إنجلترا وسياستها الإيجابية في مصر
تمهيد
اختلفت الأغراض التي هدفت السياسة الإنجليزية لتحقيقها بالنسبة لهذه البلاد عن أغراض السياسة الفرنسية، وكان اختلافًا جوهريًّا مبعثه حاجة الحكومة الإنجليزية للاطمئنان إلى أن مصر سوف تستطيع — بعد انتهاء الحرب مع فرنسا وخروج الجيش البريطاني منها — الدفاع عن أرضها ومنع الفرنسيين من تجديد غزوهم عليها، بينما كان غرض فرنسا منذ أن أبرمت مقدمات الصلح مع تركيا أن تستأنف صلتها بمصر حتى تدعم علاقاتها التجارية معها وتبني فيها من النفوذ ما يصرف هذه البلاد عن مؤازرة الإنجليز إذا اضطرتْهم ظروف الحرب والسياسة في نضالهم مع فرنسا إلى النزول مرة أخرى في مصر بعد جلائهم عنها؛ ولذلك فإنه بينما اهتم الفرنسيون — كما شاهدنا — بعد صلحهم مع الأتراك، ثم بعد عقد معاهدة أميان بأن تجلو القوات البريطانية سريعًا عن مصر، تباطأ الإنجليز في خروجهم وأطالوا مُكثهم بها بعد الصلح العام سنة بتمامها.
وكان سبب ذلك أنهم أرادوا للوصول إلى غايتهم التي ذكرناها: العمل لإنشاء حكومة مستقرة موطدة تتسلم زمام الأمور في مصر، يكون في قدرتها الذود عنها ودَفْع أي اعتداء قد يقع عليها من ناحية الفرنسيين خصوصًا، ثم الحيلولة دون وقوع البلاد فريسة للفوضى السياسية فتُصبح عاجزة عن الدفاع عن نفسها.
وبينما لم يستطع الفرنسيون أن يكونوا أصحاب سياسة إيجابية؛ لأنهم جعلوا المسألة المصرية في المرتبة الثانوية أو التالية لسياستهم وجهودهم الحربية التي ارتكزت على كسب التفوق في القارة الأوروبية، والانتصار الحاسم على إنجلترا قبل أي عدو آخر من أعدائها، كان في مقدور الإنجليز أن يختطوا لأنفسهم سياسة إيجابية واضحة نحو مصر؛ لأن منع الفرنسيين من الاستيلاء عليها مرة ثانية، يضمن لهم استمرار تفوُّق أسطولهم في مياه البحر الأبيض، ويبطل مشروعات القنصل الأول والإمبراطور في الشرق، ويحفظ لهم أملاكهم في الهند، وقد ترتب على هذه الحقيقة أنْ صارت سياستُهم نحو تركيا ومصر — والأخيرة من أملاك الإمبراطورية العثمانية — تسلك طريقًا مرسومًا هو إقناع الأُولى بالمحالفة معها، كما حدث في ٥ يناير ١٧٩٩؛ وذلك لإخراج الفرنسيين من مصر بعد أن احتلوها في حملة بونابرت المعروفة، أو استمالتها إلى عدم الانضمام إلى فرنسا وانشقاقها على الإنجليز أنفسهم، كما حدث خصوصًا بعد استئناف الحرب بين إنجلترا وفرنسا في مايو ١٨٠٣، حتى إذا انحازتْ تركيا إلى جانب فرنسا، ثم ساءت العلاقات بينها وبين روسيا فقامت الحرب بينهما في ديسمبر ١٨٠٦، وانفصمت العلاقات بين إنجلترا حليفة روسيا وبين تركيا، بدأت الأولى عملياتها العسكرية بإرسال حملة إلى مياه الدردنيل والبسفور، وأخرى إلى مصر في عام ١٨٠٧، وهي «حملة فريزر» المعروفة.
فقد اقتضت سياسة الإنجليز الإيجابية — منذ أنْ نزل جيش «أبر كرومبي» في مصر في مارس ١٨٠١ لطرد الفرنسيين منها بمعاونة العثمانيين بقيادة الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا والقبطان حسين باشا؛ لتأمين الأغراض التي ذكرناها — محاولة تحقيق الاتفاق بين الباب العالي وبين المماليك، وهم القوة التي اعتقد العسكريون — ثم السياسيون — الإنجليز أن في استطاعتها الدفاع عن البلاد، وكان غرضُ الإنجليز من ذلك حسم الخلافات بين العثمانيين وبينهم؛ لأنهم رأوا أن هذه الخلافات إذا استمرت، فإنها لا تلبث أن تنشر الفوضى في مصر، وتحول دون إقامة الحكومة القوية التي وجب إنشاؤها لضمان الاستقرار في مصر، والقدرة على الدفاع عنها، وكان ارتباط الإنجليز في معاهدة إميان في ٢٥ مارس سنة ١٨٠٢ بإخلاء البلاد وتسليمها للأتراك من الأسباب التي زادتهم اقتناعًا بإنشاء هذه الحكومة الموطدة والمستقرة بها، وقامت جهودهم في التوفيق بين الباب العالي والمماليك في هذه المرحلة على أساس إعطاء المماليك بعض أقاليم الصعيد مع الاحتفاظ بسيادة الباب العالي، على أنْ تكون للعثمانيين السلطة الفعلية في القاهرة وسائر القطر، ولكن هذه الجهود باءت بالفشل.
ثم لم يلبث أن ازداد قلقُ الإنجليز وانزعاجُهُم عندما استؤنفت الحرب بينهم وبين الفرنسيين في مايو ١٨٠٣ — كما قدمنا — وشهدوا في مصر حربًا أهلية أثارها التنازُعُ على السلطة بين الأتراك والأرنئود والمماليك، الذي استمر أربع سنوات من ١٨٠٣ إلى ١٨٠٧، وأشاع الفوضى السياسية في البلاد، ولم يقنعهم استلام محمد علي لشئون الحكم بأن قوة جديدة قد ظهرت في هذا الميدان السياسي المضطرب منذ ١٨٠٥ في وسعها إذا أُتيحت لها الفرصة أن تُنهي هذه الفوضى السياسية، وتؤمِّن البلاد ضد أي اعتداء أجنبي عليها؛ لأن الباب العالي كان يناوئ «محمد علي»، ولأن المماليك كانوا يحاربونه، بينما اعتقد الوكلاء الإنجليز في مصر أنه «محمد علي» يميل إلى الجانب الفرنسي، وأن المماليك بالرغم من انحياز فريق منهم إليهم لا يترددون في مُنَاصَرة الفرنسيين إذا هم جاءوا إلى البلاد مرة ثانية، وكان نابليون لا يزال يُمَنِّي النفس بتحقيق مشروعه الشرقي العظيم والخطر يتهدد الإنجليز لذلك من ناحية هذه المشروعات إذا نزل بمصر في أثناء نضالهم الذي هو نضال الحياة أو الموت معه.
وكان لهذه الاعتبارات إذن أن صار الإنجليز في مرحلة سياستهم الإيجابية الثابتة منذ ١٨٠٤؛ يعملون لتمكين المماليك من الاستيلاء على السلطة الفعلية في البلاد بأسرها سواء رضي الباب العالي بذلك أو لم يرضَ، وفوت عليهم غرضهم انقسامُ المماليك على أنفسهم، والصراع الذي نشب بين وكلائهم والوكلاء الفرنسيين في مصر — ولا نقول الحكومة الفرنسية — من أجل الاستئثار بالنفوذ الأعلى في مصر، ووجود تلك القوة التي أشرنا إليها في شخص محمد علي الذي كان له من الدهاء ما جعله يفيد في تثبيت ولايته سنة بعد أخرى من كل تلك العوامل التي نشرت الفوضى السياسية في البلاد، وهي الفوضى التي كان الإنجليز كذلك برغم أنوفهم، وعلى غير ما يريدون أو يتوقعون من عواملها بسبب سياستهم الإيجابية.
ولكنه لما كانت إنجلترا تحرص دائمًا على تأمين مصر من غزو الفرنسيين لها، ولم يكن في نِطاق سياستها احتلال مصر وامتلاكها، فقد قررت — على الأقل — أن تمنع منافستها القديمة فرنسا من الظفر بالنفوذ الأعلى في البلاد ودعم مصالحها التجارية والسياسية بها، وانحصرت جهود الوكلاء الإنجليز وساستها وقوادها البريين والبحريين في تحقيق هذه الغاية، حتى إذا يئست إنجلترا من ذلك بين عامَي ١٨٠٤ و١٨٠٦ خصوصًا، واعتقدت أن مصر لن تستطيع وحدها وبوسائلها الدفاع عن نفسها ضد الغزو الفرنسي الذي توقعتْه فقد بادرت بإرسال حملة فريزر في عام ١٨٠٧، ولم تكن هذه سوى حملة وقائية أو حملة مانعة، ولم يكن غرض الحكومة الإنجليزية منها احتلال مصر وامتلاكها.
وهذه السياسة الإنجليزية الإيجابية مرت — كما شاهدنا — في أثناء تطورها في مراحل عدة، وخضع تطورها لتفاعُل هذه السياسة الإيجابية ذاتها مع العوامل الأخرى التي تضافرتْ وإياها على إشاعة الفوضى في البلاد، ثم مهدت في الوقت نفسه لظهور محمد علي، واتخذت في مرحلتها الأولى شكل الوساطة بين الباب العالي والمماليك من أجل الوصول إلى اتفاق بينهما يكفل إقامة الحكومة الموطدة المستقرة.
أصول السياسة الإنجليزية
وترتد هذه السياسة الإيجابية في أصولها القريبة إلى معاهدة التحالُف التي أبرمتْها إنجلترا مع تركيا في ٥ يناير ١٧٩٩، والتي كان سبب عقدها — كما ذكرنا — رغبة الإنجليز في إخراج الفرنسيين من مصر، ثم إبطال مشروعات بونابرت في الشرق، وفي هذه المعاهدة ضمن كلا الطرفين المتعاقدين أملاك الآخر، وتعهد جورج الثالث ملك إنجلترا بضمان جميع ممتلكات الإمبراطورية العثمانية دون استثناء ما وكما كانت قبل الغزو الفرنسي لمصر، ومعنى ذلك تعهد الإنجليز بإرجاع مصر إلى تركيا بعد طرد الفرنسيين منها، وأن أمر الدفاع عن هذه البلاد سوف يكون عندئذ موكولًا للعثمانيين.
وبدأت القوات الإنجليزية والعثمانية العمليات العسكرية ضد العدو المشترك، وكان في أثناء هذه العمليات أنْ نبتت فكرةُ الاعتماد على المماليك في الدفاع عن البلاد بعد ذهاب جيش الشرق وبعد ذهاب الإنجليز أنفسهم، ثم التوسط لدى الباب العالي صاحب السيادة الشرعية على مصر، والذي تعهد الإنجليز بموجب معاهدة التحالف معه على إرجاع البلاد إليه، وذلك من أجل الوصول إلى اتفاق بينه وبين المماليك يترتب عليه تهيُّؤ هؤلاء الأخيرين للدفاع عن مصر، وقد ارتبطت مسألة الدفاع عن مصر بالبحث كذلك في نوع الحكومة المستقرة التي تجب إقامتها والتي يكفل تأسيسها نفسه بقاء سيطرة العثمانيين في البلاد فلا يُطردون منها مرة ثانية إذا حدث غزو أجنبيٌّ آخر، ومن ناحية فرنسا ذاتها التي يعمل الحلفاء الآن على إخراج جيشها.
وكان مبعث هذا التفكير أن القواد الإنجليز فقدوا كل ثقة في قدرة العثمانيين بفضل ضعف جيوشهم وانعدام النظام بين صفوف الجند، وعجز قوادهم وضباطهم، واعتقدوا كذلك أن أدواء الانحلال المتفشية في الإمبراطورية العثمانية لا سبيل إلى علاجها، بل سوف تقضي عليها، فبدلًا من إزالة المساوئ التي تمنع من تشكيل جيش نظامي قوي يستطيع الدفاع عن مصر، صار من المتوقع — في نظرهم — أن تفقد الإمبراطورية العثمانية أملاكها وتفقد مصر ذاتها، التي تصبح عندئذ من نصيب فرنسا الطامعة أبدًا في امتلاكها، والتي لن تفتر لها همة — حتى بعد هزيمتها وخروجها منها — في العمل على العودة إليها.
وكان في هذه الرسالة أنْ قال إلجين: «وعلى ذلك فإذا كان الأتراك لا يُساهمون فيما ندركه من نجاح في عملياتنا العسكرية ضد الفرنسيين في مصر فسوف يكون من حقنا بكل تأكيد التصرف بحرية أوسع عند بحث الترتيبات التي نجد من الحكمة اتخاذها في مصر سواء فيما يتعلق منها بالحكومة العثمانية، أو البكوات المماليك أو مصالحنا البريطانية المباشرة ذاتها.»
بل إن هتشنسون لَيشك كثيرًا في مقدرة الأتراك على الاحتفاظ بمصر حتى ضد بقايا المماليك وسكان البلاد الذين قال عنهم: ولو أنهم يكرهون الفرنسيين فكراهيتُهُم للأتراك أشدُّ وأعظم ويرفضون بتاتًا سيطرتهم، ولا أمل في استطاعة الأتراك بسط سلطانهم على هذه البلاد بسبب انحلال إمبراطوريتهم التي تسود فيها الخلافاتُ الداخلية حتى لم يبق لحكومتها سوى مظهرها، وانتشرت الفوضى بها وصار الباشوات الحكام في شتى أملاكها مستقلين في شئونهم، ولا يفكرون في شيء غير النهب والسلب وتمكين سلطتهم في مقاطعاتهم؛ حيث يقاومون سلطة الباب العالي ولا يطيعون أوامره، وليس من المنتظر — لذلك — أن تستمر مصر في قبضة الدولة طويلًا، بل سوف تسقط في يد دولة أوروبية.
ويعتذر هتشنسون عن ذكر هذه التفصيلات، ولكنه يرى لزامًا عليه أن يبلغ ملاحظاته إلى حكومته حتى تتخذ الاحتياطات اللازمة ضد وقوع مصر في يد الفرنسيين مرة أُخرى، وفي هذه الرسالة أثار هتشنسون للمرة الأولى مسألة استبقاء الإسكندرية في أيدي الإنجليز حتى بعد تسليم مصر للعثمانيين، فقال: إنه لا يشك في أن حكومته تُدرك — تمام الإدراك — أن بقاء حاميات إنجليزية بالإسكندرية وأماكن أخرى ضروري «وإلا فإن الأتراك وحدهم سوف يعجزون عن الاحتفاظ بمصر»، وسوف تخرج هذه من أيديهم.
وكان هذا الخوف نفسه من عودة الفرنسيين إلى هذه البلاد بعد خروجهم منها، ورسوخ الاعتقاد بعجز العثمانيين عن الاحتفاظ بمصر والدفاع عنها هو الذي جعل هتشنسون يقلب وجوه الرأي في مسألة تنظيم الحكومة المنتظرة لتسلم زمام الأمور في مصر بعد انتهاء مهمة الجيش الإنجليزي وتسليم البلاد لتركيا، فكتب في ٢٥ أبريل سنة ١٨٠١ إلى اللورد إلجين يقول: ولو أن حكومته قد أصدرت إليه تعليماتها بعدم التدخل في شئون ممتلكات السلطان العثماني الداخلية، فقد رأى من واجبه أن يطلع الوزراء الإنجليز على رأيه في المسائل المتصلة بتنظيم شئون مصر، فصار يؤكد لهم وجود احتمال عظيم بأن الأتراك لن يستطيعوا الاحتفاظ بهذه البلاد لأسباب، منها: سوء سيرة الأتراك أنفسهم الذين لا مال ولا مؤن ولا مورد لديهم، والذين ينهبون ويسلبون ويستولون غصبًا على كل ما تقع عليه أيديهم، وجندهم شراذمُ من الدهماء أكثر منهم جيشًا بالمعنى المعروف، ومنها أن سلطان الأتراك في مصر سلطان اسمي، «ويكاد يكون كذلك من أيام الفتح الأول في عهد السلطان سليم»؛ ولذلك فإن الإنجليز «سوف يعطونه في مصر بإرجاع هذه البلاد إليه سلطة لم تكن له قط من قبل»، وفي اعتقاد هتشنسون «أن هذه السلطة الوقتية سوف تضعف سلطانه بدلًا من تقويته، وإذا لم يضع الأتراك نظامًا سياسيًّا متسقًا في مصر — والأمل ضعيف في أنهم سوف يفعلون ذلك — فإنهم سوف يُطردون منها مرة ثانية حتى بعد إعطائهم هذه السلطة، ويواجه الإنجليز عندئذ خطرًا يظهر في محاولة إحدى الدول الأوروبية، ومن المحتمل جدًّا أن تكون فرنسا هذه الدولة التي سوف تبذل قصارى جهدها للاستيلاء على مصر، ولا أمل في أن يستطيع الأتراك مقاومة هذا الغزو لما هو معروف عن نظامهم وجيشهم.»
ثم استطرد هتشنسون يقول: «وأخشى أن مصر سوف تصبح مبعث ارتباكات ومتاعب لنا أكثر مما ندركه، وإذا تمكنت فرنسا من الاحتفاظ بسيطرتها التي نالتها في القارة «أوروبا» فسوف يصبح عسيرًا منعُ مصر من الوقوع في قبضتها، والاحتمالات عديدةٌ لوقوع هذا الحادث إذا أخذنا بعين الاعتبار قبل كل شيء حاجة تركيا في حالة ضعفها الراهنة إلى حامٍ يحميها، وليس هناك سوى فرنسا للقيام بهذا الدور؛ لما لها من مصلحة طبيعية وقوية أكثر من غيرها لتصبح هي هذا الحامي. ففرنسا تريد أن تسند هذا البناء المتداعي؛ أي تركيا حتى تمنع دولة أكثر نشاطًا وحيوية من امتلاك تجارة الليفانت وحرمان فرنسا مما كان بمثابة أكبر مورد نافع لتجارتها في وقت من الأوقات.»
وقال هتشنسون: «إنه يعتقد كذلك أن كثيرين من الأتراك أنفسهم يفكرون هذا التفكير نفسه»، وكان في هذه الرسالة أن ذكر هتشنسون أنه من المتعذر الاحتفاظُ بالإسكندرية عند سقوطها دون أن يكون للقوات البريطانية مواصلاتٌ مفتوحةٌ مع أجزاء مصر المزروعة الأمر الذي لا يتأتى إلا بسيطرة الإنجليز على مصبات النيل في فرعيه الاثنين.
وأزعج رأي العسكريين هذا، الذي تناول البحث في وضع البلاد، والتشكك في قدرة الأتراك على الاحتفاظ بها إذا تركوا وشأنهم؛ الحكومتين الإنجليزية والعثمانية على السواء، الأولى لأنها مرتبطة بإرجاع مصر إلى تركيا بعد طرد الفرنسيين منها، والثانية لما بدأ يساورها من ظنون في نوايا حلفائها الإنجليز من ناحية تنفيذ الضمان الذي نصت عليه معاهدة «يناير سنة ١٧٩٩» لأملاك كل من الدولتين المتحالفتين.
ولذلك فقد بادرت الحكومة الإنجليزية تؤكد من جديد سياسة عدم التدخل في شئون ممتلكات الباب العالي الداخلية، وعدم نبذ العهد الذي قطعتْه على نفسها بإرجاع مصر إلى تركيا، وقصرتِ الحكومةُ الإنجليزية اهتمامها فيما يتعلق بمسألة منع الفرنسيين من محاولة غزو هذه البلاد ثانية على البحث في بعض الإجراءات العسكرية فحسب عند نظر هذا الموضوع، فأصدرت في ١٩ مايو سنة ١٨٠١ تعليماتها إلى كل من سفيرها «إلجين» بالقسطنطينية وقائد قواتها «هتشنسون» في مصر بهذا المعنى، فطلبت في تعليماتها للورد «إلجين» «أن يعلن لوزراء الباب العالي بوضوح وجلاء أن قرار الحكومة الإنجليزية قطعًا عند طرد الفرنسيين من مصر، هو إرجاع تلك المقاطعة بأسرها إلى الباب العالي وعدم الاشتراك في توجيه شيء من شئونها، إلا فيما يتعلق بوضع حامية بريطانية فحسب في جزء من الساحل حتى وقت عقد الصلح العام، أو لمدة أقصر من ذلك يتم الاتفاق عليها بين الباب العالي وإنجلترا؛ وذلك من أجل التعاوُن مع الباب العالي في الوسائل التي يمكن بفضلها تأمين مصر ضد مشروعات الغزو الأخرى التي قد تكون لدى الحكومة الفرنسية والتي يحمل ما يبديه حكام فرنسا الحاليون من ميول ظاهرة على الاعتقاد، جزمًا بأن فرنسا سوف تنتهز أول فرصة سانحة لتنفيذه.»
وبهذه الصورة رسمت الحكومة الإنجليزية لسفيرها ولقائدها ولسائر الوكلاء والعملاء الإنجليز الخطة التي يجب عليهم انتهاجُها في موضوع الجلاء وتسليم مصر للأتراك عند الانتصار على جيش الشرق نهائيًّا، وكانت لحمة هذه الخطة وسداها عدم التدخل في شئون مصر الداخلية؛ أي في شئون مقاطعة من مقاطعات الإمبراطورية العثمانية الواجب عليهم ردها إلى هذه الإمبراطورية كما كانت قبل الغزو الفرنسي، حسب الضمان الذي نصت عليه معاهدة التحالف في يناير سنة ١٧٩٩ بين إنجلترا وتركيا، ومعنى عدم التدخل هو عدم البحث في نوع الحكومة التي تجب إقامتها في البلاد بعد جلاء القوات البريطانية عنها، والتي كان واجبها الرئيسي في نظر العسكريين خصوصًا، ثم فريق من السياسيين أخذ يَكثر عددهم تدريجيًّا، الدفاع عن مصر عند تعرضها لغزو جديد.
ولكنه سرعان ما اتضح أن هذا الوعد الذي قطعتْه الحكومة الإنجليزية على نفسها بعدم التدخل في شئون مصر الداخلية؛ صار من المتعذر التمسك به، ولما تنقض أسابيع قليلة على صدوره، ومبعث ذلك أن الباب العالي نفسه منذ آخر مايو صار يطلب من ناحيته المباحثة مع الإنجليز في نظام الحكومة الواجب إنشاؤها في مصر لتحقيق الغرض الذي سعتْ إليه الحكومة الإنجليزية ذاتها، والذي اهتم به الأتراك أنفسهم وهو دفع أي غزو جديد على مصر، كما أن العسكريين، وعلى رأسهم الجنرال «هتشنسون»، لم يروا مناصًّا من بحث موضوع الحكومة المستقبلة في مصر للغرض نفسه، وعلى ذلك فقد حدث في الشهور التالية أن الحكومة الإنجليزية لم تعدل عن وعدها السابق فحسب، بل صارت كذلك تتوسط من أجل الوصول إلى اتفاق بين الباب العالي والمماليك، على اعتبار أن المماليك هم القوةُ التي في وسعها الدفاعُ عن مصر، والتي يجب عدمُ إغفال حقوقها وامتيازاتها في أي نظام قد يوضع للحكومة المنتظرة لها؛ أي إرجاع ممتلكاتهم ووضعهم السابق في حكومة هذه البلاد الفعلية، وكما كانوا إلى وقت الغزو الفرنسي.
أما فيما يتعلق بالأمر الأول، فقد كتب «إلجين» إلى حكومته من القسطنطينية في ١٠ يونيو أن الريس أفندي وزير الخارجية التركية قد طلب مقابلة السفير البريطاني حتى يبحث معه موضوع بقاء قسم من الجيش البريطاني في مصر وفي المياه السورية بعد طرد الفرنسيين لمنع العدو من الهجوم على هذه الجهات مرة أخرى، وحتى يستشيره في أفضل الخطط أو الأنظمة التي يجب اتباعها لتأسيس الحكومة المنتظرة في مصر، وقد اجتمع «إلجين» بالريس أفندي، وفي ٢٠ يونيو قدم الأول للثاني مذكرة بشأن هذه الحكومة المنتظرة، امتدح فيها سلوك المماليك الذين ناضلوا ضد الاحتلال الفرنسي وتحملوا متاعب ومشقاتٍ كثيرة في أثناء هذا النضال، ثم تقدم القليلون الذين بقوا منهم لمعاونة القوات المشتركة «الأتراك والإنجليز» بإخلاص، وانتفعت القوات المشتركة من معاونتهم لها، وقال «إلجين» إنه يمكن لذلك الاعتماد على المماليك، ويمكن الاستفادة من تأليف قوة من فرسانهم للذود عن البلاد، لا سيما وأن المماليك يعرفون البلاد معرفة طيبة، واقترح السفير البريطاني إعطاءهم حكومة الأقاليم الواقعة بعد جرجا في الصعيد كمكافأة لهم على ولائهم وما تحملوه من مشقة ونَصَب، فضلًا عن أن هذا الإجراء من شأنه أن يزود هذه الأقاليم بقوة تستطيع الدفاع عنها.
