النثر في القرنين الثاني والثالث للهجرة١
الحياة في مستهل القرن الثاني
أيها السادة:
عندما انتهى القرن الأول للهجرة كان فحول الشعراء في العصر الأموي قد أتعبوا أهل العراق والشام بهديرهم الذي لا ينقضي، وبما كان بينهم من المناقضة والهجاء، الذي تناول الأعراض والأخلاق، وتناول فنون الحياة العربية بضروب من القذف والإقذاع.
وكان أهل الخير بالعراق والشام قد سئموا هذا الشعر وملُّوه، وكان حالهم في ذلك كحالنا نحن عندما نقرأ شعر الفرزدق وجرير والأخطل، لا نكاد نمضي فيه ساعة حتى يأخذ منا الملل والسأم الذي لا حد له.
وكان غَزِلو أهل الحجاز قد أصابوا النفوس بشيء من الملل غير قليل؛ لكثرة ما رددوا من النغمات الفاترة التي توهن العزائم، وكان الناس في الشام والعراق والحجاز يشتاقون إلى شيء جديد يلهيهم عن الشعر القديم.
وكانت الثورات والفتن التي اتصلت في أول الإسلام وهدأت أيام معاوية، ثم عادت فاستؤنفت أيام يزيد، ثم هدأت أيام عبد الملك بن مروان، كانت هذه الثورات قد كسرت من حدة الشباب العربي، وبعثت في النفس العربية ميلًا ظاهرًا إلى الأناة والتفكير، وكانت كل هذه الظواهر قد مهدت لنضج العقل العربي وحملته على أن يروى في نفسه ويفكر فيما كان من الإسلام والفتوح والثورات.
وهذا النوع من التفكير دعاه إلى أن يستحدث نوعين من الحياة العقلية، كانا أول ظهور النثر: أحدهما التاريخ والآخر الفلسفة، ونحن عندما ندرس تاريخ الأدب العربي في القرن الثاني نجد أن العراق قد شهد نشأة هذين الفنين.
ففي أول القرن الثاني عُرِفت المجالس القصصية التي كان يجلس فيها القصاص في البصرة، يحدثون الناس عن العرب في الجاهلية، وغزوات النبي وفتوح المسلمين.
وفي هذا الوقت نفسه حين كان القُصاص يتحدثون إلى الناس، كان المتكلمون والفلاسفة ورؤساء الفرق السياسية يتناظرون ويتجادلون في الكوفة ومسجد البصرة، يؤيد كل منهم مذهبه السياسي باللسان بعد أن كان يؤيده بالسيف.
وكان الذي يقصه المؤرخون والذي يعلنه المتكلمون يدعو الناس إلى شيء كثير من التفكير والاعتبار والعظة، وفي أثناء هذا كان رجال الدين يحدثون أنفسهم بتدوين ما حفظوه من الحديث وتفسير القرآن والفتيا والأحكام الفقهية المختلفة.
نشأة النثر الفني
فأول القرن الثاني للهجرة هو الذي شهد ظهور الحياة العقلية، وهو الذي شهد مظهر هذه الحياة العربية، وهو نشأة النثر الفني، وبينما نلاحظ أن هذا النثر أخذ يقوى شيئًا فشيئًا، نلاحظ أن الشعر أخذ يضعف قليلًا قليلًا. فأما الأخطل فقد توفي في آخر القرن الأول، وأما جرير والفرزدق فقد أدركتهما الشيخوخة، وأخذ كل منهما يقول لصاحبه، بالضبط في أول القرن الثاني وفي أيام هشام بن عبد الملك، ما كان يقوله له سنة ٦٧ﻫ، وفي أوائل خلافة مروان.
والناس يسمعون للفرزدق وجرير مع شيء من الرضا والتغاضي والإذعان، ولكنهم ينصرفون إلى غير الشعراء من هؤلاء الذين أخذوا يجلسون في المساجد يتحدثون إليهم في التاريخ، ويتحدثون إليهم في النحو، ويتحدثون إليهم في العلوم الدينية.
وفي هذا الوقت نفسه أخذت تظهر الظواهر الجديدة التي تدل على أن العرب اتصلوا بالأمم الأخرى، وعرفوا أن لها علومًا خليقة أن تُعرف وتُترجَم.
