ابن المعتز وشعره
أيها السادة:
ندع اليوم حديث الشعراء الشعبيين — إن صح هذا التعبير — لنتحدث عن شعراء القصور، أو إن شئتم فسندع اليوم شعراء السوقة لنتحدث عن شعراء الملوك؛ فالشاعر الذي سأحدثكم عنه اليوم ليس أقل من أنه كان أميرًا من أمراء القصر العباسي، بل كان في رأي كثير من الناس خليفة عباسيًّا، وإن كنت أنا لا أرى هذا الرأي؛ لأن بيعة ابن المعتز لم تتم، ولم تكن شاملة، وإنما كانت أشبه بالثورة منها بشيء آخر.
نسب ابن المعتز
ومهما يكن من شيء فشاعرنا عبد الله بن المعتز هو من أمراء هذا القصر العباسي العظيم، وهو سلالة مباشرة لجماعة من كبار الخلفاء الإسلاميين؛ فأبوه المعتز كان خليفة، وجده المتوكل ثم المعتصم ثم الرشيد، وتنتهي هذه السلسلة إلى العباس بن المطلب.
بيئة ابن المعتز وأثرها فيه
وليس الذي يعنيني هو مكانة ابن المعتز في النسب، وإنما الذي يعنيني هو هذه البيئة الخاصة التي نشأ فيها ابن المعتز والتي كان لها في تكوينه الفني أثر بعيد جدًّا، هذه البيئة خليقة أن تُدرَس بعض الشيء، وأظن أننا إذا درسناها درسًا واسعًا مفصلًا، فسننتهي إلى شيء قل أن نظفر به، وهو أننا نحب الشاعر ونعطف عليه، ونقرأ شعره مع شيء من المودة والصداقة قل أن يظفر بهما شاعر من الشعراء الذين ندرسهم عندما يبعد العهد بيننا وبينهم.
كان ابن المعتز من سلالة الخلفاء، وُلِد في ظل جده المتوكل، ولكن حياته كانت مزاجًا غريبًا من السعادة والشقاء منذ أولها إلى أن انتهت، كانت مزاجًا من هذه السعادة التي يظفر بها أبناء الملوك في حياتهم المترفة الناعمة التي يُجنَّبون فيها ألوان الشقاء، ولا يتعرضون فيها لهذه الخطوب وهذه الظروف السيئة المؤلمة التي تصد الإنسان عن الفن وعن الإنتاج الفني، لا لأنها شاقة متعبة فحسب، بل لأنها على مشقتها وعلى أنها متعبة ثقيلة لا تستحق من الرجل أن يقف عندها ويفكر فيها، وربما كان ألم الشاعر من فقره وضيق ذات يده ناشئًا لا عن أنه محروم فحسب، بل عن أن هذا الحرمان يشغله فيصرفه عن جمال الفن، ويصده عن الإنتاج.
فابن المعتز كانت بيئته تعصمه من شر هذه المصاعب وتقيه من شر هذه الآلام السخيفة، ولكنها لم تكن سهلة مطردة ناعمة لا يلقى فيها الإنسان مشقة ولا صعوبة، وإنما بُدِئت بالعنف، وخُتِمت بالعنف.
وُلِد ابن المعتز قبل أن يُقتَل جده المتوكل بأربعين يومًا، فهو إذن لم يكد يتقدم في الحياة حتى سُفِك دم جده، وقد كان قتل المتوكل ابتداء شر عظيم.
وقد لقي القصر عناء شديدًا من هذه النكبة، فتفرق أهله، ونكب أبناء المتوكل، وبعد مشقة عاد إليهم الأمر، وكان الذي تولى هذا الأمر هو المعتز أبو عبد الله وكان عند تولي الخلافة شابًّا حدثًا لا يتجاوز العشرين من عمره، ويقول بعضهم إنه كان في الثامنة عشرة من عمره، ويقول إنه كان من أجمل الخلفاء العباسيين وجهًا وأحسنهم شكلًا، وأرقهم خلقًا وأصفاهم طبعًا، ومن أحبهم للهو وأشدهم رضًا عن الحياة وابتسامًا لها، وكانت أيامه حين تسكن عنه الفتن والخطوب سرورًا كلها ولهوًا كلها، وكان له صديق من الترك في سنه تقريبًا حلو الشمائل كالمعتز وضيئًا كالمعتز حلو الخلق كالمعتز، يقال له يونس بن بغا.