واستمر «إلجين» يقول: إنه رأى من واجبه عدم تنفيذ أمر الوزير الصادر في تعليماته إليه في ١٩ مايو؛ لأنه إذا كانت هذه التعليمات قد اشتملت على تصريح رسمي في الواقع بأن الحكومة الإنجليزية لا مأرب لها ولا صالح، فإن تغير الظروف بعد مقتل بول الأول قيصر روسيا في ٢٤ مايو وإطلاق «نلسن» مدافع أسطوله على «كوبنهاجن» في ٢ أبريل ١٨٠١ وما تبع ذلك من انحلال حلف المحايدين الذي أحياه هذا القيصر لمقاومة أي اعتداء قد يقع على أعضاء هذا الحلف: «روسيا، السويد، الدانمارك، بروسيا» من جانب إنجلترا، وتبدل أحوال دول أوروبا الشمالية في صالح الإنجليز، كل ذلك يجعل إعلان عدم اهتمام الحكومة الإنجليزية في هذه الظروف من الأسباب التي سوف تؤكد الشك وسوء الظن لدى الحكومة العثمانية من ناحية التأكيدات التي أُعطيت دائمًا من جهة إنجلترا بشأن ضمان أملاك العثمانيين وإرجاع مصر إليهم؛ لأن تقديم تصريح الوزارة الإنجليزية — كما جاء في تعليمات ١٩ مايو — مِنْ شأنه أن يجعل العثمانيين يعتقدون أن هذه التأكيدات القاطعة لم تصدر عن نية خالصة وعزم صحيح لا يخضع لتقلبات الموقف وظروف السياسة الأوروبية.
وكان من أثر إغفال «إلجين» تقديم تصريح حكومته إلى الباب العالي أن الوزارة الإنجليزية وجدت من السهل عليها الآن أن تبت بصورة صريحة في موقفها من مسألة الدفاع عن مصر بعد خروج الفرنسيين منها، وما كان يستتبع ذلك من ضرورة البحث والتدخل في موضوع الحكومة الواجب إنشاؤها في مصر لتحقيق هذه الغاية، فكتب «هوكسبري» إلى «إلجين» في ٢٨ يوليو سنة ١٨٠١ «أن الحكومة البريطانية ترغب في بقاء جزء من الجيش البريطاني في مصر حتى موعد عقد السلام العام، وفيما يتعلق بتسوية مسألة الحكومة الداخلية في مصر، فسياسية الحكومة الإنجليزية هي أن تقوم بدور الوسيط بين الأحزاب المختلفة في مصر فتبذل قصارى جهدها لإنهاء الخلافات القائمة بين هذه الأحزاب وديًّا»، والمقصود بهذه الأحزاب العثمانيون والمماليك، ثم استطرد هوكسبري فقال: «ومن واجبنا أن نذكر دائمًا أنه مهما كانت نتائج العمليات العسكرية فالمتوقع — أو المحتمل — أن الحكومة الفرنسية لن تتخلى عن فكرة إقامة الحكم الفرنسي في مصر عند سنوح الفرصة؛ ولذلك فغرضها هو بذر بذور الشقاق بين الجماعات أو الأحزاب المختلفة» أي العمل لمنع إقامة الحكومة القوية التي في وسعها الدفاع عن مصر.
وهكذا بدأ — بصورة رسمية — التدخل في شئون مصر، واتخذ هذا التدخل شكل الوساطة بين الباب العالي وبين المماليك.
على أنه كان من أهم أسباب التحول كذلك، من إظهار عدم الاهتمام إلى التدخل الرسمي ما ظل يلح فيه الجنرال هتشنسون من وجوب هذا التدخل وفي صالح البكوات المماليك أيضًا.
مشروع هتشنسون
بينا فيما تقدم كيف أن هتشنسون كان يرى مِن خطل الرأي الاعتماد على الأتراك وحدهم في الدفاع عن البلاد بعد نجاح العمليات العسكرية وانتهائها بطرد الفرنسيين من مصر، ويرى من الحكمة أن يعهد بهذه المهمة إلى المماليك الأمر الذي استلزم ترضيتهم مبدئيًّا حتى يتسنى الاطمئنان لقيامهم بهذه المهمة على خير وجه، والأمر الذي اقتضى لهذا السبب نفسه التدخل في شئون مصر الداخلية والبحث سلفًا في نوع الحكومة المنتظَر إقامتها في مصر بحثًا جديًّا.
وقد جاء في هذه الرسالة أنه مِن رأي «هسكيسون» أن البكوات إذا تقدموا للتعاون مع الجيوش البريطانية والعثمانية، ففي وسعهم المساهمةُ بقدر كبير — في طرد الفرنسيين — يفوق أثره كل الجهود التي قد تبذلها الإمبراطورية العثمانية لهذه الغاية. كما كان من رأيه أنهم إذا لم يتقدموا للتعاوُن، فسوف يكون لوزنهم نفسُ الأثر وبالنسبة ذاتها في ترجيح الكفة المضادة، ثم استمر «هسكيسون» يقول: إنه يخشى الآن من أن هؤلاء البكوات والمماليك الذين كانوا قبل الغزو الفرنسي أسياد البلاد الحقيقيين؛ قد يستبد الخوف بهم اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى من تلك الآراء المناوئة لمصالحهم والتي صار يذيعها الباب العالي بعجلة ودون تبصُّر بعد معاهدة العريش — وهي المعاهدة المعروفة التي كان الجنرال كليبر قد أبرمها في ٢٤ يناير سنة ١٨٠٠ لجلاء الفرنسيين عن البلاد وتسليمها للعثمانيين ثم نُقضت بعد ذلك — وذلك فيما يتعلق بحكومة مصر المستقبلة أكثر مما يتعلق بطرد الفرنسيين أو بتأسيس نفوذهم في مصر بعد خروجهم منها، وعلاوة على ذلك فقد أكد «هسكيسون» في هذه الرسالة أن القبط واليونان وسكان مصر يفضلون ظلم المماليك على ظلم الأتراك الذين يكرهونهم، «ومن المحتمل جدًّا أن يعد الصدر الأعظم «يوسف ضيا» — لرغبته في التخلُّص من الفرنسيين — البكوات بعودة امتيازاتهم وسلطاتهم السابقة إليهم، وأن الباب العالي سوف يكتفي بالاعتراف القديم بسيادته على مصر ودفع الخراج بنظام أكثر من الأول، ولكن من المؤكد أن البكوات سوف لا يثقون بهذه الوعود إلا إذا فهموا كذلك من قائد القوات البريطانية أبر كرومبي نفسه أنهم في نظير انضمامهم إلى القوات الإنجليزية والعثمانية سوف يرون العدالة تجري مجراها في هذه الشئون بقدر المساعدة التي يبذلونها في طرد الفرنسيين.»
ونصح «هسكيسون» قائد القوات البريطانية بأن يجذب إليه مراد بك ويضمن تعاونَه معه تعاوُنًا إيجابيًّا على أن يكون ذلك — إذا أمكن — بموافقة الصدر الأعظم، وأما إذا ظَلَّ الصدرُ الأعظمُ عنيدًا وظل في عَمَاهُ لا يريد أن يدرك مزايا استمالة مراد بك وصداقته، وهي قضية تهتم بها إنجلترا اهتمامًا عظيمًا، بل ويجب كذلك عدم تضحية مصالح تركيا نفسها بسبب غرور وصلف وغطرسة رجالها؛ فالواجب على «إنجلترا» أن ترعى مصالح الأتراك في هذه الحالة بالرغم منهم.
وعلى ذلك فإنه ما إن تسلم «هتشنسون» القيادة منذ مارس سنة ١٨٠١، حتى وضع نُصب عينيه في الحقيقة تنفيذ هذا «البرنامج» الذي رسمه «هسكيسون» وإن كان هذا البرنامج لا يعدو مجرد آراء خاصة بسطها الوزير الإنجليزي في رسالة خاصة للسير «رالف أبر كرومبي»، وقد فسر «هتشنسون» ما تضمنته هذه الرسالة بأنه كان تعليمات إلى «السير رالف» تطلب فيها حكومته أن يبذل كل ما وسعه من جهد وحيلة «لترضية» البكوات واستمالتهم إلى الحكومة البريطانية، وأن «هسكيسون» على ما ظهر «لهتشنسون» كان يتوقع أن يثير الأتراك صعوباتٍ عدة لإبطال هذا المسعى، ولكنه قال بوجود ضرورة قاطعةٍ لرفض الرضوخ لهم، بل ويذكر أن الواجب يقتضي التغلُّبَ على هذه الصعوبات خدمة للأتراك أنفسهم.
وواتت الفرص الجنرال «هتشنسون» لبدء هذا المسعى، عندما بعث إليه عثمان الطنبورجي برسالة ينبئه فيها بوفاة مراد بك، ويعرض عليه انضمام المماليك إلى الجيش البريطاني إذا وعدتهم الحكومة الإنجليزية بالعفو عنهم، وتعهدت بحمايتهم؛ لأنهم؛ أي المماليك لا يثقون في الأتراك ووعودهم، وقد وصلت هذه الرسالة «هتشنسون» في ٥ مايو سنة ١٨٠١، في وقت قال القائد الإنجليزي: «إنه كان من أشد لحظات حملته حروجة»؛ حيث كان يتأهب للزحف ومهاجمة الفرنسيين في الرحمانية، وقد تفوق عليه هؤلاء بمدفعيتهم وفرسانهم، بينما تساوتْ قواتهم العددية مع قواته؛ ولذلك رأى «هتشنسون» أن يحرمهم من حلفاء أقوياء؛ أي المماليك يمدون الفرنسيين بفرسانهم، ويفيدونهم بمعلوماتهم المحلية فائدةً كبرى، فاستند على كتاب «هسكيسون» السالف الذكر، والذي وجد على حد قوله هو نفسه إنه ملزَم باعتباره تعليمات من حكومته، وبدأ صلته بعثمان بك الطنبورجي فورًا، فكتب إليه في اليوم نفسه من مقر قيادته برشيد في ٥ مايو سنة ١٨٠١ أنه «مخول من الحكومة البريطانية بمنحه العفو والحماية، وإعطائه الضمان لأملاكه وأملاك أتباعه.»
ورسالة «هتشنسون» لعثمان الطنبورجي هذه ذات أهمية كبيرة؛ نظرًا لما اشتملت عليه من توكيدات وارتباطات، صار من المتعذر على الحكومة الإنجليزية الإغضاء عنها أو التحلُّل منها، سواءٌ في علاقاتها مع البكوات المماليك أو مع الباب العالي، بل وجدت في هذه الارتباطات التي ظل كثيرون من رجالها لا يعرفون مداها على وجه الدقة فترة من الوقت، مبررًا لنبذ سياسة عدم الاهتمام واستبدال سياسة التدخل بها، والتوسط من أجل الوصول إلى اتفاق بين الباب العالي والمماليك.
ففي هذه الرسالة كتب «هتشنسون»، أنه تسلم خطاب عثمان الطنبورجي، وأسف لوفاة مراد، وسُرَّ لاختيار المماليك للطنبورجي خلفًا له، ثم قال: «وقد وصلتني تعليمات قاطعة وحاسمة من حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى أن أظفر بودك وصداقتك، وأظفر بمحالفتك، وأبذل قصارى جهدي في العمل لصالحك، ويجب عليك أن تعرف أنه عندما يتكلم قائدٌ إنجليزي باسم مليكه فإن كلمته تصبح مقدسة، فكن واثقًا من أني سأنتهز كل فرصة كي أصبح نافعًا لك وللجنود الشجعان تحت قيادتك.
وتقول إنك تخشى الأتراك، ولكن هؤلاء حلفاؤنا، وقد كتب القبطان باشا لمراد بك كتابًا في لهجة ودية جدًّا، وتفصل بيني وبين القبطان باشا مسافة كبيرة وأنا بعيد عنه حتى أعرف ما يفعله، ولكنني أعتقد أنه يميل للانتصاف لكم، وأما مِن جِهَتِنا فإني أعطيك حمايتي وحماية الجيش الإنجليزي وأعدك بذلك وعدًا أعظم ما يكون قدسية، ولك أن تعرف أن الأمة الإنجليزية أمةُ تقوى وورع، تخشى الله وتعدل مع الإنسان، ولم نعبر البحر حتى نأتي عملًا سيئًا مع أولئك الذين كانوا أصدقاءنا، ولكننا جئنا لغرض واحد فحسب هو طرد الفرنسيين المغتصبين الذين خربوا البلاد، وإعادة ما كان للجميع من أملاك وحقوق، فكن واثقًا من أني ساهرٌ على مصالحك، وأنكم لا أنتم ولا أسركم يجب أن تخافوا من أن يلحق بكم أي ضرر أو أذًى، فإذا تفضلت بالحضور إلى معسكري أو بإرسال أحد بكواتك، فسوف يتسنى لنا عندئذ وضع الترتيبات التي تريدها، وإني أعدك بذلك قاطعًا على نفسي أَقْدَسَ المواثيق والعهود، ويسرني جدًّا أن أُشرك جيشي مع جيشك في محاربة العدو معًا، ولكني أعتقد أَنَّ الحرب سوف تنتهي قريبًا وأن الفرنسيين سوف يعجزون عن مقاومة الأعداء المتحدين ضدهم.»
وفي ختام رسالته أكد «هتشنسون» على «الطنبورجي» بضرورة إرسال أحد البكوات سريعًا وأوصاه بالكتمان والسرية في كل أعماله، كما طلب أن يكون لدى هذا المندوب السلطات التي تخوله إبرام الاتفاق مع «هتشنسون» وعمل الترتيبات اللازمة.
وأما هتشنسون فقد صار يعلل هذه الارتباطات التي ارتبط بها مع المماليك، أو العهود التي قطعها على نفسه بإعادة سلطتهم السابقة إليهم بقوله — كما جاء في رسالته إلى اللورد هوبارت من علقام في ٢ يونيو سنة ١٨٠١ — «إنه لما كان رجاؤه عظيمًا في أنه سوف يلقى مساعدة كبيرة من جانب المماليك الذين يفهمون البلاد أفضل من سواهم؛ فقد رأى استنادًا على ما جاء في خطاب «هسكيسون» المؤرخ في ٢٢ ديسمبر سنة ١٨٠٠ أنه ليس هناك ما يمنعه مِنْ أَنْ يعرض على المماليك حمايةَ وضمانَ الحكومةِ الإنجليزية؛ لا سيما وأنهم أنفسهم قد طلبوا منه ذلك قطعًا قبل الانضمام إلى صفوف الإنجليز، ثم قال: وليس لدي أي شك في أنهم يفضلون الفرنسيين على الأتراك الذين لا يثقون بتاتًا في وعودهم ولا يعتمدون على هذه الوعود إطلاقًا؛ لأنهم مقتنعون تمامًا بأن الأتراك إنما يريدون إنهاء سلطتهم في مصر بل وإبادة جنسهم وإفناءهم تمامًا، وهذا بينما يصبح التأكد من استقرار حكومة هذه البلاد بعد مغادرة الفرنسيين لها الغرض الذي تعمل له الحكومة الإنجليزية لما له من أهمية وخطورة»، وقد سبق لهتشنسون — كما قال — أنه ذكر في رسالته لحكومته بتاريخ ٣ أبريل سنة ١٨٠١: «أن الأتراك لن يستطيعوا الاحتفاظ بمصر، وأنه ليزداد الآن يقينًا من ذلك؛ لأن المماليك والعرب والقبط واليونان، بل وكل إنسان في هذه البلاد؛ يكرهون الأتراكَ كرهًا عظيمًا، فإذا خرج الفرنسيون والإنجليز قتل الأتراك نصف هؤلاء واستبدوا في طغيان عظيم بالنصف الآخر، أما الآن — وقد استمال المماليك بالتعهدات التي أعطاها لهم — فإن المماليك والعرب واليونان سوف يصيرون قوة يصعب على الأتراك التغلب عليها.»
بل وذهب هتشنسون في تبرير مسلكه إلى أبعد من ذلك، فقال في رسالته إلى اللورد هوبارت من الإسكندرية في ٢١ سبتمبر ١٨٠١: إنه لم يتجاوز فيما فعله الأوامر والتعليمات التي ادعى ادعاء أنها صدرت إليه والسلطات المخولة له، فقال: «ولقد أُمرت بأن أفعل ذلك فصَدَعْت بما أُمرت به، إن الظروف المُلِحَّة هي التي أوجبتْ ذلك وألزمته إلزامًا، فالحكمةُ والسياسة الرشيدة تسوغان هذا الإجراء في كل الأوقات.»
وأما تفصيلات هذا المشروع فهي، أولًا: أن يكون للأتراك وحدهم امتلاك الإسكندرية ورشيد ودمياط، وأن يحتفظوا بحامية في قلعة القاهرة، وثانيًا: أن يعين الباب العالي كما كان يحدث في الماضي باشا؛ أي واليًا يفصل في المنازعات التي تقوم بين البكوات، ويعين رئيسهم — أو زعيمهم — عند خلو هذا المنصب، وأن يكون له؛ أي لهذا الباشا حكومة البلاد العامة، وثالثًا: أن تزاد قيمة الميري — أو الخراج — الذي يدفعه البكوات، وأن يدفع هذا الميري دون أي استنزال منه، فيتسلمه محصل عام يعينه الباب العالي، ورابعًا: أن يسترد البكوات جميعَ أملاكهم، وأن يعود لهم الحقُّ كاملًا في تصريف شئون هذه الأملاك كما كان الحال سابقًا، مع الخضوع لقيود معينة فيما يتعلق بالضرائب أو المال الذي يُجبى من السكان، وعلى شريطة أن يحتفظوا بعددٍ مُعين من الرجال يتناسب مع اتساع أملاك كل «بك» منهم.
وظاهرٌ من هذا المشروع — كما أسلفنا — أن القاعدة الأساسية التي ارتكز عليها كانت استرجاعَ المماليك لجميع امتيازاتهم وحقوقهم التي تمتعوا بها قبل مجيء الحملة الفرنسية، ثم وضع حكومة البلاد الفعلية في أيديهم مع بقائهم تحت سيادة تركيا الاسمية التي يمثلها رسميًّا وجود الباشا العثماني في مصر، ودفع الخراج للباب العالي، وظاهر كذلك أن هذا المشروع كان في صالح المماليك، وهم الذين اعتقد «هتشنسون» واعتقدت الحكومة الإنجليزية كذلك أن في وسعهم الدفاع عن مصر.
على أنه مما يجدر ذِكْره أن «هتشنسون» لم يستشرْ حلفاءه الأتراك في هذا الترتيب وقت وضعه، مع العلم بأن القبطان حسين باشا كان معه عندما أكد القائد الإنجليزي وعوده للمماليك وقت مقابلتِهِم له بعد حادث «كفالييه»، بل وجعل القبطان باشا يعدهم في حضوره بإرجاع ممتلكاتهم وامتيازاتهم السابقة إليهم بضمان «هتشنسون».
غير أن المماليك «اشتكوا من هذه الشروط في أول الأمر واعتبروها غيرَ مفيدة لهم، بل وتضعهم في مركز يقل كثيرًا عن ذلك المركز الأول الذي تمتعوا به سابقًا»، وكان بعد تردُّد أن وافقوا عليها، ولما كان «هتشنسون» لم يستشر القبطان باشا أو الصدر الأعظم يوسف ضيا في أمرها فقد امتنع كلاهما عن قبولها ولكنهما وافقا عليها بعد تردُّد، وكان ذلك — ولا شك — نتيجة لضغط «هتشنسون» عليهما؛ لأنه كما قال: «قد أوضح للقبطان باشا مبلغ اهتمام الحكومة البريطانية بهذا الموضوع ورغبتها في حماية المماليك، وجعله يعطي كتابة كل التأكيدات اللازمة للمماليك»، وعلى ذلك فإنه بمجرد تسليم القاهرة في ٢٧ يونيو صار الصدر الأعظم والقبطان باشا ينتحلان مختلف الأعذار للتحلل من هذه الشروط وعدم تنفيذها.
وكانت مهمة «هتشنسون» في الشهور التالية حتى وقت رحيله من مصر أنْ يطالب الصدر الأعظم والقبطان باشا، ثم «الريس أفندي» بتنفيذ الارتباطات التي ارتبط بها مع البكوات المماليك أمام إلحاح هؤلاء في مطالبة «هتشنسون» بتنفيذ وعوده لهم.
وكان «هتشنسون» مُحِقًّا فيما ذهب إليه؛ لأن تعليمات وأوامر الباب العالي كانت وقتئذ — وعلى نحو ما ذكرنا عند الكلام عن تركيا والمماليك — إرجاع البلاد إلى حظيرة الدولة العثمانية كمقاطعة من مقاطعات هذه الدولة فحسب، مع إلقاء القبض على أكبر عدد مُستطاع من هؤلاء المماليك وإرسالهم إلى القسطنطينية، وعلى ذلك فقد بعث المماليك في ١٤ يوليو يَشْكُون إلى «هتشنسون» من عدم تنفيذ الصدر الأعظم لوعوده وانتفاء أي ضمان يطمئنهم على أرواحهم أو أملاكهم، ويبلغونه عزمهم على الذهاب إلى الصعيد؛ حيث يستطيعون الدفاعَ عن أنفسهم بقدر المستطاع في هذه الجهات البعيدة.
وأزعج قرار المماليك هذا هتشنسون إزعاجًا كبيرًا؛ لأنه يحرمه من القوة التي اعتقد أن في وسعها وحدها الدفاع عن البلاد في وقت كان لا يزال فيه الجنرال «منو» متحصنًا بالإسكندرية، وليس هناك في نظر هتشنسون ما يمنع الفرنسيين من إنزال قوات جديدة في مصر، وخشي القائد الإنجليزي إذا حدث ذلك أن يقبل المماليك على مساعدتهم مساعدة جدية، «ولذلك — كما قال هتشنسون — رأى لزامًا عليه إذا تعذر إنشاء صلات ود وصداقة بينهم وبين الأتراك، أن يبذل قصارى جهده على الأقل حتى يجعل المماليك مُعادين للفرنسيين»، فكتب إلى الريس أفندي في ١٧ يوليو إنه علم — بكل أسف — أن الصدر الأعظم بالرغم من وعده له بإرجاع قرى وأملاك المماليك إليهم لم يَكْتَفِ بعدم السماح للمماليك بتسلُّم بيوتهم في القاهرة، بل في طردهم منها بما في ذلك أرملة مراد بك، ومهمتي إبلاغك أن المماليك تحت حماية «إنجلترا»، وحسب الأوامر التي وصلته قد وعدهم بالعفو والحماية وكسبهم إلى جانبه وجانب حلفائه الأتراك بفضل الوعود التي يعتبرها مقدسة أعظم تقديس، ولا يريد خيانتهم في اللحظة التي يعتبر انضمامهم فيها إلى البريطانيين والأتراك على جانب عظيم من الأهمية؛ ولذلك فهو يطلب من الريس أفندي رسميًّا أن يعطي الصدر الأعظم وعدًا كتابيًّا إلى المماليك بإعادة أملاكهم وقراهم إليهم فورًا، وقال هتشنسون: «وأما إذا كان «الريس أفندي» يعتقد أنه بالقضاء على المماليك يستطيع الاستقرار في مصر، فإنه يخطئ خطأ كبيرًا؛ لأن هذه إنما هي الطريقة الأكيدة لإثارة الحرب الأهلية، والتي بها يفقد «العثمانيون» مصر كذلك؛ لأن «الإنجليز» لا يمكنهم أن يعودوا مرة ثانية لفتح البلاد وإعادتها إليهم …»
وبعد يومين من إرسال هذا الكتاب طلب الصدرُ الأعظمُ مقابلة «هتشنسون»، وطلب إليه؛ حيث إنه يرغب في إجابة رغباته بشأن المماليك، أن يُبين له الأساس الذي يجب أن يقوم عليه الترتيب الذي ذكر «هتشنسون» للصدر قبل ذلك أنه موجود بينهم وبين الباب العالي، فذكر هتشنسون موجز مشروعه الذي سبقت الإشارة إليه والذي يهدف — كما قال — «لإقامة حكومة في مصر على دعائمَ ثابتة مستديمة، الأمر الذي لا يتسنى بتاتًا تحقيقه بدون معاونة أو مساعدة المماليك، ولو أن «هتشنسون» يعتبر من واجبه أن يعلن للصدر الأعظم أنه ينظر دائمًا للمماليك كرعايا للسلطان العثماني، وأن مصر ملك للسلطان العثماني لا المماليك، وأن هؤلاء قد اعترفوا بهذه السيادة، وأنه كان على هذا الأساس أن أُعطيتْ لهم حمايةُ بريطانيا»، على أن يقوم المماليك من جهتهم بدفع الخراج مع زيادة قيمته لتعويض السلطان عن نفقات الحرب، وعلى أن لا يكون الباشا المرسل من القسطنطينية سجينًا في القلعة، فوعد الصدر بإرجاع بيوت المماليك وأملاكهم إليهم، ودعا هؤلاء لمقابلته وأكد لهم ذلك (٢٢ يوليو)، وبدأ ينفذه فعلًا، وأبدى المماليك ارتياحهم، «وبدا أن كل شيء في هذه اللحظة قد سوي».
ولما كان «هتشنسون» يعتزم مغادرة القاهرة إلى الإسكندرية، فقد بعث بكتاب إلى الريس أفندي في ٢٣ يوليو يخبره بما حدث ويوضح مزايا ترضية المماليك «الذين في وسعهم أن يُصبحوا إما حلفاء نافعين كل النفع، وإما أعداء خطرين كل الخطر»، وقال إن هؤلاء قد تركوه في هذه اللحظة وهم شاكرون، «ويريدون إظهار مبلغ خضوعهم كرعايا مخلصين دائمًا للحكومة العثمانية.»