فيحدثنا المؤرخون أن عمر بن عبد العزيز تقدم إلى بعض الروم الذين كانوا في قصره والذين تعلموا العربية؛ ليترجموا له شيئًا من كتب اليونان، فترجموا له كتابًا في الطب ثم وضعه في المصلى، واستخار الله أربعين يومًا إلى أن أخرجه للناس.
وهم يتحدثون أن عمر بن عبد العزيز تقدم إلى ابن جُريج في أن يدوِّن من حديث النبي شيئًا، فدوَّن كتابًا من حديث النبي، وأذاعه عمر بن عبد العزيز على الناس.
هذا يدلنا على أن النثر وُجد في هذا العصر بألوانه المختلفة، وُجد نثر عربي خالص في التاريخ، وفي مناقشة الفرق المتكلمة، ووُجد نثر عربي خالص في الدين، ثم وجد نثر عربي تشوبه الثقافة الأجنبية، في هذه الكتب التي طلب العرب إلى الروم أو الموالي نقلها إلى العربية.
وفي أثناء هذا كانت هناك ناحية أخرى أخذت العربية تبسط فيها اللغة، وهي ناحية اللغة الإدارية أو الدواوين، وكانت الدواوين تُدوَّن بالرومية في الشام ومصر، وبالفارسية في العراق وخراسان.
وكان الذين يقومون على الدواوين موالي، إما من أهل الشام النصارى الذين ينتمون إلى أصل سامي، أو من الروم الذين استعربوا وأتقنوا العربية، وكثير منهم لم يكن يستعرب ولم يكن يحسن أداء العربية.
وكان زعيم الكتَّاب الذين يشرفون على مالية الدولة رجل يقال له سرجون الرومي، ظلت زعامة الأمور المالية إليه وإلى أسرته، حتى أيام هشام بن عبد الملك.
وكان الذين يعملون معه إما من الروم، أو من نصارى الشام الذين استوطنوا الشام من عهد بعيد، وتعلموا من أهل الشام أو الروم علومهم وفنونهم الإدارية.
وفي العراق كان الذين يقومون على دواوين الأمراء إما من الفرس أو الموالي الذين استعربوا.
نقل الديوان إلى العربية
ويختلف المؤرخون في زمن نقل الديوان إلى العربية، فمنهم من يزعم أن هذا كان في أيام عبد الملك، ومنهم من يقول إن هذا لم يكن إلا أيام هشام بن عبد الملك.
أما نقل الديوان في العراق فقد تم أيام الحجاج، وأما نقل الديوان في خراسان فهذا لم يتم إلا في ولاية نصر بن سَيَّار.
والذين يدرسون تاريخ الأدب العربي لا يفرقون بين كتابة الدواوين وبين كتابة الرسائل، وكانوا يتخذون كتابة الدواوين نموذجًا للكتابة العربية، وربما كان في هذا شيء غير قليل من الخطأ؛ فكتابة الدواوين كانت ضروبًا من الحساب، وهي بكتابة حساب المال أشبه.
وأما الرسائل التي كانت تصدر عن الخلفاء والأمراء، فقد كانت في أول أمرها يسيرة سهلة لا تكلُّف فيها، إنما كانت ممثلة للطبيعة البدوية العادية، ولم تظهر الرسائل الفنية، التي تأنق أهلها فيها واتخذوها موضوعًا للعناية الفنية في هذا العصر، إلا في آخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني.
وربما كان عصر هشام هو العصر الذي عُنِي فيه بهذه الرسائل العناية الفنية.
فنحن في آخر العهد الأموي نشهد فنونًا منظمًة من النثر العلمي، الذي يتناول التاريخ والفلسفة والسياسة وعلوم الدين، ونشهد نثرًا أدبيًّا سياسيًّا موضوعه هذه الرسائل التي كانت تصدر من الخلفاء والأمراء في المسائل السياسية المختلفة، ولم يكد النثر أيام بني أمية يتجاوز هذا النحو من التبسط، إلى أن كانت الدولة العباسية في أواسط القرن الثاني.