وكان الخليفة مرحًا، فتى من فتيان قريش قد سهلت له الحياة وأطمعته النعمة في اللذات، ويقال إنه كان شغوفًا بالصيد، حدث العباس بن المفضل قال: كنت مع المعتز في الصيد فانقطع عن الموكب، وأنا ويونس بن بغا معه، ونحن بقرب منظرة وصيف، وكان هناك دير وفيه ديراني يعرفني وأعرفه، نظيف ظريف مليح الأدب واللفظ، فشكا المعتز العطش فقلت: يا أمير المؤمنين، في هذا الدير ديراني أعرفه خفيف الروح لا يخلو من ماء بارد، أفترى أن نميل إليه؟ قال: نعم. فجئناه، فأخرج لنا ماء باردًا، وسألني عن المعتز ويونس فقلت: فتيان من أبناء الجند، فقال: بل مفلتان من حور الجنة. فقلت له: هذا ليس في دينك. فقال: هو الآن في ديني، فضحك المعتز. فقال لي الديراني: أتأكلون شيئًا؟ قلت: نعم؛ فأخرج شطيرات وخبزًا وإدامًا نظيفًا، فأكلنا أطيب أكل.
وجاءنا بأظرف إنسان فاستظرفه المعتز، وقال لي: قل له — فيما بينك وبينه — من تحب أن يكون معك من هذين لا يفارقك؟ فقلت له. فقال: كلاهما وتمرًا. فضحك المعتز حتى مال على حائط الدير فقلت للديراني: لا بد من أن تختار. فقال: الاختيار والله في هذا دمار، وما خلق الله عقلًا يميز بين هذين، ولحقهما الموكب فارتاع الديراني، فقال له المعتز: بحياتي لا تنقطع عما كنا فيه، فإني لمن ثم مولى ولمن ها هنا صديق. فمزحنا ساعة، ثم أمر بخمسمائة ألف درهم. فقال: والله ما أقبلها إلا على شرط. قال: وما هو؟ يجيب أمير المؤمنين دعوتي مع من أراد. قال: ذلك لك فاتعدنا ليوم جئناه فيه. فلم يبقَ غاية، وأقام للموكب كله ما احتاج إليه، وجاءنا بأولاد النصارى يخدموننا، ووصله المعتز يومئذ صلة سنية، ولم يزل يعتاده ويقيم عنده.
هذه الحياة ألهمت المعتز نفسه ذوقًا فنيًّا خالصًا، فكان شاعرًا وشاعرًا مجيدًا، ولو قد مُدَّ له في عمره لكان كابنه شاعرًا نابغة، ولكنه أعجل فلم تطل أيامه، وكان يُعنَى من الشعر بهذه الفنون التي تلائم القصر، وتلائم المجون والدعابة، أو التي تلائم حياته الخاصة، وكان يطلب من المغنين والمغنيات أن يغنوه فيما يصنع من الشعر، وكان إذا قال بيتًا وطلب من المغنين غناءه طرب وطرب الندماء، يصنع من الشعر، وكان إذا قال بيتًا وطلب من المغنين غناءه طرب وطرب الندماء، وأنفقوا يومهم أو يومهم وليلتهم يسمعون ويشربون، ولكن هذه الحياة لم تطل، وهذا النعيم لم يدم، فقد كانت حياة القصر العباسي شديدة التعقيد، وكأنها ورثت من القصر الفارسي القديم كل ما كان فيه من اضطراب وعبث وكيد حد له.