وقد علق «هتشنسون» نفسه على خطابه «للريس أفندي» عندما كتب إلى اللورد «إلجين» من القاهرة في ٢٥ يوليو يعرض الأسباب التي دعت إلى الارتباط مع المماليك، والخطوات التي قام بها من أجل الوصول إلى اتفاق بين هؤلاء وبين الصدر الأعظم والقبطان باشا على أساس المشروع الذي ارتبط به «هتشنسون» فيما يتعلق بإرجاع سلطة المماليك الفعلية في الحكومة المنتظر إنشاؤها إلى ما كانت عليه عند الغزو الفرنسي، فقال «هتشنسون» في تعليقه: إن رسالته إلى «الريس أفندي» لا تعدو كونَها مظاهرة فحسب؛ لأنه لا يُريد أن يُلزمَ نفسه بارتباطات أبعد مما فعل، وحاول جهد طاقته أن ينقذ أكثر ما يمكن إنقاذه من شرف الحكومة العثمانية؛ لأنه حرص قبل كل شيء على مُداراة كبريائهم وغرورهم دون التسليم بشيء جوهري؛ ولذلك فقد صاغ كتابه في عبارات عامة بقدر المستطاع.
ومعنى ذلك — كما هو واضح — أن «التسوية» التي وصل إليها «هتشنسون» والتي اعتقد أنها نهائيةٌ، كانت في صالح «المماليك»، وأن «هتشنسون» أرغم الصدر الأعظم والقبطان باشا على قبولها دون أن يُسَلِّمَ بشيء قد ينال من شروطها الجوهرية، وأنه عندما ذكر خضوع المماليك واعترافَهم بسيادة الباب العالي كان يعتقد أن هذا الوعد من جانب المماليك لا بد أن يكفي في نظر الصدر الأعظم والقبطان باشا لرضوخهم لإلحاحات «هتشنسون» بإرضاء كبريائهما، وقد أظهرت الحوادث بعد ذلك أن «هتشنسون» كان مخطئًا في كل ما ذهب إليه، ولعل مبعث هذا الخطأ اعتراف «هتشنسون» نفسه بأنه يتعذر عليه أن يرى طريقه واضحًا في هذه المسألة الخطيرة.
فقد قال في كتابه هذا إلى «إلجين» في ٢٥ يوليو سنة ١٨٠١ إن السبب في إزعاجه بكل تفصيلات مساعيه التي قام بها من أجل الوصول إلى تسوية مسألة المماليك، هو خطورة هذه المسألة ذاتها؛ لأن التعليمات التي لديه «شبه رسمية على أقل تقدير»، ونحن كما رأينا لم تصدر إليه تعليمات من حكومته سوى تلك التي بعث بها إليه اللورد هوبارت في ١٩ مايو وقد وصلتْه في ٢١ منه، وهي مبنية على عدم التدخل في شئون مصر إلا فيما يتعلق بوضع قسم من الجيش بالإسكندرية وأبي قير «للاحتراس من مشروعات الحكومة الفرنسية العدوانية على مصر» — ولكنه كما استمر يقول: «وجد لزامًا عليه، ومن واجبه تحت مسئوليته الخاصة حتى ولو لم تكن لديه تعليمات بالمرة — وهو ما وقع — تحت ضغط الظروف، أن يعد المماليك بالعفو والحماية، وبالاختصار أن يمنعهم من إلقاء أنفسهم في أحضان الفرنسيين»، ثم راح يكرر نفس الحجج والدعاوى التي تَذَرَّعَ بها سابقًا من حيث «أن المماليك في وسعهم أن يصبحوا حلفاء نافعين أو أعداء خطرين، وأنه مهما تكن وجهات نظرهم فهم جنود تتغلغل فيهم روح الجندية الصحيحة، وأصحاب نفوذ عظيم في البلاد ولهم أتباع عديدون، والسبب في ذلك أنهم مسلحون.
وسبب آخر، هو أن البلاد تكره الأتراك، فالقبط والمسيحيون واليهود واليونانيون والمصريون يكرهونهم ويكرهون حكومتهم، وأن الأتراك عاجزون عن الاحتفاظ بهذه البلاد، ولن يستطيعوا ذلك بتاتًا بقواتهم هم وحدهم؛ ولذلك فالواجبُ يقتضيهم أن يربطوا أنفسهم بحلفاء نافعين هم المماليك الذين يفهمون — بحكم العادة — أساليبَ حُكم المصريين والعرب أعظم بكثير جدًّا مما يَدَّعِيهِ الأتراكُ، ولا جدال في أنه من الصواب في الوقت الحاضر أن يُطرد الفرنسيون من مصر، ولكن يتوقف منعُ عودتهم في المستقبل على الأقل على «المماليك»، كما يتوقف على «البريطانيين»، ولا يقيم «هتشنسون» للأتراك وزنًا في هذه المسألة كلية، ومن المحزن حقًّا أن يشهد الإنسان تلك الشراذم من الدهماء التي يسمونها جيشًا، وحتى يستطيع المرءُ أن يرى الغباء والخمول المسيطر على رؤسائهم يجب عليه أن يُقيم بنفسه بينهم، فهم — بعبارة عامة — أشرارٌ عَجَزة ولا كفاءة لهم، ولا يستطيعُ الإنسانُ أنْ يتعامل معهم كما يتعامل مع أُناس عاديين، فلا عقل ولا تدبير ولا عواطف إنسانية لهم.»
وقد غادر «هتشنسون» القاهرة في ٢٦ يوليو قاصدًا إلى رشيد، ومنها إلى الإسكندرية، وبعث من الإسكندرية في ٢١ سبتمبر بكتاب إلى اللورد «هوبارت» لا يخرج في معناه عما جاء في كتابه إلى اللورد «إلجين»، يذكر ما حدث، ويُحاول أن يُبرر مسلكه في ارتباطاته مع المماليك، ولكنه ما كاد يمضي شهرٌ واحدٌ على كتابة رسالته الأخيرة هذه، حتى وقعت مكيدة الصدر الأعظم والقبطان باشا في أكتوبر، وهي المكيدة المعروفة التي ذهب ضحيتها عدد من المماليك وسُجن آخرون، لإرسالهم إلى القسطنطينية، وأثبتت فشل التسوية التي وضعها «هتشنسون»، وكان لها أثرٌ كبيرٌ من ناحية أُخرى على احتضان الحكومة الإنجليزية لجوهر مشروع «هتشنسون»، على أساس ترضية المماليك، والوصول إلى اتفاق اعتقدت الحكومة الإنجليزية أنه أكثر استدامةً وبقاء من الاتفاق الذي توصل إليه «هتشنسون».
وساطة الإنجليز لصالح المماليك
فقد كان مِنْ أثر التقارير والرسائل التي بعث بها «هتشنسون وإلجين» إلى حكومتهما، استرعاءً لنظر الحكومة الإنجليزية، وإقناعها بضرورة أخذها بعين الاعتبار لمسألة البكوات عند بحث موضوع الحكومة المنتظرة في مصر والتي يجب ضمانُ استقرارِها حتى تستطيع دفع الغزو الفرنسي إذا تجدد، أن اهتمت لندن ببحث هذا الموضوع، وزاد اهتمامُها — على وجه الخصوص — عندما علمت بأن هناك ارتباطات من جانب قائد قواتها في مصر مع البكوات المماليك لم تكن تعرف مداها، حتى إن اللورد «هوبارت» عندما وصلتْه في ٢٢ يوليو رسالة «هتشنسون» التي بعث بها إليه من علقام في ٢ يونيو يتحدث فيها عن كتاب «هسكيسون» المعروف إلى السير «رالف أبركرومبي»، ويذكر رأيه في الأتراك والمماليك، والوعود التي بذلها للأخيرين، لم يلبث أن أجاب في ٢٢ يوليو بأنه من الصعب على الوزير بسبب بُعد مسرح العمليات العسكرية وطبيعة الخدمة أو العمل الذي يقوم به «هتشنسون»، أن يصدر إليه تعليمات ما، ولكنه يكتفي بإبداء بعض الملاحظات، فيقول فيما يتعلق بمسلك «عثمان بك الطنبورجي» وشجاعة فرسان المماليك الذين يسدون خدمات هامة، إنه لما كان لا يعرف مدى ما فعله «هتشنسون» بخصوص الارتباطات والتعهدات التي دخل فيها وقطعها على نفسه «إنه يجب المحافظة بدقة على سمعة بريطانيا وشرف كلمتها، ليس في هذه المسألة فحسب، بل وفي كل المسائل وجميع الحالات التي يكون من الحكمة والمفيد صدورها من جانبها؛ ولذلك يجب الاحتياط عند إعطاء مثل هذه الكلمة فلا يكون ذلك إلا عند الضرورة القصوى.»
وكان موضوع المذكرة التي قدمها مورييه حينذاك هو بحث الحلول التي يتسنى بفضلها لبريطانيا أن تمنع الفرنسيين من العودة إلى مصر، فاقترح مورييه حلولًا ثلاثة: أولها: إعطاء مصر للأتراك مع بقاء حامية بريطانية فيها لقاء أن ينال الإنجليز مزايا تجارية، وفي هذه الحالة يجب القضاء على المماليك. وثانيها: احتلال البريطانيين لمصر كما فعل الفرنسيون، ولو أن هذا الاحتلال سوف يتخذ حينئذ مظهر الفتح ويثير أهل البلاد ضده، ويرى «مورييه» من الحكمة والسياسة عند قبول هذا الحل، أن يُعاد بعض بكوات المماليك إلى الحكم، مع تعيين قومسيير — أو مندوب — إنجليزي إلى جنبِ كل واحد منهم. وثالثها: امتلاك البريطانيين لمصر، وقد علل «مورييه» هذا الحل بأنه خيرٌ من تخريب البلاد بالفيضان، الأمر الذي لا ندحة عنه في رأيه على ما يظهر إذا تعذر الحَلَّان الأَوَّلَان، فضلًا عن أنه يقرب البريطانيين من أملاكهم في الهند.
والنقطة البارزة في هذه الحلول التي اقترحها «مورييه» القضاء على المماليك إذا أُعيدت مصر إلى تركيا، واستبقاؤهم إذا خضعت البلاد لاحتلال البريطانيين أو امتلاك البريطانيين لها، ثم بقاء قوات بريطانية في مصر إذا استرجعها الأتراك على اعتبار أنه من المتعذر الدفاع عن البلاد بدون معاونة الجيش البريطاني، كما أَخذت هذه المقترحات في الحل الثاني وفي الحل الثالث ضمنًا مسألةَ الاستعانة بالمماليك في الحكم والدفاع بعين الاعتبار، وترتكز جميع هذه الحلول على مبدأ جوهري هو عدم استطاعة الأتراك وحدهم الاحتفاظ بمصر أو الدفاع عنها ضد الغزو الفرنسي إذا تجدد.
وكانت مقترحاتُ «مورييه» فيما انطوتْ عليه من معنى الاعتماد على الجيش البريطاني في الدفاع، ثم على المماليك سواء في المساهمة في الحكم أو في الدفاع كذلك عن البلاد متمشيةً مع مجرى السياسة البريطانية ذاتها، ومتفقة في مرماها مع الغايات التي استرشدت بها الوزارة الإنجليزية وقتئذٍ.
فقد بحثت الوزارة الإنجليزية موضوع أفضل الحكومات التي يجب إنشاؤها في مصر؛ لإسداء الرأي للباب العالي — على نحو ما طلب — بعد الوصول إلى قرار بشأنها، واسترشدت من أول الأمر بقاعدة الوساطة على نحو ما أوضحها اللورد هوكسبري إلى إلجين في ٢٨ يوليو بين الجماعات أو الأحزاب المختلفة، وقد أسفر بحث الوزارة عن «مشروع لحكومة مصر بعد خروج الحملة الفرنسية» يتألف من تسع مواد استهلته بقولها: إنه يؤخذ من كتابات الرحالة الذين زاروا مصر أن الحكومة التي قامت فيها قبل امتلاك الفرنسيين لها كانت تتميز بثلاث ميزات ظاهرة: أولها: أن سيادة الباب العالي كانت اسمية. وثانيها: أن سلطة المماليك كانت مطلقة. وثالثها: أن سواد الشعب كان يعيش في بؤس وتعاسة، على أن هذا النظام السيئ كان لا محالة مِن تغيره تغيرًا ملحوظًا لو أن الفرنسيين استمروا في امتلاك البلاد بضع سنوات أخرى؛ لأنه كان من المنتظر عندئذ أن تملي عليهم سياستهم ومصلحتهم خطة تشجيع وحماية القبط واليونان والعرب على العمل والاستفادة من الزراعة والتجارة، ثم تخضع قوة المماليك لأغراض الأمن والسلامة والدفاع الهامة.
وعَرَضَ المشروع لمسألة احتلال البريطانيين للبلاد، فقال إنه إذا أُتيح «للإنجليز» أن يخلفوا الفرنسيين في ممارسة حقوق السيادة في مصر، فمِن المحتمل الوصولُ إلى هذه النتائج؛ لأن حكومتَهم التي ينشئونها في مصر عندئذٍ سوف تكون مشبعة بروح لا يمكن أن تسمح بتقوية رعاياها إلى الدرجة التي يستطيعون بها مقاومةَ سلطان الدولة — كما فعل المماليك في بعض الشئون المالية — ولا يُمكن أن ترضى بتعرُّض الطبقات الدنيا والفقيرة والعاملة للنهب والسلب والظلم كما كان الحال في ذلك الوقت، وما دام الجيش البريطاني يظل باقيًا في مصر فليس من المتوقع أن يحدث ذلك، وقد أثبتت التجارب أنه يخشى إذا استعاد العثمانيون سلطانهم وتُركوا وشأنهم أن يخيم الخمول على البلاد، وأن تنتشر بها المفاسدُ والمساوئ، وأن يستأنف المماليك استغلالهم للبلاد جريًا على عادتهم القديمة نتيجة لذلك، فيتعرض السكان لأنواع المظالمِ والمغارم التي يفرضها عليهم الفريقان: «العثمانيون والمماليك» على السواء، ويعودون إلى حالة البؤس والشقاء التي كانوا عليها، ولا يحول دون وقوع هذا كله سوى نفوذ «الحكومة الإنجليزية» وحده، وإذا لم يُستخدم هذا النفوذُ الآن لمعاونة وزراء الباب العالي في إدخال نظام جديد للحكم، وإذا لم يكن هذا النظامُ مؤسسًا على مبادئ تؤمن للشعب الامتيازاتِ والحقوق التي يجب أن ينالها الآن، ويمهد — بوسائل إجبارية — إقامة قوةٍ عسكرية تحت نظام دقيقٍ صارم؛ فإنه من المحتمل كثيرًا أن يلقى الفرنسيون ما يشجعهم على القيام بمحاولة أُخرى لغزو مصر، وأن ينجحوا في آخر الأمر في إخضاع هذه البلاد لسلطانهم.
ثم استطرد المشروع يقول: «إنه لا يبدو من المتعذر موافقة الوزراء العثمانيين — بسبب ما ظهر من ميول هؤلاء لسؤالهم رأي الحكومة الإنجليزية — على المقترحات التي تُقدمها الحكومة الإنجليزية إليهم لتأييد سلطانهم في مصر؛ ولذلك رأت الوزارة الإنجليزية عَرْضَ النقاط التسع الآتية كشرائطَ لقبولها الاشتراك في وضع ترتيب الحكومة المنتظر تأسيسها في مصر.»
أما أولُ هذه الشروط فهو تحديدُ حقوق وامتيازات المماليك ومدى ولايتهم القضائية على أراضيهم، وتحديد طبيعة ومدى عسكريتهم، وجعل امتلاكهم لأراضيهم مشروطًا بقيامهم بخدماتهم العسكرية. وثانيها: وضع قواعد ثابتة لإيرادات الدولة، سواءٌ من البيوع أو الضرائب على التجارة، أو مِن أَيِّ مورد آخرَ، فتنظم هذه القواعد فئاتها، وتوقع عقوبة رادعة على موظفي الحكومة الذين يُحَصِّلون غصبًا مبالغ غير التي تحددها هذه الفئات الرسمية. وثالثها: أن يخصص جزءٌ مُعَيَّنٌ من إيرادات مصر العامة لسَدِّ نفقات القوات العسكرية النظامية التي تتشكل تحت إشراف وهيمنة ضباط بريطانيين. ورابعها: أن يستمر استخدامُ القوات العثمانية النظامية الموجودة الآن في مصر، وتؤلف جزءًا من القوات العسكرية المنصوص عليها في الشرط السابق. وخامسها: أن يجرى جمع قوات أخرى من ألبانيا وغيرها من أملاك السلطان العثماني الأوروبية، ومن مصر كذلك لهذه الخدمة، وأن يستمر جمع هذه القوات حتى يكتمل تأليف القوات العسكرية النظامية المنصوص عليها. وسادسها: أن يتسلم القيادةَ العليا لهذا الجيش — إذا كان مُمْكِنًا — ضابطٌ بريطاني، وأن لا يدفع شيء من الأموال المخصصة لهذا الجيش إلا بأمر منه. وسابعها: أن تخول التعليمات هذا الضابط «البريطاني» الاحتجاج لدى ممثلي الباب العالي في مصر في كل الحالات التي تتخذ فيها إجراءات خارقة للمبادئ التي يجب وضعها الآن فيما يتعلق بالامتيازات التي للمماليك، وحقوق الشعب المعترف بها، أو تحصيل الأموال المخصصة للشئون العسكرية ووجوه إنفاقها عليها. وثامنها: أن تجرى الترقيات في الجيش النظامي بناء على توصية الضابط البريطاني، وأن يرجع إليه في كل تفصيلات الشئون العسكرية. وتاسعها: وضع حامية من الجنود الذين في خدمة بريطانيا العظمى في حصن — أو قلعة — الإسكندرية طوال الحرب الحاضرة، يقوم الباب العالي بسداد نفقاتها، على أن يؤخَذ ذلك من الأموال المخصصة للقوات العسكرية النظامية التي سبق ذكرها.
وقال المشروع إن فتح مصر قد صار الموضوع المحبَّب إلى الحكومة الفرنسية، ويلحق تحقيقه أبلغ الأذى بمصالح الإمبراطورية البريطانية الجوهرية؛ ولذلك فمن الحِكمة أن تفيد الحكومة الإنجليزية من هذه الفرصة المواتية لها لتضع في يد الباب العالي الوسائلَ التي تُمَكِّنه من إحباط أغراض فرنسا دون حاجة للالتجاء إلى جيش بريطاني؛ لأنه مهما كان ضغطُ الظروف التي سوغت المجهود العظيم الذي قامت به بريطانيا في الحالة الراهنة؛ لطرد الفرنسيين من مصر؛ فليس من المتوقع في المستقبل أن تبذل بريطانيا هذا المجهود مرة أُخرى.
واختتم الوزراء الإنجليز مشروعَهم بإظهار تفاؤلهم، حسبما بلغهم من اللورد إلجين، بأن الباب العالي سوف يقبل هذا البرنامج الذي يحقق الأغراض المباشرة المنشودة، والذي يمكن من تفوق واستعلاء النفوذ الإنجليزي في القسطنطينية، الأمر الذي يعود بالنفع كذلك على التجارة البريطانية في الليفانت، فاعتد الوزراء الإنجليز بمشروعهم لما كانوا ينتظرونه من مزايا عند تحقيقه، وضرورته في تحسين أحوال أُناس يعيشون في بؤس وتعاسة لا نظير لهما على وجه الأرض، وتعطيل أعظم مشروع قامت به فرنسا حتى هذا الوقت، وفتح أسواق مصر لتجارة بريطانيا.
ولكن الوزراء الإنجليز كانوا واهمين في كل ما ذهبوا إليه؛ لأن مشروعهم لو نُفِّذَ لَوضع مصرَ بأسرها تحت نُفُوذهم، وأَخْضَعَها لسيطرتِهم العسكرية والاقتصادية، وذلك كله دون أنْ يتحمل الإنجليزُ شيئًا من النفقات التي يستلزمها تنفيذُ هذا الترتيب الذي ابتكروه، ولا تجني تركيا نفعًا منه، بل يعود عليها تنفيذه — من وجهة نظرها — بكل الضرر؛ لأن المشروع — في أبسط صورة — يحرمها حتى من ذلك النُّفُوذ الضئيل الذي ضَمِنَه لها وضع البلاد قبل الغزو الفرنسي، وهو وضعٌ لم ترض به تركيا وأرادتْ على نحو ما سبق القول أن تستبدل به وضعًا آخرَ يُخضع مصر لسيطرتها التامة كمقاطعة عادية من مقاطعات الإمبراطورية العثمانية.
زِدْ على ذلك أن الباب العاليَ عندما سأل الحكومة الإنجليزية رأيها — عن طريق سفيرها بالقسطنطينية — إنما كان يُريد في واقع الأمر جس نبض اللورد إلجين وحكومته؛ لمعرفة مدى ما يُريد الإنجليز أنْ يذهبوا إليه في إرضاءِ المماليك وما يريدون إعطاءه لهم.
على أنه بينما كانت الحكومةُ الإنجليزية تسعى للتوسُّط لدى الباب العالي لإنهاء مسألة المماليك، كان الصدرُ الأعظمُ والقبطان باشا يدبران مكيدتهما المعروفة في مصر، فقد وجد الباب العالي في تَعَهُّد «إلجين» بالكتابة إلى «هتشنسون» مبررًا للمضي في خطته المرسومة نحو المماليك، فأصدر تعليماتِهِ إلى الصدر الأعظم والقبطان باشا بإلقاء القبض على البكوات وإرسالهم إلى القسطنطينية، ومن أوائل أكتوبر عرف «هتشنسون» أن الأتراك قد صح عزمُهُم على القبض على البكوات وتجريد بقية المماليك من السلاح، فعرض عليهم حمايتَه «وأوصاهم — قبل كل شيء — بعدم الذهاب إلى أية سفينة أو قارب عثماني.»
مهمة ستراتون
وكان ذهاب «ستراتون» في مهمته بناء على اتفاق الوزراء العثمانيين مع «إلجين» وموافقتهم على إرساله، فقد صدرت إليه تعليمات من الباب العالي كما أصدر «إلجين» إليه تعليماته، وكانت تعليمات الأخير إليه قسمين: أحدهما عادي والآخر سري، ويتضح من تعليمات الباب العالي التي صاغها في «مذكرة مرسلة إلى «ستراتون» بتاريخ ١٠ ديسمبر سنة ١٨٠١، أن الفكرة أو «الاعتقاد» الذي خرج به الوزراء العثمانيون من مؤتمرهم مع «إلجين» في ١٤ سبتمبر والتي دعتْ لتدبير مكيدة أكتوبر ولكتابة السلطان سليم إلى ملك إنجلترا في نوفمبر؛ كانت المسيطرة على سياستهم، بينما تدل تعليمات إلجين العادية والسرية، والاثنان بتاريخ ١٢ ديسمبر كذلك؛ أولًا: على أن هدفه الرئيسي كان الوصول إلى تسوية تُنهي الخلاف بين الباب العالي والمماليك حتى يتسنى الغرض المباشر من مساعي الدبلوماسية الإنجليزية وهو إنشاء حكومة موطدة في مصر تستطيع الدفاع عنها ضد الغزو الأجنبي «الفرنسي». وثانيا: أن إلجين في سبيل تحقيق هذه الغاية قد تخلى عن المبدأ الذي عمل له منذ بداية الوساطة البريطانية في القسطنطينية وهو إرجاع أملاك وامتيازات البكوات إليهم؛ أي بقاؤهم في مصر، يؤلفون عنصرًا هامًّا من عناصر الحكومة المزمعة، في نظير اشتراكهم في واجب الدفاع عن البلاد. وثالثًا: أن إلجين كان يجهل مدى الارتباطات التي ارتبط بها هتشنسون مع البكوات، وصار يعتقد أنه لا يجب أن تحول أية ارتباطات مهما كان نوعها دون تحقيق رغبة حكومته وسياستها التي اعتبر أنها كانت دائمًا إرجاع مصر إلى تركيا.
أما في مذكرة الباب العالي لإسكندر ستراتون، فقد طلب الوزراء العثمانيون أن يجري تسليم البكوات المقيمين لدى القائد والضباط الإنجليز إلى الصدر الأعظم دون استثناء أحد منهم حتى يصير إرسالهم إلى القسطنطينية، وهذا إذا لم يشأ القائد الإنجليزي أن يقوم هو نفسه بإرسالهم، ثم وعدوا باحترام وعدم مساس أملاك الرؤساء المماليك، وأن تباع بيوت هؤلاء في مصر ويعطوا أثمانها، كما وعدوا بإعطاء معاشات لهم وإغداق ألقاب الشرف عليهم.