النثر مع الدولة العباسية
عندما قامت الدولة العباسية امتد سلطان النثر شيئًا فشيئًا، واتسعت موضوعاته إلى أكثر مما كانت عليه في آخر العصر الأموي. وكان من أسباب هذا اشتداد الاتصال بين العرب والفرس وغيرهم من الموالي في الشام والجزيرة والعراق، ومن أهم هذه الأسباب تسلط الفرس والموالي، ووصول الأمة العربية الإسلامية إلى طور التسوية بين العرب وغيرهم من الموالي في الحقوق.
وفي هذا الوقت استطاع غير العرب أن يصلوا إلى المناصب المختلفة للدولة السياسية والعسكرية والإدارية، واتسعت أمام العقول الأجنبية، من الساميين في الشام والجزيرة، ميادين التفكير والتعبير عن آرائهم وخواطرهم، فنتج عن هذا أن غَنيت اللغة العربية بآراء ومذاهب ما كانت تنتج لو استمرت سياسة بني أمية الذين حصروا كل شيء في العرب.
أخذنا نشهد في أيام العباسيين ظاهرة لم يعرفها الأمويون، وهي سمو الموالي إلى الوزارة والمناصب الكبرى في الجيش والولايات أيضًا، وأخذ هؤلاء الوزراء ينظمون الدولة ويسيطرون على الخلفاء ويُسيِّرون الأمور بما ورثوا عن جنسياتهم المختلفة: يونانية أو آرامية أو فارسية، وأخذوا عندما يصدرون عن الخلفاء الكتب والرسائل، يصدرونها ممثلة لهذه الجنسيات المختلفة، ممازجة بينها وبين العربية التي ورثتها اللغة من الدين والعادات القديمة، فتغيرت اللغة وتغير النثر تغيرًا واضحًا جدًّا، نراه في الكتب التي كانت تصدر عن أبي العباس السفاح والمنصور والمهدي.
وفي العصر العباسي عندما تسلط الأجانب، وتحققت المساواة بينهم وبين العرب، وأصبح سلطانهم قويًّا، أحس هؤلاء الأجانب في أنفسهم قوة ساعدتهم على أن يمكنوا لثقافتهم الأجنبية، كما مكنوا لأنفسهم من المساواة بالعرب الْخُلَّص، فظهرت فكرة الإكثار من الترجمة والعناية بالثقافات اليونانية والفارسية، ورأينا الوزراء ومن يتصل بهم ينقلون إلى العربية ما كان عند الفرس واليونان والسريان من علوم.
كل هذه الحركات التي دعت إلى ترجمة الثقافات الأجنبية، كان من طبيعتها أن تزيد من ثروة اللغة العربية، ولكن كان من طبيعتها أيضًا أن تكلفها مشقة لم تكن تحتملها من قبل.
أخذت في العصر الأموي تعبر عن القصص، والقصص سهل يحتمل فيه التجوز والإهمال؛ وتعبر عن المعاني السياسية والمناظرات بين الفرق والأحزاب.
وفي المناظرات متسع للتهاون وللتبسط في القول. فأما عندما تتكلف اللغة التعبير عن الفلسفة والعلوم الدقيقة، فالتجوز والتساهل والاتساع ليس من الأشياء التي تحتمل، بل من الأشياء التي تجد فيها اللغة كثيرًا من المشقة.
لم تسهل اللغة، ولم تسمح في أول الأمر باستيعاب هذه المعاني الأجنبية التي كانت تتسع لها اللغات الأجنبية من القرن السادس قبل المسيح إلى ما بعد القرن السابع بعد المسيح، فاضطر المترجمون أن يتكلفوا ضروبًا من التكلف والاعوجاج، وإلى أن يفسدوا تركيب الجمل بإفساد الضمائر، وإلى أن يكثروا من التقديم والتأخير والإيجاز والحذف، وإلى أن يطنبوا فيكون إطنابهم مملًّا ثقيلًا، كل هذا تجدونه في كتابة ابن المقفع.
