النثر في القرنين الثاني والثالث للهجرة١
بين جوردان وأستاذه
أيها السادة:
فيقول له أستاذه: لك ذلك، هل تريد شعرًا؟ فيقول: كلا … هل تريد نثرًا؟ فيقول: كلا.
فيقول له أستاذه: ومع ذلك فلا بد أن تختار إما شعرًا وإما نثرًا؛ لأن الكلام لا يمكن أن يكون إلا شعرًا أو نثرًا؛ فيقول له صاحبه: وإذن فعندما أطلب إلى خادمي أن يناولني قلنسوتي أو حذائي، فأنا أقول النثر؟ فيقول له: نعم.
فيقول: يا للعجب! إذن فأنا أتكلم النثر منذ أربعين سنة، ولا أدري؟
النثر والنظم وأنصارهما
أخشى أيها السادة أن نكون جميعًا كما كان جوردان هذا، نفهم النثر على نحو ما كان يفهمه جوردان، من أنه كل كلام لم يتقيد بالنظم والوزن والقافية.
وعلى هذا جرى الأدباء ومؤرخو الأدب العربي فقسموا الكلام إلى منظوم ومنثور، وزعموا أن الكلام المنثور هو ما لم يتقيد بالوزن والقافية، وأن المنظوم هو ما تقيد بالوزن والقافية، ونشأ عن هذا أنهم انقسموا إلى قسمين، فأما الشعراء وأنصارهم فزعموا أن الشعر خير من النثر؛ لأن الشعر يكلف صاحبه، عندما يتكلفه: القافية والوزن، ثم مضوا إلى أبعد من هذا، رأوا أن الشعر أفضل من النثر؛ لأنه ديوان العرب، وفيه قُيِّدت مفاخرهم، وإليه يرجع الفضل في تخليد ما لهم من فضائل قديمة.
ثم مضوا إلى أكثر من هذا في أنه أفضل؛ لأن الشعر يلائم الموسيقى، ثم لأنه موضوع الغناء، فهو مصدر اللذة الغنائية والموسيقية معًا.
ولم يقصر أنصار النثر في الاحتجاج لفنهم، فقالوا: لا ننكر ما للشعر من فضل ومزية، ولكن نرى أن النثر أفضل منه؛ لأنه يفي بضروريات الحياة، ولأن الشعر لا يكون إلا فنًّا من فنون اللهو، ورأوا أن النثر لغة السياسة ولغة الدين ولغة العلم، وإذن فقد يكون الشعر ذا مكانة، ولكن النثر أشد مساسًا بحاجات الإنسان، وأشد اتصالًا بما يتجه إليه؛ وإذن فالنثر أفضل من الشعر.
وزادوا على هذا أن الشاعر ينشد واقفًا، على حين أن الناثر يستطيع أن يتكلم واقفًا أو جالسًا.
وعلى هذا النحو لا تكادون تقرءون كتابًا من كتب الأدب الضخمة، حتى تجدوا خلافًا بين الشعراء والكتَّاب، وأنصار الشعراء وأنصار الكتَّاب، ومصدر هذا أن الذين يدرسون الأدب العربي لا يقدرون مكانة الشعر ومكانة النثر من الحياة بقدر ما ينبغي.
الشعر والنثر وأيهما أسبق
فالشعر ضرورة من ضرورات الحياة في طور من أطوارها، فإذا انقضى هذا الطور أصبح الشعر عاجزًا عن أن يقوم بشيء من ذلك، وأصبح النثر خليفته يصور هذه الأشياء الجديدة.
والشعر الذي كان ضرورة أولًا يصبح في الطور الثاني ضربًا من الترف والزينة، والحياة لا تستطيع أن تستغني عن كليهما.