كان القصر موزعًا بين الأتراك وغير الأتراك من رؤساء الجيش وكان الخليفة مضطرًّا إلى أن يصانع أولئك وهؤلاء، وهو في أثناء هذا كله عرضة لكيد الكائدين ومكر الماكرين، ولم تمضِ على المعتز أعوام ثلاثة أو أربعة حتى ساءت أحواله، وتنكرت له جنوده، وكاد له رؤساء هذا الجند، ومن الحق أن نعترف أنه هو أيضًا كان يكيد لرؤساء هذا الجند خوفًا منهم، ومن الحق أيضًا أن نلاحظ أن أخلاق الأمراء والخلفاء انتهت من الفساد إلى حد لم نعرفه من قبل، فقد كان الخلفاء يمكرون بآبائهم وإخوتهم، وحياتهم كلها مكر في مكر، فالمعتز قد غدر بالخليفة السابق المستعين وأنزله عن الخلافة، وأخذ منه عهدًا خلع فيه نفسه وأمنه على نفسه وأهله وماله، وقبل منه أن يقيم في واسط آمنًا مطمئنًّا، ولم يلبث أن أرسل إليه من قتله شر قتلة، فقد دار الدهر على المعتز بمثل ما دار به على المستعين، وعلى المتوكل من قبل، ثم على باقي الخلفاء العباسيين حتى انتهاء دولتهم.
أقبل الجند ذات يوم يطلبون إلى المعتز أرزاقهم، ولم تكن في خزائن القصر أموال، فاعتذر هو وألحوا في الطلب، وما زالوا يلحون وهو يعتذر، وأخذوا يفاوضونه حتى انتهوا إلى خمسين ألفًا، فطلب إلى أمه أن تعينه، وعجزت أمه عن هذه الإعانة، فدخلوا عليه، وكان معتلًّا بعض الشيء، فجروه حتى أخرجوه ووقفوه تحت الشمس في صحن الدار، فأخذ يتألم من الشمس، وقال من رآه: إنه كان يرفع رجله ثم يضعها تأذيًا من الحر.
وجاءوا بابن عمه المهتدي بن الواثق، جاءوا به على أن يكون خليفة، فأبى أن يجلس على السرير حتى يرى الخليفة، فجيء له بالمعتز من سجنه، فلما رآه عانقه وأخذ يعتذر إليه ويتحرج مما يدعي إليه، وأخذ المعتز يبرأ من الخلافة، وما زال المهتدي يلح عليه والمعتز يخلع نفسه، حتى قال له: فأنا إذن في حل من بيعتك. قال: نعم؛ أنت في حل من بيعتي. فهناك أعرض المهتدي بوجهه عن المعتز، وأخذه الجند فردوه إلى سجنه ولبث فيه حتى قُتِل.
عندما قُتِل المعتز سنة ٢٥٥ لم يكن عبد الله بن المعتز قد جاوز الثامنة أو التاسعة، كان في هذه السن الصغيرة التي لا يستطيع الطفل معها أن يفكر إلا بقدر، ولكنه مع ذلك قد نشأ في هذه البيئة المملوءة بالهموم، ومن المؤكد أن حياته قد تأثرت بهذا كله، وأن طبيعته لم تخلُ من حزن ومن حزن ربما دفع إلى بؤس ويأس مصدرهما ما يشاهده حوله من الدماء المسفوكة، والتي كانت تُسفَك باستمرار طول هذا العصر، ومن الغريب أننا لا نكاد نعرف عن نشأة ابن المعتز شيئًا كثيرًا، ويظهر أن السبب في هذا أنَّ كثيرًا من الكتب التي وُضِعت عن ابن المعتز وعصره لم تصل إلينا؛ إما لأنها ضاعت أو لأنها لا تزال مجهولة مفرقة في دور الكتب، وكنا ننتظر أن نجد شيئًا مفصلًا عن حياته أو عن محنته في تاريخ الطبري، ولكن الطبري كتب هذا القسم في عهد المقتدر، فكان متحفظًا أشد التحفظ، ويظهر أن كثيرًا من أخبار ابن المعتز كانت مدونة في القرن الرابع، وأن الناس كانوا يختلفون فيه اختلافًا شديدًا، فمنهم من أحبه ومنهم من كان يكرهه ويسرف في الطعن عليه، وأبو الفرج عندما يتحدث عن ابن المعتز يدافع عنه دفاعًا حسنًا، دفاع مقتنع بفضله وجلالة قدره، ويهاجم أولئك الذين هم أحق بالنقد، والذين يضعون من شعره وليس لهم شعر يشبهه، إلى آخر ما يقول أبو الفرج دفاعًا عن ابن المعتز، وطعنًا على ناقديه.