نشأة النثر العربي والنثرين اليوناني والفرنسي
أريد أن ألفتكم إلى أن نشأة النثر على هذا النحو الذي قدمته ملائمة كل الملاءمة، ومطابقة كل المطابقة لما نألفه في نشأة النثر الذي كان عند الأمم التي كان لها أدب راقٍ، ولست أضرب لذلك إلا مثلين: قبل أن توجد الآداب العربية، وقبل أن يوجد الشعر العربي، وجدت الآداب اليونانية، وكانت نشأة النثر اليوناني ملائمة للنحو الذي رأيناه، فأول ما ظهر النثر اليوناني في القرن السادس قبل الميلاد، عندما سئم اليونان شعر الشعراء وقصص القصاص، أخذ اليونان يستعرضون نوعًا جديدًا من القصص لا يتقيد بوزن ولا قافية فنشأ النثر اليوناني، وأخذ المؤرخون يحاولون كتابة التاريخ، لا في شعر كما كان في أيام «إيسيدوس»، وأخذ الفلاسفة يفكرون فنشأت الفلسفة اليونانية، وكان القرن السادس قبل المسيح مصدر هذه النشأة، حتى إذا كان القرن الخامس قبل الميلاد أخذ النثر يقوى ويشتد ويتناول فنونًا غير القصص والتاريخ.
بعد الأمة العربية بقرون، كانت الآداب الفرنسية في القرون الوسطى شعرًا كلها: قصصيًّا ثم غنائيًّا، حتى كانت الحروب الصليبية واتصل الفرنسيون بالشرق، فلمَّا عادوا إلى بلادهم، وأخذوا يحدثون أهلهم عن هذه الرحلات، ظهر النثر الفرنسي، فكُتب التاريخ، واتصل الفرنسيون بالعرب في الشرق والأندلس، ووصلت إليهم الفلسفة الإسلامية فأنشأ وصولها إليهم حركة فكرية جعلت لهم فلسفة يدرسونها ويدافعون عنها، وكان هذا مظهرًا آخر من مظاهر النثر عند الفرنسيين، فترون أن نشأة النثر العربي لم تكن بدعًا في الأمم.
ابن المقفع وعبد الحميد
في هذا العصر الذي أحدثكم عنه — القرن الثاني للهجرة — ظهر كاتبان يعتقد العرب والمستشرقون أنهما هما اللذان أسسا النثر العربي، وفي هذا كثير من المبالغة، فلم يؤسس النثر العربي كاتب بعينه، وإنما نشأ نشأة طبيعية ملائمة للشعب العربي الإسلامي.
وإنما الكاتبان امتازا امتيازًا ظاهرًا في هذا العصر حتى أصبحا رمزًا لهذا النثر الذي ليس هو لغة التخاطب، ولا اللغة العلمية الطبيعية، ولا اللغة الفلسفية، ولا التاريخية، ولكنه نثر فيه شيء من الفن، وفيه ميل إلى إحداث اللذة عند القارئ فوق العناية بتأدية الفكرة.
هذان الكاتبان هما «ابن المقفع» و«عبد الحميد بن يحيى»، وقراءتنا لابن المقفع ولعبد الحميد تحقق في أنفسنا فكرة أحب أن تلتفتوا إليها.
نحن تعودنا تقسيم الكلام إلى منظوم ومنثور، وعندما نقرأ نثر عبد الحميد ونثر ابن المقفع تُلهمنا هذه القراءة فكرة جديدة، فتقسيم الكلام إلى منثور ومنظوم لا يغني كثيرًا من الناحية الأدبية.
ذلك أننا، عندما نقرأ عبد الحميد وابن المقفع، نجد في أنفسنا من اللذة مثل ما نجده عندما نقرأ زيادًا والحجاج وجريرًا والفرزدق والأخطل.
ومع ذلك فنحن عندما نقرأ عبد الحميد لا نسمعه ولا نراه، ولا نكوِّن لأنفسنا فكرة عنه، وإنما نفكر في شيء واحد، هو هذا الكلام الذي عندنا، ولا نسمع أنفسنا، بل يقرأ القارئ بعينه، وقلما يقرأ القارئ بصوته، وخصوصًا في هذا العصر.
ونحن عندما نقرأ عبد الحميد أو ابن المقفع، لا نجد عندهما اللذة الفنية، إذا كنا في طبقة واحدة، أو اشتركنا في ثقافة واحدة.
وإنما يقرؤهما منا ذوو الثقافة العالية والساذجة والمتوسطة والبسيطة، وكلنا يجد لذة ومتعة فنية.
بينما تختلف لذتنا في قراءة الشعر باختلاف حظوظنا من الثقافة، فليس كل الناس يقرأ جريرًا والفرزدق، أو يتذوق زيادًا والحجاج.
