الفصل الأول
دخلتُ نحو الساعة العاشرة إلى مكتب فركنباك الصَّيْرَفِي الشهير بباريس، وكنت أحمل إليه كتاب وصاةٍ من عمي، فصَدَّني عن الدخول حاجبٌ ذو غِلظة، تلوح على وجهه دلائلُ الخُبث، يلبس صدرةً موشَّاةً بالطراز المُذْهَب، ورداءً عاتمًا إلى الخضرة مُذْهَبًا أيضًا، وقال لي: ما تريد؟ فقلتُ: أريد مقابلة البارون فركنباك، فهل هو هنا؟ فقال: الأفضل أنْ تعود إليه مرَّة أخرى.
وظهر لي من خشونة الحاجب أنَّ البارون كان قد أمره بأن لا يأذن للناس بالدخول عليه.
فقلت له: إني قادم من افريه ومعي كتاب إلى البارون من أحد أصدقائه، لا بُدَّ لي من تسليمه له قبل مساء اليوم، ففي أي وقت أتمكَّن من مقابلته؟
فلمَّا سمع هذا الكلام تبسَّم بعد التقطيب وأجابني بما في وسعه من الرقة والتلطف: تفضل يا سيدي، وأعطني بطاقةً باسمك والكتاب الذي تحمله، وسآتيك بعد هنيهةٍ بالجواب، فدفعتهما إليه.
فمضى وما عتم أنْ عاد وسألني أنْ أنتظر البارون ريثما يفرغ من بعض شأنه فيحضر، ثم قال: اجلس يا سيدي، وإنْ شئت فاقرأ هذه الجريدة، وكان قد تحوَّل من الخشونة إلى النهاية في التأدُّب واللين.
فشكرته وأخذت الجريدة أقلِّب نظري فيها ولا أعي شيئًا من معانيها، وكنت أفكر في أمس الدابر، وما جرى لي فيه من الأمور، وكيف فارقت الأهل والأحباب امتثالًا لأمر عمي؟ وكيف كانت ساعة وداعهم المُؤلِمة؟ وكيف مرَّتْ تلك الساعة مرور لحظة؟ ثم ترحلت عن البلاد كاسِف البال، شَجِيَّ الفؤاد، فاغْرَوْرَقت مقلتاي بالدموع، وتعذَّر عليَّ إقرار نظري على الصحيفة التي أصبحت لا أرى إلَّا بياضها، وقد خُيِّلَ لي أنَّ كلَّ هذه الأمور جرت منذ عهد بعيد لا في أمس؛ لِمَا في نفسي من الوحشة.
ولا أزال أذكر عمي إذ دخل عليَّ بكرةً ووضع يده على كتفي وأيقظني، وكان وجهه مُتورِّدًا، عليه سمة الانشغال والاضطراب، وكان منديله مجموعًا في قبضة يده علامةً أنه يكظم أمرًا في نفسه، فجلس على كرسيٍّ هناك، ثم سألني: في أيِّ يوم من الشهر نحن؟ فأجبتهُ وقد أدهشني هذا السؤال: إذا صدق الرزنامج وكانت عيناي غير حسيرتين، فاليوم الثامن من شهر أكتوبر، ولكن علامَ باكرتَ إليَّ يا عمي العزيز تستفهم عن شيءٍ لا تعزُّ معرفتهُ على أجيرٍ لو سألته؟
فعبس بي وتغيَّرت شارات وجهه ويديه ثم قال: اعلم يا مكسيم أنك صرتَ منذ صبيحة اليوم رجلًا راشدًا مطلق الحرية والإرادة، ولك أنْ تتصرف بأموالك كيف تشاء، وأنْ ترتكب كلَّ المُنكَرات بلا اعتراض؛ ولذلك أحب أنْ تُطْلِعني على ما تنويه. فلم أُجِبْ، ولكن عجبت أنْ يكون بلوغي الرشد مما يقتضي تغيير نظام معيشتي، فألحَّ عليَّ فأجبته بعبس، فقال: إنَّ هذا يدلُّني على قِلَّة اهتمامك بمستقبلك، فاعلم يا ولدي أني قَيِّمٌ عليكَ، وأنَّ عهدتكَ أثقلت عاتقي، وقد آن لي أنْ أتخلَّص منها، وكانت قيامتي هذه عليك تضطرني إلى مراقبتك واستغلال مالك، أمَّا الآن وقد شبَبْتَ بعون الله تعالى فأنا أعرضُ عليك حسابات ما تملك، وهذه سفاتج، وسندات، وحُجج، ودفاتر تتضمن دخلك وخرجك، فعليك أنْ تجمع وتطرح وتضرب وتقسم، ثم تعطيني بعد ذلك ورقة بتَبْرِئة ذمَّتي ورفع أمرك عني.