وأما «إلجين» فقد طلب من «ستراتون» في تعليماته العادية أن يقوم بفحص الحوادث التي وقعت فحصًا دقيقًا، وأنْ يناقش فيها الضباطَ الإنجليز لمعرفة حقيقتها ومغزاها، ثم قال: «ويبدو لي مما أراه أمامي كله، أنه من الواضح، بعد إمعان النظر، أن غرض «الحكومة الإنجليزية» كان دائمًا إعادة مصر إلى تركيا؛ ولذلك فإنه لا يتفق بتاتًا مع اللياقة أن نُجيز التفكير في مناسبة تسليمها تسليمًا فعليًّا إلى البكوات بدلًا من الأتراك»، فإن الباب العالي سوف يظل يعمل ويُناضل لطرد البكوات من مصر؛ ولذلك فالمطلوب من ستراتون أن يبذل قصارى جهده للوصول إلى اتفاق أو تسوية تحقق في وقت واحد غرضَ الباب العالي، وغرضَ الحكومة الإنجليزية، وعليه أن يعمل لإقناع البكوات بالأخطار التي يتعرضون لها إذا بقوا في مصر، ولما كان من الواجب اتخاذُ الحيطة لمجابهة الموقف في حالة الإخفاق فقد زود «إلجين» رسوله بتعليمات سرية، كانت أكثر تفصيلًا وأوضح معنًى في إظهار الغرض من مهمة «ستراتون»، فقال إنه من الواضح أن ملك إنجلترا قد وعد دائمًا وجديًّا بإرجاع مصر إلى صاحب السيادة الشرعية عليها، وأنه رفض دائمًا كذلك التدخُّل في شئون مصر الداخلية، ينهض دليلًا على ذلك توقيع مقدمات الصلح في لندن في أول أكتوبر ١٨٠١ التي هي تأكيدٌ لوعود جلالته، يقابل ذلك طبيعة تلك الارتباطات التي دخل فيها «السير جون هتشنسون» مع البكوات المماليك، لاعتبارات عسكرية هامة، وهي ارتباطاتٌ وعهود قطعها «هتشنسون» على نفسه في قدسية عظيمة، ويستمد منها البكوات حقًّا مضاعَفًا بسبب قدسيتها أولًا، ولأنهم قاموا من ناحيتهم بتنفيذ ارتباطاتهم ثانيًا، ومع ذلك فإذا كانت هذه الارتباطات — كما بلغ «إلجين» — قد ذهبت في مداها إلى الوعد بإعادة أملاك ونفوذ البكوات إليهم بالصورة التي تجعل ذلك اغتصابًا للسلطة، الأمر الذي وجد أنه يهدم دائمًا سيادة الباب العالي، فإن للباب العالي الحق يقينًا أن يعارض من جهته هذه الارتباطات أو أية ارتباطات تسلبه سلطانَه كمناقضة وهادمة لتأكيدات الحكومة الإنجليزية له، ومن حقه كذلك أن يعتبر نفسه مهددًا حتى يتم القضاء على البكوات وإبادتهم، وعلى ذلك، وفي ضوء الظروف القائمة؛ لا مفر من أن يصبح واجب بريطانيا وسياستها أن تسوي هذه الخلافات بين الباب العالي والمماليك، قبل إخلاء الجيش البريطاني للبلاد، أولًا: محافظة على سمعة بريطانيا، وثانيًا: لعدم ترك البلاد في حالٍ من الفوضى قد يجد الفرنسيون بسببها فرصة التدخُّل في شئون مصر، وأخيرًا الاستئثار بالنفوذ — دون الإنجليز — في الليفانت؛ ولذلك فقد وجب على ستراتون أن يسعى جهده لإقناع البكوات بالخطر الذي يتعرضون له إذا أصروا على بقائهم وإقامتهم في مصر، فالقوات الإنجليزية سوف تنسحب حتمًا منها، وعندئذٍ يفقدون حمايتها لهم، وفضلًا عن ذلك فإن الأتراك سوف يستخدمون كل ما بيدهم من وسائل لإرهاقهم والعدوان عليهم، ولا فائدة من قول البكوات: إن الأتراك لا قوة لهم، «ويترتب على ذلك طبعًا أن الواجب يقتضي البكوات إذا أخذوا بمحجة الصواب والحكمة أن يبادروا بالاستفادة من الحماية التي لا زال «الإنجليز» قادرين على أن يشملوهم بها؛ حتى يضمنوا لأنفسهم الوصولَ إلى تسوية مع الباب العالي، هي بعد تقليب جميع وجوه الرأي أفضلُ وسيلة لإنهاء النزاع، وأما إذا وجد ذلك متعذرًا فإن «إلجين» يرى أن نقل البكوات من مصر أمرٌ ضروريٌّ ضرورة قصوى؛ ولذلك فهو يطلب إلى ستراتون أن يتعهد باسمه للبكوات بأنهم سوف يقابلون بكل ترحاب: إما في إنجلترا وإما في ممتلكاتها في الهند؛ حيث ينالون معاشًا سنويًّا مساويًا لذلك الذي عرضه عليهم الباب العالي، مقابل ما يؤدونه من خدمات عسكرية، علاوة على تمتُّعهم بحماية بريطانيا وبجميع المزايا والمنافع التي يَنالها كل رعاياها.»
وقد أوضح «إلجين» الغرضَ الجوهري من مهمة «ستراتون»، والذي يفسر سبب تعليماته السرية إليه في كتاب بعث به في اليوم نفسه (١٢ ديسمبر) إلى اللورد هوكسبري قال فيه: «إنه كان من بين الأفكار التي عَنَّتْ له بشأن البكوات أنه إذا تعذر حَلُّ مسألتهم فإنه يصير عندئذ دعوتهم للانسحاب والخروج من البلاد إلى إنجلترا أو إلى الهند على الأخص؛ حيث يمكن الاستفادة هناك من مواهبهم العسكرية، وتعوض خدماتهم التي يؤدونها النفقات التي تتكلفها الحكومة الإنجليزية بسببهم، كما رأى في الوقت نفسه أن اللجوء إلى هذه الوسيلة يؤكد رغبة الحكومة الإنجليزية في تنفيذ عزمها على إرجاع مصر إلى الباب العالي.»
وهكذا تحددت مهمة «ستراتون»: إما تسوية النزاع بين الباب العالي والمماليك بالطريقة التي يرضى عنها الطرفان — وهو أمر متعذِّرٌ؛ لتعارُض وجهات نظر الفريقين، وإما إخراج البكوات من مصر — وهو كذلك أمر متعذر لتعارُضه مع رغبات المماليك الذين استندوا في دعاواهم على ارتباطات «هتشنسون» معهم، وكانوا يرجون من وساطة الإنجليز تمكينَهم من السيطرة الفعلية على الحكومة، وليس إقصاءهم من البلاد كلية، واتخذوا من «وثيقة العهد الأعظم» — خطاب «هتشنسون» إلى عثمان الطنبورجي — مبررًا لادعاءاتهم عليهم، ومطالبهم منهم.
وأما الصدرُ الأعظمُ فقد اعتزم مطاردتهم، وطلب من «كافان» إمداده بقوات إنجليزية لهذه الغاية، ورفض «كافان» بدعوى عدم وجود تعليمات لديه تُمكنه من ذلك، وكتب الريس أفندي في ٢٦ يناير إلى «كافان» يشكو مِنْ أن المماليك عند إقامتهم مع الجنرال ستيوارت في الجيزة صاروا يشيعون في كتب مدونة أن إنجلترا قد تعهدتْ بإرجاعهم إلى حالهم الأولى، ويحذرون رؤساء القرى والعِزَب المجاورة من إطاعة ضُبَّاط الباب العالي؛ لأن مصر «دائمًا تحت سلطانهم، وإذا عارضوهم فسوف يقتصون وينتقمون منهم»، وطلب الريس أفندي من «كافان» أن يصدر تصريحًا كتابيًّا ورسميًّا بأن إنجلترا صديقة حميمة وحليفة مخلصة للباب العالي ولا تسمح بأي ضرر يلحق بمصالح الحكومة العثمانية، وأنه بدلًا من حماية البكوات، بل وبعيدًا كل البعد من ذلك؛ فإن حكومة إنجلترا لا يسعها إلا إظهار استنكارها كل الاستنكار لمسلك البكوات الذين ظهروا عصاة ثائرين، ولكن «كافان» امتنع عن إصدار هذا التصريح؛ لأن معناه — كما قال في جوابه على رسالة الريس أفندي في ٢٨ يناير: «التدخل في شئون مصر الداخلية، الأمر الذي يتنافى مع التعليمات المعطاة له»، ولكن «كافان» أعلن في الوقت نفسه، أنه لا يتردد عن التصريح بأن غرضه لم يكن أبدًا ولن يكون تشجيع أو تأييد البكوات والمماليك بصورة ما أو أي طبقة أُخرى من الأفراد عند اتخاذهم مسلكًا معاديًا لسلطة سلطانهم الشرعي إمبراطور الأتراك والحليف المخلص القديم للملك البريطاني.
ولم تُفِدْ شيئًا هذه التصريحات بطبيعة الحال، واستمر البكوات في سيرهم إلى الصعيد؛ حيث كان الألفي رابضًا به وعبثًا حاول طاهر باشا رئيس الأرنئود إقناعَ البكوات بالعودة، وإطاعة الصدر الأعظم الذي يعدهم بالصفح ويؤمنهم على أشخاصهم وأملاكهم وأسراتهم باسم حكومته وباسم عظماء الجيش العثماني بأسرهم، ولكن هؤلاء أجابوه بأن الإنجليز — ولو أنهم أصدقاء للباب العالي — قد تحملوا مشقاتٍ عظيمةً من أجل فكاكهم من الأسر، وبالرغم من الجهود التي بذلوها حتى يحصلوا على حق الإقامة في مصر فقد ذهبت هذه الجهود جميعُها سُدًى، فكيف يطلب العثمانيون بعد هذا كله أن يثق البكوات فيهم وفي وعودهم؟ وكتب إبراهيم بك إلى ستيوارت في ٢٩ يناير أن الغرض من محاولة طاهر باشا نصب الفخاخ لهم لحرمانهم من حماية الجيش البريطاني، وقد أقسم له البكوات: «لو أن الصدر الأعظم عرض عليهم مصر بأسرها من غير حماية الإنجليز كضمان لهم ما نزلوا الصعيد.»
فكان انسحاب البكوات بهذه الصورة مؤذنًا ببداية الحرب الأهلية؛ لأنهم عندما غادروا الجيزة كانوا حوالي الألفين، بينما كان لدى الألفي في الصعيد حوالي الخمسمائة، ولم ينشق على إخوانه سوى واحد منهم فقط هو «قاسم بك» الذي طلب الصفح من الصدر، واستعد طاهر باشا للزحف عليهم بجيش يتراوح بين الأربعة آلاف والخمسة آلاف، ويعتمد على أُسطول مدفعية نهرية.
وهكذا فشلت مهمة «ستراتون» ووقع ما كان يخشاه الإنجليز من نشوب «الحرب الأهلية» وعدم استقرار الحكومة وتعرض مصر للغزو الأجنبي نتيجة لذلك، إذا أخلاها الإنجليز، ولم يبق على موعد عقد الصلح العام سوى شهور قليلة.
وغادر «ستراتون» الإسكندرية في ١٥ فبراير سنة ١٨٠٢ قاصدًا القسطنطينية، فوَصَلَها في ١٨ مارس، وفي آخر مارس كتب إلجين إلى «هوكسبري»، يعلل في الحقيقة الأسباب التي نجم عنها فشل «ستراتون» في مهمته — كما رآها — ويذكر النتائج المترتبة على هذا الفشل، فقال: إن مبعث الارتباك الذي شعر به عند إصدار تعليماته إلى ستراتون «أنه كان يجهل جهلًا تامًّا أسباب النزاع أو تطوراته؛ لأنه لم ير مطلقًا خطاب السير جون هتشنسون لعثمان بك الطنبورجي والذي يرتكز عليه الموضوع كله …» ثم علق على مسألة الارتباطات التي ارتطمت بصخرتها — في نظره — كلُّ المحاولات التي بُذلت من أجل الوصول إلى تسوية بين المماليك والباب العالي، فقال: «إن الأتراك يدركون تمام الإدراك أن مطالب البكوات إنما هي الظفر بالسيادة على مصر، وأن جميع المنازعات التي وقعت في الماضي بين الأتراك والمماليك انتهت جميعها بفوز المماليك وخسارة الأتراك خسارة جسيمة، وفضلًا عن ذلك فإن البكوات في أثناء المؤتمرات التي عقدها «ستراتون» رفضوا — في الوقت الذي طالبوا فيه بالصعيد — أن يتركوا بيوتهم في القاهرة يريدون أن يوحوا بذلك أنه سوف تجيء سريعًا الفرصة لاستخدامها.» وهكذا بدأت الحرب الأهلية فعلًا؛ لأن الجنود العثمانيين في القاهرة قد غادروها جميعهم مع أسطول من سفن المدفعية، لمطاردة المماليك، وذلك بعد عشرة أيام من مغادرة ستراتون القاهرة.
ولا جدال في أن «إلجين» منذ أن أصدر تعليماته إلى ستراتون، وعلى نحو ما يتضح من رسالته هذه الأخيرة، كان قد صار يؤيد وجهة النظر التركية، أَضِفْ إلى هذا أنه لم يُطلع الباب العالي على آراء حكومته بصدد مسألة البكوات؛ لأنه كان يبني آمالًا كبيرة على نجاح ستراتون في مهمته ويرجو أن لا يجد نفسه في حاجة إلى إطلاع الباب العالي عليها إذا نجح ستراتون، أما وقد فشل هذا في مهمته، فقد ترك «إلجين» لهذا السياسي الهادئ إخراجه من هذا المأزق، فترك له شئون السفارة وأبحر في ٢٩ مارس سنة ١٨٠٢ إلى أثينا ينشد الراحة.
وأما سياسة حكومته فلم يطرأ عليها أَيُّ تَبَدُّل، بل استمرتْ تبغي الوصول إلى تسويةٍ بين البكوات والباب العالي، لا على أساس إخراج البكوات من مصر، بل على أساس الارتباطات التي أعطاها لهم هتشنسون، وذلك لإنشاء الحكومة المستقرة التي تستطيع دفع الغزو الفرنسي عن البلاد إذا تجدد — هدف الحكومة الإنجليزية دائمًا — وكانت الحكومة الإنجليزية لا ترى أَيَّ تناقُض بين تحقيق هذه الرغبة، وبين إرجاع مصر إلى تركيا، بل ارتبط الأمران في نظرها أحدُهما بالآخر، وصَحَّ عزمها على الوصول إلى هذه التسوية بين المماليك وتركيا عندما وصلتْ أنباءٌ بمكيدة القبطان باشا والصدر الأعظم إلى لندن، فقد بادر هوكسبري بالكتابة إلى إلجين في ٢٧ يناير سنة ١٨٠٢ يبحث عن الأثر الذي أحدثتْه هذه المكيدة في الدوائر المسئولة بلندن، ورأى لزامًا عليه أن يُفَسِّر بصورة أوضح التعليمات التي أصدرها إلى «إلجين» في ١٩ مايو، وفي ٢٨ يوليو سنة ١٨٠١ لإظهار تمسُّك حكومته بالمبدأ الذي اشتملتْ عليه تعليمات «١٩ مايو» وهو إرجاع مقاطعة مصر إلى الباب العالي، وعدم التدخل في شئونها، اللهم إلا فيما يتعلق بوضع قوة بريطانية على شاطئها حتى يحين موعد عقد السلام العام؛ وذلك للدفاع عنها ضد أي غزو فرنسي جديد، كما أن غرض حكومته للسبب نفسه هو إبطالُ مساعي الفرنسيين الذين يُحاولون إضعافَ البلاد بإشاعة التفرقة والانقسام بين أحزابها وجماعاتِها حتى تعجزَ عن الدفاع عن نفسها، وقد استطرد هوكسبري بعد ذلك يقول: «إنه عند إصدار هذه التعليمات لم يكن غرضُ الحكومة الإنجليزية أنْ تملَى هذه الخطة إملاء على الحكومة العثمانية، وليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأن «هتشنسون» قد تدخل من غير ضرورة في شئون مصر الداخلية، ولو أن الظاهر قطعًا من الآراء التي أبداها أن الفضل لدرجة كبيرة في نجاح الأتراك والبريطانيين في طرد الفرنسيين منسوبٌ لتعاوُن البكوات معهم، وكان في هذه الظروف إذن أن صار تشجيع المماليك للانضواء تحت الراية البريطانية وأعطيت الحماية لهم، وهم لوثوقهم في كلمتنا قد أقبلوا على مساعدتنا، وكل ما فعله «هتشنسون» كان حماية أرواحهم وأملاكهم من اعتداءات الأتراك، وفي وسع كل إنسان أن يدرك مبلغ وقع هذه المكيدة في نفس «هتشنسون»، ولا شك في أن الحكومة الفرنسية سوف تفيد من هذا الظرف لاسترجاع نفوذها لدى الباب العالي، وسوف يقدمون هذا دليلًا لتأييد ما يقولونه مِنْ أن البكوات قد استندوا في ثورتهم على النفوذ الإنجليزي، الذي حَرَّكَهم عليها، وأن الفرنسيين لم يحتلوا مصر إلا لضمان المصالح العثمانية ضد المماليك.» وقال «هوكسبري»: إن على اللورد إلجين أن يبذل قصارى جهده لمحو آثار مثل هذه الأقوال من ذهن الباب العالي.
ثم كان في ١٦ فبراير سنة ١٨٠٢ أن بعث جورج الثالث برده على كتاب السلطان سليم الذي بعث به إليه في ٢٣ نوفمبر سنة ١٨٠١ بعد حادثِ المكيدة، يرجوه إصدار أوامره إلى قواده وسائر العسكريين البريطانيين في مصر؛ حتى يَكُفُّوا عن مناصرة المماليك، ولا يُصِرُّوا على بقائهم في مصر فأكد «جورج الثالث» في كتابه حينذاك «أنه لم يَجُلْ في خاطره بتاتًا التدخل في شئون مصر الداخلية، إلا فيما يتعلق بتنفيذ التعهُّدات التي يكون قد حصل الارتباط فيها باسمه، ولكن عزمه هو أنْ تترك هذه البلاد؛ أي مصر تحت تصرف «السلطان سليم» إطلاقًا في كل أمر من أُمُورها عدا ما ذكره.»
وكان معنى هذا أن الحكومة الإنجليزية — مع ارتباطها بإرجاع مصر إلى تركيا — لا تزال متمسكة بضرورة تسوية مسألة المماليك على أساس إبقائهم في مصر وعدم إخراجهم منها، على خلاف ما يُريد الباب العالي، واستتبع ذلك تجديد الوساطة مرة أُخرى لإنهاء الخلافات بين الباب العالي والمماليك.
بعثة ستيوارت
وتعين بعثة «ستيوارت» في الحقيقة آخر أدوار أو مراحل الوساطة التي بذلتْ الحكومةُ الإنجليزيةُ في سبيلها جهودًا متصلة من أيام حملة أبركرومبي سنة ١٨٠٠، حتى إذا فشلت وساطة ستيوارت، وتتابعت الحوادث في مصر بعد ذلك بصورة أقنعت الحكومة الإنجليزية بأن البلاد قد وقعتْ فريسة للفوضى — أو الحرب الأهلية — وتعرضت أكثر من ذي قبل لخطر الغزو الفرنسي عليها بسبب جلاء الجنود البريطانية عنها، اتجه تفكيرُ السياسيين والعسكريين الإنجليز إلى ابتكار شَتَّى المشروعات التي تُحقق أغراضهم سواء جاء تنفيذها بموافقة الباب العالي أو بالرغم منه، وثمة ملاحظة أخرى هي أن ارتباطات هتشنسون على أساس إرجاع السيطرة الفعلية في البلاد إلى المماليك، صارت من الآن فصاعدًا نقطة الارتكاز في كل الحلول أو المشروعات التي ارتأتها الحكومة الإنجليزية لتأمين الدفاع عن مصر.
وكان عقد الصلح العام في إميان في ٢٥ مارس سنة ١٨٠٢ حافزًا للحكومة الإنجليزية على تجديد مسعى الوساطة؛ لأنه تحتم عليهم بموجب هذا الصلح إخلاء مصر وتسليمها للعثمانيين، فدعت الضرورة الملحة — الآن أكثر من أي وقت مضى — إلى تنظيم شئون مصر، قبل الإخلاء نهائيًّا، بصورة تُمكِّن الإنجليز من تنفيذ ارتباطاتهم مع الباب العالي؛ أي إرجاع هذه البلاد إليهم، ثم تمكنهم في الوقت نفسه من الاحتفاظ «بالشرف البريطاني» وتنفيذ ارتباطاتهم أيضًا مع البكوات المماليك.
واختير لهذه المهمة الجنرال السير جون ستيوارت، وهو الذي حضر المكيدة المعروفة، وقام بدور هام في إطلاق سراح بكوات القاهرة، وتراسل معه البكواتُ في أثناء وجود ستراتون بها، وقد غادر ستيوارت مصر بعد ذلك، وكان بإنجلترا عندما وقع اختيار حكومتِهِ عليه لهذه المهمة، وقد اتصل به المسئولون منذ أبريل سنة ١٨٠٢، فاستشاره اللورد هوبارت في موضوع حكومة مصر المستقبلة، وكان رأي ستيوارت الذي أدلى به إلى حكومته في ٢٩ أبريل هو إرجاع حكومة البكوات بروحها الحقيقية والصحيحة، فيدفعون للباب العالي خراجًا يزيد زيادةً كبيرة على ما كانوا يدفعونه في الماضي، وعلى أنْ تكون هذه الحكومة المملوكية تحت حماية بريطانيا، كما أشار بإقامة ضابط إنجليزي في مصر يُشرف على تنفيذ تعهُّدات البكوات مهمتُهُ التدخلُ لضمان قيامهم بالتزاماتهم وتسلم الخراج المستحَق للسلطان العثماني، وكان ستيوارت يرى في هذا الترتيب جملة فوائد؛ أولها: تجنُّب قيام الحرب الأهلية؛ لأنه بمجرد رحيل الجيش البريطاني من البلاد سوف يشتبك المماليك في معارك طاحنة مع الأتراك لطردهم من الوجه البحري، وثانيها: الاطمئنان إلى أن مصر في وسعها رد الغزو الفرنسي عنها، وثالثها: أن إقامة حكومة مملوكية في مصر بواسطة الإنجليز سوف يوجِد بها جماعة طيعة تمتثل لإرادة الإنجليز وتخلص في رعاية مصالحهم.
فكان عندئذ أنْ سعت الحكومة لمعرفة مدى الارتباطات التي ارتبط بها «هتشنسون» مع البكوات المماليك، فاستشارت في هذا الشأن الكلونيل «روبرت أنستروثر» الذي تقدمت الإشارة إليه، وقد قدم هذا مذكرة إلى حكومته في ٨ مايو سنة ١٨٠٢ تضمنت «مشروع هتشنسون» على نحو ما ذكرناه سابقًا.
وأخذت الحكومة بنصيحة «ستيوارت» فأصدرتْ تعليماتها إليه في ١٠ مايو تحدد الغرض من إرساله إلى مصر «لمحاولة عقد اتفاق ودي بين ممثلي الحكومة العثمانية في مصر وبين المماليك»، وبالرغم من احتمال فشل هذا المسعى بسبب الاستعدادات التي يقوم بها العثمانيون لمطاردة البكوات في الصعيد، فإنه من المحتمل كذلك من ناحيةٍ أُخرى استمالة الباب العالي والبكوات للاتفاق الأول لأن مغادرة الجنود البريطانيين لمصر قد تَحَدَّدَ لها وقتٌ معين، والآخرين يجعلهم يدركون أنه إذا لم يمكن الوصول إلى اتفاق بتوسط الإنجليز الآن، فقد يتحول النزاع بينهم وبين العثمانيين إلى حرب إبادة وفناء تقضي على الفريقين، وأما الاتفاق الذي يبدو أكثر قبولًا من غيره بالنسبة لمصلحة الباب العالي وتأمين البكوات وصيانة المصالح البريطانية بطرد النفوذ الفرنسي من مصر، فهو «إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الغزو الفرنسي» مع زيادة قيمة الخراج الذي يجب أن يدفعه البكوات في المستقبل، اعترافًا منهم بحقوق السيادة التي للحكومة العثمانية عليهم»، وأما إذا رفض الباب العالي هذا الحل، فيجري حينئذ الاتفاق على إعطاء البكوات إقليم الصعيد ابتداءً من جرجا جنوبًا.
وطلب هوكسبري في تعليماتِهِ هذه أن يذهب ستيوارت إلى القسطنطينية في طريقه إلى مصر حتى يبلغ «إلجين» رغبات حكومته، وحتى يتضافر الاثنان في جهودهما لإقناع الباب العالي بقبول أحد هذين الحلين أو غيرهما من المقترحات التي تكفل إرجاع الهدوء والسلام إلى مصر، وذلك قبل أن يحين موعدُ جلاء الجيش البريطاني عنها، والذي لا تستطيع الحكومة الإنجليزية إبقاءه فيها بعد شهر يوليو؛ ولذلك فقد طلب إلى ستيوارت الذهاب بسرعة إلى الإسكندرية حتى يجد من الوقت ما يكفي لتنفيذ التعليمات ولإبحار الجنود منها.
وأرسل هوكسبري في الوقت نفسه تعليماتِهِ إلى «إلجين» حتى يسترعي انتباهَ الباب العالي لضرورة فحص مسألة الاتفاق بينه وبين البكوات، وحتى يوضح للأتراك مدى الأخطار التي لا مفر من تعرُّض مصلحة الحكومة العثمانية ذاتها لها إذا هي لم تستطع الإفادة من فرصة وُجُود القوات البريطانية في هذا الوقت في مصر لإنهاء الخلافات بينها وبين البكوات.
