النثر١ في القرنين الثاني والثالث للهجرة
العراق في القرون الثلاثة الأولى
أيها السادة:
لم تعرف الأمة الإسلامية إقليمًا كان أشد نشاطًا من العراق، ولا سيما في القرون الثلاثة الأولى، فهو منذ استقر المسلمون فيه مضطرب يغلي غليان المرجل، ولكن هذا الاضطراب يأخذ أشكالًا مختلفة في الأطوار الإسلامية.
وكان منتصف القرن الأول للهجرة عصر اضطراب وثورة وفتنة، فإذا استقر الأمر بعد ذلك للأمويين قامت اضطرابات عصبية، وتظهر هذه الاضطرابات بوضوح في شعر الفرزدق وجرير.
ولا يكاد ينتهي القرن الأول حتى يشتد الاضطراب، وهذا الاضطراب عقلي، ليست الخصومة السياسية ولا العصبية هي قوامه، وإنما قوامه الآراء والمذاهب والخواطر الفلسفية والعلمية والأدبية، فبعد أن كان الشعراء في المربد والمساجد يلقي بعضهم بعضًا بالهجاء والفخر، أصبح العلماء يجلسون في المساجد وحولهم المستمعون في النحو واللغة والقصص والتاريخ والفقه.
وأخذت هذه الحركة تشتد، وأخذ الاضطراب يشتد في آخر القرن الثاني اشتدادًا لم يُعرَف من قبل، فتستحيل مدينة البصرة والكوفة إلى معملين عظيمين ينتجان العلماء والشعراء والفلاسفة والمتكلمين، وهما لا ينتجان لنفسهما، وإنما ينتجان لمدينة ناشئة وهي مدينة بغداد.
كانت إذن مدينتا البصرة والكوفة معملين لهذه الطبقات المختلفة، التي تمثل الحياة العقلية في القرن الثاني، وكانت مدينة بغداد في آخر القرن الثاني هي المكان الذي يذهب إليه من تخرجهم المدينتان: البصرة والكوفة.
إذا لاحظنا الحياة العقلية في آخر القرن الثاني، رأينا أن العهد الإسلامي لم يشهد حياة أشد منها تعقيدًا، فهي تتألف من كل هذه العناصر: عنصر عربي خالص في اللغة العربية، وما يتصل بها من الأدب، وعنصر ديني، هو القرآن والتفسير والحديث، ثم عنصر يوناني خالص، هو هذه الفلسفة اليونانية التي أخذت تتدفق على البلاد، وعنصر آخر فارسي، هو هذه الحضارة المادية الفارسية التي أخذت تغمر الدولة العباسية الإسلامية منذ قيام العباسيين.
وكأن قيام الدولة العباسية قد زاد في نشاط الموالي؛ لأنه رد إليهم حقوقهم، وسوَّى بينهم وبين العرب، فأحس هؤلاء الناس أنه لم يبقَ بينهم وبين العرب فارق، وأنهم أصبحوا سادة، ومن الحق لهم أن يُكافأوا على نشاطهم العقلي.
فاشتد نشاط الموالي في الترجمة والنقل والتفسير، وفي الإنتاج العقلي على وجه عام، ولا يكاد يأتي القرن الثالث حتى تكون الحياة العقلية في أقصى ما تصل إليه من الرقي.
النثر وتخلف الشعر
من أهم خصائص هذا النشاط العقلي أنه أضعف الخيال وقوى ملكة النقد والفهم، وترك الأمة الإسلامية كأنها قد فارقت طفولتها وشبابها، فهي على التفكير والتروي أقدر منها على عمل الشعر، ولهذا نلاحظ أن الشعر ضعف أمره في القرن الثالث، وأن النثر قد بلغ أشده.
فبعد أن كنا نعد في القرن الأول للهجرة شعراء كثيرين، وبعد أن كنا نعد من فحول الشعراء جريرًا والفرزدق والأخطل، وبعد أن كنا نعد الشعراء في القرن الثاني فنجد بشارًا، ومطيعًا، وحماد عجرد، وأبا نواس، ومسلم بن الوليد، أصبح النابهون في القرن الثالث من الشعراء قليلين جدًّا، وأصبح الذين يفرضون أنفسهم على الناس فرضًا لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، فيظهر في أوله أبو تمام والبحتري، ثم يظهر في آخره ابن المعتز وابن الرومي.
