لنفوذهم وسلطتهم السابقة، وعودتهم إلى الحكم في الوضع الذي كانوا عليه قبل الغزو الفرنسي في عام ١٧٩٨، وطلب البكوات نجدةً فرنسية من ثلاثة آلاف رجل، وخمسمائة بندقية بالسونكي، وعشرة مدافع ميدان، وألف سيف، وغير ذلك من الأسلحة، إلى جانب قرض «مائتَيْ مليون» من الفرنكات أو ما يمكن إقراضه (يونيو ١٨٠٤)، وبطبيعة الحال لم يُجِب «نابليون» على شيءٍ من ذلك، ثم اهتمَّ بونابرت بضرورة ملاحظة نشاط الوكلاء الإنجليز في هذه البلاد؛ خوفًا من أن يُقدِم الإنجليز على غزو مصر واحتلالها، إذا اضطروا بسبب تطوُّر النضال بينهم وبين بونابرت إلى مثل ذلك. ومع أن السفير الإنجليزي بات يبذل قصارى جهده في القسطنطينية من أجل الوصول إلى اتفاق وحل «إيجابي» يحسم الخلاف بين الباب العالي والمماليك، ويهيئ للأخيرين فرصةَ العودة إلى الحكم في مصر، ونجحوا فعلًا في هذه الفترة في سياستهم — على نحوِ ما سيأتي ذكره بعد — فقد اكتفى بونابرت بعرض وساطته في القسطنطينية، دون أن يعرض حلولًا إيجابية على الديوان العثماني، متحاشيًا إزعاجَ الديوان للاعتبارات التي ذكرناها، وقيَّدَ هذا الموقف «السلبي» ولا شك نشاطَ «لسبس» في القاهرة.
فقد طلب «لسبس» تعليمات جديدة من حكومته منذ وصوله إلى الإسكندرية، وتغيَّر الموقف عن الوقت الذي صدرتْ إليه تعليماته الأولى فيه في مارس ١٨٠٣، وظل يطلب هذه التعليمات في الشهور التالية حتى نهاية عام ١٨٠٣، وكتب الجنرال «برون» من القسطنطينية في ٢٥ أكتوبر ١٨٠٣ يذكر لتاليران، أنه بناءً على التقارير التي وصلتْه من مصر «قد بات الموقف بها في حالة يجعل ضروريًّا «أن يوضح وزير الخارجية رأيه ورأي حكومته» بشأن هذه البلاد التي قد تكون مبعث إما آمال عظيمة، وإما خيبة وأسف كبيرَيْن»، وضاق صدر «لسبس» من تحرُّج الموقف وعدم ظفره من حكومته بما يُنير له الطريق وسط الاضطرابات السائدة بالقاهرة في أواخر عام ١٨٠٣، فكتب في ٢ نوفمبر من هذا العام يطلب تعليماتٍ جديدة، بل وقال: «أما إذا كانت نوايا الحكومة ألَّا يدخل «لسبس» في أية علاقات أو صلات مع البكوات، فإنه يرى لزامًا عليه أن يصرح لحكومته أنه لا يرى داعيًا مطلقًا لوجود وكيل فرنسي هنا تحت رحمة خناجر القَتَلة والسفاكين.»
وكان كل ما ظفر به «لسبس» من تعليمات — توضِّح كذلك سياسة القنصل الأول — رسالة من الجنرال «برون» في القسطنطينية بتاريخ ١١ أغسطس ١٨٠٣ يُنبِئه باستلام رسائل «لسبس» المؤرَّخة في ٩ و١٠ يونيو، ويُبدِي ارتياحه لمسلك الوكيل الفرنسي وملاحظته لتقدُّم النفوذ الإنجليزي في البلاد ونشاط الجماعات التي تخضع لهذا النفوذ، ثم يطلب منه ألَّا يغيب عن ذهنه أنه مندوب للحكومة الفرنسية لدى الباب العالي، وبالتالي لدى وكلائه (أيْ وكلاء الباب العالي) المخلصين في مصر؛ أيْ أن «برون» صار يحضُّه على التزام تعليماته الأولى، ثم أكَّد «تاليران» هذا الواجب عندما بعث إليه بتعليماته في ٢٦ سبتمبر ١٨٠٣ بمناسبةِ إطلاعِ لسبس «علي باشا الجزائرلي» على كتاب عثمان البرديسي، فطلب منه عدم تكدير علاقاته مع العثمانيين وإثارة شكوك هؤلاء من جهته؛ «لأنه من المنتظر بسبب النجدات التي سوف يرسلها الباب العالي أن تصبح لهم السلطة في لحظة واحدة.»
وكانت التعليمات التي أصدرها بونابرت للرسول الذي أوفده إلى مصر غريبةً حقًّا، «يطلب إليه بعد أن يسلِّم خطابَ الشفرة إلى «لسبس» أن يستفيد من وجوده بالبلاد، فيجمع المعلومات الخاصة بقوات المماليك والباب العالي، وحالة الإسكندرية؛ الميناء والشواطئ القريبة، ويقف على الأغراض أو الدوافع التي توجِّه سياسةَ كلٍّ من المماليك والعثمانيين، ونوع العلاقات السائدة بين الفريقين، ونتائج الصراع المنتظر بينهما، ثم مقدار ما صار لدى المماليك من ثقةٍ بأنفسهم تحت تأثير النفوذ الإنجليزي السري في مصر، ثم معرفة مدى الأثر الذي يُحدِثه هذا النفوذ فيما قد يقرِّره البكوات، كما طلب إليه الوقوف على الرأي الذائع في مصر عن الإنجليز، ورأي الأهلين بالبلاد عمومًا، وحقيقة ميول البكوات خصوصًا من ناحية الفرنسيين.»