وكذلك عندما نلاحظ تاريخ الأمم التي كانت لها حياة أدبية، وكان لها شعر ونثر، نلاحظ أن حياتها الأدبية قد بدأت شعرًا، وأن الشعر وُجد فيها قبل أن يوجد النثر بزمن طويل، وأنا إذا قلت النثر فلا أعني ذلك النثر الذي يفهمه جوردان، إنما أقصد النثر الذي يفهمه الأديب، فالأمم التي لها أدب، قبل أن تعبر عن عواطفها وميولها بالنثر، عبرت عن لذتها وآلامها بالشعر، وكان الشعر هو لسانها الأدبي، فلمَّا تطورت هذه الأمم، وارتقى عقلها، وتغيرت نظمها السياسية والاجتماعية، واتصلت بغيرها من الشعوب، نشأ عن ذلك أن وُجِدت فيها أفكار وآراء لم توجد عندها من قبل.
واحتاجت أن تنظم هذه الأفكار والآراء، وأن تصورها وتعلنها، فعجز الشعر عن أن يعبر عنها، واضطرت أن تعبر عن هذه الحاجات بأوسع من الشعر فعبرت عنها بالنثر.
لذلك عندما نلاحظ تاريخ الأمم كالأمة اليونانية مثلًا، نراها أولًا شاعرة، تنشئ الشعر قصصيًّا ثم غنائيًّا ثم تمثيليًّا، ولا ينشأ النثر عندها إلا في وقت الاضطراب السياسي، الذي تتغير فيه نظم الحكم والحياة الاجتماعية.
وتشتد الصلة بين اليونان والأمم الشرقية والغربية المختلفة وتنشأ أفكار جديدة، منها السياسي، ومنها الفلسفي، ومنها الديني، هنالك تضطر إلى أن تعبر عن هذا كله، ويعجز الشعر عن أن يسعه، فينشأ النثر، ومثل هذا نجده عند الأمة الرومانية.
العرب قبل الإسلام وبعده
وهذا هو الذي نجده عند الأمة العربية في العصر الأول قبل الإسلام. كانت أمة شعر، لها حياتها الاجتماعية والسياسية الخاصة، تعتمد في هذين النوعين من الحياة على العاطفة والشعور أكثر من اعتمادها على الحكمة والروية، تندفع بحكم هذا الشعور إلى الحرب أو السلم أو الخصومة، أو إلى أي ناحية من نواحي الحياة الجاهلية.
فإذا وصلت من ذلك إلى ما تريد، وتأثرت بهذه المؤثرات نطقت بهذا شعرًا، ولما لم تكن شديدة الاتصال بغيرها من الشعوب، ولم تكن تعرف كثيرًا عما عند هذه الشعوب، ظلت على حالتها هذه.
فلما جاء الإسلام تغيرت الحياة العربية تغيرًا تامًّا: تقوض النظام السياسي، وحل محل النظام القديم نظام جديد، يعتمد على وحدة الأمة العربية وإخضاع الأمم الأجنبية وإدماجها في الإسلام.
ونشأت عن هذه الحياة نظم للحكم لم تكن معروفة من قبل: وجدت الخلافة وتغيرت الحياة الاجتماعية، وتغير نظام الزواج والطلاق، وعلاقة الجماعات.
ثم كانت الفتوح، واتصل العرب بالأمم الأخرى اتصالًا أخذ يشتد ويقوى حتى أصبح اختلاطًا، ثم امتزاجًا، ونشأ عنه أن اطلع العرب على ما كان لهذه الأمم من آراء وأفكار، وديانات وعلوم وفلسفة، وأخذوا منه قليلًا قليلًا بحظوظ تقوى وتضعف، ونشأ عن هذا أن تغيرت حياتهم العقلية والشعورية والعاطفية والاجتماعية.
فبعد أن كانوا في عصرهم الأول متأثرين بالحس والشعور، أخذوا في هذا العصر الجديد يفكرون ويروون، وظهرت أمامهم مسائل ومشكلات جعلتهم يفكرون ويتلمسون الحلول لتلك المسائل المعقدة.
فنشأ عن هذا كله أن تغيرت الحياة، وتغيرت موضوعات التفكير، واستلزم ذلك أن تتغير العبارة التي يعبرون بها عما في أنفسهم، ونشأ لهم لسان جديد لم يكن لهم من قبل، وهو النثر الذي يعبر عن المعاني بدون القيود الشعرية.