أقسام الكلام الثلاثة
فترون إذن أن الكلام يمكن أن يُقسَّم إلى ثلاثة أقسام: أولها: كلام يعتمد على الوزن والقافية والموسيقى، وما يتصل بها من طرق الإنشاء وهو الشعر، لا نجد فيه اللذة لمجرد القراءة بالعين، وإنما نلذ إذا سمعنا له ووعينا موسيقاه.
وكلام آخر: تتحقق فيه اللذة الفنية عندما نسمعه من صاحبه، وعندما نشهد هذه الحركات والصور، التي يأتيها المتكلم عندما يخطب خطيب الجمهور، وهو الخطابة.
فالخطابة تلذنا عندما نسمع صوت الخطيب والتشكيلات المختلفة التي يشكل بها هذا الصوت، ونرى هذه الحركات المتباينة التي يتحركها الخطيب، مرة بيده ومرة بجسمه، كل هذه تصحب الكلام فتقوي لذته الفنية بحيث لا تكون اللذة واحدة إذا سمعنا الخطيب أو قرأناه.
ونحن نعلم أن من أشهر خطباء الثورة الفرنسية من كان يلهب الجمهور بخطبه التي ربما كان السخف فيها أكثر من الكلام الممتع.
ونوع ثالث: نجد اللذة فيه؛ لأننا نقرؤه، لا لأننا نجد فيه وزنًا ولا قافية، ولا لأننا نسمعه من صاحبه ونرى الحركات التي يشكل بها جسمه، ولا لأننا نكوِّن لأنفسنا فكرة عن صاحبه وهو «النثر الفني» أو «الكتابة».
وتتجلى لنا هذه الفكرة عندما نقرأ ما كتب عبد الحميد أو ابن المقفع.
وحينئذ فتقسيم الكلام إلى شعر ونثر ليس يكفي بل يجب أن يُقسَّم الكلام إلى شعر وخطابة وكتابة، وهي التي تعودنا أن نعبر عنها أحيانًا بالنثر الفني في الكتب والرسائل، وربما كان من الحق أن أول من أحدث في نفوسنا لذة الكتابة الفنية في العصر الإسلامي في القرن الثاني للهجرة هو عبد الحميد وابن المقفع.
عود إلى عبد الحميد
أما عبد الحميد فيقال إنه كان في أول عهده معلمًا في الكتاتيب، ينتقل في الأمصار ليعلم الأطفال، وليست جنسيته معروفة بالدقة، وكل ما نعرفه أنه كان مولى لقريش، وأنه من أهل الجزيرة، وكان كاتبًا في ديوان هشام بن عبد الملك، واتصل بمروان بن محمد، ولزمه أيام كان واليًا، وانتقل معه إلى دمشق عندما تولى الخلافة، وظل معه إلى أن قُتِل، ويُقال إن عبد الحميد قُتِل معه.
ويختلف الناس في أن عبد الحميد فارسي الأصل أو من جنسية أخرى، ويقول أبو هلال إنه كان يحسن الفارسية.
وعندما أقرأ عبد الحميد وابن المقفع، الذي لا خلاف في أنه كان فارسيًّا، وأقارن بينهما، أرجح أن عبد الحميد كان شديد الاتصال بالثقافة اليونانية، وربما كان عالمًا بلغتها.
ولم يبقَ لنا من عبد الحميد إلا كتاب كتبه عن مروان بن محمد إلى ابنه ولي العهد، عندما وجهه لقتال الخوارج، وكتاب صدر عن مروان بن محمد إلى عمَّاله بالأمصار، يأمرهم بمحاربة لعب الشطرنج؛ لأنه كان قد انتشر فخاف منه على الدين، وكتاب آخر كتبه عبد الحميد إلى الكتاب يوصيهم بطائفة من الوصايا، يوصيهم بأخلاق الكتاب وما يجب عليهم، وكان هذا الكتاب قد صدر من عبد الحميد كمنشور لرجال الديوان.