فوصل ستيوارت القسطنطينية في ١٩ يوليو، وكان رأي الباب العالي عند وصوله وعلى نحو ما أوضحه في مذكرة بعث بها إلى «ستراتون» منذ ٨ مايو عدم السماح باسترداد البكوات لأملاكهم وأراضيهم وعودتهم إلى وضعهم السابق؛ لأن من شأن ذلك «إثارة متاعب لا نهاية لها في الحاضر والمستقبل لتركيا، ويدعو لحُدُوث انقلابٍ كليٍّ في نظام البلاد الداخلي»، وفضلًا عن ذلك فقد حددت تركيا موقفها من تدخل إنجلترا في هذه المسألة بقولها: «إن ملك بريطانيا قد أعطى تأكيداتٍ قاطعةً بأنه لا رغبة له في التدخُّل بأية صورة من الصور في شئون مصر الداخلية، وأن نواياه الصادقة هي ضمان عودة هذه المقاطعة إلى الباب العالي وخضوعها لتصرُّفه المطلق»، وعلى ذلك فقد لقي «ستيوارت وستراتون» — الذي صحبه — عند مقابلة الريس أفندي في ٢٢ و٢٩ يوليو رفضًا باتًّا للمقترحات التي عرضاها عليه بشطريها: إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الغزو الفرنسي أو إعطاء البكوات إقليم الصعيد ابتداء من جرجا جنوبًا، فكان جواب الريس أفندي «إنه يستحيل على الباب العالي أن يقبل أي اتفاق يسمح للبكوات بالإقامة والبقاء في مصر، فذلك شر استمر من زمن طويل مصدر متاعب ومبعث قلق للباب العالي ومن الحكمة والسياسة استئصالُهُ، ولا خطر على الباب العالي مِنْ قتالهم ومحاربتهم لنقص أعدادهم، ولأن استمرار المعارك سوف يُبيدهم في النهاية، وكل ما يفعله الباب العالي هو أن يعفو عن جرائمهم وأن يقلدهم مناصب شرف ويُجري عليهم معاشاتٍ يُضاعفها لهم على شريطة أن يغادروا مصر بسلام ويذهبوا للعيش في أي بلد يريدونه»، وقد أوضح «ستراتون» سياسة الأتراك هذه، فكتب إلى هوكسبري في ٣ أغسطس «أنه يبدو له أن لدى الحكومة العثمانية مبدأ أساسيًّا يقوم على أن بقاء وإقامة البكوات في مصر متناقضٌ تمامًا مع سلطة السلطان العثماني الفعلية في هذه المقاطعة، وهم يرون أن النزاع بين الحُكُومة العثمانية وبين البكوات لا يدور حول ازدياد ثراء وقوة البكوات كرعايا للسلطان، ولكن حول الفصل فيما إذا كان السلطان العثماني أو البكوات هم الذين تصبح لهم السيادة في مصر؛ ولذلك فمن رأيه؛ أي رأي ستراتون أن إبادة وفناء أحد هذين الفريقين المتنازعين هو وحده السبيل إلى إعادة الهدوء والسلام إلى مصر، وفي مثل هذه الظروف لا يمكن تحقيق مهمة «ستيوارت».»
ومع أن ستيوارت وستراتون ظلا يحاولان إقناع الباب العالي بالعدول عن رأيه، فقد رفض الريس أفندي كل مقترحاتهما، حتى إن ستراتون صار يعتقد أن الإرغام وحده هو الوسيلة لحملهم على الاتفاق، وأما ستيوارت فقد كتب إلى هوبارت في ١٧ أغسطس يعلل سبب إخفاقه في مهمته في القسطنطينية، بأن التعليمات المعطاة له لم تجعل إخلاء الجنود البريطانيين لمصر مرتهنًا بقبول الأتراك للاتفاق، وفي اليوم نفسه غادر ستيوارت القسطنطينية وهو لا يزال يعتقد أن الفرصة لَمَّا تفلت من يده بعد، ويحدوه الأملُ في النجاح عند وصوله إلى الإسكندرية.
ولكن خسرو رفض أن يسمح لياور اللورد «كافان» بالذهاب إلى البكوات والاتصال بهم، وتعهد بإيصال رسائل «كافان» إليهم، دون أن يفضها، ولكن «كافان» رفض بدوره لعدم ثقته به، واستند خسرو فيما فعل إلى أن تعليمات حكومته له تمنعُهُ من كل اتصال بالمماليك، وتأمره بالاستمرار في الحرب ضدهم، وأنه لا مبرر في الحقيقة لخرق هذه التعليمات الآن ما دام من المنتظر حضور «ستيوارت» قريبًا، ومن المتوقع أن يأتي معه بأوامر الباب العالي في هذه المسألة، وعلى ذلك فقد رجع «ديساد» إلى الإسكندرية، وكان كل ما وعد به خسرو باشا — برهانًا على حُسن نواياه — هو وَقْف زحف طاهر باشا ضد البكوات حتى يحضر الجنرال «ستيوارت»، ووقف كل العمليات العسكرية ضدهم إذا وعد اللورد «كافان» من جانبه وعد صدق وشرف، أن المماليك يقبلون الانسحاب إلى ما بعد «إسنا» دون أن يؤذوا القرى والسكان في أثناء انسحابهم، وعلى أن يحترموا جنود الباب العالي في أي مكان قد يقابلونهم فيه.
ولا شك في أن مبعث هذا الشعور بإخفاق مهمته سلفًا، ما توقعه من رفض خسرو باشا لأي اتفاق مع البكوات على أساس غير إخراجهم من مصر، على أن «ستيوارت» لم يعدم الأمل في حمل خسرو على الموافقة إذا تسنى له إقناعُهُ بأن تصميمه على رفض المفاوضة مع المماليك مِنْ شأنه تأجيل خروج الإنجليز من البلاد، ولم يتوان «ستيوارت» عن التلميح بهذا الرأي لحكومته، والإيحاء إليها بأنه الوسيلة المجدية لحمل الأتراك على الاتفاق، فقال في رسالته إلى «هوبارت» في ٣ سبتمبر — وهي الرسالة التي سبقت الإشارة إليها — «وأما إذا كانت هذه؛ أي تأخير الجلاء حتى يتم الاتفاق، هي رغبةُ حكومة جلالة الملك الحقيقية، فالجيش البريطاني في مصر يجد صعوبات لا ندحة عن إخبار حكومته بها؛ لأن الجيش في حاجة قصوى إلى مختلَف أنواع المؤن والاستعدادات اللازمة لإقامته، حيث إن تسليم القلاع الرئيسية مع مخازنها للأتراك واشتراك الحاميات مع الجنود الأتراك يعرض الجيش بعد هذا لارتباكات خطيرة لا حصر ولا عَدَّ لها.»
وفي الواقع صح ما توقعه ستيوارت، ورفض خسرو كل ما عرضه عليه، ورفض أن يسمح له بالاتصال بالبكوات على نحو ما فعل «كافان»، وضاق ستيوارت ذرعًا عندما وصلتْه ووصلت اللورد «كافان» رسائل من البكوات يوم ٢٨ سبتمبر تحمل إليهما أخبار وُصُولهم إلى مديرية الفيوم حتى صاروا على مسافةِ يومين من القاهرة، بعد أن انتصروا على الأتراك في خمس معارك، ومع أن البكوات قالوا إنهم ليسوا في حاجة إلى مؤن فقد أشاروا إلى تعاسة الحرب المستمرة، وأكدوا رغبتهم في السلام على أساس تعيين مكانٍ ثابتٍ لإقامتهم في مصر، واعتقد ستيوارت في هذه الظروف أن البكوات لن يرضوا بأي اتفاق يقومُ على أساس نَفْيِهِم إلى خارج البلاد، كما صار يعتقد أن ممثلي الباب العالي ورجاله أصحاب السلطة في مصر، يُخفون حقيقةَ الأمور عن الوزراء العثمانيين في القسطنطينية، كما كان راسخًا في ذهنه أن الباب العالي نفسه مصمم على تنفيذ أغراضه بالقوة المسلحة، ينهض دليلًا على ذلك نزولُ حوالي الخمسة آلاف أو الستة آلاف جندي ألباني ومقدوني وغير ذلك في أبي قير ورشيد في غضون شهرَي أغسطس وسبتمبر، علاوة على ثمانية آلاف وصلوا إلى دمياط من جهات الشام، أَضِفْ إلى هذا كله أن اللورد «كافان» صار مصممًا على الاستقالة، وبات من المنتظر مبارحته للبلاد عند أول فرصة سانحة، فكان لهذه الأسباب جميعها أنْ أعلن ستيوارت رغبته في التزام الحياد من الآن فصاعدًا، تاركًا للورد «إلجين» في القسطنطينية مهمة إقناع الباب العالي، وكتب إليه بتفصيلات كل ما وقع في ٢٩ سبتمبر ١٨٠٢.
ذلك كان الموقف إذن عندما وصل «هوراس سباستياني» إلى الإسكندرية في ١٦ أكتوبر سنة ١٨٠٢ يظهر دهشته — كما قدمنا — من استمرار الجيش البريطاني في مصر وعدم جلائه عنها، وقد ذكرنا عند الكلام عن بعثة سباستياني في مصر مبلغ الأثر الذي تركه نشاطه في نفس «ستيوارت»، وكيف أن هذا الأخير قد اتخذ من مجيء «سباستياني» إلى مصر وقرب وصول «القنصل الفرنسي» دروفتي دليلًا على نوايا فرنسا العدوانية نحو مصر، واهتم ستيوارت باستجلاء أغراض هذه البعثة، وقال «ستيوارت» في رسالته التي فصل فيها إلى اللورد هوبارت في ١٨ أكتوبر أخبار هذه البعثة «إنه يجرؤ للمرة الثانية فيعبر عن اعتقاده الراسخ بأن الفرنسيين ينوون سواء بطريق المفاوضة أو بطريق أكثر صراحة ووضوحًا استرجاعَ سلطانهم وتفوق نفوذهم في هذه البلاد، وليس مجيء سباستياني إلا تمهيدًا لذلك، ولكن الفرنسيين لا يزالون في حاجة إلى إنشاء صلات تربط السكان والمماليك بهم في مصلحة مشتركة، بخلاف الحال مع الإنجليز الذين أوجدوا هذه المصلحة فعلًا لدرجة أن أقل كلمة تشجيع تبدر في هذه اللحظة من جانب الحكومة الإنجليزية تمكن الإنجليز من السيطرة على البلاد، وإذا أرادت «الحكومة الإنجليزية» الاستفادة من هذا النفوذ الذي تستمتع به؛ فإن إهمال كل لحظة تمر إنما يكون كسبًا ومغنمًا لمنافسيهم «الفرنسيين».» وكان واضحًا من هذا الكلام أن ستيوارت لا يزال يرجو إذا وافقت حكومتُهُ على تأخير الجلاء ودخل في روع العثمانيين أن تسليم الإسكندرية مرتهن بقبولهم الاتفاق مع البكوات حسب الشروط التي تريدها بريطانيا، أن يستطيع تحقيق الغرض من مهمته.
ولكنه كان من الواضح بسبب إصرار الباب العالي على موقفه كما عاد فأكده للحكومة الإنجليزية في لندن وللجنرال «ستيوارت» نفسه في الإسكندرية، وبسبب ما أبداه «سباستياني» من نشاط في القسطنطينية والقاهرة، أن فضلتْ لندن إغفالَ نصيحة «ستيوارت»، وأصدرتْ أوامرها بالإخلاء في ٢٦ نوفمبر سنة ١٨٠٢، مستندة في ذلك إلى سببٍ جوهري في نظرها، هو أن مهمة «ستيوارت» كانت حسم الخلافات بين الباب العالي وبين البكوات قبل انسحاب الجيش البريطاني من مصر في موعدٍ أقصاه شهر يوليو، ولكن «ستيوارت» قد فشل في مهمته؛ ولذلك انتفى أي مسوغ لبقاء الجيش البريطاني في مصر أكثر من المدة التي قضاها بها، عندما دعت الحاجة إلى استخدامه في ميادين ومهام أخرى.
غير أنه في الوقت الذي صدرت فيه تعليمات لندن بالإخلاء، كان ستيوارت قد استطاع الاتصال بالبكوات بل وتوثيق علاقاته بهم؛ ذلك أن المماليك بعد وُصُولهم إلى الفيوم ما لبثوا أن استأنفوا زحفهم إلى الدلتا وتوغلوا في الوجه البحري، وفي ١٣ نوفمبر علم «ستيوارت» أنهم نزلوا في الحوش على مسافة مرحلتين من دمنهور في قوات تبلغ الألفين عدا حوالي أربعة آلاف أو خمسة آلاف من البدو، وفي ١٥ نوفمبر ظهر فجأة محمد الألفي في مراكز الإنجليز الأمامية عند بركة غطاس وطلب مقابلة «ستيوارت» بالإسكندرية فسمح له بذلك، وقد علم منه «ستيوارت» أن حال المماليك قد بلغ من السوء نهايته، وأن مواردهم قد استنفدت، ولا يمكن تعويضُ خسائرهم بسبب الحرب المستمرة، وأنهم قد جاءوا ليرجوه مرة أُخرى أن يشفع وأن يتوسط لهم لدى الباب العالي، أو أن يفصل «ستيوارت» في مصيرهم حسبما يراه وأربك هذا الرجاء «ستيوارت» الذي لم تكن لديه تعليمات، فلم يَسَعْه إلا أن يَعِدَ الألفي ببذل الجهد في التوسط لصالحهم ثانية، وأن يعرض على البكوات إذا عاكستْهم المقادير الاحتماءَ في مراكزه العسكرية حتى يحصل على أوامر أخرى من حكومته، وعاد الألفي إلى معسكره في مساء اليوم نفسه، ثم ما لبث البكوات أن كتبوا «لستيوارت» من الحوش في ١٧ نوفمبر يبلغونه اقترابهم من الرحمانية، ويرجونه التوسط لدى خسرو باشا الذي كانوا قد كتبوا له من مدة سابقة برغبتهم في النزول إلى الوجه البحري لتسهيل المفاوضات، ولكنه بدلًا من الجواب على رسالتهم أغلق في وجوههم كل الطرق وسَيَّرَ جُنْدَه ضدهم.
وكان موقف «ستيوارت» حرجًا؛ لأن خسرو منذ ١٣–١٥ نوفمبر كان قد رفض بتاتًا الاستجابةَ لمساعي «ديساد» ياور الجنرال «ستيوارت» الذي أُوفد إلى القاهرة للحصول على معلومات من الباشا عن مهمة «سباستياني» ثم التوسط في مسألة البكوات، فقال خسرو: «إنه واثق الثقة كلها من أن حماية الجنرال «ستيوارت» للبكوات لا تعدو تمني الخير لهم والتوسط من أجل الحصول على مكان إقليم لإقامتهم، ولكنه يمتنع عليه؛ أي خسرو بسبب ما لديه من أوامر الإصغاء إلى أي حديث في هذه المسألة، بل يمتنع عليه بسبب صرامة هذه التعليمات؛ أن يدخل في مفاوضاتٍ أو مباحثات مع البكوات حتى ولو كانوا تحت أسوار القاهرة ذاتها»، وفضلًا عن ذلك فقد كان خسرو ينتظر وصولَ نجدات من الدلاة من الشام، حوالي ثلاثة آلاف فارس، كما بلغ «ستيوارت» أنه أنفذ جيشًا من حوالي الخمسة آلاف بقيادة الكخيا «يوسف بك» من القاهرة لقطع خط الرجعة على المماليك ومطاردتهم.
فأوفد «سيتوارت» إليهم الميجور «مسيت» وهو «ضابط — قال عنه «ستيوارت» — إنه ينتمي لأسرته»، فقابل الألفي في بركة غطاس ليقف على سبب المعركة وتفصيلها، ولعل أهم ما تجدر ملاحظته هنا على نحو ما بينا سابقًا تأكيد الألفي له انشقاقه على إخوانه الذين صح عزمهم على الاشتباك مع الأتراك، فلم يشترك في القتال «خوفًا من عدم رضاء «ستيوارت»» عليه إذا فعل، وقد أَلَحَّ الألفي في ضرورة مقابلة ليس «ستيوارت» وحده فحسب، بل والقبطان بك قائد البحرية العثمانية بالإسكندرية وخورشيد باشا حاكمها، ولم يفد احتجاج «مسيت» بأن «ستيوارت» قد قَرَّرَ التزام الحيدة وعدم التدخُّل، ولكن الألفي صمم على عدم مغادرة المكان حتى يصله جواب «ستيوارت» وقال إنه مزود برسائل من البكوات، ورغب القبطان وخورشيد في مقابلة الألفي شخصيًّا وتسلم الخطابات التي قال إنه جاء بها من إخوانه فدخل الألفي الإسكندرية في ٢٤ نوفمبر، وتمت المقابلة مساء اليوم نفسه، فتكلم الألفي طويلًا عن مقاومته للفرنسيين، والخدمات التي أَسْدَتْها جماعتُهُ للجيوش المتحالفة والوعود التي أُعطيت للبكوات، والاضطهادات التي تحملوها، والنجاح المستمر الذي أحرزوه في عملياتهم العسكرية ضد الأتراك، ومع ذلك، وبالرغم مما حدث جميعه، فإنه لا يزال يؤكد ولاءه وولاء سائر البكوات للسلطان العثماني، ولم يترك الصعيد إلى الوجه البحري إلا لرغبته في أنْ يكون قريبًا من الإنجليز وليرجوهم التوسُّط في مسألة البكوات حرصًا على راحة البلاد وإعادة الهدوء إليها.
وكان مقال الألفي مقنعًا في حُججه الظاهرة، ولكن القبطان وخورشيد لم يسعهما سوى الوعد بإبلاغ ذلك كله إلى خسرو باشا؛ لأنه لم تكن لديهما أية تعليمات — كما قالا — لإبرام أي اتفاق معه ومع إخوانه، ولخسرو وحده أن يتصرف حسب تعليمات حكومته، وكان معنى ذلك أنه لا أمل ولا رجاء في الحقيقة في الوصول إلى أية تسوية، وأما ستيوارت فقد تمسك بحيدته؛ حيث إنه أخفق في الحصول على الاتفاق الذي سعى كثيرًا من أجله أو لوقف القتال، كما صرح بأنه لا يستطيع ولا يريد أن يضغط على البكوات ليمنعهم من اتخاذ الوسائل التي تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم، أو ليحول دون متابعتِهم لانتصارهم، ولكنه إذا حدث أن ساءتْ حالُ أحد الفريقين لدرجة تحملهم على الالتجاء لحمياته داخل مراكزه فإنه سوف يرحب بهم دون تفرقة أو تمييز، وقد عَلَّلَ ستيوارت السبب في تشجيعه على عقد هذا الاجتماع بقوله في رسالته إلى اللورد هوبارت في ٢٤ نوفمبر «بأنه لم يكن بحال من الأحوال لتوقعه الوصول إلى أية نتيجة حاسمة، ولكن لإزالة الغيرة من صدور «الأتراك» وسوء الظن أو التفسير الذي قد تُسببه مراسلات «ستيوارت» المنفصلة مع البكوات.»
ولكن ستيوارت في الوقت الذي وقف فيه ذلك الموقف السلبي مِن خلافات الأتراك والمماليك، وهو الحياد الذي كان يراه متفقًا مع كرامته؛ لم يلبث أنْ أرسل ياوره اللورد «بلانتاير» إلى القسطنطينية مزودًا بتعليماته في ٢١ نوفمبر حتى يطلع «إلجين» على حقيقة الموقف في مصر، وكي يلح عليه في ضرورة الوصول إلى أي اتفاق أو تسوية مع الباب العالي بشأن البكوات، وقال ستيوارت في هذه التعليمات: «إن البكوات سوف يقبلون راضخين أية شروط تعرض عليهم ما دامت لا تطلب نفيهم من مصر»، ثم كتب للصدر الأعظم في ٢٦ نوفمبر يخبره بمهمة «بلانتاير»، «حتى يطلعه على تفاصيل الحوادث التي وقعت أخيرًا في مصر، والتي تهم الصدر الأعظم بلا شك، كما تهم الدول الحليفة لتركيا، وحتى يتحدث إليه عن ذلك النضال المميت، والذي استعر أوارُهُ بين الباب العالي حليف إنجلترا، وبين البكوات الذين أعطى لهم الملك وعده، بينما يرى «ستيوارت» أناسًا هم رعايا سلطان واحد وإخوة في دين واحد، وأبناء آباء واحدة، يتطاحنون ويتقاتلون ولا يصغون لأصدقائهم الذين يريدون أن يسود السلام والوئام بينهم»، ورجا ستيوارت الصدر الأعظم أن يتوسط في السلام بين الباب العالي والمماليك.
وفي ٢٢ نوفمبر غادر «بلانتاير» الإسكندرية إلى أزمير ومنها إلى القسطنطينية فوصلها في ٢٤ ديسمبر، وهناك وجد أن «إلجين» كان قد استأنف مباحثاته مع الباب العالي بشأن المماليك نتيجة لما أظهره سباستياني من نشاط — وقد انتهت مهمته في مصر وغادرها في ١٤ نوفمبر كما هو معروف — ولو أن الباب العالي لم يتأثر — على ما يبدو — ببعثته، بل ظل مصممًا على المضي في طريقه، وقرر إرسال أحد موظفيه «صدقي أفندي» إلى لندن؛ ليوضح للورد «هوكسبري» شعور الباب العالي نحو مسلك «ستيوارت» في مصر، ويجدد عروضه السابقة بشأن المماليك — وهي العروض القائمة على نقلهم وإبعادهم من مصر — وفي ٣٠ نوفمبر كتب «إلجين» إلى «هوكسبري» يقدم إليه صدقي أفندي «المفاوض العثماني» الذي اختاره الباب العالي للمباحثة مع الوزراء الإنجليز في مسألة المماليك، ويخبر «هوكسبري» أن الباب العالي قد أوفد إلى مصر أيضًا مفاوضًا آخر للاشتراك مع «الدفتردار حاتم أفندي» بها لتسوية هذه المسألة مع الجنرال «ستيوارت»، وحاول «إلجين» إحباط قرار الباب العالي وعرض في الوقت نفسه أن يذهب إلى الإسكندرية لعقد اتفاق مناسب للطرفين، ولكن جهوده ذهبت سدى، حتى إذا أرسل خسرو باشا إلى القسطنطينية تفصيلات مقابلته مع سباستياني، تبدل اطمئنان الباب العالي إلى قلق وانزعاج شديدين؛ لأنه لم يكن من المتعذر إدراك الغاية من إلحاح سباستياني باسم القنصل الأول في التوسط وإنشاء العلاقات الودية مع البكوات، وزاد انزعاج الباب العالي عندما عرف من مبعوثه «في عقد السلام بين تركيا وفرنسا» بعد عودته من باريس أن «بونابرت أبلغه مرتين برغبته في التدخل واستخدام نفوذه لإعادة سلطان البكوات في مصر»، فصار واضحًا أنه من المحتمل كثيرًا أن تتدخل فرنسا الآن في شئون مصر الداخلية، واعتقد الباب العالي انه صار من مصلحته المبادرة بكل سرعة لتنظيم شئون مصر الداخلية، كما اعتقد أن في وسعه الوصول إلى تسوية أو تنظيم يطلق يده تمامًا ويُمكنه من حرية العمل في مصر إذا هو نجح في إقناع الإنجليز الذين أعلنوا أنْ لا مصلحة لهم في هذه البلاد، بقبول التنظيم الذي تبغيه ثم تبع ذلك انسحاب جيشهم، وعلى ذلك فقد اجتمع الريس أفندي بإلجين في ١٩ ديسمبر، وبدأت من ثم المحادثات التي أفضتْ إلى الاتفاق أخيرًا، وإن كان هذا الاتفاق قد جاء متأخرًا وفي وقت كانت قد تغيرت فيه الظروف، واختلف الموقف تمامًا عما كان عليه عندما بدأ الإنجليز وساطتهم من عامين مضيا وبصورة جعلت البكوات يرفضون هذا الاتفاق فخسروا بذلك قضيتهم نهائيًّا.
اتفاق «٣–٦ يناير سنة ١٨٠٣»
ومهما يكن من أمر هذا التفاهُم السري، الذي أكد الباب العالي بصورة قاطعة في أثناء مباحثاته مع إلجين منذ ١٩ ديسمبر «أن هناك مراسلات سرية «بشأن التفاهُم والاتفاق» بين إبراهيم بك وبونابرت عن طريق قبطي يُدعى يعقوب موجود بباريس»، تدل على وجود تلك المراسلات، فقد أجاب إلجين الريس أفندي «بأن بونابرت يريد إعادة النفوذ الفرنسي في مصر على حساب تركيا، وأن الوسيلة لمنع ذلك هي الوصول إلى اتفاق ودي مع البكوات على أساس المقترحات التي قدمتها إنجلترا، أو ترك النزاع على حاله حتى إذا خرج الإنجليز من مصر استطاع الفرنسيون إنهاءه.»
على أنه من الثابت من جهة أُخرى، في تعليل هذا الاتفاق الذي لم يعترض عليه إلجين وقَبِلَه، أن إلجين نفسه كان يُريد حدوثه قبل وصول السفير الفرنسي حتى يتجنب المخاطرة والفشل، ففضل عدمَ التريُّث أو سؤال «ستيوارت» في موضوع تلك العريضة التي أكد الوزراء العثمانيون أنها وصلتهم عن طريق هذا الأخير، تتضمن مطالبةَ البكوات أنفسهم بهذا الحل أو الترتيب.
ولم يتمسك «إلجين» بضرورة إعطاء البكوات كل إقليم الصعيد، لا سيما وأن ستيوارت نفسه قال في تعليماته لمبعوثه إلى القسطنطينية «بلانتاير»: إن البكوات سوف يَقبلون أي حل يُعرض عليهم ما دام لا يطلب نفيهم وإبعادهم من البلاد، وقد عارض الباب العالي في إعطاء الصعيد للبكوات بدعوى الحاجة المُلِحَّة إلى الاحتفاظ بالمواصلات مع ميناء القصير على البحر الأحمر، والذي يتسنى بواسطته الاحتفاظُ بالمواصلات مع أقاليم الصعيد التي تُنتج القمح، واعتقد إلجين أن الاتفاق كان لا يخلو من مزايا هامة، منها أن البكوات لم يجبروا على تصفية أملاكهم في القاهرة وفي الوجه البحري، زد على ذلك أن الباب العالي لم يصر على إدخال تعديل في نظام المماليك ووضعهم يتم نفاذه بضمان الإنجليز أو جيشهم في مصر، وعظم رجاء إلجين في أن المماليك سوف يقبلون هذا الاتفاق الذي لم يشترط نفيهم من مصر.