العصر الجاهلي والنثر الفني
وإذن فتقسيم الكلام إلى نظم ونثر تقسيم ساذج بسيط يمكن الاعتماد عليه إذا بسطنا الأشياء، ولكنكم تعلمون أن الأديب، والذي يدرس تاريخ الأدب، إنما يُعنى بالكلام عندما يتجاوز هذا النحو من الحديث العادي، وأداء الحاجات العاجلة، إلى التفكير من جهة، والجمال من جهة أخرى.
فالأحاديث العادية، ولغة التخاطب، وهذه العبارات التي يتبادلها الناس، لا تعنينا في درس الأدب العربي وتاريخه؛ إذ إن قيمتها لا تظهر إلا حينما يكون لها حظ خاص من جمال أو لذة فنية خاصة.
والواقع أننا لا نستطيع بحال من الأحوال — مهما نحرص على أن نكون من أنصار العصر الجاهلي وعشاقه — أن نطمئن إلى أن هذا العصر كان له نثر فني، والذي ليس فيه شك أن أَقْدَمَ نصٍّ يمكن أن نطمئن إليه هو القرآن.
القرآن بين النثر والشعر
ولكنكم تعلمون أن القرآن ليس نثرًا، كما أنه ليس شعرًا، إنما هو قرآن ولا يمكن أن يُسمَّى بغير هذا الاسم، ليس شعرًا — وهذا واضح — فهو لم يتقيد بقيود الشعر، وليس نثرًا؛ لأنه مقيد بقيود خاصة به، لا توجد في غيره، وهي هذه القيود التي يتصل بعضها بأواخر الآيات، وبعضها بتلك النغمة الموسيقية الخاصة، فهو ليس شعرًا ولا نثرًا، ولكنه كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، فلسنا نستطيع أن نقول إنه نثر، كما نص هو على أنه ليس شعرًا.
كان وحيدًا في بابه، لم يكن قبله، ولم يكن بعده مثله، ولم يحاول أحد أن يأتي بمثله. وتحدى الناس أن يحاكوه، وأنذرهم أن لن يجدوا إلى ذلك سبيلًا.
وأراح الخطباء والكتاب أنفسهم من هذه المحاولة التي كانت في نفسها مستحيلة، والتي كانت تُعَد مروقًا وخروجًا على الدين.
وأنتم تعلمون أن أهم الأسباب للإنتاج الأدبي إنما هي المحاكاة فإذا قال الشاعر البليغ قصيدة وأعجب الناس بها فمنهم من يرويها ومنهم من لا يكتفي بهذه اللذة، بل يحاول أن يحاكيها ويأتي بأمثالها، وعلى هذا النحو ينتج الشعر، ويكون للشعراء تلاميذ ومقلِّدون.
فمن هذه الناحية نستطيع أن نطمئن إلى أن القرآن لم يجد له مقلدًا ولم يجد له تلميذًا، هو وحيد في بابه لم يسبق ولم يلحق بما يشبهه.
وإذن فمن الحق أن نضع القرآن في مقامه الخاص الذي لا يصح أن يقاس به شيء آخر، وأن نبحث عن النثر العربي.
نثر العصر الجاهلي
وإذن فالعصر الجاهلي لم يكن له نثر بالمعنى الذي حددته، ومع ذلك فقد كان له نثر خاص، لم يصل إلينا لضعف الذاكرة، وخلوه من الوزن.
هذا النثر هو الخطابة، وليس من شك — إذا فهمنا حياة العرب الجاهلية — أن ما كان يقع بينها من خصومات كان يحتاج إلى كلام غير منظوم.
فقد كان الخطباء والمحامون ينطقون بلسان القبائل ويحرصون على أن يعجبوا السامعين لا ليقنعوهم فحسب، بل ليثيروا فيهم لذة فنية، ومتى وُجِدت هذه الفكرة فقد وُجِد الجمال الفني.
والخطباء كانوا يُقنِعون ويُحاجُّون معتمدين في ذلك على خلب السامعين، ولكن هذه الخطابة لم يَرِد إلينا منها شيء نثق به، وربما كان من السهل أن نتصور هذه الخطابة تصورًا مقاربًا ليس دقيقًا عندما نقرأ كتب السير وما فيها من خطابة وأحاديث، كل هذه تعطينا فكرة عن النثر الجاهلي.