فوعدته بذلك محاسنةً، ثم تركته وذهبت إلى المغسل لا يخطر على بالي شيء سوى أنَّ عمي يريد أنْ يجعل في يدي زمام الشيء القليل الذي أمتلكه، ولمَّا لبست ثيابي نظر إليَّ من فوق بِلَّوْرَتَيْه، وقال سألتك فلم تجب، فأعيدُ عليك أنني في شغل من أمر مستقبلك، وإنما أتيتُ إليك لأردَّ لك مالك ولأعلم ما تنويه؛ لأني عاهدتُ نفسي أمام الله وأمام أبيك يوم كنت طفلًا أنْ أرعاك بعنايتي، وأمهِّد أمامك العقبات، فما الذي تنويه؟ فسألته عن الموجب لهذا السؤال؟ وقلتُ: ما عساني أنْ أفضل على حالتي هذه وأراني محفوفًا بعنايتك، وعناية أمي، وإنْ كان لا بدَّ لي أنْ أسير سيرة أخرى، فأمهلني ريثما أفكر فيها قليلًا، فحدَّق بي ثم قال: لا إخالك تشك في أني عاملتك إلى الآن معاملة ابنٍ لي، فيجدر بك أنْ تُصْغِي إلى ما أقدِّمه لك من النصح «فاعلم أنَّ دخلك زهيد لا يبلغ ستة آلاف فرنك نصفها لأمِّك، فأنت لا تستطيع به تجارة ولا مُزاوَلة أيِّ عملٍ كان، ولا أظنك تُلْقِيه في معرض الخسران؛ لأن العاقبة لا تُحمَد، فلم يبقَ لك إذن للكسب غير باب واحد، وهو أنْ ترحل عن افريه، فإن لم تفعل فاعلم أنَّ حياتك تنقضي محصورة في هذه البقعة، لا ترى غيرها، ولا يمضي عليك القليلُ من الزمن حتى تستكين إلى الكسل واللهو، فتصرف أيام شبابك بين الصيد، والرسم، والحقيقة، والوهم، ثم تأتيك أمَّهات ذوات دهاء، فيصفن لك جمال بناتهن إلى أنْ تُؤخَذ على غرَّة فتتزوج وهناك الحياة المرَّة، فتلد لك امرأة أولادًا كثيرين …»
فضحكتُ لكلامه ضحكًا عاليًا وقطعت عليه الكلام، وقلت: إني عاقد النية على مغادرة افريه؛ للسعي إلى عملٍ ما في بلدةٍ غير هذه، ولكن إلى أين أذهب؟ وماذا أفعل؟ فقال: لا تهتم بهذا يا بني، فلا صعوبة في وجود عملٍ لك، والصعوبة بانتقاء البلدة التي يجب أنْ تقصدها، وعندي أن ليس للشباب الذين يطمعون في المراتب الرفيعة إلَّا مدينة واحدة فيها خطر عظيم على الضعفاء، وفوز لذوي العزائم والجد وهي باريس، فقلت: ومن يكون مُرشِدي في تلك المدينة العظيمة التي أخاف أنْ أضلَّ فيها بلا مُعِين ولا مُرشِد؟ فضمَّني إلى صدره وقال: إنَّ في كلامك يا بنيَّ حكمة ودليلًا على توقُّد قلبك واهتمامك بالمستقبل فبورك فيك، ولكن خفِّض عليك فقد تولَّتْ أمرك في ذلك الأقدارُ، فإني بينما كنت في الصيف الماضي في مدينة مون دور التي أذهب إليها كلَّ سنة؛ للاستشفاء من الداء العصبي الذي أنا مصاب به التقيتُ بصاحب لي، كان معي في المدرسة منذ أكثر من خمسين عامًا فتحدثنا طويلًا، وكنَّا في كلِّ يومٍ نَتَنادَم بذكرى أيام الصبا، وبقينا كذلك زُهاء شهر حتى غدونا يشقُّ على الواحد منَّا أنْ يفارقه الآخر، ولما انتهى فصل الصيف هممتُ بالعودة إلى هنا، فاستاء واغْرَوْرَقت عيناه حزنًا، ثم قبَّلني وسألني أنْ أكاتبه بلا انقطاع، وقال: إنه مستعدٌّ ليخدمني بما في وسعه فكتبت إليه منذ أيامٍ أسأله عما إذا كان يوجد لك عنده عمل تعمله؟ فأجابني على كتابي بكتابٍ وديٍّ ارتاح إليه قلبي، ثم إنَّ عمي تبسَّم وقال لي: «اعلم أنَّ لذلك الرجل امرأةً جميلة …» فقطعتُ عليه الحديث وقلت: «وما اسم ذاك الرجل وما هي حرفته؟» فضحك لقلة صبري وقال: «اسمه جيستاف فركنباك وهو صَيْرَفِي من كبار صَيارِفة باريس، وذوي الكلمة النافذة فيها، فهل ترضى بالاستخدام عنده؟» فشكرته وقلت له: ومتى موعد سفري فأستعد له؟ فقال: اليوم، وإنْ شئت غدًا، لكن يجب ألَّا تتردَّد في أمرٍ أقدمت عليه؛ لأن في التردُّد ما لا تُحمَد عقباه أحيانًا، فأذعنت له بعد جدال ووعدته أني أسافر في أول قطار.