نشأ ابن المعتز نشأة لا تخلو من نعمة، نشأ في قصور الخلفاء، ولكن حياته لم تخلُ من الحرمان، كان منعمًا بالقياس إلى الذين كانوا يعيشون في ظلم وذل من أبناء الأمراء والخلفاء.
عاش هذه العيشة التي كانت فيها نعمة، ولكنها لا تخلو من ذل كثير، لم يكن في أول أمره غنيًّا ولا ميسورًا، وإنما كانت حاله يسيرة بسيطة، والظاهر أن تربيته كانت إلى جدته أم المعتز، وهي أم رومية، تُسمَّى «قبيحة»، ومع هذا فقد كان لابن المعتز مؤدبون من خيرة العلماء الذين عاشوا في بغداد، ومن أشهر هؤلاء المؤدبين أحمد بن سعيد الدمشقي الذي يثني عليه المؤرخون كثيرًا، وحدَّث في بغداد وروى عنه كثير من المؤرخين.
شعره إلى مؤدبه أحمد بن سعيد
ويحدثنا أحمد بن سعيد، أنه كان يؤدب ابن المعتز، وكانت سنه في ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة، فبلغه أن البلاذري المؤرخ قد سعى عند جدته حتى أذنت له أن يلقى الأمير ساعات في النهار؛ أي أن يكون بين الذين يؤدبون الأمير، فغضب أحمد بن سعيد وجلس في بيته محزونًا؛ لأنهم أشركوا معه رجلًا آخر في تأديب هذا الأمير، هو البلاذري، فكتب إليه ابن المعتز أبياتًا رواها ياقوت، وهي أول شعر نعرفه للشاعر وهو في الثالثة عشرة من عمره:
هذا الشعر على خلوه من الجمال الفني، أو على خلوه من الشعر، كثير على فتى في الثالثة عشرة من عمره، ولكنه على كل حال يمثل غرور الصبي، وإعجاب الفتى بنفسه، ويمثل حب الفتى لأستاذه، وحرصه على أن يرضيه.
فما رأيكم في صبي في الثالثة عشرة من عمره، ويرى أنه قادر أن يكون خطيبًا كقس، وشاعرًا كالحارث بن حلزة، وبارعًا في الميراث كزيد بن ثابت، وبارعًا في الفقه وحيله كأبي حنيفة، وماهرًا في العروض كالخليل، وماهرًا في النحو كالكسائي، يبلغ من هذا كله في هذه السن ما يريد، ثم يختم هذا الشعر بقوله: «عقباك شكر طويل لا نفاد له» ويختم هذا البيت بهذا الشطر الذي يدل على أن الشاعر كان يتكلف محاكاة القدماء، ويستعين بتعبيراتهم، فيقول في عجز هذا البيت:
على كل حال نجد في هذه الأبيات مقدمة لميل ابن المعتز الذي سيظهر شيئًا فشيئًا، في أثناء حياته التي لم تكن طويلة، بل كانت أقصر مما كان ينبغي لشاعر نابغة كابن المعتز.