وبعد أن كنا في أواخر القرن الأول وأوائل الثاني لا نعد من الكتَّاب إلا عبد الحميد وابن المقفع، أصبحنا في القرن الثالث نعد كُتَّابًا كثيرين، ففي قصر المأمون نرى: عمرو بن مسعدة، وأحمد بن يوسف، والحسن بن وهب، وسليمان بن وهب، وسهل بن هارون، والكتَّاب الذين كانوا يختلفون إلى القصور، ويتصلون بالأمراء.
ثم نرى كتَّابًا آخرين لا يتصلون بالقصور، ولا يعملون في دواوين الدولة وليس بينهم وبين السياسة صلة قد قصروا أنفسهم على الكتابة.
فهذا العدد الضخم من الشعراء، في القرن الأول ونصف الثاني، قام مقامه عدد ضخم من الكتَّاب في القرن الثالث.
ومع أن الشعراء كانوا يتوارثون في فن واحد، فكلهم يمدح وكلهم يهجو وكلهم يرثي، وقل منهم من يختص بالغزل والشعر السياسي، نرى الكتَّاب في القرن الثالث قد تقسموا فنونًا مختلفة، وتخصص كل منهم في فرع من هذه الفنون، فمنهم من تخصص في الفلسفة والكلام، ومنهم من تخصص في اللغة والنحو، وقليل منهم من يجمع هذه الأشياء شيئًا كثيرًا.
بل نرى أن هذه الحياة العقلية غلبت العقل العربي على الخيال العربي، ورفعت شأن النثر على شأن الشعر، وأكثرت الكُتَّاب، وقللت الشعراء.
فحرص الشعراء على أن يكونوا كالكتاب علماء، أصحاب فلسفة، وأصحاب تفكير.
وبعد أن كان الشعراء في القرن الأول جهالًا أو كالجهال، أصبح الشعراء في القرن الثالث، وبنوع خاص في أواخر هذا القرن الثالث، يختلفون إلى مجالس الأساتذة يأخذون عنهم العلم.
بل لم يكتفِ الشعراء في القرن الثالث بأن يتثقفوا كما يتثقف غيرهم، وإنما أرادوا أن يكونوا علماء، وأن تكون لهم كتب، فترى البحتري يؤلف وأبا تمام يؤلف، وابن المعتز يضع كتابه في البديع.
ونرى أن طبيعة هذه الحياة الجديدة قد تغلبت حتى على الشعراء فأخضعت لسلطانها الشعراء الذين لم يخضعوا من قبل في الحياة العربية الأولى.
والفرق عظيم جدًّا بين القرن الأول الذي كان فيه العلماء ينشئون علوم اللغة، فيذهبون إلى الشعراء طلابًا مستفيدين، ويدوِّنُون ما يسمعون منهم، وبين هذين القرنين الثاني والثالث، اللذين أصبح فيهما الشعراء متعلمين بعد أن كانوا في القرن الأول أساتذة.
وكلكم يعلم أن بعض علماء النحو في البصرة كان يتبع الفرزدق ويعيب عليه خطأه في النحو، وأن الفرزدق هجاه، فما جاء القرن الثاني حتى أخذنا نرى الشعراء يستشيرون النحاة في شعرهم.
وهم يحدثوننا أن مروان بن أبي حفصة كان إذا أعد قصيدة مر بها على البصرة فعرضها على يونس بن حبيب، أو غيره من علماء اللغة، لتستقيم له صحة القصيدة وجودتها الأدبية.
كل هذا يدلنا على أن العصر الذي نتحدث عنه لم يكن عصر خيال واندفاع، وإنما كان عصر روية وتفكير عقلي، ومصدر هذا إنما هو هذه العلوم الكثيرة التي نشأت في القرن الأول، ثم العلوم الأجنبية التي أُدخِلت في اللغة العربية.
كل هذه العلوم دعت الناس أن يفكروا وأن ينشئوا، وكان النثر — كما قلت لكم في المحاضرة السابقة — هو اللسان الذي يعبر عن هذا كله.