ولما كان المساء جلست على المائدة وعمي إلى جانبي، وجلست أمي تجاهي وهنَّأتني ودَعَتْ لي بالنجاح، ولو لم تَخُنْها بقيةُ دمعٍ سالت من محاجرها لَمَا علمتُ بشيءٍ مما في نفسها من الألم، وكانت تتكلَّف التجمُّل ما أمكن، وتشغل نفسها عن البكاء بإعداد معدَّات السفر، وكانت أيضًا تكتم خوفها عليَّ من الأخطار التي كنت مُعرَّضًا لها، وتظهر لي الفرح التام، وتكذب ما كنت أسمعه من زفرات صدرها، وما كنت أراه على وجهها من دلائل الكآبة، وبينما كانت تطوي ملابسي وتنضِّدها في صندوق السفر، ذهبتُ فودعت أصدقائي ومعارفي، وكنت أشعر أنَّ هذا الوداع يمنعني من العود إلى افريه فيما إذا لم أفلح في باريس؛ مخافةَ سوء الأحدوثة، ولمَّا كان المساء جاء عمي ودعاني إلى الرحيل فبكت أمي وبكيت معها كثيرًا، ثم ركبت عربة عمي وكان قلبه يخفق بشدة من ألم الفراق، وإذ وصلنا إلى المحطة أخذنا نتمشَّى في انتظار مجيء القطار، فقال لي عمي: وعدتك يا بني بأن لا أوقر سمعك بما يقوله الآباء عادةً لأبنائهم قبل السفر ولا أخلف، والشاب في غُنْيَة عن كلِّ المشورات والنصائح؛ لأن الدهر يعلمه ما لا يعلمه أبوه، فالاختبار هو المدرسة الكبرى التي يتلقَّى فيها بنفسه علم معرفة الائتلاف وكيفية المعيشة، وأنت جدير بأن تقرأ في ساعات الفراغ رواية هاملت لشكسبير، فأنعم الفكر فيما ينصح به بولونييس لابنه ليرت قبل ابتعاده عنه، ثم إنَّ عندي أمرًا آخر ذا بالٍ أشرحه لك موجزًا، وهو أنَّ للنساء شأنًا مهمًّا بين الناس في هذه الأيام، ولهن المقام والتجلَّة، وهن محركات نظام الكون الآن، وسبب علله وأدوائه، فأحذِّرك من المرأة الأولى التي ستراها في باريس. ومن الناس من يقولون: إنَّ المرأة على الغالب هي الواسطة الفعَّالة لنيل المآرب، وأنا أقول لك: إنَّ كلامهم حِبالة ينصبونها للجهلة، بل هو قيد يقيِّدون به أرجلهم، بل هو ذريعة للانصراف إلى الملاهي عن الشغل، وأقل أخطار العشق تلازم المعشوقين، بحيث لو فُصِلا آلا إلى الشقاء أو إلى الفناء، وأنت يا ولدي مع تحلِّيك بكثير من الصفات الحميدة، فإن لك خلَّة وهي أنَّ قلبك ضعيف لدى النساء، ثم عاد إلى الكلام عن مدام فركنباك فقال: إنها ذات عينين نجلاوين، يضل معهما الناسِك عن قصده وسوف تلتقي بهذه السيدة فلا تخرج في حديثك معها عن جادَّة ما يجيز الأدب؛ لأنها بديعة وفي جمالها خطر على الشبان، وأظنها ذات ذكاءٍ، ولكن معرفتي قليلة بقدر عقلها.
وما قدم القطار حتى دخلته وانْتَقَيْتُ فيه موضعًا لي، ثم عدت إلى عمي فانتهرني وقال: لِمَ ذهبت قبل أنْ تستأذن منِّي؟ ألا تزال نَزِقًا فخذ هذا كتاب وصاة بك لفركنباك، فقبَّلته تقبيل الشكر والوداع، وإذ ذاك قرع الجرس وآذن القطار بالرحيل، فركبته وسار بي مبتعدًا عن افريه.
كلُّ تلك الذكرى مثلها خاطري لناظري في ساعة انتظاري لفركنباك، وكان فؤادي يضطرب آسفًا على ما مضى وخوفًا مما سألاقي.
