في حديث الشعر
لا أكتب هذه المقدمة لأحدد الشعر، أو لأعلِّم الشاعر كيف ينبغي له أنْ يشعر، وأي طريق يجب عليه أنْ يسلك ليصل إلى هيكل النور الأسمى، أو لأجيء بنظرية أتعصب لها وأعلن لأجلها حربًا؛ فالشعر كائن حي تحتشد فيه الطبيعة والحياة، فلا يقاس ولا يوزن، والنظريات مذاهب وأغراض، لا تعيش إلا على هامش الأدب، كما يعيش العَرَض على هامش الجوهر، أو كما يعيش الديكتاتور الزائل على هامش الأمة الأزلية.
وقد تصح النظريات أو المذاهب في كتاب سياسي، أو وصية سياسية موجهة إلى شعب له أوضاعه الخاصة، وحدوده المقررة، وثقافته، وجنسيته؛ ولا تصح في شعر يعبر عن الحياة؛ فالحياة لا جنسية لها ولا أوضاع ولا حدود، وهي أوسع من أنْ نضع لها حدودًا ومقاييس، والدائرة الغير المحدودة لا تنحصر في الحدقة الضيقة.
ليس للفكر حد ولا تخوم، فكيف نضع للحياة حدًّا وهي هدف الفكر؟!
كيف نحدد هذه القوة المتحولة في اللانهاية، هذه القوة المجهولة؟!
وربَّ قائل إنَّ الإنسان دائم الشوق إلى معرفة المجهول، وهذا صحيح، على أنَّ الشوق إلى معرفة المجهول لا يلزم العقل البشري إلَّا عندما يقتنع الإنسان بأن إدراكه الحسي للعالم الخارجي لا يكشف له حقايق الأشياء التي يراها ويلمسها، ويضطر إلى الاعتراف بأن إدراكاته الذاتية ليست سوى تأثيرات لسبب خارجي يجهل حقيقته، ولكن الجاهل لا تمر في خاطره أية شبهة بشهادة حواسه الذاتية، ويعتقد كل الاعتقاد أنَّ الأشياء التي يراها ويلمسها هي الحقايق بعينها.
ولا يمكن تحويله عن هذا الاعتقاد؛ لأن نظريته في مبحث المعرفة تمثل أحط دركة من المادية التافهة؛ ولأنه يصر على إدراكه ما لا يدرك — بل يحس — على إدراكه الحقيقة المطلقة، ورؤيته إياها من وراء المظهر المتحول في الحياة.
كيف نستطيع إدراك ما لا يُدْرَك بل يُحَس؛ لِنُقَيِّده في دائرة ضيقة من اصطلاحاتنا البيانية، ثم نوزعه مذاهب وطبقاتٍ هي سياسة الشعر لا طبيعته؟ أليس من الخرق أنْ نحاول بلغة وضعية تحديد لغة المجاز والكناية، لغة الروح، لغة الحس الوجداني العميق؟!
وقد يعمد بعض هواة النظريات إلى تحديد الشعر بالطريقة الفلسفية، وفي هذا دليل على شك هذا البعض في الشعر نفسه: في جوهر الحياة؛ فالمرء لا يلزم جانب التفلسف إلا عندما يخالجه الشك، مزعزع الاعتقاد بمطابقة المدارك الحسية لحقيقة الأشياء المدركة، وهذا الشك الفلسفي ينم في حدِّ ذاته على الاعتراف بعجز الوسائل العلمية وقصورها، وهذا الاعتراف يرغمنا في نهاية الأمر على التسليم بأننا لن نتمكن من معرفة حقايق الأشياء بوسائلنا المحدودة، وأن ضَعف وسائلنا ناجم عن طبيعة تكويننا الناقص … وعندئذ يصبح المجهول في نظرنا السرَّ الغامض؛ أي الحد الأخير الذي يقف عنده الذكاء البشري.
هذا هو الشوط الذي تجتازه الفكرة الفلسفية عندما تصدر عن الشك، لتخلص إلى الشوق لمعرفة المجهول. وإذا أضفنا إلى هذه البيانات التأثير المخيب لتقلب الحياة في هذا العالم، ندرك في الحال أنَّ من العبث والجهل الضائع التشبث في البحث عن الحقيقة المطلقة الثابتة وراء مظهر الوجود المتقلب، وعندئذ يغمرنا هذا الإدراك بكآبة عميقة، فنفهم السبب الحقيقي لذلك التشاؤم العميق الذي يستولي عادةً على الشعراء.