من رسالة لعبد الحميد إلى ولي العهد
صلة عبد الحميد باليونان
استعمال الحال على هذا النحو من خصائص اللغة اليونانية، ومن الأسباب التي يعتمد عليها اليونان في تحديد معانيهم، وكنت أود لو استطعت أن أعرض عليكم نماذج من النثر اليوناني، ولكن الأمر أيسر من هذا، فيكفي أن تقرءوا كتابًا فرنسيًّا متأثرًا باليونانية، حتى كانت كتابته أشبه بترجمة يونانية، وهو أناتول فرانس، ذلك مع أنه أكبر الكتاب الفرنسيين، وأناتول فرانس يستعمل الحال استعمالًا كثيرًا جدًّا ليدقق في معانيه ويوضحها، ويعطيها الصفات التي يحتاج إليها ولتجميل كلامه أيضًا، وكل ما بين أناتول فرانس واليونان، أن أناتول فرانس لم يتأثر باليونانية وحدها، بل باللاتينية أيضًا، فهو يستعمل الحال مثلهم، غير أنه كان يقدمها أحيانًا ويؤخرها أحيانًا على نحو ما كان اللاتينيون يفعلون.
هذه الظاهرة عند عبد الحميد تقوي عندي أنه كان شديد الاتصال باليونانية؛ ذلك لأن مدارس الأدب اليوناني كانت منبثة في الشرق كله، في الإسكندرية وغزة وأنطاكية والشام والجزيرة، وظلت كذلك حتى العصر العباسي، ولكنها انحصرت في الأديرة، حتى ذهب أمرها في القرنين الثالث والرابع للهجرة.
تلخيص رسالته إلى ولي العهد
فليس غريبًا أن يكون عبد الحميد قد اتصل باليونان في مدارسهم بالجزيرة والشام، وتعلم اليونانية وأحسنها، يقوي هذا في نفسي الرسالة التي كتبها إلى ولي العهد، والتي تتناول معاني يظهر فيها تأثير الثقافة اليونانية، والرسالة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: نصح من الخليفة لابنه يمس أخلاقه وسيرته الخاصة، والعلاقة التي يجب أن تكون بينه وبين جلسائه من القواد والموظفين، والأخلاق التي ينصح بها عبد الحميد أخلاق ممتزجة، فيها أخلاق عربية ظاهر منها تأثير الإسلام، وفيها أخلاق يظهر أنها من نتائج بحث فلاسفة اليونان في العصور المتأخرة أيام الإسكندريين.
ثم إذا فرغ من هذا القسم انتقل إلى نصيحة ولي العهد فيما ينبغي أن يتخذه في تنظيم الجيش ومحاربة العدو، وهو أشبه برسالة في فن الحرب وتنظيم الجيش، وهذا النحو من الرسائل كان شائعًا في هذا العصر اليوناني الروماني، وبعضه تُرجِم للعرب.
ونحن نعلم أن الوحدات التي كان يتكون منها الجيش البيزنطي كانت وحدتين: اللجيو، ويتكون من ستة آلاف رجل، ثم السنتريو، وعدده مائة رجل، ورئيس المائة هو السنتريون.
فنظام الجيش هذا ما أشك في أنه متأثر فيه برسائل الحرب عند اليونان، ثم رؤية الجيوش اليونانية التي كان العرب يحاربونها دائمًا ولا سيما أيام مروان.
من خصائص النثر عند عبد الحميد
ومن خصائص عبد الحميد أنه يقسم كلامه إلى فصول، فكل رسالة من رسائله تنقسم إلى أجزاء، يؤدي في كل جزء فكرة ومعنى، وهو لا ينتقل من فكرة إلى فكرة إلا إذا استطاع أن يستريح ويتنفس.
فأنتم إذا قرأتم فقرة يمكنكم أن تقفوا وتستريحوا عند آخرها، وأن تطووا الكتاب يومًا أو أكثر، ثم تعودوا إلى القراءة، دون أن تشعروا بانقطاع في المعنى.
هذا النوع من تقسيم الكلام نوع يوناني أيضًا، من خصائص النثر اليوناني القديم.
لا أريد أن أطيل في الكلام عن عبد الحميد، فأنا شديد الحرص على أن أَصِلَ إلى ابن المقفع.