ولما طال عليَّ الانتظار نظرت في الجريدة التي كانت بيدي، فإذا فيها أسماء الذين جاءوا باريس بالأمس من الأغنياء وذوي المناصب، ثم وقع نظري على اسم البارونة ريتا مدام فركنباك فقلت: «إنَّ التي يخشى منها على الشبان تُدعَى ريتا.» ولكن يُخيَّل لي أني كنت أشهد التمثيل ذات يوم، ورأيت ممثلة سَلَبت عقلي كانت تُدعَى ريتا، فهل هي التي أصبحت الآن البارونة فركنباك؟ وبعد هُنيهةٍ قُرِع الجرس الكهربائي فأتاني الخادم مُسرعًا، وأخبرني بكل احتشام أنَّ البارون يستقبلني فمضيت إلى غرفته وكانت مفروشة بالطنافس الأزميرية النفيسة، وفيها كانون موقد، وما لبثت بعض دقائق حتى جاء البارون ومدَّ لي يده فسلَّمت عليه.
فقال: أعتذر إليك يا عزيزي جوشران، فإن كثرة أعمالي منعتني عن مقابلتك عاجلًا فلْنتحدَّث الآن في الشأن الذي جئت له، ولْيكن كلامنا بصريح ما في الضمير.
فشكرته وجلست على كرسيٍّ عيَّنَه لي بالقرب من الكانون، فقال لي: قد عرفت سَبَبَ زيارتك لي مما قرأته في كتاب صديقي فرنسوا.
وساعتئذٍ فُتِح باب معارض للباب الذي دخلتُ منه، وخرج منه شاب أشقر اللون مُرتدٍ حُلةً سوداء وفي يده ورقة زرقاء، فقال له فركنباك: ماذا تريد يا وليم؟ ألم أَنْهَ عن مكالمتي في هذه الساعة؟ فخفض الشاب رأسه وحنى ظهره أمام البارون وقال مُحتشِمًا: عفوًا يا سيدي، فهذا تلغراف وَرَدَ لنا الآن من لندره، ويطلب مُرْسِله الجواب حالًا.
فقرأ فركنباك التلغراف مرارًا وقدَّر كلَّ كلمة قدرها، واستنتج من قليل الكلام معنًى كبيرًا، ثم نهض لكتابة الجواب مُستأذِنًا منِّي.
وبينما كان يكتب جعلت أترقَّبُهُ بمؤخر طرفي، فرأيت أنَّ وجهه الضحوك البشوش قطَّب لصعوبة حلِّ المسألة التي كانت بين يديه، وكان الرجل ربْعةً ذا سمن، أحمر الخدين، قوي البنية، صحيح الجسم، يناهز الستين، وفي جملته ما يدل على جودة قلبه، ودماثة الأخلاق، وحرية الضمير، وصدق الودِّ، وما يدل أيضًا على أنه أسرف في التمتع بملاذ الدنيا، وإنما بقي كذلك معافًى لقوة بِنْيَته، وتوهَّمت أننا إذا توثَّقت الرابطة بيننا، فلا يطول علينا الزمن حتى تستَحْكم منَّا المودة، ولما فرغ من كتابة جوابه قال: خذ يا وليم جواب التلغراف، ولا يقابلني أحد بعد الآن.
ثم قام من محله وجلس على كرسي إلى جانبي، وقال لي وهو يفرُك يديه: هل أطلعك عمُّك على الكتاب الذي أرسلته له من بضعة أيام أخاطبه فيه بشأنك؟ فقلت: لا يا سيدي، وإنما أمرني أنْ أتقدَّم إليك بالنيابة عنه، وأكلمك بصراحة كما يكلم الصديقُ الصديقَ.
– وأنت عالم أنك آتٍ لتكون في خدمتي.
– نعم يا سيدي، وإني أرغب في ذلك وأَعَدُّه شرفًا لي.
– ليس في الأمر مانع ولا صعوبة، ولكن اعذُرني إذا قلت لك لستُ محتاجًا إليك، بل إنَّ حبي لعمِّك ولكَ يحملني على إجابة طلبكما، فأنعم الفكرَ وانظر بعين الروية فيما إذا كان عندك ميل إلى الشغل؛ لأن ذلك أمرٌ مهم، وإلَّا فلا يَجْمُل بمثلك أنْ يضيِّع زمن الشباب عبثًا؛ حتى إذا ضعف يومًا وشاخ قتلته الندامة على ما فقد من الوقت الثمين.
– لقد فكرتُ في ذلك زمنًا ولست أعلم إذا كنت أفلح في شئون التجارة، ولكنَّ عندي رغبة في تعلُّمها وجلدًا عظيمًا على تحمُّل المتاعب التي تتأتَّى لي منها.
– نِعْمَ الجواب! فقد حسن ظني بك، وأنا عازمٌ على أنْ أتولَّى تدريبك بيدي، فاعلم أنَّ أشغال البنك سهلة جدًّا وعلى المستخدم أنْ يألفها ويُتْقِن دراستها.