إذن ثمة حقيقة غامضة من العبثِ البحثُ عنها لتحديدها، وقد قال الأب بريمون: «إنَّ كل قصيدة مدينة بطابعها الشعري لتألق هذه الحقيقة الغامضة.» وربما أراد الأب بريمون أنْ يعني بهذه «الحقيقة الغامضة» الوحيَ، وهو في ذلك لم يجئ بنظرية، بل عبر عن شيء يجهله ولكنه يشعر به، خلافًا لبول فاليري الذي تعمد الإتيان بنظرية عندما قال: «إذا آمن الشاعر بالوحي، قتل الإبداع.»
فإذا كان الوحي حالةً من حالات النفس عند تأثُّرها المباشر بِقُدْرَة خارقةٍ، وشئنا أنْ ننكر هذه الحالة، أنكرنا جوهر النفس ذاته؛ أنكرنا مبدأ الحياة. وأية غضاضة على الشاعر أنْ يكون وسيطًا لهذه القدرة الخارقة؟ فالأنبياء كانوا يتسقطون كلام الله، والقدرة الخارقة ليست منفصلةً عن الإنسان؛ فهي جوهر نفسه، فإذا أرسل الشاعر نظره في معرض الطبيعة، واجترَّت عيناه مشهدًا من مشاهد هذا العرض، ثم خبزه على نار هذا الجوهر؛ فيكون قد أعطاك من نفسه، والنفس هي المصهر الداخلي الخفي لكل ما يحيط بالإنسان. فإذا كانت النفس مفطورةً على الصفاء، وتهيأت لها العوامل الثقافية المكملة، تنقي الشعور من أدرانه، وتقوم بهذا العمل من تلقائها، فلا تكلفك إجهادًا ولا تعملًا … شأن المعدة الصحيحة تهضم الطعام، وتتولى توزيع الدم النقي في الجسد وإخراج الفاسد منه.
قلت إنَّ القدرة الخارقة ليست منفصلةً عن الإنسان؛ فهي جوهر نفسه، فعلى هذا الجوهر تنصهر المرئيات، وتشترك في هذا العمل جميع الحواس؛ إذن فالقدرة الخارقة التي يتأثر بها الشاعر هي نفسُه، والنفس قوة لم يُدْرك كنهها لتحدٍّ، فكيف ننفي الوحي الشعري ما دامت النفس مصهر الشعور؟!
ويقول فاليري أيضًا إنَّ الشاعر من يستطيع النظم ساعة يشاء، وليس الشاعر وقفًا للمصادفة، وإنه لمن الخطل القول بأن الشاعر منفعل لا فاعل، ومتسقط ما يُلْقى عليه.
كأني ببول فاليري يريد أنْ يُنْزِل الشاعر منزلة النجار أو الحداد يقبل على عمله ساعة يحين موعد العمل أو ساعة يريد العمل، فيكون فاعلًا لا منفعلًا، وهذا أبعد حدود الخطل وامتهان فاضح لجوهر الشعر، وأيان هو هذا الشاعر الذي يصطنع العاصفة اصطناعًا ليعطيك كل ساعة إنتاجًا، كالنجار يعطيك الخزانة في الوقت المتفق عليه؟!
أيان هو هذا الشاعر الذي لا يتأثر بما حوله ومن حوله، فلا هجر حبيب يؤثر فيه فيحرك شعوره، ولا موت صديق أو صديقة ولا نكبة عزيز، ولا كارثة أمة ولا فرح شعب، لا الظفر ولا الانكسار، لا الذل ولا الكرامة، لا ربيع الطبيعة ولا شتاؤها، لا صيفها ولا خريفها؟!
وأية غضاضة على قريحة الشاعر، إذا هي مرَّت بساعات خدر؟ أفيكون الشاعر ملتزم أشغال في يده مقياس الزمن لإنجاز عمله؟! ألا يتفق للقريحة أنْ تمر في ساعات خدر، فلا ترى ما تراه في ساعات اليقظة الروحية، ولا تحس ما تحسه في ساعات التأثر والانفعال؟ وإلا ففيم لا يترك الشعراء من الروائع إلا ثلاثًا أو أربعًا، لا تسلخ من العمر أكثر من سنة؟ قال أحد الشعراء الخالدين: إذا أُحْصِي الوقت الذي وقفته على نظم قصائدي، فلا يعدو تسعة أشهر.
وقال فاليري أيضًا: إنَّ الشاعر الموهوب من يختار اللفظة الصالحة لإحداث الرعشة النفسية وإحياء العاطفة الشعرية.