غير أنه كان من الواضح أن تنازُل الباب العالي عن موقفه كان تنازُلًا ظاهريًّا أو وهميًّا، لم يرغمه عليه سوى تفوُّق المماليك وانتصارهم على جيشه في مصر، في وقت ينقصه فيه وجودُ القُوَّات العثمانية الكافية التي إذا قوى ساعدُها سوف تمكنه في الظروف المواتية من مطاردة البكوات والعمل من أجل القضاء عليهم، وعلاوة على ذلك فإن مديرية أسوان كانت لفقرها أملاكًا لا يمكن أن تكفي لبقاء المماليك وعيشهم، فلم يكن هذا الاتفاقُ السريع في نظر الباب العالي سوى هدنة تعطيه فسحةً من الوقت في نضاله المميت مع المماليك، وإرضاء شعور العزة والكرامة لدى البريطانيين الذين أعطوا كلمتهم للبكوات، وارتبطوا معهم، أضفْ إلى هذا أن الباب العالي كان يُريد التخلُّص من جيش الاحتلال البريطاني بكل سرعة وتجنب المسألة المربكة التي سوف يُثيرها قطعًا السفير الفرنسي عند حضوره إذا وجد أن الباب لم يغلق بعد في وجه التدخُّل الفرنسي في صالح البكوات.
أما الباب العالي فقد أبلغ الحكومة الإنجليزية هذا الاتفاق في يناير وأرسل الأوامر اللازمة، إلى صدقي أفندي مبعوثه في لندن لإطلاعه على قرار حكومته، كما كتب «الصدر الأعظم» في التاريخ نفسه إلى الجنرال ستيوارت بما حدث، وأرسل تعليماته إلى خسرو باشا، وطلب إلى «ستيوارت» إخبار المماليك بالاتفاق ثم بانتهاء تدخُّل الإنجليز لحمايتهم، وقال إن «بلانتاير» سوف يعطيه؛ أي ستيوارت كل التفصيلات المتعلقة بهذا الاتفاق.
ووصل «بلانتاير» الإسكندرية في ٣ مارس سنة ١٨٠٣، وفي اليوم نفسه قدم تقريرَه إلى «ستيوارت» وأوضح فيه اعتراضه على اختيار مديرية أسوان لإقامة المماليك، كما قال إن الأتراك إنما أرادوا من الانتهاء من مسألة البكوات بهذه السرعة مَنْعَ تدخُّل السفير الفرنسي الذي كان منتظرًا وصوله قريبًا؛ لأنهم توقعوا هذا التدخُّل بسبب ما ظهر لهم من مسلك «سباستياني» في مصر، وبدليل أن الجنرال «برون» كان أول سؤال له عند وصوله إلى القسطنطينية «هل انتهت مسألة المماليك أم لم تنته بعد؟»
•••
أما في مصر فقد حدث بعد ذهاب «بلانتاير» إلى القسطنطينية، أنْ جَعلت هزيمة الأتراك في معركة دمنهور أو الحوش خسرو باشا يبعث مندوبًا من قبله مع ترجمانه إلى «ستيوارت» بالإسكندرية يقترح عليه حلًّا لمسألة المماليك أن يبقى هؤلاء في مصر ولكن على شريطة تسليمه رؤساءهم الأربعة فيخرج هؤلاء من مصر للعيش في أي مكان آخرَ من أملاك الدولة مع إعطاء معاشات لهم، أو يتوسط «ستيوارت» لوقف القتال حتى تحال المسألة على القسطنطينية للبت فيها، ووصل مندوبا خسرو إلى الإسكندرية في ١٠ ديسمبر ١٨٠٢، ولما كان «ستيوارت» يعتقد أن غرض خسرو من ذلك التسويف والمماطلة، فقد رفض الاتفاق على غير القواعد التي وضعتْها حكومة لندن، وظل «ستيوارت» يطلب من حكومته تخويلَه التدخُّل بنشاط لوقف القتال بين العثمانيين والبكوات، ووضع حد للحرب الأهلية، وقال في رسالته إلى هوبارت في ٧ ديسمبر إن غرضه من ذلك «أن يكون لإنجلترا النفوذ الذي كان يجب أن يكون من نصيبها من مدة طويلة بسبب جهودها التي بذلتْها وأعمالِها التي قامت بها في مصر»، ولكن الحكومة الإنجليزية — كما سبق القول — اعتبرت أن ستيوارت قد فشل في مهمته، واتخذت قرار الإخلاء المعروف في ٢٧ نوفمبر، ووصل هذا القرار ستيوارت في ٢٠ يناير سنة ١٨٠٣، وحاول ستيوارت محاولة أخيرة قبل جلاء قواته من مصر، فبعث «بالميجور مسيت» إلى خسرو باشا يبلغه هذا القرار ويحاول — كما كتب سيتوارت لهوبارت في ٢٠ يناير — أن يُقنعه بإبرام اتفاق في صالح البكوات، ولكن دون جدوى، وحدد خسرو شروط النفي كأساس لأي اتفاق معهم، وفي ٢٨ فبراير كتب ستيوارت إلى هوبارت يذكر له أنه ذهب إلى معسكر البكوات فجمع زعماءهم شيوخ العرب وبَيَّنَ لهم «أنه وإن كان يُكِنُّ لهم صداقةً كبيرة إلا أن واجبه قد صار يحتم عليه إنهاء المساوئ التي وقعت في الأزمة الحالية — بسبب وجودهم — على السكان في الوجه البحري، ثم ذكر لهم أنه إذا استمر الباب العالي مترددًا في مسألة شروط صلحه معهم، فإن أرض الصعيد مفتوحة أمامهم، وأنه ينتظر منهم عودتهم ثانية إلى الصعيد في سلام وأن ينتظروا هناك نتائجَ ما يبدونه من اعتدال إلى جانب توسُّط الإنجليز الذي سوف يستمر في صالحهم.
ومما يجدرُ ذِكْرُهُ أن البكوات طلبوا في هذه المقابلة أن يذهب واحدٌ منهم إلى لندن كممثل لهم ليعرض شكاياتهم على الحكومة الإنجليزية ويرجوها عدم التخلي عنهم ومواصلة الاهتمام بأمرهم، وقال ستيوارت ومع أنه اعترض على ذهاب واحد منهم بهذا الوضع؛ أي كممثل لهم في لندن، فقد اعتبر أن وجود أحد البكوات في لندن «يكون بمثابة الحلقة الأولى من سلسلة ذلك النفوذ «الإنجليزي» الذي قد يمكن تعهده بالرعاية وتعزيزه، ولما كان الألفي بك قد أبدى رغبة في الانسحاب إلى إنجلترا، استجاب ستيوارت لإلحاحه في قوة وشدة أنه يسمح له بالسفر مع الجيش «البريطاني»، والألفي يتمتع باحترام كبير بين المماليك والعرب «البدو»، وقد يصبح لذلك أداة قوية في يد الحكومة الإنجليزية في حالة وقوع تلك الحوادث التي أبدت الحكومة الإنجليزية رغبتها في الاستعداد لمواجهتها، وفي الوقت نفسه لمعارضة أو مقاومة الفرنسيين ومنعهم من تأسيس نفوذهم مع «المماليك» الذين سوف يشعرون بخيبة الأمل بعد رحيل الإنجليز، فيتسنى للفرنسيين عندئذ أن يصبحوا منافسين أقوياء لهم.»
وكان البكوات قد كتبوا له كذلك في ٢٠ فبراير بعد زيارته لهم في معسكرهم، أنهم قد وافقوا على الذهاب إلى الصعيد ليقيموا بأسيوط، ولكنهم رجوه «أن يسمح لأحد إخوانهم بأن يصحب الجيش الإنجليزي إلى إنجلترا؛ حتى يعرض على جلالة ملك بريطانية كل ما قاسوه منذ أن نزلوا من الصعيد حتى يضموا قواتهم إلى قوات جلالته لطرد الفرنسيين الذين كانوا أعداء جلالته وكذلك أعداء سلطانهم المعظم، وحتى يرجوا جلالته أن يهتم بأمرهم ويتوسط لدى السلطان المعظم حتى يصفح عن الأخطاء التي يكونون قد ارتكبوها في الماضي، وأن يعطيهم السلام الذي يريدونه ويطلبونه من كل قلوبهم»، ومنذ أوائل مارس سنة ١٨٠٣ بدأ البكوات انسحابهم صوب الصعيد.
ولما وقف ستيوارت على نتائج بعثة بلانتاير إلى القسطنطينية، وعرف الاتفاق الذي تم هناك في ٣–٥ يناير، واعتبر أن اختيار مديرية أسوان التي تتألف من جزيرتين أو ثلاث جزر في مجرى النهر وشريط ضيق من الأرض بين شاطئ النهر الغربي والصحراء، إن هو إلا برهان جديد على خداع الباب العالي، فقد رفض أن يكون له شرف تقديم هذا الاتفاق إلى البكوات، وفي ١١ مارس سنة ١٨٠٣ غادر ستيوارت الإسكندرية إلى مالطة وأبحر معه الألفي في طريقه إلى إنجلترا، وتم إبحار الجيش في ١٢ مارس.
وكانت الحكومة الإنجليزية نفسها هي المسئولة في واقع الأمر عن فشل «ستيوارت» في مهمته؛ ذلك أنه عندما استمر قُوَّاد الجيش البريطاني في مصر في أثناء عام ١٨٠١، وأرادت أن تنتهز فرصة ما أدركتْه من سمعة طيبة أكسبتْها إياها انتصاراتُها حتى تعمل لتنظيم شئون مصر الداخلية، بالصورة التي تتفق مع مصلحة إنجلترا؛ رفضت الحكومة الإنجليزية التدخُّل، واقتصرت على إبداء النصح للباب العالي فحسب، ولم يأخذ الباب العالي بطبيعة الحال بالنصائح التي قدمتْها له، فلم تتخذ الحكومة الإنجليزية موقفًا معينًا في مسألة البكوات على أساس إشراكهم في حكومة مصر إلا في غضون عام ١٨٠٢، ولكن هذا التدخل كان قد فات أوانه، وجاء في وقت كانت ذكريات النصر والخدمات التي أسدتْها إنجلترا للباب العالي قد تنوسيت وعفت آثارها، وعندما بدأت المفاوضات الجدية لبحث هذه المسألة، ظهر تضارُبُ المصالح بين الدول — خصوصًا إنجلترا وفرنسا — واستطاع الباب العالي أن ينتفع من هذا التضارب للتحرر في الحقيقة من سلطان صديق وحليف ظاهر «إنجلترا» لتنفيذ الخطة التي رسمها الوزراء العثمانيون، فلم يكن الاتفاق أو التسوية التي ابتكروها في ٣–٦ يناير سنة ١٨٠٣ للتخلص قبل كل شيء من تدخل القنصل الأول، سوى خطوة لا جدوى منها ولا طائل تحتها، وكان هذا الفشل من الأسباب التي حملت الإنجليز فيما بعد على اللجوء إلى توثيق عُرَى صلاتهم بالمماليك مباشرة، عن طريق الألفي خصوصًا، ثم إذا تبين عدمُ نفع هذه الوسيلة كذلك، محاولة التدخل المسلح بإرسال حملة فريزر المعروفة، وقد فشلوا في ذلك أيضًا لأسباب سوف يأتي ذِكْرُها في حينه.
سفارة الألفي في لندن
ولما كانت الحكومة الإنجليزية لا تزال متحذرة من إثارة مخاوف الباب العالي وشكوكه في نواياها ولا تريد تعكير صفو علاقاتها مع تركيا، وبخاصة وقد قامت الحربُ بينها وبين فرنسا، فقد بادرتْ بتهدئة الأتراك حلفائها وتسكين خواطرهم، وطلبت إلى «دراموند» في ١٨ أكتوبر أن يُبلغ الباب العالي «أن الرئيس المملوكي قد وصل إلى إنجلترا دون علم الحكومة الإنجليزية ومن غير موافقتها على ذلك، وأن رغبة الملك الأكيدة والتي لا تتغير هي عدم سماع أي اقتراح من جانب هذا الرئيس من شانه التأثير على مصالح وحقوق الباب العالي في مصر»، ثم وزعت الحكومة مذكرة على الصحف (١٨ أكتوبر) لإخبار الجمهور بأنه لا يُمكن تقديم الألفي لدى البلاط؛ «لأن العرف والتقاليد يمنعان استقبال الملك رسميًّا وزيرًا لدولة غير معترف بها وفي ثورة علنية ضد السلطة التي تعتبرها بريطانيا العظمى السلطة الشرعية الوحيدة في مصر.»
وعلى ذلك، فقد امتنعت الحكومة الإنجليزية عن الدخول في أية أحاديث أو مفاوضات مع الألفي، وعبثًا حاول هذا أن يلفت نظرها إلى النتائج التي يجب توقُّعُها من تعيين علي باشا الجزائرلي لباشوية القاهرة، ومن مكائد هذا الأخير التي قال الألفي إنها سوف تُربك المماليك وتُساعد على تعزيز النفوذ الفرنسي، وأمام هذا البرود من جانب الحكومة الإنجليزية لم يسع الألفي سوى تمضية وقته في الزيارات خصوصًا لبلانتاير «ياور الجنرال ستيوارت» والجنرال هتشنسون، وحضور الحفلات، واستمر الحال على ذلك حتى بداية شهر نوفمبر، عندما وصلت لندن الأخبار منبئة بالانقلابات والاضطرابات التي وقعت حديثًا في مصر، فقد قتل الإنكشارية طاهر باشا في مايو، واستدعى الأرنئود المماليك مع الصعيد لمعاونتهم في نضالهم مع الإنكشارية ودخل هؤلاء القاهرة بالطبول، ثم استطاعوا الاستيلاء على دمياط التي كان خسرو متحصنًا بها في أول يوليو، ووقع الكابتن «هايز» — وكان مع خسرو — في قبضتهم، وقد توفي «هايز» بعد أن أطلق سراحه وذهب إلى رشيد حتى يلحق بمسيت في الإسكندرية فأُصيب بالحُمَّى وكانت وفاته في ٢٦ يوليو، وحوالي هذا التاريخ استولى المماليك على رشيد منذ ٣ يوليو فصارتْ مصر بأسرها في قبضتهم، ولم يبق في يد الأتراك سوى مركز واحد هو الإسكندرية، وكان أهم هذه الأخبار — ولا شك — استعادة المماليك للقاهرة الحكومة الثلاثية: محمد علي، البرديسي، إبراهيم، وصار من الواضح أن الباب العالي بعد توالي هذه النكبات، سوف يشعر بضرورة الاتفاق مع البكوات على أساس الشروط التي ظل يرفضها طيلة السنوات الثلاث الماضية، بل إن «دراموند» ما لبث أن كتب إلى حكومته في ٧ نوفمبر سنة ١٨٠٣ يبلغها قرار الباب العالي الذي بعث به إلى علي باشا الجزائرلي الوالي الجديد في مصر لتنفيذه، ولكن الحكومة الإنجليزية كانت قد قررت العمل قبل أن يبلغها ذلك.
على أن أهم ما ذكره الألفي في هذه المذكرة — وكان يدل في نظر بعض المؤرخين على تمتعه بقسط وافر من نضج التفكير السياسي — قوله: إنه لم يحضر إلى لندن حتى يعرض على حكومتها مشروعًا أو يقترح عليها مبادئ من شأنها إدخال عامل الاضطراب فيما بين الحكومة الإنجليزية والدول الأجنبية الأخرى من علاقات أو أن تسبب لها صعوبات جديدة، وإنما هو قد حضر حتى يدفع عن نفسه وعن زملائه التهمة التي أُلصقت بهم، تهمة الثورة على السلطان «العثماني» صاحب السيادة الشرعية عليهم، كما أنه حضر حتى يبسط للحكومة الإنجليزية الأسباب العادلة التي دفعتْه هو وزملاؤه إلى المطالبة بحماية الحكومة الإنجليزية ومساعدتها لهم، واختتم الألفي مذكرته ببيان مدى الاحترام الذي قابل به المماليك نصائح الجنرال ستيوارت حتى يلزموا جانب الاعتدال وقت انتصارهم على الأتراك في المعارك التي اشتبكوا فيها معهم، ثم طالب الحكومة الإنجليزية بتأييد الوعود التي أعطاها لهم الجنرال هتشنسون بإعادة حقوقهم السابقة إليهم، ولم تكن هذه وعودًا شفوية، بل وعودًا مكتوبة — كما قال الألفي — ومُصاغة في قالب رسمي، كما طلب من الحكومة الإنجليزية أن تبين — بوضوح وجلاء — مدى المساعدة التي ترى أن في وسعها إعطاءها للبكوات.
وفي ١٥ ديسمبر سنة ١٨٠٣ قررت الحكومة الإنجليزية أن ترد على مذكرة الألفي، وكان معنى ذلك أنها انتوت أن تفيد نهائيًّا من وجود الألفي في لندن لتتخذ منه أداة لديبلوماسيتها، «كالحلقة الأولى من سلسلة ذلك النفوذ «الإنجليزي» الذي يمكن تعهده بالرعاية وتعزيزه» على نحو ما أشار به ستيوارت نفسه على حكومته منذ ٢٠ يناير سنة ١٨٠٣، وأما السياسة التي انتوت الحكومة الإنجليزية اتباعها وقتئذ فقد رسمتْ معالمها في ردها على مذكرة الألفي، ثم في تعليماتها إلى «دراموند» بالقسطنطينية، فقالت في كتابها إلى الألفي في ١٥ ديسمبر «إنه لَمما يسرها كثيرًا أن تؤكد له اقتناعها التام بالمسلك السليم الذي سلكه البكوات والخدمات التي أسدوها بإخلاص عند اتحادهم في العمل مع القوات البريطانية في مصر، وإن جلالة الملك سوف يقوم فورًا بالسعي لدى الباب العالي واستخدام نفوذه عن طريق سفيره بالقسطنطينية حتى يصل إلى صلح بين البكوات وبين صاحب السيادة الشرعي عليهم سلطانهم «العثماني» حليف «إنجلترا» الصادق الأمين، وأن يبذل «جلالة الملك» قصارى جهده لإعادة تأسيس مصالح البكوات في مصر، على أساس يكفل لهم وضعًا لا يقل في مزاياه عن الوضع الذي كان لهم وقت غزو الفرنسيين للبلاد.»
وقالت الحكومة الإنجليزية في رسالتها «لدراموند» في ٢٠ ديسمبر، إن سلطة تركيا في مصر تكاد تكون معدومة تمامًا وإن الموقف في هذه البلاد قد أثار اهتمام الحكومة الإنجليزية التي تريد استتباب الأمن في مصر، ومن حق إنجلترا — بفضل ما أسدته من خدمات للباب العالي — أن تتحدث إليه في وضوح وصراحة فتذكر الخدمات الجوهرية التي أداها البكوات المماليك للجيش البريطاني وقت أن كلف بفتح مصر من جديد، وترى الحكومة الإنجليزية لذلك أن من حق هؤلاء البكوات أن يسترجعوا المركز الذي كان لهم وقت الغزو الفرنسي، وعلى ذلك فإن كل اتفاق آخر من طراز ذلك الذي اقترحه الباب العالي على اللورد «إلجين» في يناير سنة ١٨٠٣ إنما هو اتفاق ناقص ولا يحقق الغرض المنشود، فإنه إذا نظرت الحكومة العثمانية إلى مركز المماليك بهدوء ودون التأثر بعواطف جامحة، واعترفت بأن جندها الأتراك انهزموا دائمًا على أيدي المماليك الذين يستولون الآن على مصر بأسرها ما عدا الإسكندرية، وأنه لم يعد في قدرة الباب العالي توطيد سيطرته في مصر؛ لاتضح لها؛ أي الحكومة العثمانية أن من صالح الباب العالي نفسه أن يصل إلى اتفاق وتسوية مع المماليك وأن يقتسم السلطة معهم في مصر.
وفي نظر الحكومة الإنجليزية، لا يوجد سوى أساسٌ واحد للاتفاق هو: أن يعترف البكوات بسيادة الباب العالي وأن يدفعوا له خراجًا سنويًّا يزيد على الخراج القديم إذا رغب السلطان العثماني في ذلك، وأن يعتبر البكوات أنفسهم ملزَمين أمام جلالة ملك بريطانيا بتنفيذ هذا الاتفاق، وبهذه الشروط يترك للبكوات ممارسة السلطة والانتفاع بالمزايا التي كانت لهم قبل مجيء الفرنسيين إلى مصر.»
وقد تأثر الألفي بمشاهداته وتجاربه في هذه السفارة فقال الجبرتي: إنه كان من أثر رحلته إلى بلاد الإنكليز وغيابه بها سنة وشهورًا أن تهذبتْ أخلاقُهُ بما اطلع عليه من عمارة بلادهم وحُسْن سياسة أحكامهم وكثرة أموالهم ورفاهيتهم وصنائعهم وعدلهم في رعيتهم مع كفرهم بحيث لا يوجد فيهم ولا مستجد ولا ذو فاقة ولا محتاج، وقد أهدوا له هدايا وجواهر وآلات فلكية وأشكالًا هندسية وأسطرلابات وكرات ونظارات، وفيها ما إذا نظر الإنسان فيها في الظلمة يرى أعيان الأشكال كما يراها في النور، وفيها بخصوص النظر في الكواكب، فيرى بها الإنسان الكوكب الصغير عظيم الجرم وحوله عدة كواكب لا تُدرك بالبصر الحديد.
ومن أنواع الأسلحة الحربية أشياء كثيرة … وأخبرني بعض مَنْ خرج لملاقاته عند منوف العلا أنه لَمَّا طلع إليها وقابله سليمان بك البواب … وكان قد بلغ «الألفي» كل أفعاله بالمنوفية من العسف والتكاليف وكذا باقي إخوانه وأفعالهم بالأقاليم، فكانت مسامرتهم معه في تلك الليلة في ذكر العدالة الموجبة لعمار البلاد، ويقول لسليمان بك في التمثيل: «الإنسان الذي يكون له ماشية يقتات هو وعياله من لبنها وسَمْنها وجبنها يلزمه أن يَرفق بها في العلف حتى تدر وتسمن وتنتج له النتائج، بخلاف ما إذا أجاعها وأجحفها وأتعبها وأشقاها وأضعفها حتى إذا ذبحها لا يجد بها لحمًا ولا دهنًا، فقال هذا ما اعتدناه ورُبِّينا عليه، إن أعطاني الله سيادة مصر والإمارة في هذا القطر لأمنعن هذه الوقائع وأجري فيها العدل ليكثر خيره وتعمر بلاده، ويرتاح أهله، ويكون أحسن بلاد الله.»
ولكن الألفي لم تُتَحْ له فرصة الإمارة على مصر، ولم تفده أو سائر البكوات شيئًا تلك الوعود التي قطعها الإنجليز على أنفسهم بمؤازرتهم لاسترجاع سيطرتهم القديمة على حكومة البلاد.
مشروعا دراموند وألكسندر بول
وترتدُّ أُصُول ما حدث من تطوُّر ظاهر في السياسة الإنجليزية نحو مصر بعد جلاء الجيش البريطاني عنها، إلى ما سبق بيانُهُ عند ذكر الأسباب التي ساعدت الألفي على النجاح في مهمته؛ ذلك أن جلاء الجنرال ستيوارت مع القوات الإنجليزية من مصر لم يكن معناه أن إنجلترا صارت مطمئنة إلى حالة الدفاع عن هذه البلاد أو أنها صارت لا تخشى من تجدُّد نُزُول الفرنسيين بها وإغارتهم عليها، أو أنها اعتقدت أن صلح أميان قد نجح في تسوية الأمور في أوروبا وفي مصر معًا، بل على العكس من ذلك لم تلبث أن ازدادت مخاوف الإنجليز بسبب فشل مساعيهم من أجل التوفيق بين الباب العالي والمماليك، وإلحاح الحكومة الفرنسية — كما رأينا — في ضرورة تنفيذ معاهدة الصلح فيما يتعلق بإخلاء مصر، ثم نشر تقرير سباستياني منذ يناير ١٨٠٣، وذيوع الاعتقاد بين السياسيين والعسكريين الإنجليز على السواء بسبب ذلك كله بأن فرنسا لا زالت طامعة في احتلال مصر وامتلاكها فتمسكوا بمالطة كمركز هام يُمَكِّنهم من مراقبة نشاط الفرنسيين في الليفانت وفي المياه المصرية خصوصًا.
ومنذ أن تجددت الحرب بين فرنسا وإنجلترا (مايو ١٨٠٣) استأثرت مصر بشطر كبير من تفكير الحكومة الإنجليزية، لا سيما وقد ظلت العلاقات مستمرة بين الحكومة الفرنسية والمصريين بعد صُلح أميان — على نحو ما سبق توضيحه.
فمع أن الأثر الذي أحدثه تدخل وكلاء القنصل الأول في مصر، وعلى رأسهم «ماثيو لسبس»، كان سلبيًّا؛ فقد أثار نشاطهم مخاوف الوكيل الإنجليزي «مسيت» الذي اعتقد أن فريقًا كبيرًا من المماليك بزعامة عثمان البرديسي قد انحاز نهائيًّا إلى جانب الفرنسيين، وأن فريقًا آخر من أولئك الذين يُظهرون — بزعامة إبراهيم بك — ميولًا ودية نحو إنجلترا؛ قد صاروا هم كذلك على استعداد للترحيب مع إخوانهم بالفرنسيين إذا جاء هؤلاء إلى البلاد واستولوا على الإسكندرية ثانية وذلك حتى يضعوا أنفسهم تحت حمايتهم «على اعتبار أنه من المتعذر عليهم — كما قال مسيت — الاحتفاظ بمصر لأنفسهم من جهة، والوصول إلى اتفاق مع الباب العالي من جهة أخرى، من غير الاستناد إلى قوة دولة أوروبية ووساطتها.»