ثم سألني متحبِّبًا أليس كذا؟
فانقشعت ظُلَم الفِكر والأوهام من مُخيِّلتي، وارتحت للُطْفِ ذاك الرجل، وتوهمت أنَّ عمي يخاطبني، ثم سألني هل تعرف لغةً غير لغتك؟
– نعم، أعرف اللغتين الإنكليزيَّة والألمانيَّة.
– حسن، سأعهد إليك المكاتبات الخارجية، فإنها أسهل عليك من الحسابات، وسأجعل راتبك مائة وخمسين فرنكًا، وهو ما أعطيه لكلِّ من يدخل حديثًا في خدمتي.
وإذ كنتُ لا أؤمِّل أنْ أُعْطَى راتبًا مدة تعلُّمي عَدَدْتُ ذلك كرمًا منه فشكرته كثيرًا، فتظاهر بالغضب، وقال: لا ينبغي أنْ تشكر لي فعلي إذ إني أدفع الدرهم، ولكني أطلب أنْ أُخدَم به، والدرهم يحمل على العمل والمثابرة، ولا منة في الشغل، فإمَّا أنْ أنتفع من عملك فآجُرك عليه، وإمَّا أن لا أنتفع منه فأفتح لك باب بيتي وأقفل عليك باب مكتبي. فشكرته ثانيةً ولم أُطِل مخافةَ أنْ يستأنف الكرة عليَّ، وبعد هنيهةٍ قال لي: شغلتنا مسألتك عن السؤال عن صديقي العزيز عمِّك فكيف هو؟
– إنه مريض وكان في ودِّه أنْ يرافقني ليزورك.
– يسوءني ذلك، وحبَّذا لو استطاع أنْ يأتي فنُسَر بتذكُّر الماضي، وإنَّ في هذه الذكرى ما يلذُّ الشيوخ.
فأعدت عليه كلَّ ما قاله لي عمي بالأمس عمَّا لَقِيه عنده من حُسْن الوفادة فقال: لقد غادر باريس رغمًا عني، ولولا ذلك لاسْتَبْقيته شهرًا أو أكثر، وقد أحبَّته قرينتي لحسن خلقه ولُطْف حديثه، وإني أدعوك لتناول العشاء معنا في هذا المساء؛ لأن البارونة تودُّ أنْ ترى ابن أخي صديقها … وموعدنا الساعة السابعة، وبعد هذا الكلام وقفنا واستأذنته في الذهاب، فشيَّعني إلى باب غرفته وقال: إيَّاك أنْ تنسى موعدنا في الساعة السابعة.
وبعد هذه الزيارة تبدَّدت عنِّي شواغلي، وانزاح عني ما كان قد تولَّاني من الخوف، وطابت لي الحياة بعد الوَجَل، وهذا النجاح الذي صادفني لأول مرة قوَّى آمالي بإدراك مستقبلٍ حسن، وثراءٍ قريب فهنَّأت نفسي ووطَّنتها على إدمان السعي وراء الضالة التي أنشدها، وبينما كنت أهيم في عالم الأوهام كانت رجلاي تسرعان بالمشي، كما لو كنت على موعد حبيبٍ أخاف أنْ يفوتني مع أني كنت أسير إلى حيث لا أدري، ولما كانت الأفراح الشديدة إذا توالت على الإنسان يضيق بها قلبه فينكسر كالكأس، وكانت — كما يقول العلماء — تتمدَّد وتطلب الهرب من القلوب خِفْت أنْ ينالني كربٌ على أثرها، فأستوحش في غربتي حيث لا قريب يُعزِّيني ولا خِلٌ أشكو إليه، فثبت إلى نفسي من الخيالات التي كنت فيها، وعزمت على أنْ أكتب إلى عمي وأُطْلِعه على ما كان من أمري مع صديقه، فدخلت إلى مطعم على الطريق.
وبعد أنْ أخذ الخادم مني قبعتي ودثاري، قال لي: ماذا تريد أنْ تأكل يا سيدي؟ فأجبته عابسًا: ورق كتابة، وقلمًا، ودواة، فابتسم الخادم وقال: سأحضر لك ذلك، ولكن إذا شئت أنْ تأكل شيئًا فعندنا بيض مقلي، ولحم مشوي ومسلوق، وألوان كثيرة غير هذه، فقلت: هات ما تشاء وبادر بإحضار الورق والقلم.
ثم جعلت أكتب بسرعة غريبة ما تمليه عليَّ خواطري الكثيرة، والله أعلم بما حشوت به الكتاب من الغرائب، وأظن أني بَنَيْت فيه قصورًا باذخة من الأمل في عالم الخيال، ولشدَّة اشتغالي بالكتابة لم أتنبَّه للطعام الذي وضعه الخادم أمامي، وكانت تنبعث منه الرائحة الذكية.