عود إلى ابن المقفع
وابن المقفع فارسي من غير شك، وكان أبوه من عمال الحجاج على الخراج، وكان مجوسيًّا، وظل ابن المقفع مجوسيًّا إلى أول الدولة العباسية، وكان قد أتقن العربية وتثقف بثقافتها، ولا شك أن حظه كان عظيمًا من الثقافة اليونانية، فهو أول من ترجم كثيرًا من كتب أرسطو في المنطق والجدل والقياس والمقولات.
فكان إذن عظيم الحظ من الثقافة العربية واليونانية والفارسية.
وكان في عصر الأمويين يشتعل بالكتابة: كتب لداود بن عمر بن هُبيرة، ثم اتصل بعيسى بن علي عم المنصور، وكتب له إلى أن مات.
حول مقتله
وابن المقفع أسلم في أيام العباسيين، ولكن إسلامه لم يكن فيما يظهر صحيحًا ولا خالصًا لله، فقد كتب في الزندقة كتبًا كثيرة اضطر بعض المسلمين إلى أن يرد عليها في أيام المأمون، ويقولون إن الزندقة هي التي قتلت ابن المقفع، ويقولون بل قتله عهد كتبه لعبد الله بن عليٍّ أحرج صدر المنصور؛ إذ ألزم الخليفة إن رجع أن تكون نساؤه طوالق ورقيقه حرًّا، إلى غير ذلك فغضب المنصور، وأغرى والي البصرة سفيان بن حبيب بن المهلب بقتله فقتله.
وكان قتله شنيعًا، فيقال إنه ذهب إلى ديوان الحكومة في البصرة، واستأذن سفيان فأدخله في مقصورة، وإذا في هذه المقصورة تنُّور، وقال له: والله لأقتلنَّك قتلة يسير بذكرها الركبان، وأخذ يقطع أجزاءه قطعة قطعة ويضعها في النار، وهو يراها تحترق حتى مات!
أما أنا فأرجح جدًّا أن الذي قتل ابن المقفع ليست الزندقة، ولم يقتله تشدده في الأمان الذي كتبه لعبد الله بن عليٍّ؛ لأنه يوشك أن يكون أسطورة ليس لدينا منها نص، ولكن لابن المقفع رسالة أخشى أن تكون هي التي قتلته؛ لأنها توشك أن تكون برنامج ثورة، وهي موجهة إلى المنصور؛ لأن فيها ذكرًا لأبي العباس السفاح إذ يقول فيها: «وقد كان أبو العباس رحمه الله.» ونحن نعلم أن ابن المقفع مات أيام المنصور، ونحن نعلم أنه كان كاتبًا لعيسى أخي عبد الله بن علي الذي ثار على المنصور، وكلفه ضروبًا من المشقة، هذه الرسالة تُسمَّى «رسالة الصحابة» وأستميحكم الإذن في تلخيصها.
تلخيص لرسالة الصحابة لابن المقفع
بدأ ابن المقفع رسالته هذه بمدح المنصور، وتفضيله على الأمويين، ثم مدح منه أنه قليل الإعجاب بنفسه، لا يستنكر أن يسأل، ثم انتقل إلى أن استعداد أمير المؤمنين هذا يشجع المشيرين أن يشيروا عليه، فأشار عليه في أمر الجند من خراسان، وطلب إليه أن يُعنَى بهذا الجند عناية خاصة، فيضمن لهم أرزاقهم، ويضمن لهم المواقيت، ويكتب لهم قانونًا يعصمهم من جور العمال والحكام، ويضمن لهم حياة هادئة.
ثم انتقل إلى أهل العراق فأوصى بهم أمير المؤمنين خيرًا، وأن يعتمد عليهم في أمور الدولة ويدافع عنهم؛ لأنهم ظلموا أيام بني أمية.
ثم انتقل من هذا إلى أن الأحكام الفقهية كثر الاضطراب والتناقض فيها، حتى إن الحادثة الواحدة يُحكَم فيها بقضاءين متناقضين، ويحتج الفقهاء لهذه الآراء المختلفة، وطلب إلى الخليفة أن تُرفَع إليه هذه المسائل؛ ليكون له رأيٌ واحدٌ فيها، ويصدر كتابًا يلزمه الفقهاء على اختلافهم، فلا يضطرب القضاء.
وقال: إن هذا الأمر إذا كان، صلحت عليه أحوال الأمة، ولا سيما إذا اتبع الخلفاء سيرتهم، فأصدر كل إمام عند توليه الحكم قانونًا يلزمه القضاة.