النثر في صدر الإسلام
في صدر الإسلام، ما الذي كان يوجد من النثر؟ طبعًا قَوِيَ فنُّ الخطابة لأسباب الحوار ومحاولة الإقناع، سواء كان موضوعه الدين أو السياسة أو الخصومات المختلفة، وبالطبع احتاج المسلمون إلى أن يكتبوا؛ كتب النبي رسائل، وكتب الخلفاء من بعده، ولكن هذه الرسائل التي كانت تُكتَب كانت مختصرة لا يُقصَد منها إلا مجرد الأداء، في غير تفنن أو إثارة لجمال فني خاص.
ومن هنا كانت هذه الرسائل قصيرة، جملها صغيرة توشك أن تكون رموزًا، ليس فيها هذا التفصيل أو المحاولات الفنية التي نجدها عند الشعراء، من حيث الألفاظ.
النثر بعد منتصف القرن الأول
ولكن في منتصف القرن الأول للهجرة كانت الفتوح قد تقدمت كثيرًا، وكان العرب قد بدءوا يتصلون بغيرهم من الأمم، وكانت المشكلات السياسية والاجتماعية قد كثرت حتى هدمت نظام الخلافة وأقامت نظام الملك، وكان هذا كله قد أنشأ الأحزاب السياسية.
إلى جانب هذا التطور نشأت أشياء أخرى من الناحية العقلية: فأسلم كثير من الأمم الأجنبية، وتعلموا العربية ودرسوا الدين الجديد، واختلط العرب بهم وأخذوا نظمهم السياسية والاجتماعية والأدبية، واتصل المسلمون بغيرهم من الجهة الدينية، ونشأت العلاقات بين أنصار الديانات الأخرى وبين المسلمين، وقامت بينهم محاجَّات، وأخذ العرب يتحضرون، أي يقيمون حضارة جديدة على أسس الحضارة القديمة، ومعنى ذلك أن هذا العقل العربي، الذي كان ساذجًا في جاهليته، وجد أمامه في هذا العصر الجديد مشكلات حقيقية، منها ما يمس الدين والحضارة، ومنها ما يمس الحياة المادية والاجتماعية.
ثم وجد أمامه مسائل فلسفية أثارها الفلاسفة مع من اتصل بهم، عندما عرف العرب بقايا فلاسفة للفرس واليونان.
لم يكن بدٌّ للعربي من أن يفكر، ولم يكن له بد من أن يشترك في التعبير عن هذه المسائل بلغته، كما كان غيره من الأمم يعبر عنها بلغته، وكان لا بد له أن يناقش في مسائل السياسة والدين.
ومن أهم الصفات التي تتصف بها الأمم — عندما تبدأ حياة حضرية بعد حياة بدوية — أن تروي قديمها، وأن تظهر لأبنائها ولغيرها من الأمم أنها وإن كانت حديثة عهد بالحضارة، فليست أقل من الأمم الأخرى مجدًا ومكانة.
وإذن، اضطرت العرب أن يكون لها تاريخ؛ إذ لا بد للأمة أن تعبر عن تاريخها، كما عبر الفرس واليونان عن تاريخهم.
ولا يستطيع الشعر بحال أن يعبر عن هذه المعاني الجديدة، وأن يبسط الرأي السياسي، وأن يبسط الرأي الديني والفلسفي، وأن يقص التاريخ قصصًا واسعًا مفصلًا.
ولم يكن بد من الانصراف إلى النثر للمحاورة والمناظرة، ووصف التاريخ والعلوم والتحدث عنها بسهولة، ففي هذا العصر نستطيع أن نقول: إن النثر قد وُجِدت له الأسباب التي مكنته من أن يقوى من جهة، وأن تنشأ له فنون جديدة من جهة أخرى.
أما الذي قوي منه، فالخطابة التي كانت موجودة في الجاهلية، واشتدت أسبابها ودواعيها في الإسلام.