حياته
كانت حياة ابن المعتز منوعة مختلفة أشد الاختلاف، كما يظهر من هذه الأبيات، فهو قد عُنِي بكل ما يُعنَى به المثقفون في عصره: عُنِي بالأدب خطابة وشعرًا وكتابة، وعُنِي بالفقه ميراثًا وأحكامًا، وباللغة والنحو والعلل النحوية، ثم عُنِي بأكثر من هذا، بما يُعنَى به المترفون والأمراء بنوع خاص، فقد كان مسرفًا في لذاته، محبًّا للصيد، مسرفًا في هذا الحب، وكان صاحب لهو، منه الحسن ومنه الرديء، لكنه على كل حال استطاع أن يضمن لنفسه راحة وأمنًا لبعده عن الحياة السياسية العملية، فلم يطمع في الخلافة ولم يسعَ إليها، فرضي عنه الخلفاء وأعانوه ومكنوه من هذه الحياة الحلوة التي فرغ فيها للذته الفنية والعقلية والجسمية.
وله أخبار مع هذين الحبيبين مفرقة في الكتب، يتحدث جعفر بن قدامة أنه دخل مرة على ابن المعتز فوجده محزونًا شديد الكآبة؛ لأن نشوان مغضب.
وقد بذل له ابن المعتز ما استطاع لإرضاء هذا الغلام، فلم يستطع، وهو ينشد جعفرًا هذه الأبيات:
قال جعفر: فنهضت، ودخلت على نشوان، وما زلت أداوره وأترضاه حتى رضي؛ فخرجت به على ابن المعتز، وأخذنا نشرب نهارنا كله على الغناء بهذه الأبيات.
وكان ابن المعتز رقيقًا في فنه هذا، وفي حبه، وفي لهوه. زعموا أن أصحابه اجتمعوا إليه ذات يوم وكانت تغنيهم جارية قبيحة الشكل جدًّا، وكان صوتها عذبًا، وكان ابن المعتز مفتونًا بصوتها، فكان يداعب هذه الجارية القبيحة ويسرف في مداعبتها، فلما قامت قال له بعض ندمائه: ما الذي تحب من هذه الجارية الشوهاء؟ فقال:
لم يكن لهو ابن المعتز موقوفًا على حياته في القصر، وإنما كان ينتقل معه لهوه ولذاته إلى الأماكن التي يستطيع مثله أن ينتقل إليها، وأظنكم تذكرون دير «عبدون» وهذه الأبيات:
فنه
هذه الأبيات التي سمعتموها الآن تعطيكم فكرة واضحة بعض الوضوح عن فن ابن المعتز في شعره، فهو مطبوع ليس متكلفًا ولا متعملًا في شعره، وهو يؤثر السهل على الغريب، وهو حريص ما استطاع على جزالة اللفظ، وهو يُعنَى بهذه المعاني المترفة، التي تلائم حياته وبيئته، وهو شغوف بفن خاص من فنون الشعر، يظهر أنه قد تفوق فيه على الشعراء، وهو فن الوصف، والوصف المادي بنوع خاص، ووصف الأشياء المادية الجميلة التي تلائم هواه، وهو من أكثر الشعراء تشبيهًا، ومن أبرعهم في هذا التشبيه، وإن كان في شعره شيء من التكلف والبحث والغوص، فهو إنما ينفق هذا التكلف في إجادة التشبيه وإجادة الاستعارة، ولكنه ليس كأبي تمام وابن الرومي متعمقًا باحثًا عن المعاني العويصة، التي يكد الإنسان في فهمها ويجد مشقة في ذلك، إنما هو يبحث عن طرائف الأشياء، ووجوه تشبيهه قريبة، يفهمها كل إنسان في سهولة ويسر، وفي غير مشقة ولا عناء.