على أنَّ الشاعر الحقيقي لا طاقة له على اختيار اللفظة؛ فله من شعوره الزاخر ما يصرفه عن هذه الألهيَّة، وعندي أنَّ الشعر ينزل مرتديًا ثوبه الكامل، وهذا الثوب جزء من الشعور لا يتجزأ، وقدر ما تكون ثقافة الشاعر من الرقي والذوق الموسيقي في روحه يكون البيان راقيًا في شعره، وهذه اللفظة التي يريدنا بول فاليري على أنْ نختارها تتكاتف العناصر الروحية فينا على اختيارها، فلا تكلفنا هذا العناء، أو تصرفنا عما تراه بصائرنا خلال الأحلام والرؤى، فكل ما يكتسبه المرء يصهره جوهر نفسه — القدرة الخارقة — فيصير عضوًا فيه.
سوى أنَّ فاليري ما لبث أنْ نقض نظريته في الوحي الشعري في محاضرة له عن «إلهامات البحر المتوسط»، وفي هذا دليل على فساد النظريات في الأدب؛ فقد وصف الشاعر الفرنسي الزوارق الماخرة عباب بحر الروم والجيف الحمراء، تتركها الأسماك المقبورة، وأهرامَ البرتقال المصدَّر من إسبانيا، ودلل على إقطاعات الروح البشرية والأساليب التي تتكون منها هذه الإقطاعات، وعلى تطور النور الناشئ والسماء والشواطئ، وأثر هذه المشاهد في روحه.
وشاء أنْ يحدثنا عن جميع العوامل والمؤثرات التي كان لها الفضل الأكبر في تكوين مخيلته وإحساسه، فأخبرنا أنَّ جمال البحر جذبه في صباح يوم، وفيما هو يغتسل ويمتع الطرف والروح بتموج النور على سطح الماء، إذا بمشهد تقزُّ له النفس يعترض نظره؛ فقد رأى على مقربة منه، في قعر الماء الصافي الشفاف، أشياء حمراء بلون الورد الخفيف أو الأرجوان العميق، وعلم بكثير من المقت أنها كتل فظيعة من أحشاء الأسماك التي طرحها الصيادون في البحر، ولم يَقْوَ على الهرب مما رأى، ولا على تحمُّله؛ لأن عاملين في نفسه كانا يتنازعان الشعور بالجمال الحقيقي الغريب في فوضى هذه الألوان الأصلية، وفيما هو مستسلم إلى المقت والرغبة في الاستفادة، يتقاسمه عامل الهرب وعامل التحليل، كان يفكر فيما يستطاع استنتاجه من هذا المشهد، ثم انتقل بالفكر إلى ما في شعر القدماء من الوحشية والدم، وتذكر أنَّ الإغريق ما تورعوا عن وصف أفظع ما تقع عليه العين … وأنَّ الأساطير الإغريقية وشعر الملاحم والمآسي طافحة بالدم، ولكن الفن أشبه ما يكون بسطح الماء الصافي الذي رأى خلاله تلك الأشياء الفاحشة.
وانتقل بول فاليري إلى الدور الذي مثله البحر المتوسط، بما اتصف به من الخصائص المادية في تكوين الفكر الأوربي الذي حرر العالم البشري بأسره، ومما قاله إنَّ طبيعة البحر المتوسط والعلاقات التي قررها أو فرضها كانت أساس التكوين النفساني والفني، هذا التكوين المدهش الذي استطاع ببضعة قرون أنْ يميز الأوربيين من سائر الخلق، والزمنَ الحاضر من الأزمان الغابرة، فأقوام البحر المتوسط هي التي خطت الخطوات الأولى الواثقة؛ لإيضاح الأساليب والبحث عن الظواهر الطبيعية باستخدام قوى الفكر.
وبعد أنْ وصف الشاعر مواقع البحر المتوسط ومزاياه الطبيعية، انتهى إلى القول بأن إبداع الشخصية البشرية ورفعها إلى مستوًى من الرقي والتطور الأكمل، كانا من مبتدعات هذه الشواطئ، ويتضح لنا من هذا أنَّ فاليري أصبح مؤمنًا كل الإيمان ﺑ «الوحي الشعري»؛ بدليل أنَّ البحر والشمس والسماء هي مصدر تكوينه وتثقيفه، وأنَّ طبيعة البحر المتوسط كانت أساس التكوين النفساني والفني الذي ميز الأوربيين من سائر الخلق …
ولن أعمد هنا إلى مجادلة هذا الرأي في تمييز الأوربيين من سائر الخلق؛ فلكلٍّ في تمييز عنصره مدلول يخالف به الآخر؛ بل أقصُر الكلام على الوحي الشعري من غير أنْ أذهب مذهب العرب القدماء في أنَّ الوحي يُلَقَّن من فم شيطان، وأنَّ الشياطين تسترقُ السمع وتلقيه على الألسنة.