وقد حدث ذلك في الوقت الذي اشتد فيه ساعد البكوات بعد دُخُولهم القاهرة وإنشاء حكومة محمد علي — البرديسي — إبراهيم الثلاثية بها، ورفضهم عروض علي باشا الجزائرلي — وصاروا يلومون الإنجليز على أنهم لم يُحافظوا على وعودهم ولم يؤيدوهم.
وكان لِمَا أكده بتروتشي ومسيت من استعداد البكوات للانضمام إلى فرنسا إذا غزت مصر، أبلغ الأثر على «دراموند» وعلى «السير ألكسندر بول» خصوصًا، وفي أكتوبر ١٨٠٣ كان لكلٍّ منهما رأيٌ يخالف رأي الآخر، بصدد معالجة مسألة المماليك على ضوء الغزو الفرنسي المتوقَّع، فكتب «دراموند» من بلغراد في ٢٥ أكتوبر ١٨٠٣ — وقد خلفه «ستراتون» وقتئذ في القيام بأعمال السفارة — «يبدي تعجبه من وجود أناس لا يزالون يثقون في المماليك ويمتدحون أخلاقهم وشجاعتهم … وهم زعماء غادرون لعصابات من قُطَّاع الطرق لا تعرف القانون ولا تخضع له …» ويدعو لعدم تركهم مستقلين بحكومة مصر أو امتلاك البلاد «ليس لأنه يريد الدفاع عن الأتراك، ولكن بسبب حكومة المماليك السيئة نحو الأهالي في مصر.»
وكان من رأيه أَنَّ ترك المماليك في حكومة مصر لا يتفق مع صالح السياسة الإنجليزية؛ لأن المماليك الذين يعلمون بمحالفة الإنجليز للباب العالي سوف يجدون في آخر الأمر أن من صالحهم الاعتماد على فرنسا وطلب المساعدة منها، حقيقة تفيد إنجلترا من عودة المماليك إلى الحكم؛ لأن ذلك يكسبها في رأيه القدرة — بفضل مالها من تفوُّق بحري — على التدخل والمحافظة على التوازُن بين قوى البكوات والعثمانيين في مصر، ويأسف لأن الحكومة الإنجليزية لم تهتم قبل الآن بمسألة توطيد سيادة الأتراك في مصر قبل انسحاب الجيش البريطاني.
ولكنه لما كان قد وقع هذا الخطأ، وصار البكوات منتصرين الآن، ونشأ عن ذلك خطرُ توطيد النفوذ الفرنسي على أيديهم؛ لم يعد هناك سوى طريقةٌ واحدة لدرء هذا الخطر، هي أن يقترح الإنجليز على الباب العالي أن يتفق مع البكوات بإعطائهم ما يرضيهم في عروض أكثر اعتدالًا وفي وسعهم أن يقبلوها.
وفي ٦ نوفمبر عاد «دراموند» يكتب إلى اللورد هوكسبري من بلغراد يتحدث في نفس الموضوع مرة أخرى، ولكن رسالته في هذه المرة نقلت أخبارًا هامة لحكومته، ذلك أن «دراموند» الذي أكد أن الفرنسيين قد صاروا أصحاب النفوذ المتوثق في دوائر المماليك في مصر — وجد من واجبه أن يعرض على القسطنطينية وساطة إنجليزية لتسوية العلاقات بين الباب العالي والمماليك وحسم الخلافات القائمة بينهما، ولو أنه — كما اعترف هو نفسه — «لم يكن مفوضًا من حكومته بعرض هذه الوساطة» على الحكومة العثمانية، وفضلًا عن ذلك قال «دراموند» إن الباب العالي قَبِلَ التسوية التي اقترحها؛ أي دراموند دون تغيير تقريبًا، وبات الباب العالي لذلك يخشى مِنْ أَنْ تقف فرنسا على حقيقة الأمر، وهي تسويةٌ تقوم على «تعيين باشا عثماني في مصر، وترك البكوات يمتلكون القاهرة، وسحب الأرنئود العصاة من البلاد»، واعترف «دراموند» بأنه عندما اقترح هذا الحل لم يكن لديه في أول الأمر أمل كبير في النجاح، ولكنه وقد وافق الأتراك عليه فقد صار يخشى أن يرفضه البكوات، ويحطموا برفضهم كل سلطة لهم في مصر في آخر الأمر.
واستند «دراموند» في تأييد ما فعله إلى أسباب عدة: منها اعتقاده الجازم بأن مصلحة بريطانيا في الظروف الحاضرة تتطلب أن تصبح للباب العالي السيادة في مصر، ومن المستحيل طالما ظلت الإمبراطورية العثمانية باقية أن يؤسس البكوات دولة مستقلة؛ لمنافاة ذلك لطبيعة الأشياء، ولا ندحة عن أن تحميهم دولة أو قوة أكبر من دولتهم أو القوة التي لهم، وعلى ذلك فهم — حتمًا — سوف يطلبون مساعدة إنجلترا أو فرنسا إذا صاروا مستقلين ولم يعودوا رعايا للسلطان العثماني بينما تدل الحوادث الأخيرة على أنهم يفضلون مساعدة الفرنسيين على اعتبار أن فرنسا — وليست إنجلترا — هي الدولة التي من المحتمل أن تساعدهم على الثورة ضد الباب العالي؛ ولذلك فقد وجب بذل كل جهد لإعادة سلطة الباب العالي في مصر، ورأى «دراموند» من الخطوات اللازمة لذلك استدعاء الأرنئود من مصر؛ لأنه — كما قال — «لا بد من حل حزمة القضبان حتى يتسنى كسر العصا»، وعلاوة على ذلك فإن «دراموند» «لم يكن في وقت من الأوقات راضيًا عن المعاهدة الأخيرة» اتفاق «٣–٦ يناير ١٨٠٣»؛ وهو الاتفاق الذي تم تحت تأثير السفارة الإنجليزية في القسطنطينية فهو يعجب ويدهش لإبرام هذا الاتفاق الذي جعل البكوات يتهمون الإنجليز بأنهم تخلوا عنهم، وجعل الباب العالي يُحَمِّل بريطانيا العظمى وزر هذا الاتفاق كله، ولو أن اللورد هوكسبري علم بحقيقته لَمَا كان وافق عليه بتاتًا، وحتى إن الجنرال ستيوارت لم يشأ أن يكون الواسطة في تبليغه للبكوات رسميًّا، ولكنه من المعروف أن البكوات وافقوا على محتوياتِ هذا الاتفاق وعرفوا الدور الذي قامت به الحكومة الإنجليزية في هذه المسألة.
وفي ٧ نوفمبر بعث «دراموند» بشروط الاتفاق التي أغفل ذكرها في رسالته السابقة، وهي أن تُعاد للبكوات حقوقهم وامتيازاتهم، وأن يعين إبراهيم بك شيخًا للبلد ومقره هو وسائر البكوات القاهرة، وأن يجرى دفع الخراج — كالسابق — للباب العالي ويُحَصِّل ضابط عثماني الميري، وأن يُعاد تحصيل الضرائب المخصصة لخدمة الحرمين الشريفين «مكة المكرمة والمدينة المنورة»، وأن يقيم الباشا العثماني بالإسكندرية، وقال «دراموند»: وكما سبق أن أوضح للورد هوكسبري رأيه في ضرورة تقييد سلطة البكوات، فهو يرى لزامًا عليه كذلك أن يؤكد له أنه لَيبعد كل البعد عن الرغبة في اقتراح أي إجراء قد يفضي إلى إبادة هذا الجيش؛ أي المماليك، وكان لهذا السبب نفسه أنه استنكر في عبارات لا لبس فيها ولا إبهام معاهدة القسطنطينية؛ أي اتفاق «٣–٦ يناير ١٨٠٣».
وبعد أيام قلائل كان «دراموند» قد عاد إلى القسطنطينية، فقابل الريس أفندي في ١٥ نوفمبر، وأكد له الريس أفندي أن مسائل مصر قد سويت نهائيًّا، ومع ذلك فقد ظل «دراموند» ضعيفَ الأمل في نجاح هذه التسوية؛ لأن الريس أفندي — كما أبلغه «دراموند» — قد ارتكب خطأ جسيمًا في عدم الإصرار على تعيين حكام أتراك في كل الموانئ المصرية.
وقد أبلغ الباب العالي موجَزًا لصيغة الاتفاق النهائي بينه وبين البكوات بتاريخ ٢٦ نوفمبر ١٨٠٣، إلى السفير الفرنسي، جاء فيه: «إنه لما كان بكوات القاهرة قد بعثوا بمندوبٍ خاصٍّ عنهم إلى الباب العالي، وقدموا عرائضَ يلتمسون فيها الصفح عن خطاياهم السابقة جميعها بشريطة أن يقدموا الأموال — أو الضرائب — في مواعيدها دائمًا، المخصصة منها لخدمة الحرمين الشريفين والميري، وكل ما يطلبه «الباب العالي» وإطاعة أوامره في كل الظروف، وإرادته هي العليا؛ لذلك صدرت إرادة سنية بتاريخ منتصف شهر جمادى الآخرة سنة ١٢١٨ هجرية (٢ أكتوبر ١٨٠٣)، تمنحهم العفو والصفح عن كل ما ارتكبه بكوات القاهرة المذكورون من أخطاء سابقًا، وتجديد لقب شيخ البلد لإبراهيم بك على شريطة أن ينفذ البكوات ما وعدوا به، وأن يدفعوا الضرائب والميري وما يلزم لخدمة الحرمين الشريفين … إلخ. بعدم الخلط، بعذر من الأعذار بينها وبين جمارك القاهرة وغيرها من الضرائب التي يجب أن يأخذها الباب العالي كإيرادات، طبقًا للإدارة الجديدة، وأن يقوموا أخيرًا بتنفيذ الشروط سالفة الذكر بكل دقة.»
ومع أن الباب العالي نفى أن للإنجليز دخلًا في إبرام هذا الاتفاق، فقد اعتقد السفير الفرنسي «برون» — وكان محقًّا في اعتقاده — أن الإنجليز توسطوا لعقده، وكتب برون لتاليران في ٢٦ نوفمبر أنه من المشهور والمعروف لكل إنسان أن تركيا لا تقوم بواجبها كدولة محايدة باستخدامها الإنجليز من أجل المفاوضة مع البكوات، لقد نفى الريس أفندي ذلك، ولكن «علي باشا الجزائرلي» اعترف للوكلاء الفرنسيين في مصر بأنه يعرف من القنصل الإنجليزي «الميجور مسيت» أن الباب العالي استخدم الإنجليز في المفاوضة مع البكوات.
وفي الوقت الذي كان يسعى فيه «دراموند» في القسطنطينية ومن بلغراد، من أجل الوصول إلى اتفاق بين البكوات وبين الباب العالي، على أساس إرجاع سلطان المماليك السابق في الحكومة إليهم، كخطوة لا مفر منها لبقاء مصر تحت سيادة الباب العالي وفي نطاق الإمبراطورية العثمانية، وكحَلٍّ يبطل مساعي الفرنسيين، ويمكِّن البلاد من الدفاع عن نفسها بقواتها — من المماليك والعثمانيين — ضد الغزو الفرنسي المتوقع، كان السير ألكسندر بول في مالطة يقترح مشروعًا آخر يجعل لبريطانيا الإشراف الفعلي على شئون الدفاع عن مصر ضد هذا الغزو الفرنسي المتوقع، وكان مبعث مشروع ألكسندر بول، نفس الحوادث والظروف التي حركت «دراموند» للعمل وأفضتْ إلى اتفاق «أكتوبر-نوفمبر ١٨٠٣».
والموقف في مصر حرج ودقيق بسبب الحرب الأخيرة بين المماليك والأتراك، ومن المنتظر وقوعها قريبًا فريسة في قبضة أول غازٍ يغزوها، وذلك إذا امتنع الإنجليز عن تأسيس نفوذ لهم في مصر وعن إعطاء حكومتها الاستقرار اللازم، الأمر الذي يجب أن يتم مع اتخاذ الحيطة والحذر لعدم إثارة الأتراك أو أية دولة أوروبية أخرى، والمماليك يشعرون تمامًا بأنهم في حاجة إلى حليف يحميهم، حتى إن وجود حامية قوية بالإسكندرية من قبل دولة أوروبية سوف يكون مبعث سرور وارتياح لهم.
وهناك ما يدل على أنهم يفضلون محالفة الإنجليز؛ لأنهم يعرفون جيدًا أن غرض بريطانيا العظمى من الاهتمام بأمر مصر ليس سوى منع الفرنسيين من تنفيذ مشروعاتهم لامتلاك واستعمار مصر، وهي مشروعات يعترف هؤلاء بها، ويعلنونها دون مواربة، ولا يرضون أن تكون مصر من نصيب أية دولة أخرى؛ ولذلك فهم لا يحترمون المماليك إلا إذا كان هؤلاء خاضعين لأطماعهم.
ومن المحتمل أن الحكومة البريطانية سوف ترفض وضع حامية «إنجليزية» في الإسكندرية، وإذا وافقت على ذلك فالنفقات لا تقل عن مائة ألف من الجنيهات سنويًّا؛ ولذلك «فالسير ألكسندر بول» يرى أنه من الممكن بنفقات أقل كثيرًا من هذه الدفاعُ عن الإسكندرية، وذلك باستخدام جنود أجانب؛ أي من غير الإنجليز، ومن غير إثارة شعور أي دولة من الدول.
وعلى ذلك فهو يقترح تعيين رجل كفء، صاحب خلق وديع مسالم، ومن طراز يمكن الاعتماد عليه، قوي الخلق متينه؛ ليتخذ مقره بالإسكندرية، مكلفًا في الظاهر بأية مهمة أو عمل آخر، ويكون مفوضًا في إمداد حاكم الإسكندرية بما يكفي من مال لدفع مرتبات أربعة آلاف جندي، وعليه؛ أي هذا الرجل الكفء … إلخ، أن يقوم بالتفتيش عليهم سرًّا، وأن يكون لديه أي عدد من الضباط الذين يستطيع الاعتماد عليهم، ويأخذ أكثر هؤلاء من بين فرق الجيش البريطاني الأجنبية من غير إثارة شكوك أحد … ويمكن استخدام تاجر إنجليزي لتزويد حاكم الإسكندرية بالمال اللازم لنفقات الحامية في صورة قرض نظير إعطائه التزام الجمارك، كما يمكن في الوقت نفسه إعطاء قسم من الرسوم التي تحصلها هذه الجمارك لحاكم الإسكندرية بمقتضى اتفاق يبرم لهذه الغاية.
ويجب على المقيم الإنجليزي أن يقدم النصح للحاكم في كل الشئون المدنية ويضع قوانين وقواعد تؤمن حريات الأفراد وأملاكهم، فسوف يجد الأهلون أو السكان عندئذ أن من صالحهم تأليف قوات عسكرية أهلية أو مرابطة — ميليشيا — ومساعدة الحامية إذا هُوجمت، ويجب أن يحصل الإنجليز على امتيازات تجارية لتعويض الحكومة عن نفقات الحامية وهي نفقات تدفع كذلك شركة الهند التجارية الشرقية جانبًا منها؛ إذ إن الغرض الرئيس من إنشاء هذه الحامية هو أن تصبح حاجزًا ضد أية دولة قد تريد إلحاق الأذى بأملاك «الإنجليز» في الهند من هذا المكان.
ويدرك السير ألكسندر بول أن الحكومة العثمانية سوف تحتج على «الإنجليز» إذا اكتشفت أنهم يحمون المماليك، ولكن لما كان من المنتظر قريبًا أن يرسخ في ذهن رجال الدولة العثمانية استحالة تقييد تجارة «الإنجليز» الضخمة بالصورة التي عليها هذه التجارة الآن، فمن المحتمل أنها سوف تميل إلى قبول وساطة إنجلترا، وفي هذه الحالة سوف تنقذ الدولة العثمانية من أي اعتداء آخر يقع عليها من جانب المماليك الذين يصبحون على استعداد لأن يصغوا لأية اقتراحات تُقترح عليهم طالما أَمَّنَ الإنجليز لهم فتوحاتهم الحالية.
وفي استطاعة السفير الإنجليزي لدى الباب العالي أن يبين له أنه من صالح تركيا قطعًا أن تقبل إنشاء هذه الحامية؛ لأن مصر من غيرها سوف تدخل سريعًا تحت سلطان فرنسا التي سوف تقدم من الأدلة وقتئذ ما يثبت أن جيرتها «للدولة العثمانية» أشد خطرًا عليها من جيرة المماليك لها؛ لأن فرنسا بمجرد أن تمتلك مصر سوف تتطلع إلى الشام وتمد سلطانها صوب البحر الأسود.
ولذلك فمن الواجب إقناع تركيا بأن الغرض من هذا الترتيب المعروض ليس خدمة المماليك على حساب الإمبراطورية العثمانية وضد مصالحها، وإنما إبعاد الفرنسيين عن التدخل في شئون مصر والدولة بصورة نافذة.
وقد يقال إنه كان ينبغي اقتراح هذا الإجراء على تركيا وقت امتلاكها للإسكندرية لو أنه كان لا يبدو أن مفاتحتها في هذا الموضوع قد يجرح كرامة وشعور الحكومة العثمانية؛ لانطوائه على معنى عدم الاعتقاد بقدرة هذه الحكومة على الدفاع عن أملاكها، فلو أن حالة الدفاع عن الإسكندرية في سنة ١٧٩٨ كانت طيبة؛ لَمَا هاجمها الفرنسيون، ولَوَفَّرَتْ بريطانيا العظمى جملة ملايين من الجنيهات، ولَأمكن استخدامُ ذلك الجيش من الجنود الشجعان الذين أنقذوا مصر، في وقف تقدُّم الفرنسيين في إيطاليا وفي بلاد غيرها.
وأما إذا سألت الدول الأخرى «الحكومة الإنجليزية» تفسيرًا لهذا المسلك، فالجوابُ يكون عندئذ أن هذا الترتيب بوضعه مصر بمنأى عن الغزو والفتح إنما يسدي إلى أوروبا خدمة جليلة بتوفير أسباب الهدوء والسلام لها.
وواضح أن الهدف الرئيسي من مشروع السير ألكسندر بول منع تعرض مصر للغزو الفرنسي وتهيئة وسائل الدفاع عنها، وواضح أن المماليك كانوا هم القوة التي اعتمد عليها هذا المشروع في الدفاع عن مصر، كما أنه من الواضح كذلك أن الإشراف على شئون الدفاع سوف يكون من نصيب بريطانيا وهي أيضًا التي سوف تتحمل نفقاته، وزيادة على ذلك فقد استند المشروع بأكمله على اتخاذ الإسكندرية قاعدة للدفاع ضد الغزو المنتظر.
آثار مشروع «بول» في القاهرة
وكان لهذا المشروع آثارٌ معينة في كل من القاهرة والقسطنطينية، وذلك أن السير ألكسندر بول، قرر أن يوفد إلى مصر الكابتن «فيشنتزو تابرنا» كي يجس نبض المماليك لمعرفة ما إذا كانوا يميلون لعقد اتفاق على الأُسس التي تضمنها مشروعه في حالة موافقة الحكومة الإنجليزية على هذا المشروع، وقد زود السير ألكسندر الكابتن تابرنا بتعليمات تحدث عنها هذا الأخير في رسالة له إلى الجنرال ستيوارت في ٦ نوفمبر ١٨٠٣، فقال: «إنها كانت لجعل البكوات يسألون الحكومة الإنجليزية أن ترسل شخصًا ذا كفاءة لمساعدتهم، ليس فقط في تحصين الساحل المصري، بل ولتدريب وتنظيم قوة من أربعة آلاف رجل يجنَّدون من البلاد وفق شروط معينة تعرض على الحكومة البريطانية التي تتحمل نفقات هذه القوة»، وكان تابرنا مكلفًا بإبلاغ هذه الفكرة إلى «مسيت» عند وصوله إلى مصر، «أي تأمين الإسكندرية بوضع حاميتها الوطنية تحت إشراف وإدارة ضباط بريطانيين يدخلون في خدمة الحكومة المصرية وتتحمل بريطانيا العظمى كل أو بعض نفقاتهم».
ومما يجدر ذكره أن «تابرنا» لم يكن مكلفًا بعرض هذا المشروع على البكوات على أنه مسألة قد انتهت الحكومة الإنجليزية من تقريرها، وغادر تابرنا مالطة في ٦ أكتوبر ١٨٠٣.
وأثار وصول تابرنا إلى مصر حماس البكوات، واتصل من فوره بهم، ولكنه بدلًا من أن يقتصر على جس نبضهم رأى كي يضمن استمالة البكوات إلى المشروع وربطهم بعجلة المصالح البريطانية، أن يتجاوز تعليماته في اتصالاته بهم، وأن يبلغ إبراهيم بك وعثمان بك البرديسي أنه كان مفوضًا من قبل حكومته في المباحثة والاتفاق معهم على هذا الترتيب، فبادر البكوات بإرسال «سليم أفندي» أحد الكشاف التابعين لعثمان بك البرديسي، إلى مالطة للمفاوضة مع السير ألكسندر بول، ولعقد الاتفاق أو المعاهدة المنتظرة ولطلب الإمدادات من المال والأسلحة التي تمكنهم من تأليف القوة اللازمة لحامية الإسكندرية؛ أي الاستيلاء عليها، مقصد البكوات منذ دخولهم القاهرة واستيلائهم على رشيد.
وعلى ذلك فقد كتب «تابرنا» في رسالته السالفة الذكر للجنرال ستيوارت، أن البكوات لدى وصوله وافقوا على كل ما نصحهم به، ثم استطرد يقول: «ولكن مركزهم أو موقفهم جعلهم يزيدون في طلباتهم.»
وقد تحدث تابرنا في رسالة بعث بها إلى السير ألكسندر بول في هذا التاريخ عن الموقف في مصر، وعن الأثر الذي أحدثه اتصالُهُ بالبكوات، فقال: إن المماليك الآن سادة مصر ما عدا الإسكندرية التي لعلي باشا الجزائرلي بها سلطان مزعزَع، وأما عثمان البرديسي فقد هاجم دمياط ونهبها، وخرب الحرب والمرض نصف قرى الصعيد، بينما سببت الإتاوات التي جمعها العثمانلي انتشار البؤس والشقاء في الوجه البحري، والأرنئود في ثورة ضد الأتراك بسبب مرتباتهم المتأخرة عن ستة شهور، وقد تعهد المماليك بدفعها، واضطر أخيرًا كل بك وكل كاشف منهم إلى بيع مجوهرات وحلي زوجاته لدفع هذه المرتبات، وهم الآن يشعرون بارتباك عظيم بسبب مطالب الشهر المقبل، بينما يستحيل على القاهرة أن تقدم إتاوات أخرى تؤخذ منها لدفع مرتبات الأرنئود ولذلك فالأرنئود يهددون بالثورة.
ولما كانت كل التحصينات في أيدي المماليك، فالمنتظر — من غير شك — أن ينهزم الأرنئود في كل محاولة يقومون بها ضد المماليك، ولكن القاهرة سوف تصبح عندئذ تحت رحمة المنتصرين، وسوف يكون مصيرها التخريب التام، ويجد الميجور «مسيت» نفسه في مركز دقيق ومحرج وهو في حيرته لا يعرف ماذا يفعل، ومن جهة أخرى يخشى المماليك من أن يتخلى عنهم أنصارهم «الإنجليز».
«وأما الفرنسيون الذين لا يفوتهم شيء فقد أرسلوا إلى هذه البلاد «ماثيو لسبس» وهو رجل ماهر عرض باسم بونابرت على البكوات إرسال خمسة آلاف رجل لمساعدتهم، وكاد البكوات في يأسهم أن ينخدعوا بذلك، ولكن عثمان البرديسي وهو أقدرهم بلا جدال، لم يلبث أن تساءل: كيف يستطيع بونابرت إرسال خمسة آلاف رجل ومراكب الإنجليز تملأ البحر، وقد أجاب «لسبس» من غير أن يوضح له كيف يمكن ذلك، إنه لا يستحيل شيء على بونابرت، وإن الآلهة والملائكة والقديسين راضون عنه دائمًا، وإن البكوات إذا أرادوا مجيء هؤلاء الخمسة آلاف فإنهم سوف يحضرون في أقل من شهر واحد، وكل ما يخشاه «تابرنا» أن يلقِي البكوات بأنفسهم في أحضان العدو بسبب يأسهم، ويرجو أن لا يحيدوا عن اتباع النصائح التي زودهم بها هو والميجور مسيت.»
ثم تحدث «تابرنا» عن الأثر الذي تركه في نفوس البكوات من ناحيته شخصيًّا، فقال: إنهم جميعًا يحترمونه والتفاهم تام بينه وبينهم، «ويعتقد يقينًا أن نفوذه معهم سوف يمكِّنه من تحقيق بعض الفائدة، ولما كان «تابرنا» قد أقنعهم بأن «الإنجليز» لن يتخلوا عنهم فقد صاروا يعاملونه والميجور مسيت معاملة صداقة وود عظيمين»، وقد أكد «لسبس» نفسه وجود هذا الود بين البكوات والوكلاء الإنجليز في رسالته إلى دروفتي (٣ نوفمبر سنة ١٨٠٣).