ليس غريبًا إذن أن تتغير طبعة النثر في آخر القرن الثاني وطول القرن الثالث وأن تكثر موضوعاته، وأن يزاحم الشعر حتى يسبقه، فقد كان النثر لا يكاد يتجاوز النثر السياسي والتاريخ، وبعبارة أدق، القصص وعلوم الدين وبعض ما ترجم ابن المقفع عن الفرس أو ما ترجم من فلسفة اليونان.
أما في آخر القرن الثاني وطوال القرن الثالث فقد أصبح النثر فنًّا تؤدى فيه جميع العلوم الشائعة على كثرتها واختلافها، وأصبح بعد هذا فن ترف ولهو يقوم مقام الشعر في إرضاء الشعور.
وبعد أن كان المدح والهجاء والرثاء أمورًا لا تتجاوز الشعر طمع فيها الكتَّاب فمدحوا، وهجوا، وعاتبوا، ورثوا، ووصفوا فأكثروا من الوصف، ومن وصف أشياء لم يكن الشعر يعرض لها.
ثم عندما تناولوا هذه الفنون، التي كانت في أول الأمر مقصورة على الشعراء بسطوها بسطًا يفوق ما كان مألوفًا في الشعر.
وهذا طبيعي مفهوم؛ لأن النثر أيسر وأبسط، وهو أقدر وأوسع للمعاني، فيستطيع الكاتب إذا عرض لفن أو لمسألة أن يتناولها من جميع وجوهها دون أن يحول بينه وبين الاتجاه فيما يريد وزن أو قافية، أو شرط من هذه الشروط التي كانت تقيد الشعراء، ونجد هذا واضحًا عندما نقرأ الرسائل الكثيرة التي صدرت عن كتَّاب القرن الثالث وبنوع خاص عن الجاحظ.
الجاحظ ورسالته التربيع والتدوير
فالجاحظ قد تناول في كتبه أغلب الفنون التي تناولها الشعراء، وتفوق عليهم وأتى بما لم يُوفَّق الشعراء في جميع عصورهم إلى أن يؤدُّوه، ويكفي جدًّا أن ننظر في رسالة «التربيع والتدوير» التي يهجو بها الجاحظ أحمد بن عبد الوهاب، فستجدون هذه الرسالة طويلة تبلغ نحو خمسين ومائة صفحة، وهي من أولها إلى آخرها هجاء، وهجاء لم يقصد فيه الجاحظ إلى الجد وإنما إلى الهزل.
فحدثوني أين الشاعر العربي الذي يستطيع أن يبلغ في الهجاء بعض ما بلغه الجاحظ في رسالته هذه؟ وأين القصيدة التي تبلغ في الطول والتفنن ما بلغه الجاحظ؟ ونحن نستطيع أن نقرأ هجاء جرير وهجاء الفرزدق وهجاء الأخطل، فلن نجد فيه شيئًا يصح أن يقاس بهذا الذي نجده في كتاب الجاحظ.
تلخيص للرسالة
بدأ الجاحظ رسالته بمقدمة في غاية اليسر بسط فيها موضوع هذه الرسالة، فحدثنا أن أحمد بن عبد الوهاب كان مفرط القصر، ويدَّعي أنه مفرط الطول، وكان مربعًا، وتحسبه لسعة جفرته واستفاضة خاصرته مدورًا، وكان جعد الأطراف قصير الأصابع، وهو في ذلك يدعي السباطة والرشاقة، وأنه عتيق الوجه أخمص البطن، معتدل القامة، تام العظم، وكان طويل الظهر قصير عظم الفخذ، وهو مع قصر عظم ساقه يدعي أنه طويل الباد، رفيع العماد، عادي القامة، عظيم الهامة، قد أُعطِي البسطة في الجسم، والسعة في العلم، كان كبير السن متقادم الميلاد، وهو يدعي أنه معتدل الشباب حديث الميلاد.
وكان ادعاؤه لأصناف العلم على قدر جهله بها، وتكلفه للإبانة عنها على قدر غباوته فيها، وكان كثير الاعتراض لهجًا بالمراء، شديد الخلاف كلفًا بالمجاذبة، متتابعًا في العنود، مؤثرًا للمغالبة، مع إضلال الحجة والجهل بموضع الشبهة، فلما طال اصطبارنا عليه حتى بلغ المجهود منا، وكدنا نعتاد مذهبه ونألف سبيله، رأيت أن أكشف قناعه، وأبدي صفحته للحاضر والبادي، وسكان كل ثغر وكل مصر، بأن أسأله عن مائة مسألة أهزأ فيها، وأعرف الناس مقدار جهله، وليسأله عنها كل من كان في مكة، ليكفوا عنا من غربه، وليردوه بذلك إلى ما هو أولى به.