وانظروا إلى هذه الأبيات التي تعطينا فكرة واضحة عن الفن الذي كان ابن المعتز يحبه، والذي يعتمد على النظر أكثر من اعتماده على أي شيء آخر:
طرق ابن المعتز فنونًا مختلفة من الشعر، ولكن الفن الذي عُنِي به عناية خاصة وأنفق فيه جهدًا حقيقيًّا هو ما يتصل بالوصف من ذكر الخمر ووصفها، واللهو والمجون والدعابة، ومع ذلك فلابن المعتز مدْح مدَح به جماعة من الخلفاء، وله هجاء وله رثاء، وهو لم يقصر مدحه ورثاءه على الخلفاء بل مدح الطاهريين وآل وهب، وله رثاء في هؤلاء وأولئك.
الشعر التعليمي بينه وبين عبد الحميد
ثم يصلي على النبي ويفتخر بما ورث بنو العباس عن النبي، وينتهي من بني العباس إلى الخليفة المعتضد فيذكر أعمال الخليفة، وإذا كانت هناك ملاحظات فأهمها أنه لم يرتب قصيدته ترتيبًا منطقيًّا، بل اضطرب، وأغلب الظن أن ابن المعتز اضطر أن يضيف إليها في أواخر أيام المعتضد، أو كان ينظم ثم يضيف إليها بعد ذلك، وهو يذكر ما كان من جهاد المعتضد لأصحاب الفتن في فارس والشام ومصر والجزيرة والحجاز واليمن، ووصفه لهذه الفتن وبلاء الخليفة في إزالة هذه الفتن من أجمل الوصف وأبدعه.
انظروا إلى هذه الأبيات:
ولم يخرج ابن المعتز عن مذهب الشعر الخالص إلا عن قاعدة واحدة هي التزام القافية كالذين كانوا من قبله؛ لأن طبيعة هذا النظم لا تحتمل قافية واحدة، ولكنه في ألفاظه مؤثر لأجمل الألفاظ، وفي تشبيهاته مؤثر لأبدع التشبيهات، ويستطيع أن يلائم بين الشعر والتاريخ، أو بين التاريخ والأشياء المألوفة، ولهذه القصيدة مزية أخرى ربما كنا نحن في هذا العصر الذي نعيش فيه أقدر على إكبارها وتقديرها والشعور بها من الذين كانوا يعيشون في عصره، فهو يصور الفساد الذي وصلت إليه أمور الدولة قبل المعتضد، ويصور الفساد من جميع نواحيه الفردية والاجتماعية، ويصور هذا تصويرًا مؤثرًا جدًّا، فهو يصور لنا تاجرًا اتسعت ثروته فنفس عليه بعض الأمراء وطمع فيما في يده، فيأتي ويزعم له أن عنده ودائع للسلطان ويطلب منه أن يدفعها إليه؛ لأنها وديعة قد أودعها الحاكم عنده، فيأتي التاجر ويقسم ما استودعه السلطان مالًا، وإنما هو ماله، ولكن الأمير يأبى إلا أن يكون مال هذا التاجر وديعة من السلطان، فيأخذ التاجر فيحبسه ويعذبه ويوكل به من يلقون إليه ألوان العذاب ليلًا ونهارًا، حتى يؤثر الموت على الحياة أو يؤثر الراحة على ما عنده من المال، فإذا نزل عما عنده من المال تركوه، انظروا إلى هذه الأبيات:
ويصور بنوع خاص ما كان يثيره جامعو الضرائب، وما كان يلقاه دافعو الضرائب من الجهد والمشقة في أداء ضرائب ربما لم يكن من الحق عليهم أن يؤدوها، وعندما كانوا يُطالَبون بأضعاف ما كانوا يؤدون، ويصور لنا الرجل الذي تُطلَب منه الضريبة وهم يشدونه إلى شجرة أو إلى جذع، ويعذبونه لطمًا ولكمًا، وهو يستغيث ويدعو الخليفة ويدعو العدل، ولا يجيبه إنسان، حتى إذا شق عليه الأمر طلب إلى الذين يعذبونه أن يلتمسوا له المرابين ليقترض منهم. ويأتون له بهؤلاء فيساومونه ويساومهم، وينتهي الأمر بأن يرهن إليهم عقاره ويقدموا إليه ثمنًا بخسًا أو قرضًا يسيرًا، فيأخذه ويدفعه إلى هؤلاء، وحينئذ وحينئذ فقط يرسلونه ويخلون بينه وبين الحياة، انظروا إلى هذه الأبيات:
يصور لنا ابن المعتز هذا كله، ويصوره على أنه كان حياة الناس قبل المعتضد، فلما جاء المعتضد بطش بهؤلاء الظالمين، وما زال ببعضهم حتى قتلهم، وما زال ببعضهم حتى سجنهم، ومازال ببعضهم الآخر حتى كفهم عن الظلم، أكان الأمر كما قال ابن المعتز؟ لا أدري.