وأما الذي نشأ بعد أن لم يكن فهو هذه الفنون التي تعبر عن هذه المعاني: عن التاريخ والمناظرات العلمية والفلسفية والدينية.
وإذن فالنثر العربي الذي ليس لغة التخاطب، ولا الأحاديث العادية، والذي لا يعبر عن عاطفة أو شعور من حيث هي عاطفة أو شعور، بل من حيث هي صورة عامة يظهر فيها نتيجة التفكير، هذا النثر أثر من آثار الحياة الإسلامية الجديدة، ظهر في الإسلام ولم يكن موجودًا.
هذه الأسباب التي دعت إلى وجوده أسباب طبيعية؛ لأن أمة لم تكن أعارت العرب النثر، بل هي الظروف التي أوجدته، وهو فن دعت إليه حاجة الحياة العربية؛ ولذلك يجب أن ننزع من نفوسنا أن العرب استعارت النثر من غيرها من الأمم.
أثر الفرس واليونان في النثر العربي
فالذين يزعمون أن الأمة العربية قد أخذت نثرها عن الفرس أو اليونان مسرفون، وليس معنى هذا أن النثر نشأ بعيدًا عن هؤلاء، بل كان عربي النشأة، ولكنه تأثر بهؤلاء، وتطور بفضل اتصال العرب بتلك الأمم.
أسلمت هذه الأمم الأجنبية، وتعلم كثيرون اللغة العربية وكتبوا بها فلا نستطيع أن نقول إن هؤلاء في كتابتهم العربية قد تجردوا من وطنيتهم، وإنما الذي يمكن أن يقال: إنه عندما تعلم هذا اليوناني أو الفارسي العربية أدخل فيها ما ورثه عن قوميته، كما أنه تأثر بما فيها من ثقافة عربية خالصة، فهو تعلم اللغة بكل ما فيها فتأثر به وأضافه إلى تراثه الوطني فنشأ عنهما مزاج لا نستطيع أن نقول عنه إنه عربي خالص، أو فارسي خالص، أو يوناني خالص.
أي العنصرين كان أقوى تأثيرًا في النثر، الفرس أم اليونان؟
أكثر المستشرقين يميلون إلى أن تأثير الفرس أقوى من تأثير اليونان ودليلهم واضح، فأكثر الذين كتبوا نثرًا في الإسلام، سواء في عصر الأمويين أو في عصر العباسيين، من الموالي، وهؤلاء من الفرس.
وإذن فيجب أن يكون هؤلاء قد أثروا في النثر بثقافتهم الفارسية، وكيف نستطيع أن نشك في هذا وزعيم الكتاب «ابن المقفع» فارسي؟
ولكنَّ هناك قومًا آخرين — وأنا من هؤلاء — يفكرون في أن التأثير اليوناني أقوى من التأثير الفارسي، برغم أن كثرة الكتاب من الفرس.
وذلك لأن الثقافة اليونانية كانت قديمة العهد في هذه البلاد منذ أيام الإسكندر، في القرن الثالث قبل الميلاد.
ولم ينتهِ القرن الثاني قبل الميلاد حتى كانت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية للشرق الأدنى، ولم يكد يتقدم التاريخ المسيحي حتى كانت كل بلاد الشرق الأدنى في مصر وسوريا والعراق قد انبثت فيها مدارس يونانية، تعلم الفلسفة والأدب وعلوم اليونان.
وعندما جاء الإسلام، وخرج العرب فاتحين، صادفوا تلك البلاد، وقد انبثت فيها هذه المدارس اليونانية، وقد تركت هذه المدارس في عقول المصريين والشاميين والجزريين آثارًا لا يمكن أن تُمحَى إلا مع الزمن.
هذه الثقافة اليونانية، التي استمرت في الشرق تسعة قرون، لم يقف أمرها على الشام والعراق والجزيرة ومصر، بل هجمت على البلاد الفارسية نفسها منذ عهد البطالسة في مصر والسلوقيين في آسيا، وأخذت الثقافة اليونانية تنبث في الفرس حتى وصلت إلى أقصى الشرق.
وفي عهد الإمبراطورية الرومانية اشتدت الصلة بين اليونان والفرس، وتعمقت الثقافة اليونانية في بلاد الفرس.