صلة ابن المقفع بالثقافة اليونانية
هذه الفكرة التي يُعنَى الناس بها الآن لم يبتدعها ابن المقفع، بل هي أثر من آثار الثقافة اليونانية، فقبل ابن المقفع بقرنين نشر «جوستنيانوس» قانونه، وهو مجموعة القوانين الرومانية.
عود إلى التلخيص
ثم ينتقل إلى الشام فيطلب إلى الخليفة أن يحتاط في سياسته، ويطلب إليه أن يشتد عليهم في عدل، فيخصص لهم فَيْئَهُمْ، وينتقل بعد ذلك إلى آراء تشبه هذه، أكتفي بالأخير منها، وهو أنه يطلب إلى أمير المؤمنين أن يعين في الأمصار جماعة من الخاصة، يكون أمرهم تأديب العامة ومراقبة أعمالهم؛ فإن العامة لا تصلح بنفسها إلا إذا وجدت مؤدبين من الخاصة، والخاصة لا تستطيع أن تعيش إلا إذا كان لها من الإمام مؤدب.
وهذه الفكرة تدل على اتصال ابن المقفع بثقافة اليونان؛ إذ كان ذلك معروفًا شائعًا عند اليونان، وهي وظيفة المحتسب الذي يُعهَد إليه مراقبة العامة في أنديتهم ومجالسهم وأسواقهم.
من رسائل ابن المقفع
ولابن المقفع غير هذه الرسالة رسائل أخرى أذكر منها: الأدب الكبير، والأدب الصغير، والأدب الكبير خليق بالعناية، فهو كتاب منظم له مقدمة وبابان أحدهما في علاقة الإنسان بالسلطان، والثاني في علاقة الإنسان بالإنسان.
أما الباب الأول فظاهرة فيه المعاني الفارسية، لأنه لا يذكر إلا صفات الملوك المستبدين الذين يمكرون ويمكر الناس بهم، فأخلاق ملوك الفرس والشرق بوجه عام ظاهرة في هذا الباب.
والقسم الثاني وهو باب الصديق، ففيه ما يوصي به الفلاسفة من الأمة اليونانية من حسن العلاقة بين الناس، والتأديب في معاملة الأصدقاء.
ومثل هذا الكتاب وكتاب الأدب الصغير واليتيمة كان منتشرًا في العهد اليوناني منذ عصر الإسكندر، وتُرجِم للعرب منه الكثير أيام العباسيين.
وأبقى أثر حُفِظ منه هو كتاب كليلة ودمنة الذي لا أحدثكم عنه فكلكم يعرفه، وإذا قرأتموه متفكرين متدبرين، فقد ترون أن لغته العربية تحتاج إلى شيء من العناية أكثر مما فيه الآن.
تفضيل عبد الحميد على ابن المقفع
هذان هما الكاتبان اللذان نستطيع أن نعتبرهما عنوانًا للكتابة الفنية، أما عبد الحميد فلا غبار على لغته، وربما لم يوجد كاتب يعدل عبد الحميد فصاحة لفظ، وبلاغة معنى واستقامة أسلوب فهو أحسن من كتب العربية ومرنها، وأقدرها على أن تتناول المعاني المختلفة وتؤديها، وربما كان عبد الحميد الأستاذ المباشر للكتاب المترسلين، وبنوع خاص للجاحظ.
أما ابن المقفع فأمره مختلف، وله عبارات من أجود ما تقرأ في العربية، وبنوع خاص في الأدب الكبير، وفي كليلة ودمنة، ولكنه عندما يتناول المعاني الضيقة التي تحتاج إلى الدقة في التعبير يضعف فيكلف نفسه مشقة، ويكلف اللغة مشقة، فلاحظ الأصمعي أنه كان يلحن فيضيف «أل» إلى كل وبعض، وأخذ عليه الجاحظ أنه لم يكن يحسن كل ما يحاوله من الفنون.
وأنا أستأذنكم لحظات أعرض عليكم فيها أمثلة من لغة ابن المقفع المضطربة لا الجيدة، وإنما كان ابن المقفع كما قلت مستشرقًا كغيره من المستشرقين، يحسن اللغة العربية فهمًا، وربما أعياه الأداء فيها.