ثم يتحدث إلينا الجاحظ عن هذه العيوب التي انغمس فيها أحمد بن عبد الوهاب، فيروي لنا شيئًا من الحديث والحكم والشعر، وذم الخصومة، وهنا تنتهي المقدمة ثم تبدأ الرسالة.
وهو يبدؤها بالدعاء لأحمد بن عبد الوهاب فيقول له: «أطال الله بقاءك، وأتم نعمته عليك وكرامته لك، قد علمت — حفظك الله — أنك لا تُحسَد على شيء حسدك على حسن القامة وضخم الهامة، وعلى حور العين، وجودة القد، وعلى طيب الأحدوثة والصنيعة المشكورة، وأن هذه الأمور هي خصائصك التي بها تكلف، ومعانيك التي تلهج، وإنما يحسد — أبقاك الله — المرء شقيقه في النسب، وشفيعه في الصناعة، ونظيره في الجوار، على طارف قدره، أو تالد حظه، أو على كرم في أصل تركيبه ومجاري أعراقه، وأنت تزعم أن هذه المعاني خالصة لك، مقصورة عليك، وأنها لا تليق إلا بك، ولا تحسن إلا فيك، وأن لك الكل وللناس البعض، وأن لك الصافي ولهم المشوب، هذا سوى الغريب الذي لا نعرفه، والبديع الذي لا نبلغه، فما هذا الغيظ الذي أنضجك؟! وما هذا الحسد الذي أكمدك؟! وما هذا الإطراق الذي قد اعتراك؟! وما هذا الهم الذي أضناك؟!»
ثم يمضي الجاحظ في هذا النوع من الهزل فيقول: «إن الراسخين في العلم، والناطقين بالفهم، يعلمون أن استفاضة عرضك أدخلت الضيم على ارتفاع سمكك، وأن ما ذهب منه عرضًا قد استغرق ما ذهب منك طولًا.»
ويتفلسف الجاحظ في الطول تفلسفًا لا عهد لنا به فيزعم أن الرمح وإن طال، فإن التدوير عليه أغلب؛ لأن التدوير قائم فيه موصولًا ومفصلًا، والطول لا يوجد فيه إلا موصولًا.
ثم يزعم لأحمد بن عبد الوهاب أنه من أقدم الناس عهدًا بالحياة، وأنه بعيد العود بالوجود، وأنه لا يعد عمر نوح عمرًا ولا النجوم يومًا، وأنه قد فات التاريخيات، وجاز حسب الباورات، وأنه قعيد الفلك وقوة الهيولى. وإذن فهو قد رأى كل شيء وأحاط بكل شيء، وإذن فمن الحق عليه أن يجيب إذا سُئِل.
فيسأله: «كيف رأيت الطوفان؟ ومتى تبلبلت الألسنة، ومذ كان زمان الحنان، ويوم السلان، ويوم خزاز، وواقعة البيداء؟ هيهات! بل أين عاد وثمود، وأين طسم وجديس، وأين أميم ووبار، وأين جرهم وجاسم، أيام كانت الحجارة رطبة، وإذ كل شيء ينطق؟ ومذ كم ظهرت الجبال، ونضب الماء عن اللحف؟ ومن سوشي المنظر، ومن قيري وعيري؟ ومن أولاد الناس من السعالى؟» وهكذا يسأله عن أمور من التاريخ والأنساب والطبيعة والفلسفة قد عيَّ بها المؤرخون وفلاسفة اليونان.
فإذا فرغ من هذا كتب فصلًا طويلًا عن المزاح يصل منه إلى الاعتذار إليه، وأنه ما عصاه إلا اتكالًا على عفوه، وأنه لم يرد إلا إضحاك سنه، وأنه ما هرم إلا في طاعته، وما أخلقه إلا معاناة خدمته، وفي فضله ما يتغمد الإساءة وفي كرمه ما يتوجب التغلغل.
ثم يعود إلى جمال أحمد بن عبد الوهاب فيمدحه بهذا الجمال ويخبره أن عمر بن الخطاب لو أدركه لصنع به أعظم مما صنع بنصر بن حجاج.