وفي أواخر هذا العصر، قبيل ظهور الإسلام — عندما ظهرت المسيحية وأصبحت الديانة الرسمية، وأُغلِقت المعابد الوثنية — هاجرت الثقافة اليونانية إلى بلاد الفرس، فوجدت منها حماية ونصرًا، ولقيت من ملوك الفرس كل تعضيد.
هذا العقل الفارسي كان شديد التأثر بالثقافة اليونانية إلى حد أن «ابن المقفع» زعيم كتَّاب الفرس والعرب كان عظيم الحظ من الثقافة اليونانية، حتى قيل إنه ترجم آثار اليونان.
ونحن نعلم أن لليونان أدبًا فيه شعر وفيه نثر، وأن أدب هؤلاء اليونان كان يُدرَّس في الإسكندرية وغزة والرها وأنطاكية، وكان الذين يختلفون إلى هذه المدارس يونانيين وآراميين وساميين ومصريين وفرسًا، وكل هذا قبل أن تستقر الثقافة اليونانية في فارس.
ونعلم أن الثقافة الفارسية محدودة، فإذا كان يُرى أن قد كان للفرس أدب، فالواقع أن هذا الأدب في عصر اتصال الفرس بالعرب لم يكن عظيم الخطر والذي تُرجِم إلى الآداب العربية من الفارسية قليل مع كثرة ما تُرجِم من الآداب اليونانية.
هذه الآداب الفارسية لم تكن في حقيقة الأمر عظيمة الخطر، وهي تنحصر في: كتاب كليلة ودمنة، وكتاب الأدب الكبير، وكتاب الأدب الصغير، والحكم التي يشتمل عليها شعر بعض الشعراء كأبي العتاهية، وبعض الكتب السياسية.
هذا هو كل ما يمكن أن يقال إنه أدب فارسي وصل إلى العرب في القرنين الثاني والثالث، بينما وصل إلى العرب عن اليونان: الفلسفة، ونظم مختلفة في التفكير، سترون أثرها في النحو والبيان وغيرهما من الفنون.
فإذا أردت أن أقول بصراحة: ما الذي استفاده العرب والفرس، الواحدة من الأخرى؟ فرأيي أن الفرس أخذوا من العرب أكثر مما أعطوهم.
وحسبنا أن نعلم أن الأدب الفارسي الحي إنما نشأ بعد أن اتصل الفرس بالعرب وبعد أن تعلموا العربية.
ولم يُعطِ الفرس النثر العربي من التأثير بمقدار ما يتصوره المستشرقون، وما كان يراه الشعوبية من الفرس الذين قالوا: إن العرب مدينة للفرس بكل شيء.
ومن غير شك أن العرب مدينون للفرس بالكثير من الماديات، والنظم السياسية وغيرها، وأما في الأدب فأنا مقتصد جدًّا في تقدير هذا الدَّيْن، وفي رأيي أن العرب مدينة في أدبها للأمة اليونانية بشيء غير قليل.
هذا إلى أن أكثر الكُتَّاب الذين بدءوا يكتبون النثر ليس من الحق أنهم كانوا جميعًا من الفرس، وربما كان من الموثوق به أن كثيرين كانوا من الشام والجزيرة ومصر، فهم إما يونانيون أو ساميون، ثقافتهم يونانية، فليس صحيحًا أن أكثر الذين كتبوا كانوا فرسًا، وليس من شك أن التأثير اليوناني أقوى من التأثير الفارسي.
النثر العربي الذي لم يتأثر بالفارسية أو اليونانية
هذا النثر العربي، نحب أن نتصور كيف ومتى تطور أو اتصل بهذه الثقافات الأجنبية؟
وأحب أن أسأل: أليس يوجد نثر عربي غير الخطابة لم يتأثر بالفارسية أو اليونانية؟
فإذا استطعنا أن نظفر بهذا النثر، كان من السهل أن نرى الفرق بينه وبين النثر الذي تأثر بالثقافات الأجنبية.