وكان خوف الألفي من وصول القبطان باشا مع خمسين أو ستين ألف جندي جعله يفكر في ترك مصر، ولكن البكوات الآخرين أوضحوا له عدم لياقة ذلك، بينما تدعو الضرورة الملحة لاتحادهم جميعًا ووقوفهم ضد أية قوة قد ترسلها القسطنطينية، ولكن عندما أعلن لهم الألفي أنه إذا مُنع من النزول إلى البحر فسوف ينسحب إلى القسطنطينية مع مماليكه، ولما خشي البكوات أن يترتب على فعله ذلك أذًى كبير فقد وافقوا على ذهابه إلى إنجلترا على أمل أن لا يرجع ثانية، ولكنهم لم يخولوه مطلقًا أية سلطات كسفير لهم ويتحدونه أن يظهر أي كتابة ممهورة بإمضاء أي «بك» من البكوات لإثبات ذلك، ثم ما لبثوا أن اعترفوا بأنهم أعطوه ورقًا على بياض يحمل إمضاءاتهم، ويجهلون كيف تصرف بهذه الأوراق كما يجهلون الكتابة التي ملأها بها، ويشتبهون في أنه منحاز إلى جانب فرنسا …
وأما سليم أفندي فقد آثر الابتعاد عن الألفي أثناء وجوده بمالطة، ولم يذهب لزيارته على ظهر السفينة «أرجو» إلا بعد إلحاح السير ألكسندر عليه، ووقف الألفي منه على التغييرات الكبيرة التي حدثتْ في مصر في غير صالحه، ولما كان مماليكه قد أبلغوا سليم أفندي أن الحكومة الإنجليزية أكدت للألفي أنه إذا لقي معارضة من عثمان البرديسي فسوف تمده فورًا بخمسة عشر ألف رجل لإرغام البرديسي على الطاعة؛ فقد نفى الكابتن هالويل لسليم أفندي ذلك نفيًا قاطعًا وأكد له أن الحكومة الإنجليزية صديقةٌ لجميع المماليك، ولا يمكن — بحال — أن تتدخل في منازعاتهم الداخلية، ولكن إذا هاجم الفرنسيون حزبًا من حزبي الألفي والبرديسي فإن الإنجليز يمدون الحزب المتعرض لهجومهم بالنجدة.
وكان من أثر مساعي «تابرنا» ومناوراته أن صار الوكيل الفرنسي «ماثيو لسبس» يبذل قصارى جهده مع البكوات حتى يرفض هؤلاء كل ما قد يقدمه لهم «مسيت» أو «تابرنا» من عروض، ولكنه لما رأى البكوات منصرفين عنه؛ للأسباب التي ذكرناها في حينها، فقد صار يسعى لاستمالة زعماء الألبانيين، فكتب «مسيت» إلى حكومته منذ ١٨ نوفمبر سنة ١٨٠٣، أن «لسبس» يعمل لتأليف حزب منهم، كما كتب عن هذا المسعى بإسهاب في رسالة أخرى بعث بها إلى حكومته من الإسكندرية في ١٢ مارس سنة ١٨٠٤، ثم قال: «إن لديه من الأسباب القوية ما يحمله على الاعتقاد بأنه قد تم «لماثيو لسبس» استمالة اثنين من زعماء الألبانيين «محمد علي وأحمد بك» إلى تأييد المصلحة الفرنسية نهائيًّا، وإن زعماء الألبانيين لن يحجموا عن مساعدة جيش من الفرنسيين ينزل في هذه البلاد لفتحها.»
ثم استطرد يقول بسبب الحوادث التي أفضت إلى مقتل علي باشا الجزائرلي: «إنه لما كان محمد علي وأحمد بك قد ثارا ضد الباب العالي، فمن المحتمل أنهما يظنان أن هذا الذنب سوف لا يغتفر لهما تمامًا، وإنه — وإن صُرح لهما بالعودة إلى بلادهما — لا يبعد أن تُتخذ ضدهما بعض الوسائل السرية للقضاء عليهما، ولا جدال — لذلك وبسبب هذه الظروف — في أن تحدث العروضُ المغرية التي يتقدم بها الوكيل الفرنسي إليهما الأثرَ المطلوب منها حتمًا.»
وعلى ذلك، فقد كان بسبب هذه الحوادث والمناورات التي أظهرت استعداد الإنجليز — بفضل مساعي «تابرنا ومسيت» — لمؤازرة المماليك، واعتماد البكوات على هذه المؤازرة، أنْ بدأ الاتصال بين الوكلاء الفرنسيين في مصر وبين محمد علي، والذي كان من آثاره الأولى — على نحو ما رأينا — نصح محمد علي والزعماء الأرنئود لماثيو لسبس بمغادرة القاهرة عندما صح عزم هؤلاء على تدمير الانقلاب الذي أخرج البرديسي وإبراهيم من القاهرة.
وقد كان لمشروع ألكسندر بول — ومساعي تابرنا — أثرٌ آخرُ لا يقل أهمية عما ذكرنا، هو زيادة الخلاف واتساع شقة الانقسام بين البكوات أنفسهم، بسبب المفاوضات التي صحبت هذا المشروع في مالطة وفي مصر، وقد كشف «لسليم أفندي» عن وجود هذا الانقسام في مقابلته مع الكابتن «هالويل» في مالطة، ومبعثه المنافسة الشديدة بين الألفي والبرديسي على الاستئثار بالسلطة العليا بين المماليك في حكومة البلاد الفعلية، وكان هذا الانقسام منشأ الأخطاء التي ارتكبها البكوات من ناحية، فأضاعت عليهم فرصة الحكم في مصر نهائيًّا، كما أنه أفاد «محمد علي» فائدة كبرى، عندما استطاع أن يغري البرديسي بالألفي وكان يخشى خطره، ثم تخلص من «حليفه» البرديسي بعد ذلك ومضى في طريقه خطوة أُخرى نحو الاستئثار بالسلطة بفضل ذلك كله.
آثار مشروع «بول» في القسطنطينية
تلك إذن كانت آثارُ مشروع ألكسندر بول المباشِرة في مصر، أما في القسطنطينية فقد لقيت مقترحاته كل قبول من رجال السفارة الإنجليزية بها، الذين أرادوا تكميل هذه المقترَحات حينئذ بأنْ صاروا يحاولون إقناع الباب العالي حتى يتقدم من جانبه إلى الحكومة الإنجليزية بطلب إرسال قوة إنجليزية لاحتلال الإسكندرية، فقد انخدع «ستراتون» بدوره بالتعليمات التي أعطاها «السير ألكسندر بول» للكابتن «تابرنا» واعتقد أنها تُفصح عن رغبة الحكومة الإنجليزية في الاستيلاء على الإسكندرية تحت ستار أي عذر يكون معقولًا في ظاهره، لا سيما وأنه كان قد ذكر للورد هوكسبري منذ ٢٥ أكتوبر ١٨٠٣ أن رأيه كان دائمًا «أنه لا يرجى استقرار السلام في مصر طالما بقي المماليك والأتراك يتنازعونها، إلا إذا أقيمت بهذه المقاطعة «العثمانية» قوة أجنبية تتبع دولة ثالثة تكفي لإرغام كل من هاتين الجماعتين على احترام ما قد يعقدانه فيما بينهما من اتفاقات.»
وعلى ذلك، فقد ظن «ستراتون» أنه قد يكون من الخير أو أنه استطاع أن يسبق ما توقع أن تُبديه حكومته من آراء تعرضها رسميًّا على الباب العالي، فكتب إلى هوكسبري في ٢١ يناير ١٨٠٤ أنه لما كانت قد وصلتْه من «مسيت» في القاهرة رسالة بتاريخ ٣٠ نوفمبر من العام السابق ومعها نسخة من رسالته إلى «هوبارت» مشتملة على مجمل تعليمات ألكسندر بول إلى تابرنا، فقد قابل الريس أفندي واقترح عليه أن يتقدم الباب العالي بطلب إلى ملك إنجلترا يرجوه أن يرسل — دون إبطاء — قوة بريطانية إلى الإسكندرية للمحافظة على الهدوء والسلام في مصر والدفاع عنها ضد هجوم الفرنسيين المتوقع عليها، وعلل ستراتون السبب في خطوته هذه بأن مضمون تعليمات السير ألكسندر يؤيد أن غرض الحكومة الإنجليزية إنما هو امتلاك الإسكندرية بأي عذر من الأعذار، وأنه وجد أن خير عذر أو وسيلة لذلك هو أن يتقدم الباب العالي نفسه بهذا الطلب.
ولكن الريس أفندي رفض هذا الاقتراح، وقد علل ستراتون نفسه هذا الرفض بقوله: إن الديوان العثماني «لديه فكرة غريبة هي اعتقادُهُ أن إنجلترا إنما تريد الزج بتركيا في حرب مع فرنسا؛ ولذلك «فالأتراك» يرون في أية خطوة يمليها الاحتراس والحيطة، وأي اقتراح يقترح عليهم من هذا القبيل، فخًّا أو شركًا ينصب لهم لإخراجهم من خطة الحيدة التي يزعمون أنهم بالتزامهم الدقيق لها قد يتجنبون أخطار الحرب التي تتهددهم»، وعلى ذلك فإنه عندما وصلتْ إليه تعليمات حكومته بشأن التدخل رسميًّا مع الباب العالي، من أجل إقناعه بالاتفاق مع المماليك، على أساس إرجاع نفوذهم السابق في حكومة مصر إليهم — نتيجة لسفارة الألفي في لندن — وجد «ستراتون» أن مركزه قد ضعف كثيرًا لدى الباب العالي بسبب الشكوك التي أثارها اقتراحه وسوء الظن الذي أوجده.
والواقع أنه صار من المتعذِّر بعد ذلك على الحكومة الإنجليزية — نتيجة لنشاط ستراتون الذي أثار شكوك الباب العالي — أن تعمل بنجاح من أجل التوسُّط لإبرام اتفاق ودي بين الباب العالي والمماليك، وبالفعل كان الباب العالي مصممًا على رفض أية وساطة من هذا النوع لأسباب عدة: منها خوفه من إمعان المماليك في معارضتهم له اعتمادًا على التشجيع الذي يلقونه من جانب إنجلترا، فتعجز تركيا — إذا هي استجابت لمساعي الإنجليز — عن فرض سيادتها عليهم، زِدْ على ذلك أن الأتراك كانوا لا يُريدون إغضاب بونابرت وهم الذين كانوا قد رفضوا وساطتَه من قبل بينهم وبين المماليك، ومع أن الأتراك كانوا يخشون مشروعات بونابرت فقد كانوا يرجون الخلاص من ناحية أخرى في النهاية إذا هم تمسكوا بموقف الحياد الدقيق في الحرب القائمة.
وأخفقت جهود «ستراتون» في إقناع الباب العالي بإجابة رغبة الحكومة الإنجليزية في فبراير سنة ١٨٠٤، وفي ٢ مارس كتب لحكومته موضحًا الأسباب التي تدعو الباب العالي إلى التمسك برفضه فيما لا يخرج عما سبق بيانه، بل إن الباب العالي بدلًا من الاتفاق مع المماليك؛ كان مصممًا على تعيين أحمد الجزار — باشا عكا — لباشوية مصر عندما بلغه خبر مقتل علي الجزائرلي، كما أرسل — على نحو ما كتب ستراتون في ١٠ مارس — سفينة حربية من نوع القرويت إلى مصر للحصول على معلومات دقيقة عن الموقف هناك، وأظهر استعداده لإرسال أُسطول من أربع سفن حربية إلى الإسكندرية تحمل ألف جندي لتعزيز حاميتها، وأبلغ الريس أفندي ستراتون عند اجتماعه به في ١٩ مارس نبأ تعيين الجزار باشا، وعبثًا حاول ستراتون إقناعه بأن هذا التعيين سوف يلقي مصر في أحضان الحرب الأهلية، وأن من المصلحة تسوية علاقاته مع البكوات على الأساس الذي تقترحه بريطانيا.
ولكن الريس أفندي الذي كان قد رفض وساطة فرنسا عند اجتماعه بسفيرها «برون» في ٨ مارس؛ أصر على رفض وساطة إنجلترا كذلك، ثم استند الريس أفندي في تمسكه برفضه على ما بلغ الباب العالي من أنباء عن طرد البكوات «البرديسي وإبراهيم بك» من القاهرة في حوادث مارس وعن اتفاق الأرنئود على استدعاء أحمد خورشيد لتولِّي منصب الباشوية، وقد كتب ستراتون بعد ذلك في ٢٥ مايو أن الباب العالي قد سمح بتثبيت خورشيد باشا في باشوية مصر فعلًا.
وهكذا عندما وصل «شارلس لوك» — القنصل العام المعين لمصر — إلى القسطنطينية وعرض على الريس أفندي مقترحات السير ألكسندر بول في ١٦ يوليو، قوبلت هذه المقترحات بالرفض، واستندت تركيا في رفضها لها على رغبتها في ملاحظة موقف الحياد الدقيق في الحرب القائمة بين إنجلترا وفرنسا.
وهكذا أخفقت محاولة الإنجليز في الوساطة بين الباب العالي والمماليك لتسوية الخلافات القائمة بينهما على أساس يعيد للأخيرين سلطانهم الفعلي في الحكومة كوسيلة مُثْلَى تهيئ سبيل الدفاع عن مصر، كما أخفقت محاولة الإنجليز في إقناع الباب العالي بالموافقة على مشروع السير ألكسندر بول ووضع حامية بالإسكندرية تحت إشراف البريطانيين، أو طلب قوة إنجليزية أو أجنبية؛ لتعزيز حاميتها على نحو ما اقترحه ستراتون لغرض الدفاع عن مصر ضد الغزو الفرنسي.
وعلى ذلك فقد كان الأثر الثاني الذي ترتب على إثارة مشروع ألكسندر بول بالقسطنطينية سواء في صورته الأصلية أو على النحو الذي فهمه ستراتون، ثم ما عرف عن موقف الأتراك تجاهه، أن نظرية احتلال الإسكندرية سرعان ما وجدت أنصارًا كثيرين يؤيدونها من بين السياسيين والعسكريين الإنجليز، ثم لم تلبث أن اتخذت شكلًا واضحًا في آخر الأمر من حيث ضرورة العمل بها سواءٌ رضي الباب فكان الاحتلال بموافقته، أم رفض فكان الاحتلال عندئذ من شئون السياسة الإنجليزية ومن صميم الوسائل التي يجب عليها اتخاذها لمنع الفرنسيين من غزو البلاد وللدفاع عن مصر.
ولا جدال في أن مرد ذلك كان إلى تطوُّر الحوادث في مصر ذاتها، بسبب الأخطاء التي ارتكبها البكوات الذين رفضوا الحل أو الترتيب الذي اقترحه «دراموند» وتحدثنا عنه سابقًا، وقتلوا علي باشا الجزائرلي، وانقسموا على أنفسهم، فطارد البرديسي الألفي، وساءتْ إدارتُهُم حتى تمكن محمد علي من طردهم من القاهرة، وأحبط انحلال حكومتهم توسط إنجلترا ومساعيها في القسطنطينية للتدخل في صالحهم، وكان من المتعذر في هذه الظروف أن يكتفي الإنجليز بالاعتماد على الألفي؛ لتأسيس نُفُوذهم في مصر أو أنْ يتوقعوا لهذه الأسباب جميعِها استطاعة المماليك الدفاع عن البلاد إذا تعرضت للغزو الفرنسي، لا سيما وقد ساورتهم الشكوك في ولاء الألفي نفسه لهم، عدا أنه صار مطاردًا وهاربًا، وحاول «هالويل» عند وصوله مع الألفي إلى الشاطئ المصري إقناع أحمد خورشيد في ١٩فبراير بأن الطريقة المُثلى لإحباط مشروعات الفرنسيين إغراقُ عدد من السفن في مداخل الميناء القديمة؛ لمنع سفن العدو من الدخول إليها، ولكن دون طائل.
وقال «هالويل» في كتابه إلى «نلسن» في ١٦ مارس بعد عودته إلى مالطة: «إن الوقاحة بلغت بخورشيد باشا حَدًّا جعله يقول له إنه إنما يحاول أن يجذب انتباهه إلى الفرنسيين حتى يشغله الحذر والاحتياط لدفع هجوم المماليك والألبانيين الذين يهددون من مدة بمحاصرة الإسكندرية»، وتدخل القنصل الفرنسي «دروفتي» لإحباط مشروع هالويل.
وهكذا كان واضحًا أن الإنجليز لا يمكنهم الاعتماد على الألفي، ولا يمكنهم الاعتماد على البرديسي وإبراهيم، اللذين كانا قد أبديا ميولًا طيبة نحو إنجلترا — بسبب وعود «تابرنا» لهما — فقد كتب مسيت في ٢٩ مارس و١٣ مايو أنه لا يمكن الوثوق بهما، وأن البرديسي منحاز إلى فرنسا بسبب نشاط «لسبس»، فضلًا عن توقُّع تواطؤ البكوات مع الفرنسيين ومؤازرتهم المنتظرة لجيشهم إذا جاء إلى مصر لِمَا هو معروفٌ عن خُلُقهم الغادر وخيانتهم، بل إن البرديسي لا يتورع عن التضحية بأي شيء بسبب أطماعه الشعبية في سبيل مصالحه الخاصة، وكذلك لا يمكنُ الاعتماد على خورشيد باشا، وهو الذي رفض مقترحات «هالويل».
ويشك مسيت علاوة على ذلك في أن لديه من الكفاءة والمواهب ما يجعله قادرًا على شغل منصب الباشوية بنجاح، ولا نفوذ ولا جند له، ويستأثر محمد علي بالسلطة الفعلية منذ وصول خورشيد إلى القاهرة — رسالتا مسيت إلى هوبارت في ١٩ أبريل و٢٨ مايو — ومن المتوقع حدوثُ اصطدام بين خورشيد ومحمد علي، ولا يمكن كذلك الاعتماد على محمد علي، وهو الذي اعتقد مسيت أنه قد انحاز نهائيًّا إلى جانب فرنسا — وقال مسيت في كتابه إلى ستراتون في ٤ أبريل: «إنه عندما كلف ترجمانه في القاهرة بأن يبلغ الأرنئود نوايا الجمهورية الفرنسية ويشرح لهم آراءها وأغراضها العدوانية ضد مصر، وضد المورة ويرجوهم وضع عدد كاف من الجند على الساحل لمقاومة نزول أي جيش غاز، أبلغ محمد علي الوكيل الفرنسي هذه الرسالة المرسلة من «مسيت» إليه»، بل إن مسيت ما لبث أن أكد للورد هوبارت في ١٣ مايو بعد ثورة ١١–١٣ مارس في القاهرة ضد البرديسي وإبراهيم بك «أنه من المعروف للخاص والعام أن الوكيل الفرنسي قد وعد «محمد علي» وأحمد بك بمبلغ ثلاثين ألفًا من الجنيهات لإغرائهما بطرد المماليك من القاهرة»، وفي ٥ مايو كان قد قال عنه: «إن هذا الزعيم «الألباني» كبير الولاء لفرنسا التي يبغي عن طريق وساطة وكلائها الوصول إلى باشوية مصر، ولن يتردد محمد علي لضمان هذه الوساطة عن اتباع أية خطة أو السير في أي طريق»، ولما كان من المنتظر أن تبذل فرنسا قصارى جهدها لمنع المماليك من استرجاع سلطانهم في الوجه البحري، وأن تؤيد — في الوقت نفسه — أغراض محمد علي الذي يعمل عندئذ — اعترافًا بجميل فرنسا عليه، وخدمة لمآربه الخاصة — على تعزيز المصالح الفرنسية؛ فقد اقترح «مسيت» على حكومته في رسالته هذه «أن تتخذ ما يلزم من خطوات لإبعاده من «مصر»؛ لأنه — كما قال — رجل لا مبادئ له بدليل ما صرح به «لمسيت» نفسه من أن الحكومة التي تدفع له أكثر من غيرها هي التي تظفر بخدمته لها، الأمر الذي يجعل «مسيت» يعتقد يقينًا أن «محمد علي» قادر على مناصرة جيش فرنسي يغزو البلاد إذا وجد في ذلك مزايا كافية لإغرائه وتحقيق مطامعه، وفضلًا عن ذلك فإن «مسيت» يعتقد أن إبعاده من مصر يمكنه من الاستمتاع غاية الاستمتاع بذلك النفوذ الذي له على خورشيد باشا»، وقد استطاع «مسيت» فعلًا أن يجعل خورشيد باشا يسعى لدى الباب العالي من أجل إبعاد محمد علي، وكتب إلى اللورد هوبارت في ١٦ أغسطس: «إن خورشيد — بفضل مساعيه — قد أوصى الديوان العثماني بتعيين محمد علي لباشوية سالونيك.»
وعلى ذلك فقد كان واضحًا أن السلطة صارت مُوَزَّعة في مصر بين أربعة أحزاب على رأسها البرديسي، والألفي، ومحمد علي، وخورشيد باشا، وأن الحكومة الإنجليزية لا تستطيع الاعتماد في شيء على أي حزب من هذه الأحزاب الأربعة، وكان حينئذ أن كتب مسيت إلى حكومته في ٢٨ مايو: «إنه لا يمكن أن يكون هناك أي استقرار في الحقيقة أو أن يستتب الهدوء والسلام في مصر إلا في حالة واحدة هي أن تُقْدم الحكومة الإنجليزية على اتخاذ الوسائل النشيطة والفعالة للدفاع عن إقليم يعجز صاحب السلطان عليه عن صونه وحمايته والذود عن سلامته»، ومعنى ذلك بعبارة أخرى: أنه لا يمكن أن يكون هناك استقرار في مصر إلا إذا صح عزم الحكومة الإنجليزية نهائيًّا على إرسال جيش «بريطاني» لاحتلال الإسكندرية.
وقد حمل هذا الأمل الأخير «لوك» على الإسراع بالذهاب إلى مالطة؛ حيث كان ينتظر وصول حاجياته من إنجلترا ليبحر من مالطة إلى مصر، ولكنه توفي بالمحجر الصحي بمالطة في ١٢ سبتمبر.
نظرية احتلال الإسكندرية
أما هذه النتيجة التي وصلت إليها الدبلوماسية الإنجليزية في مصر وفي القسطنطينية — في مصر تبين عبث محاولة الاستناد على الأحزاب المتنازعة على السلطة بها، وفي القسطنطينية عبث محاولة إقناع الباب العالي بضرورة الاتفاق مع المماليك على أساس إرجاع السلطة لهم في مصر، أو الموافقة على وضع حامية أجنبية أو جيش بريطاني بالإسكندرية، وكل هذه المحاولات من أجل استقرار الهدوء والسلام في مصر، وتمكين البلاد من الدفاع عن نفسها ضد الغزو الفرنسي الذي توقعت الحكومة الإنجليزية حدوثه — فقد كان من أثرها أن قررت الحكومة الإنجليزية أنه لا غنى لها عن احتلال الإسكندرية لمنع الفرنسيين من غزو مصر سواء وافق الباب العالي على ذلك أم لم يوافق.
ولما كان ستراتون قد عرض على الباب العالي دون أن يأذن له وزير خارجية حكومته بذلك، أن يطلب من إنجلترا إرسال قوة من جيشها لاحتلال الإسكندرية، وعرف رفض الباب العالي لهذا الاقتراح في لندن، فقد بادر اللورد هاروبي في ١٩ أكتوبر ١٨٠٤ بلوم ستراتون على اتخاذ هذه الخطوة التي لا أثر لها سوى إثارة مخاوف وحسد الباب العالي، وطلب إليه من الآن فصاعدًا عدم اقتراح أي إجراء من شأنه إدخال جنود إنجليز إلى الإسكندرية على الأقل إذا لم يفاتحه الباب العالي نفسه في هذا الموضوع، «وأن يقصر نشاطه على إعطاء التأكيدات العامة عن رغبة «إنجلترا» في أن ترى الهدوء يعود إلى مصر وأن تصبح هذه البلاد في وضع يمكنها من الدفاع عن نفسها ومقاومة مشروعات «فرنسا» العدوانية.»
على أنه كان في هذه التعليمات أن أوضحت الحكومة الإنجليزية موقفها من مسألة احتلال الإسكندرية، فقال «هاروبي»: «وأما إذا حدث أن وصل «ستراتون» — مفاجأةً وعلى غير انتظار — نبأ من قواد جلالة ملك «بريطانيا» في البحر الأبيض، مترتب على الخوف من توقُّع هجوم من ناحية الفرنسيين في وقت قصير، بحيث يكون من المستحيل الانتظار حتى يعطي الباب العالي موافقته الصريحة — بأن جنودًا «بريطانيين» قد نزلوا فعلًا بالإسكندرية، أو على وشك النزول بها لحمايتها أو حماية أي مكان مهدَّد آخر، فالواجب على «ستراتون» أن يصور هذا العمل أحسن صورة، وأن يعزو مبعثه إلى الضرورة الملحة التي لا تجيز الانتظار أو تسمح بالتأخير، وأن يؤكد للباب العالي أن الغرض من ذلك ليس سوى المحافظة على موقع هام وحمايته ضد دولة هي في الواقع عدوةٌ لتركيا كما هي عدوة لإنجلترا، وأن هذا الموقع سوف يعاد إلى صاحب السيادة الشرعية عليه في أول فرصة تسنح ودون إمهال لإعادته في حالة زوال كل خطر يتهدده.»
وأما تنفيذ مشروع احتلال الإسكندرية فقد ارتهن من أول الأمر بتطور الظروف والحوادث، فلم يرجئ العمل به مباشرة سوى انتصار الإنجليز في معركة الطرف الأغر البحرية في ٢١ أكتوبر ١٨٠٥؛ لأن هذا النصر أكسبهم السيادة على البحار فانتفى مؤقتًا أي خطر قد يهدد الشرق من جانب فرنسا، على أن الظروف ما لبثتْ أنْ تغيرتْ في العام نفسه وفي العام التالي حتى بات إرسال حملة إنجليزية لاحتلال الإسكندرية مسألة وقت فحسب، وكان بعض هذه الظروف ناشئًا عن الحوادث التي وقعت في أوروبا، بينما نشأ بعضُها الآخر عن الحوادث التي وقعت في مصر وأسفرت عن المناداة بولاية محمد علي.