وأنه قد أصبح وما على ظهرها خود إلا وهي تعثر باسمه، ولا قينة إلا وهي تغني بمدحه، ولا فتاة إلا وتشكو تباريح حبه، فكم من كبد حرَّى، وحشى خافق، وقلب هائم، وعين ساهرة! وكم من عبرى مولهة، وفتاة معذبة قد قرح قلبها الحزن، وأجمد عينها الكمد، واستبدلت بالحلي العطلة، وبالأنس الوحشة، وبالتكحيل المَرْه، فأصبحت والهة مبهوتة، وهائمة مجهودة، بعد طرف ناصع، وسن ضاحك، وغنج ساخر، وبعد أن كانت نارًا تتوقد، وشعلة تتوهج!
وليس حسنه بالحسن الذي تبقى معه توبة، أو تصح معه عقيدة، أو يدوم معه عهد، إنما هو شيء ينقض العادة ويفسخ المُنَّة.
ثم يصفه بالقمر وبالشمس وبالمشترى، وأن القمر لا يضره نباح الكلب، وأن النخلة لا يزعزعها سقوط البعوضة عليها.
وهل هي إلا فقرات حتى تتبدل الحال من وصف الجمال والاعتذار إلى الاستهتار، وحتى يقول له الجاحظ: «فإن تقبل فحظك أصبت، وإن لم تقبل فاجهد جهدك، ثم اجهد جهدك، ولا أبقى الله عليك إن أبقيت، ولا عفا عنك إن عفوت.»
ثم يعود فيقول له: «خبرني ما كان بينك وبين هرمس في طبيعة الفلك، وعن سماعك من أفلاطون، وما دار في ذلك بينك وبين أرسطوطاليس؟ وأي نوع اعتقدت وأي شيء اخترت؟ فقد أبت نفسي غيرك، وأبت أن تشتفي إلا بخبرك.»
ويعود فيسأله كيف كانت خدائع المتنبئين، ومخارق الكذابين، وعن مقالة الهند في نزول البد، وأقوال عبدة الكيان وعبادة قوة الهيولى؟
ويسأله عن العرب، وكيف تنصَّر النعمان، وتهوَّد ذو نواس، وتمجَّس ملوك سبأ؟ وعن الشعر الذي ننشده في المنام مما لم نسمع بأجود منه في اليقظة أجمع؟
ولمَ صار جميع الحيوان يسبح إلا الإنسان والقرد والعقرب والفرس الأعسر؟ وخبرني مذ كم صنعت حساب الهسمرح؟ ومن صاحب خطوط الهند؟ وأين كتب قوم صنعة السند هند، والأركند وحساب كلا سفر؟
وبعد أن يفيض في مثل هذه الأسئلة يقول له: وقد تعجب ناس من إطالتي ومن كثرة مساءلتي، وتعجبي من تعجبهم أشد، والذي كان من إنكارهم أعظم، ولو رغبوا في العلم رغبتي لاستقلوا من ذلك ما استكثروا، ولاستقصروا منه ما استطالوا، فإن أذنت لي أظهرته، وإن تجد عليَّ أعلنته.
ولولا أنك المسئول في كل زمان، والغاية في كل دهر، لما تفردتك بهذا الكتاب، ولما أطمعت نفسي في الجواب، ولكنك قد أذنت في مثلها لهرمس، ثم لأفلاطون، ثم لأرسطوطاليس، ثم أجبت معبدًا الجهني، وغيلان الدمشقي، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وإبراهيم بن سيار، وعلي بن خالد الأسواري، فتربية كفك والناشئ تحت جناحك أحق بذلك وأولى.
ثم يسأله عن المرايا وكيف ترى الوجوه؟ ولِمَ صار بعضها يرى الوجه والقفا، ويرى الرأس منكسًا؟ ولِمَ كنت لا تجد كتاب الستور والمطارح فيها أبدًا إلا مقلوبًا؟
وما تلك الصورة الثابتة في المرآة، أعرض أم جوهر أم أي شيء؟
وعن القرسطون كيف أخرج أحد رأسيه ثلاثمائة رطل، ووزن جميعه ثلاثون رطلًا.