ووجود هذا النثر ليس بالشيء الصعب، ويكفي أن نقرأ النقائض، فسنجد فيها إشارة إلى أيام العرب، يضطر المفسرون والشراح إلى تفسيرها، وأن يقصوا علينا أخبار هذه الأيام التي كان العرب يقولون إنها وقعت بسبب داحس والغبراء، وفي حرب البسوس، وفي يوم الكلاب، وما كان بين عامر وتميم، وأيام الفجار وغيرها.
كل هذه القصص كانت تروى وتحكى في مدينتي البصرة والكوفة، عندما استقر العرب في هذين المصرين، وكان الذين يتحدثون بها إلى الناس هم الأعراب.
والذي يظهر في هذه القصص ليست العقلية الفارسية ولا اليونانية، بل العقلية العربية التي تريد أن تثبت للنابهين من القبائل أعظم حظ من الشجاعة في هذه القصص، التي تقص أيام العرب، ومغازي النبي وأوائل الفتح الإسلامي، والفتن الإسلامية أيام عثمان.
هذه هي القصص العربية الخالصة التي ترى فيها النثر العربي الخالص، فإذا استطعنا أن نجد هذا النثر كان من السهل علينا أن نقارن بينه وبين نثر الكُتَّاب الذين ظهروا في القرنين الثاني والثالث، وهم المتصلون بهذا المزاج من الثقافة اليونانية والفارسية.
بين النثر القديم الخالص والنثر المحدث
وأظن أن المقارنة بين هذا النثر العربي ونثر الكتَّاب المحدثين تهدينا إلى التأثيرات المختلفة، التي أحدثتها الثقافات المختلفة في النثر العربي.
وربما استطاع مؤرخ الأدب العربي، إذا درس ما للثقافة الفارسية من التأثير وما للثقافة اليونانية من التأثير، أن يستخلص الآثار التي يمكن أن تضاف إلى هذه الثقافة أو تلك.
ليس هذا مستحيلًا، بل هو يسير، فربما كان من السهل أن نقول إن هذا الكاتب بعينه أشد تأثرًا بالفارسية، وذلك أشد تأثرًا باليونانية.
فنحن عندما نقارن بين كتابة الكتاب من الموالي الذين كانوا من أصل سرياني أو مصري، والذين تأثروا بالثقافة اليونانية، وبين الذين كانوا من أصل فارسي، أزعم أننا عندما نقارن بينهم سنتبين الطابع اليوناني من الطابع الفارسي.
أكانت ترجمته حرفية يغلب عليها الطابع الفارسي، أم كانت واسعة يغلب عليها الطابع العربي؟
وأظهر الأستاذ أسفه وقال: «إن الجواب على هذا السؤال ليس ميسورًا الآن؛ لأن الذين يستطيعون الرد على هذا السؤال، هم الذين أتقنوا العربية والفهلوية، ومن سوء الحظ أن الأصول التي ترجم عنها ابن المقفع قد ضاعت.»
ومع هذا فأنا أستطيع أن أقول إن الجواب على سؤال الأستاذ مارسيه ليس عسيرًا، وإن لم نعرف الأصول، ونستطيع أن نجد الجواب في الأدب الصغير والأدب الكبير.
عندما تقرءون كتابة ابن المقفع تجدون فيها شيئًا من الالتواء والدوران، ونحس ونحن نقرأ أن الكاتب يجد مشقة في التعبير عن المعاني التي يحسها، ونحس هذا الضعف الذي يكلفه الكاتب للعربية، نحسه لا بعقولنا فحسب بل بآذاننا، فنجد ابن المقفع يكلف النحو العربي تكاليف، ربما لم يكن النحو العربي مستعدًّا لأن يحتملها.
وابن المقفع، مع أنه زعيم الكتَّاب وصاحب الآيات، وواضع المثل الأعلى للكتابة — لم يكن عظيم الحظ من الفصاحة والنحو العربي، والمقارنة بينه وبين ما كتب أصحاب النحو وغيرهم تظهركم على أنه لم يكن أكثر من مستشرق يحسن اللغة العربية والفارسية، ويبذل جهدًا عظيمًا؛ فيُوفَّق كثيرًا ويخطئ أحيانًا.