وربما كان عصر المعتضد كغيره من العصور التي سبقته، ولكن مما لا شك فيه أن خلافه المعتضد كانت نوعًا من النهضة، بل نوعًا من إحياء الأمل بعد هذه الفترة القصيرة التي قضاها المسلمون عامة بين عهد المتوكل وعهد المعتضد.
ثم إذا أراد ابن المعتز أن يعرض للموضوع الذي طرقه في الكتاب الآخر كان طريفًا حقًّا، وكان منطقيًّا في هذا الكتاب أكثر مما كان في الكتاب السابق، وهذه الأرجوزة ليست مسرفة في الطول، لكنها ليست قصيرة وترتيبها يسير، فابن المعتز يتخيل أن صاحبًا له أنكر عليه شرب الخمر في المساء وقال له: ما لك لا تصطبح؟ وما لك لا تؤثر الصبوح على الغبوق؟ فهو يستطيع أن يظهرك على ما في البساتين من جمال، فيصور جمال الرياض والبساتين تصويرًا هو آية في الإبداع الفني، لا أظن أن أحدًا قد استطاع أن يأتي بمثله في تشبيهاته واختراع المعاني البديعة التي تثيرها هذه الرياض، انظروا إلى هذه الأبيات:
•••
فإذا فرغ هذا الصاحب من وصف الرياض وجمالها وذكر اللذة التي يحسها الشاربون في الصباح، قال ابن المعتز إني لا أريد خلافك، فانا مستعد لأن أصطبح معك، فإذا كان الليل فبت عندي، ثم إذا أصبحنا غدونا على لهونا، فيؤكد له صاحبه أنه سيصطبح معه ويعتذر بأنه لا يستطيع أن يمضي الليل عنده، فهو سيأتي في الصباح، ويمضي ابن المعتز يرقبه هو وأصحابه فيأخذون في شرابهم ولهوهم، فإذا تقدم النهار أتى صاحبنا خزيان من هذا الإبطاء.