وعن لون ذنب الطاوس ما هو، أتقول بأنه لا حقيقة له وإنما يتلون بقدر المقابلة أم تقول إن هناك لونًا والباقي تخييل؟
وعن القيافة وكيف صارت في النسبة وفي الماء وفي الجو والتربة؟ وكيف تفاوت العرب في العلم بها؟
ثم يقول له: وزعم بعض تلاميذك أنك تعلم لِمَ كان الفَرَس لا طحال له، والبعير لا مرارة له، والسمكة لا رئة لها، وحيتان البحر لا ألسنة لها.
إلى كثير من هذه الأسئلة المغيبة التي لا حد لها، والتي تكون تارة في الحديث والتفسير والفقه، وتارة في الطبيعة والفلك والحساب والسحر.
ثم يعمد إلى سؤاله: لِمَ صار بعض الناس أحفظ للنسب، وبعضهم أحفظ للإسناد، وبعضهم أحفظ للمعاني، وبعضهم أحفظ للألفاظ؟ ولمَ لمْ تضرب وجه السامري؟ ولمَ لمْ تعض ماني وتمضه؟ ولِمَ لم تبزق في وجه فرعون؟ أم إن الطبيعة التي هيبتك من هشام بن خلف بن قوالة الكناني حين قال على رأس النعمان، وأنت رجل يمان، هي التي منعتك من أن تبزق في وجه فرعون؟ وأنت سمعته يقول: «ومَا رَبُّ العالمين؟!»
ولم أزعم أنك رجل يمان لولادة لك في قحطان؟ وكيف وأنتم أقدم من قحطان ومعد بن عدنان؟! ومن القرون التي خبَّر الله عن كثرتها وعن آبائها وأجدادها، ولكنك منهم بالهوى والنصرة، ولأنهم كانوا لك أحشامًا وصنيعة.
ولِمَ زعمت أن عُمر نوح أطول الأعمار مع قولك إن جميع الأنبياء قد حذرت من الدجال، والدجال إنسان؟
إلى أن يقول له: وقد سألتك وإن كنت أعلم أنك لا تحسن من هذا قليلًا ولا كثيرًا، فإن أردت أن تعرف حق هذه المسائل وباطلها، فألزم نفسك قراءة كتبي ولزوم بابي.
وقد بقيت لي عليك مسائل هي خاتمة الكتاب ومنتهى المسائل.
فيسأله عن طائفة من أقوال فلاسفة اليونان في العلم والمعرفة، ويطلب إليه أن ينظر فيها ويقارن بينها من بعد ذلك، يقول له: وقد اختلفوا في العقل بأكثر من اختلافهم في العلم، فمنعني من ذكره لك غموضه عليك، واستتاره عنك، وعلمت أني لا أقدر أن أصوره لك دون دهر طويل.
وهذا الكتاب مُرضٍ، إذا أُرِيدَ به تقريع معجب، أو تكشيف مموه، أو امتحان مشكل، أو تخجيل وقاح، أو قمع ممارٍ، أو ممازحة ظريف، أو مساءلة عالم، أو مدارسة حافظ.
ثم يختم الرسالة بمقالة في العقل وطلب العلم، وبالكلام عن العجب وجملة من النصائح.
يقول في خاتمتها: إن الله تعالى قد مسخ الدنيا بحذافيرها، وسلخها من جميع معانيها، ولو مسخها كما مسخ بعض المشركين قردة، أو كما مسخ بعض الأمم خنازير، لكان قد بقي بعض أمورها كبقية ما مع القرد في ظاهره من شبه الآدمي، وبقية ما مع الخنزير في باطنه من شبه البشري، ولكنه — جل ذكره — مسخ الدنيا مسخًا مستتبعًا، ومستقصى مستفرغًا، فبيَّن حاليهما جميع التضاد، وبين معنييهما غاية الخلاف.
فالصواب اليوم غريب وصاحبه مجهول، فالعجب ممن يصيب وهو مغمور، ويقول وهو ممنوع، فإن صرت عونًا عليه مع الزمان قتلته، وإن أمسكت عنه فقد رفدته، ولسنا نريد منك النصرة ولا المعونة، وكيف أطلب منك ما قد انقطع سببه واجتُثَّ أصله!