فالوحي يتولد «على صفاء المزاج الطبيعي وقوة مادة النور في النفس» — على حد قول المسعودي — وأضرب مثلًا على ذلك هذا الغدير الصافي؛ لا تشقى العين في رؤية السماء وغيومها وسحبها ونجومها ماثلةً في قعره، كأن هذه السماء وما عليها هاتف في أعماق نفس الغدير، وللطبيعة الحكم المطلق في تصريف النفس البشرية، وأثرها الكامل في الحس، وليس في المبروءات النفسية والجسدية ما لا تحكمه الطبيعة.
وفي الطبيعة أسرار لطيفة لا يدركها الحس مهما دق، بل يشعر بها إذا قويت النفس، والنفس مهما قويت لا تستطيع قهر الطبيعة لاقتناص سرها اللطيف إلَّا إذا تجردت من أدران هذا العالم، وهذا مستحيل.
إذا تجردت النفس من هذه الأدران بلغت النسبة النورانية الكاملة، بلغت مستوى الطبيعة، بلغت ذات الله، والنفس النقية هي الله.
على أنَّ للنفس هنيهات تصفو فيها، فينعكس عليها من الطبيعة جمال محجوب، وهذا الجمال يهتف في النفس أسرارًا تُنطق لسان الشاعر الثقيف بمعانٍ شريفة، وعبثًا نحاول معرفة هذه الأسرار، فهي من الغموض واللطف بحيث تدق على أدق حس، ويكفي أنْ نسمع من هذه الأسرار ما يُنطق ألسنتنا، ويفتح أذهاننا لمشاهد نراها بأم العين.
وربما أراد الأب بريمون بقوله: «إنه لا حاجة لفهم معنى الشعر، فالسحر المنبعث عن موسيقاه يؤثر في النفس تأثيرًا مباشرًا»، ربما أراد بقوله هذا أنْ يعبر عن تأثر النفس بانعكاس الجمال المحجوب في الطبيعة عليها، ويُظهر أنَّ هذا الجمال الغامض إنما هو موسيقى الطبيعة، تعزف على أوتار النفس معزوفات غامضة من نوع ذلك الجمال.
على أنَّ هذا، وإنْ يكن حقيقيًّا، لا ينبغي جعله أساسًا للشعر؛ فالموسيقى هي عنصر من الشعر لا كلُّه، وهذا العنصر غامض ككل شيء يُسمع ولا يرى، ومن الخرق الفاضح أنْ نكتفي من الشعر بموسيقاه، ونقدم فيه وصف ما لا يوصف على سائر عناصره؛ فللشعر عناصر متساوية يجب أنْ تجري كلها في حلبة واحدة، فلا تنحط الفكرة عن الموسيقى أو الصورة عن الفكرة.
ومن الخرق أيضًا أنْ نتخذ الشذوذ قاعدةً للشعر، فنذهب مثلًا مذهب الأب بريمون القائل: إنَّ الشعر الجميل يخلو أحيانًا من المعنى، أو إذا انطوت أجزاؤه على معنًى لا ينطوي عليه في مجموعه؛ فالشعر إذا اقتصر على الموسيقى لا يلبث أنْ يُشِيع الملل حتى في الأذن، ولا بدَّ هنا من القول إنَّ الشعر يرافق جميع وجوه التفكير؛ فالشاعر قد يطرق باب الفلسفة ولا ينحط عن الشعر، على أنَّ هذا الشاعر ليس بأبي العلاء المعري مثلًا؛ فأبو العلاء يقتحم الفلسفة في شعره، فيناقش فيها كالمعلم العالم، ولا يلزم المزاج الفني فيلمع إلى الفكرة التي تبدو له بتعبير يستخدم فيه جميع أنواع المجازات والاستعارة والرموز، بحيث يحدث التأثير النفساني المنشود.