على أنَّ تحمُّسي بالكتابة أحدثَ بي ما يُحدِث للذين يبالغون بأعمال رَوِيَّتهم، وذلك أنَّ قريحتي لم تلبث أنْ جمدت بعد أنْ سالت نهرًا مُتدفِّقًا، ووقفت يدي وحَرَنَ القلم فختمت الكتاب.
وإذ كان قد بلغ الجوع مني وَخَلَتْ معدتي، شعرت بشهوة للأكل لم أشعر بأكثر منها قبل ذلك.
وبعد الغداء ذهبت إلى غاب بولونيا أتَّبع حافات السواقي، وأتلذذ بخرير مائها الجاري، فجلست إلى أصل شجرة أتأمَّل ذاك اليوم الرقيق الحواشي المعنبر النسمات، الذي لبستْ فيه الطبيعةُ أبدع ملابسها وتجلَّت بأحسن حُليها، فالأرض موشَّاة بأوراق الشجر المتساقطة، والرياض مخضوبة بدماء الشفق، وكانت الشمس تسير التؤدة إلى منامها، ترسل أشعتها على مياه البرك الوسنى، وكانت العجلات متتابعة كأنها خيوط سود في بياض تموج تحت البصر، ورأيت فيها قومًا هم أسعد خلق الله، ورأيت فرسانًا على خيول مُطهَّمة، ونساءً يفتن النواظر بالمحاسن والأزياء، وجماعات مئين وألوفًا يتمشَّون فرقًا يحدِّث بعضُهم بعضًا بأطراف الأحاديث، فهناك تحار الفِكَر وينبهر البصر.
ثم قلت: لِمَ لا أكون مثلهم؟ ولم لا يكون عندي مثل عرباتهم وخيلهم؟ بل ماذا يجب أنْ أصنع لأنال منالهم إذا كان لي ذكاؤهم، وكانت لي مقدرتهم؟
وكانت أنامل الأمل الودية تحجب عني مشاق المستقبل وتريني باريس والعيشة فيها جنة ونعيمًا، وانقلبت أميالي كلَّ الانقلاب، فصرت لا أفكر بغير المال، ونشطت بهمَّة سامية لإدراك مأملي، وتأهَّبت للمستقبل كما يتأهب الفارس للحرب.
والآن كلما أذكر تلك العهود ألوم نفسي، ولا أتمالك من الضحك على حين أني أودُّ لو تعود تلك الأوقات؛ لأنها أوقات الشباب.
أمَّا قصر فركنباك فهو شامخ الارتفاع مُتقَن البنيان، بناه في غابر الزمان رجل بارع لامرأة من عائلته كان يهواها، وطالما صحب الأشراف وصبر على محاربة السياسة والثورات، وكان كلما ازداد عمره يزداد رونقه وبنيانه، فقد أضيفت إلى جوانبه غرف جميلة على الطرز العصري، اعتنى بها رجل حسن الذوق بارع بالهندسة، وفي سقوف القصر تماثيل ونقوش متنوِّعة، كلها مغشاة بالذهب، وعلى جدرانها في الجهة الداخلية رسوم ناتئة، ورسوم محفورة، وزخارف غريبة الشكل، كلما خرَّب الدهر شيئًا منها اعتاض فركنباك عنه بآخر، والسقوف معقودة كلها وسطوحها من الآجر، وعلى الجدران إلى الجهة الخارجية صور رجال تصطاد وتحصد، وصور أخرى متنوِّعة تدل على عادات الأعصر التي بُنِيَت فيها، وفي القصر آنية أكثرها من الذهب والفضة، وتُحَف لا تزال على جِدَّتها على طول مُدَّتها، وحول القصر حدائق مُعلَّقة مكسوَّة بالخضرة والأشجار ذات الأرج والثمر تحيط به من أربع أطرافه، والقصر ثلاث طبقات.
ولما كانت الساعة السابعة جئت القصر، فوقفت على الباب قليلًا ريثما يزول خفقان قلبي، ولما قرعت جرس الباب شعرت كأن صوته دوَّى في رأسي، وكنت أقول في نفسي: إنَّ وراء هذه الجدران لأمرًا عظيمًا لي، وستمثل رواية حياتي، وسأكون منذ هذا المساء موضوعَ البحث والكلام، ففتح الخادم الباب ودخلتُ وراءه في مكان مستطيل مُبلَّط بالفسيفساء، وإلى جانبه حيطان البستان يترامى من فوقها الزهر من الأغصان، ولما صرت على مقربة من الباب الداخلي رأيت البارون مُقبِلًا إليَّ فقال: إنَّ مشيتك كمشية الجندي، ووقفتك كوقفة الممثِّل، وهذه صفات تحبِّبك إلينا فتعال أقدِّمك للبارونة.