خصائص النثر في هذا العصر
عندما نقرأ هذه الرسالة وأمثالها نلاحظ أن النثر العربي في هذا العصر لم تتغير طبيعته من جهة موضوعاته، والفنون التي طرقها فحسب، ولكن طبيعته تغيرت من ناحية أخرى أهم من هذه النواحي، فهو قد سهل ومرن ولان، وأصبح طيِّعًا يستطيع الكاتب أن يتصرف فيه كما يحب دون أن يستعصي عليه، فالفرق عظيم جدًّا بين كاتب كابن المقفع عندما يؤدي فكرة من الأفكار أو رأيًا من الآراء، يجهد نفسه وكأنه ينحت من صخر، وبين كاتب كالجاحظ يعرض لما يشاء من الموضوعات اليسيرة، فلا يجد مشقة ولا جهدًا، ولا نجد نحن في فهمه المشقة التي نجدها في فهم ما يقول ابن المقفع، وبنوع خاص في الأدب الصغير والكبير.
فنحن عندما نقرأ نثرًا كنثر الجاحظ لا نحس عسرًا في فهمه بل نجد يسرًا ومرونة.
وفوق هذه المرونة واليسر كسب النثر خصلة أخرى هي الموسيقى، فالنثر أيام الجاحظ لا يلذ العقل وحده ولا الشعور وحده، ولكنه يلذ العقل والشعور والأذن أيضًا؛ لأنه قد نُظِّم تنظيمًا موسيقيًّا وأُلِّف تأليفًا خاصًّا له نسب خاصة، فهذه الجملة لها هذا المقدار من الطول، وهذه الجملة تناسب هذا الموضوع، وإذا قصرت هذه الجملة لاءمتها تلك الجملة، وإذا ضخمت ألفاظ هذه الجملة كانت الجملة التي تليها على حظ من السهولة، وهكذا.
فترون أن النثر قد تغيرت موضوعاته وطغت فنونه على فنون الشعر، وسهلت ألفاظه، وأصبح يسيرًا طيعًا، ودخلته الموسيقى، فغلب الشعر حتى في أخص الأشياء به وهو الموسيقى، وهذا إلى العلوم التي عبر النثر عنها.
وأنا إلى الآن لم أتحدث إليكم إلا في نوع واحد من النثر، وهو الذي يُقصَد فيه إلى اللذة الفنية، والذي نقرؤه لنتفكَّه به، ولم أتحدث إليكم عن النثر الذي كانت تُكتَب به العلوم والفلسفة وعلوم اللغة، وإن كان هناك من الظواهر ما يدعو إلى شيء من التفكير في هذا النوع من النثر، فنحن عندما نقرأ نثر العلوم نلاحظ أن نثر أصحاب اللغة من أشد النثر وأعسره على الفهم، وأن نثر الفلاسفة والمتكلمين من أسهل النثر، وأؤكد لكم أن الفرق عظيم جدًّا بين نثر الجاحظ والكتَّاب السياسيين، وبين نثر سيبويه، فإذا كان هناك نثر بعيد عن الموسيقى فهو نثر سيبويه في كتابه، فهو مغلق قليل الحظ من اللذة.
هذا التطور الذي تطوره النثر في القرن الثالث دعا الشعراء إلى أن يسطوا على النثر، ويأخذوا منه كما كان الكتاب يأخذون من الشعر، كما دعا الشعراء إلى أن يطرقوا فنونًا لم يطرقوها من قبل، فكثير منهم من تروقه جملة أو معنى فينظمه في بيت من الشعر.
ورأى بعض الشعراء كابن الرومي أن الكتَّاب يُتاح لهم أن يتفننوا في معانيهم ويطيلوا في فكرتهم، وأن يبسطوها بسطًا، فأراد أن يقلدهم في هذا فأطال وأسرف في الطول، حتى بلغت قصائده أطول حد عُرِف في الشعر العربي إلى عصره، كما أنه بسط ألفاظه تبسيطًا شديدًا.
عبد الحميد وقصيدة الأوس
أراد عبد الحميد أن يصف السلاح فأخذ من الشعر وصف الدرع والسيف والرمح والقوس، على نحو ما كان يصفها الشعراء، فنثر في رسالته كثيرًا من الأوصاف التي ذكرها أوس بن حجر في قصيدته هذه:
ابن الرومي واعتماده على بعض الكتاب
فإذا وصلنا إلى القرن الثالث نرى ابن الرومي يأخذ معاني الكتاب في وصف الشطرنج، وعندما يريد أن يكتب في العتاب يعتمد على الكتاب في الألفاظ:
وتجدون في هذا البيت شيئًا غير قليل من اللين والسهولة.