وقد يطرق الشاعر أيضًا باب الزراعة ولا ينحط عن الشعر؛ كما فعل فرجيل في «الجيورجيات»؛ فقد نظم هذا الشاعر قصيدته هذه ليحمل الرومانيين على تعشق الأرض نزولًا على رغبة أوغسطس، على أنه سير معارفه الزراعية في موكب من الألفاظ الموسيقية، حمَّله من عذوبة الحنان ورائع الوصف ما أدرج قصيدته في عداد الروائع الشعرية الخالدة.
قرأت أخيرًا مقالًا للكاتب الفرنسي إدمون جالو عن شاعر عظيم من شعراء القرن الثاني عشر يدعى شوتا روستافيلي، عاش تحت السماء التي أظلت الفردوس الأرضي، وجبل أرارات الذي وقف عليه فلك نوح، يقول إدمون جالو إنَّ لهذا الشاعر الذي اكتُشف أخيرًا قصيدةً أو ملحمةً رائعةً، هي أمدوحة للإنسان كما كيفته أواخر القرون الوسطى، في قوته، وشعوره بالشمم والعدل، وسذاجته على عتبة الانبعاث، قال: «حالما نقرأ هذه القصيدة «إنسان في جلد نمر»، نقع في ذهول حيال هذه السكرة الشرقية، ذلك أننا — نحن الغربيين المساكين — فقدنا عادة التشنج الكلامي، ونكاد نختنق في هذا الجو من البخور والألوان.» ونحن الشرقيين فقدنا بدورنا ذلك التشنج الكلامي، ونكاد نذوب في هذا الجو من البخور والألوان الغربية، هذا الجو الذي اجتاحت غيومه السامة بلدان الشرق مندفعةً بقوة الاجتياح السياسي.
وإني لأتساءل ماذا ترانا نستطيع بهذا القاموس الضيق، هذا القاموس المستورد نتشبث فيه للتعبير عن أعمق حقايق النفس، فنرفع الكلفة بيننا وبين اللغة، ولا نتورع عن سلوك مهامه غائمةً كأننا في حلم؟ وقد يخيل إلينا ونحن نسلك هذه المهامِه أننا نسير في الطريق الشعري السوي، بينا نحن في الحقيقة لا نحاول إلَّا الخروج عن أنفسنا، مستعبدين لنظريات خاطئة، بل مضرَّة تحرر منها حتى مبدعوها أنفسهم؛ فبول فاليري، الذي جاءنا بمشاريع نظريات خلقت في الأدب العربي جيلًا مضعضعًا، لم يحُدْ عن صراط ماليرب، ولم يتمرد على القاعدة الكلاسيكية في النظم. وإني لأجد في شعر فاليري أبياتًا كثيرةً يُسْتَطاع دسها في شعر لامارتين، كما أني أجد في شعر البرناسيين، أمثال غوتيه وبودلير، ما يُسْتَطاع نسبته إلى شعر أعدائهم الرومانطيقيين؛ كَلامارتين وهوغو وفينيي، وشعر الرمزيين؛ كفيرلين ومالارمي.
قلت في مستهل هذا الحديث إني لا أكتب هذه المقدمة لأحدد الشعر، أو لأجيء بنظرية أتعصب لها، وأعلن لأجلها حربًا؛ بل أكتبها لأرد صادرًا إلى مصدره، لأرد الشعر إلى الطبيعة أمِّه، فمنذ اليوم الذي تأزمت فيه المشادة بين أدباء الغرب، وطلعت وحوش النظريات من أوجارها، يكشر بعضها في وجه البعض الآخر؛ التوى الشعر عن قصده، وأصبح زيًّا يتلوَّن بتلون الأهواء، ولكن النفس لا تخطئ؛ لأنها معكس ومصهر لحقايق أبدية هي الطبيعة والحياة، ففيما المدارس الشعرية منصرفةً إلى التطاحن، إذا بطائفة من مبدعي هذه المدارس ترتفع عن الفرضيات الزائلة إلى المصدر الأبدي؛ فرأينا بودلير البرناسي يصدر عن نفسه ويلتقي فرلين الرمزي على صعيد واحد، ورأينا جميع الشعراء الحقيقيين من زعماء المدارس يتفلَّون في الأودية المظلمة، ويجتمعون أنقياء على قمة واحدة هي الشعر.
فالمدارس الشعرية سجون ونظرياتها قيود، والشاعر لا يعيش في جو العبودية هذا، فالطبيعة هي جوُّه الفسيح تتكيف إحساساته بتكيف المظاهر المتقلبة فيه، وإذا خرج الشاعر من هذا الجو خرج من نفسه وكذب على نفسه.