وكانت البارونة جالسة في غرفتها على مقعد من الحرير الناعم، إحدى يديها مسندة إلى المقعد، والأخرى تلعب بشعرها المُنسدِل، فقال لها البارون: أقدِّم لك المسيو مكسيم جوشران ابن أخي عزيزنا فرنسوا جوشران، فقد أتى اليوم من افريه وهو يبلغك سلام عمه، فقالت لي: أهلًا ومرحبًا، إنَّ عمَّك تَرَكَ عندنا ذكرًا حسنًا، ويسرني أنك تذكِّرنا به، فتلعثَّم لساني عن الكلام ولم أُجِبها بشيء، وذكرت عندئذٍ ما قاله لي عمي من أنَّ هذه المرأة جميلة وجمالها خطر، وكأني كنت أرى على جبينها تلك العبارة.
وكانت ريتا جميلة يبرز من كمي مطرفها الأسود زَنْدان، كأنهما من العاج غاية في حسن التكوين، ولم يكن جمالها جمال طفلة لم يتمَّ تكوينها، ولا جمال صورة تقبل التنميق، ولا جمال وردة لم تتفتَّق أزرارها، بل هو الجمال التام الذي لا جمال فوقه.
أمَّا مقاطع وجهها فنادرة المثل، ومجموعها حسن أيضًا بخلاف ما يرى فيمن حسن تكوين مقاطعهم، فإنما هي ملك مرسوم أعارتها الحور معانيها، فلما رأيتها مَالَ قلبي إليها ميلًا شديدًا، وجعلت أُخالِسها نظر العاشق الولهان، فسُرَّت مني وأجزلت حركاتها.
لا أعلم كم جلستُ إليها دون أنْ أكلِّمها، ولا أعلم أألِفَتْ سكوتي بلهًا أم احترامًا لجمالها، ولو لم يأت الخادم ويدعُنا للعشاء لضحكت مني مليًّا، فقالت: هات يدك يا مكسيم وسِرْ بنا إلى المائدة فأجلستني إلى جنبها، وكانت في حديثها على المائدة تسألني أسئلة تقصد منها اختباري، واكتشاف نيَّاتي، فأجيبها بكلِّ سكينة وحكمة، ورَسَمْت لها عادات أهل بلدتنا الصغيرة رسمًا حقيقيًّا، وأضفتُ إلى كلامي أقاصيصَ ونوادرَ راقَتْ لها فقالت: يظهر أنك لم تأتِ باريس قبل هذه المرة؟
– لا يا سيدتي، وما ذهبت إلى غيرها أيضًا؛ ولذلك ترين عاداتي كعادات أهل القرى.
– إذن عليك أنْ تحذر من باريس، فإن فيها خطرًا على أمثالك.
– شكرًا لك يا مولاتي على نصحك!
– ولست أشاء لك أنْ تُبالِغ في ذلك إلى حدٍّ يلْحَقُك معه ضررٌ، وإنما أعني أنَّ باريس بلدة معشوقة السُّكْنى، تحسدها عواصم الدنيا أجمع؛ لكونها أغنى المدن التي تقدمتها في التاريخ، ولكون الذي يأتي إليها تتغيَّر أخلاقه من الحِدَّة إلى اللين، ومن البلادة إلى الظرف والرقة، وينفسح مجال أفكاره، فيجب على الشاب أنْ يقتصد في معيشته … قل لي أين ذهبت اليوم؟
– إلى غابة بولونيا.
– لم أشكَّ في ذلك ولو قلتَ إلى مكان آخر لاستغربت هذا الأمر، ولكن هل رأيت عربة هناك بخيل دهم فيها امرأة مكتحلة قليلة الذكاء تُسمَّى … نعم، إنها ذات مهارة وذوق في اللبس، لكنها قبيحة تتخطر في الغابة ذهابًا وإيابًا في الليل والنهار؛ لتصطاد رجلًا غنيًّا مثل فركنباك أم شابًّا جميلًا مثلك، وفي باريس من أمثال هذه نساء لا تُحصَى.
فقال لها فركنباك: مالك وللخَطَابة دَعِيها للقسيسين، أو هل تحسبين الإرادة آلةً تدور كيف تشائين؟ إنَّ الأم تقول مرارًا لولدها إنَّ النار تحرق وذلك لا يمنع الولد من الاقتراب من النار.
– ولكن الشاب غير الكهل فهو كالغصن إذا قوَّمْته يتقوَّم.
– لا تُصدِّقي ذلك؛ لأن الفطن يطمع في كلِّ شيء مهما كان أليس كذلك يا مكسيم؟
ثم التفت إليها وقال: إنَّ مكسيم شاب حسن الوجه، ظريف المعشر، متين البنية، فهو قادر على عشق أجمل النساء، وعلى اتباع كلِّ سنَنِ العشق «وأظنُّه عاشقًا».