انظروا إلى هذه الأبيات:
أما أنا فلا أحب الصبوح، وهنا يذكر لنا الأسباب التي من أجلها يكره الاصطباح، فيقول: إذا كان الشتاء فشرب الخمر مع الفجر يعرض للبرد، وهم محتاجون إلى أن يستدفئوا، ولكن الشرر يتطاير من النار فيحرق ثياب الشاربين، وربما أصاب جلودهم وعيونهم، وربما جاء طارق من أصحاب الفقه والاحتشام فنكره أن يرانا نشرب، فنرفع الكئوس ونقلع عن اللذة ونجالسه، ولعله يطيل، وإذا صرف، فلعل شيئًا مكروهًا أن يصيبهم كأن يأتيهم كتاب فيه ما يكرهون، أما في الليل فهم بمأمن من هذا، فإذا كان الصيف فما يصطبحون حتى يسل الصباح سيوف الحر، فإذا أبدانهم تلهبها هذه النار يبعثها القيظ، وإذا هم يشربون حميمًا، هذا الحر الذي يأتيهم من الخارج إلى الذي يصيبهم من الداخل، وقد يجرعون، فإن أكلوا فهم في حاجة إلى النوم، وإن لم يأكلوا أخذهم الصداع، ودارت الخمر برءوسهم، فعربدوا وأساء بعضهم إلى بعض. انظروا إلى هذه الأبيات:
وهكذا يمضي ابن المعتز فيصف لنا الشارب وقد بلغ به الجهد أقصاه:
كل هذه العيوب هي عيوب الشرب في الصباح، ومهما أقل فلن أبالغ ولن أغلو حين أوصي بقراءة هاتين القصيدتين، لا لأن واحدة منها تذم الصبوح وتحمد الغبوق، ولا لأن الأخرى تتناول حوادث تاريخية قد نجدها في سهولة في الكتب التاريخية، بل لأن في قراءة هذا النوع ما قد يبعث شعراءنا على محاكاة هذا الشعر، وأؤكد لكم أن هذه المحاكاة تعود بشيء كثير على الشعر في هذا العصر، فأجمل ما فيه أنه بريء كل البراءة من التكلف، لم يبحث عن لفظ غريب، ولم يتكلف معنى غريبًا، إنما هو يأخذ الأشياء التي حوله، فيعبر عنها بالألفاظ التي تدور على ألسنة الناس جميعًا.
كل هذا ولم أتحدث إليكم عن ناحيتين قيمتين من شعر ابن المعتز؛ فقد أهملت حياته من حيث هو رجل من العلماء وصاحب سياسة له مذهبه السياسي.
ابن المعتز العالم السياسي
كان ابن المعتز من كبار العلماء في القرن الثالث، والعلماء في الأدب والغناء بنوع خاص، وكتاب ابن المعتز في الغناء من أقوى الكتب، يعتمد عليه صاحب الأغاني ويقرظه، كان له مذهبه في التلحين وجرت بينه وبين العلماء مناظرات في موضوع يُعنَى به المحدثون الآن وهو: هل للموسيقي والمغني أن يعمد إلى لحن قديم فيغير منه بعض التغيير ليلائم بين لحنه وحنجرته؟ بمعنى أن الموصلي يستطيع أو لا يستطيع أن يغير بعض التغير في ألحان معبد والغريض.
وكتب ابن المعتز في الشعر وسرقات الشعراء، وكتابه في البديع مشهور، والمتقدمون يرون أن ابن المعتز هو الذي وضع علم البديع، أما مذهبه السياسي فهو عباسي خالص قوامه مخاصمة العلويين خصومة عنيفة يذهب فيها مذهب مروان بن أبي حفصة، ويحتج بالحجة التي اخترعها مروان في قوله:
وشعره في هذا كثير، كان يقوله كلما ثار العلويون في الأطراف، وما أكثر ما كان يثور العلويون في الأطراف! وكم كنت أحب أن أقف وأطيل الوقوف عند فن الوصف أو عند الشعر السياسي عند ابن المعتز أو عند المذاهب العلمية المختلفة، أو عند حياة ابن المعتز نفسه من حيث هو أمير، ولكني أرجو أن أكون قد أثرت في نفوسكم شيئًا من الشوق والميل إلى قراءته، كما أثرت في نفوسكم شوقًا إلى قراءة الشعراء الذين تحدثت إليكم عنهم، والذين تجدون في دراستهم لذة قيمة تقدرونها يوم تتعمقون درس هؤلاء الشعراء.
أما بعد، أيها السادة، فإني أستأذنكم في أن أشكر أجمل الشكر الجامعة الأمريكية وإياكم؛ لما تفضلت به الجامعة فأتاحت لي هذه الفرصة، وما تفضلتم أنتم به من عطف عليَّ ومواظبة على الاستماع لهذه المحاضرات، وإن كنت قد أثقلت فإني معتذر إليكم، أما أني قصرت كل التقصير فهذا شيء لا أشك فيه ولا أخاف أن يتهمني به إنسان، فأنا أول من يلاحظ هذا التقصير الشديد.