فخَجِلتُ وتورَّدتْ وَجْنتاي؛ إذ مرت في فكري حادثة غرام جرت لي مع امرأةٍ في افريه، فلم أَنْبِس ببنت شفة، ثم قمنا عن المائدة فقال لي همسًا: لا تُلقِ بالًا لما تقول البارونة؛ لأنها تبالغ في النصح، أنحن قدِّيسون أم آلهة؟ وعندما عدنا إلى القاعة أوقدت لفيفة من التبغ المصري، وجعلت تشرب وتنفخ الدخان من فمها وأنفها بتأوُّهٍ كالعاشق المستجد، ثم ألقتها في النار وهي تضحك، كمن تقول إنها تشرب الدخان على سبيل التَّسْلية، لا على سبيل العادة، فضحك منها البارون وأخرج من جيبه علبة من تَبْغٍ هافاني، وقال لي: إني أقتدي بالبارونة في كلِّ شيءٍ.
فدار الحديث بيننا على أمور شتَّى كالموسيقى، والروايات، والآداب، والمعاني، والبيان، فسرَّها اطلاعي على تلك الأشياء، وسرَّها أكثر من ذلك قوة ذكائي، ونزاهة كلامي.
وسألتني عن كَتَبَة الإنكليز، فأخبرتها عن أشهرهم، وعن مؤلَّفاتهم المعروفة التي تُرجِمت والتي لم تُترجَم، ثم قابلت بين كَتَبَة الإنكليز وكتبة الفرنسويين، وتداولت معها مداولة لا يكون أرقَّ منها.
وبينما نحن في الحديث نام البارون على المقعد فقطعَتْني عن الكلام، ونظرت إليَّ بعينيها السوداوين كمن تُريد استقصائي، ثم قالت: ما رأيك في الحب؟
فَبُهِتُّ وكدت أفشل كما يفشل أحد المُتثاقفين إذا عاجله خَصْمه بضربةٍ أمضى من البرق، ولم أفهم يومئذٍ مُرادَها من هذا السؤال، هل كان تطفُّلًا نسائيًّا محضًا؟ أم كان وسيلة لاختبار أخلاقي؟ على أني مراعاة للأدب قُلْت والحياء بادٍ على وجهي: اعذريني يا سيدتي، إذا خَبَطْتُ في الجواب خَبْطَ عَشْواء؛ لأني لم أعرف الحبَّ بعْدُ، ويصعب عليَّ جدًّا أنْ أشرح لكِ عن أشياء لم أُحسَّ بها، ولم تخطر لي على بالٍ، فقالت: هذا نفور وأظنك تتجاهل تجاهُل العارِف.
فلما رأيت أن لا مناص من الجواب قلت:
والحب أسمى العوامل البشرية، وهو النور الذي يبتهج به كلُّ مولود، وهو مولِّد الأفكار والانفعالات من حزن وفرح، والناس يسعَون وراءه كما لو كان من مقتضيات الوجود، والحب يقوِّي قلب العاشق، وإذا لم تصل شراراته إلى كلٍّ من قلبي العاشق والمعشوق، فلا عشق هناك وبالحب السعادة، وبما أنَّ السعادة هي منتهى آمال البشر فهم إذن يرصدونه كما يرصد الكوكبَ عابدُ النار، فقالت بتنهُّدٍ: نعم، وإذا طال العهد ولم تصل شرارة الحب إلى قلب المعشوق، يضيق على العاشق وجه الفضاء، فيرمي بنفسه إلى الطويل العريض من عالم الفناء إلى حيث يضمه القبر وهو الأب الحنون … ثم أخذت تشير بيدها إشاراتٍ مختلفة الشكل، ثم وقفت، ثم قعدت، والتفتت إليَّ وقالت كمن استفاقت من غشوة: إنَّ في رأسي همومًا كثيرة تُقِيمني وتُقْعِدني رغمًا عني فاعذُرْني.
وكان صدر فركنباك إذ ذاك ينتفخ وينقبض، وأنفه الضخم العظيم يهلل ويرنِّم، ولما استيقظ نظر إلى البارونة نظرًا طويلًا، فقرعت الجرس الكهربائي وللحال جاء الخادم مُسرِعًا فأمرته بإحضار الشاي، فقال لنا: يظهر أني نعسان، فقالت: أتظن ذلك فأجابها: وهل في ذلك ذنب؟
– كان يجب عليك أنْ تحترم ضيفك وتجلس إليه، ولا تدعني وحدي.
فاستأْذَنْتُهما عندئذٍ بالذهاب وخرجت، فضغطتْ على يدي وابتسمت لي ابتسامة غرامية، وقالت: إذا كان حديثي يلذك فلك أنْ تزورني في كلِّ يوم سبت.