من رسالة التربيع والتدوير للجاحظ
وبعدُ، فأنت أبقاك الله في يدك قياس لا ينكسر، وجواب لا ينقطع، ولك حد لا يُفَل، وغرب لا ينثني، وهو قياسك الذي إليه تُنسَب، ومذهبك الذي إليه تذهب، أن تقول وما عليَّ أن يراني الناس عريضًا، وأكون في حكمهم غليظًا، وأنا عند الله طويل جميل، وفي الحقيقة مقدود رشيق، وقد علموا، حفظك الله، أن لك مع طول الباد راكبًا، طول الظهر جالسًا، ولكن بينهم فيك إذا قمت اختلاف، وعليك لهم إذا اضجعت مسائل، ومن غريب ما أُعطِيت وبديع ما أُوتِيت أنا لم نرَ مقدودًا واسع الجفرة غيرك، ولا رشيقًا مستفيض الخاصرة سواك.
فأنت المديد وأنت البسيط، وأنت الطويل، وأنت المتقارب، فيا شعرًا جمع الأعاريض، ويا شخصًا جمع الاستدارة والطول، بل ما يهمك من أقاويلهم، ويتعاظمك من اختلافهم، والراسخون في العلم والناطقون بالفهم يعلمون أن استفاضة عرضك قد أدخلت الضيم على ارتفاع سمكك، وأن ما ذهب منك عرضًا قد استغرق ما ذهب منك طولًا، ولئن اختلفوا في طولك، لقد اتفقوا في عرضك، وإذ قد سلموا لك بالرغم شطرًا، ومنعوك بالظلم شطرًا فقد حصلت على ما سلموا، وأنت على دعواك فيما لم يسلموا، ولعمري إن العيون لتخطئ، وإن الحواس لتكذب، وما الحكم القاطع إلا للذهن، وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل إذ كان زمامًا على الأعضاء وعيارًا على الحواس.
كتاب البخلاء للجاحظ
كنت أريد أن تسمعوا أكثر من هذا، وبنوع خاص قطعة من كتاب البخلاء للجاحظ، وهو من أجود الكتب، ويحق للغة العربية أن تفاخر به، هذا الكتاب جمع فيه الجاحظ أخبارًا تتصل بالبخلاء الذين في عصره تناول فيه المتكلمين والمعتزلة، وقص من أخبارهم في البخل أشياء كثيرة، وقيمة هذا الكتاب لا أدري أهي في الجمال اللفظي واستقامة المعنى؟ أم في خصب المعاني؟ أم في هذا التصوير الدقيق الذي لا يُقاس إليه تصوير، تصوير حياة البصرة وبغداد في عصر الجاحظ؟ وأحب أن تسمعوا من هذا الكتاب قصة الكندي الذي يتحدث فيها في وصف الخصومة بين المُلَّاك والمستأجرين.
قصة الكندي٣
قال الجاحظ: «حدثني عمرو بن نِهْيَوِيٍّ قال: كان الكندي لا يزال يقول للساكن، وربما قال للجار: إن في الدار امرأة بها حَمْل، والوحْمَى ربما أسقطت من ريح القدر الطيبة، فإذا طبختم فردُّوا شهوتها ولو بغرفة أو لعقة؛ فإنَّ النفس يردها اليسير، فإنْ لم تفعل ذلك بعد إعلامي إياك، فكفارتك — إن أسقطت — غُرَّةٌ عبدٌ أو أمة، ألزمت ذلك نفسك أم أبيت.
قال: فكان ربما يوافي إلى منزله من قصاع السكان والجيران ما يكفيه الأيام، وإن كان أكثرهم يفطن ويتغافل.
وكان الكندي يقول لعياله: أنتم أحسن حالًا من أرباب هذه الضياع، إنما لكل بيت منهم لون واحد وعندكم ألوان.
قال عمرو: وكنت أتغدَّى عنده يومًا إذ دخل عليه جار له، وكان الجار لي صديقًا، فلم يعرض عليه الغداء، فاستحييت منه، فقلت: لو أصبت معنا مما نأكل؟ قال: قد والله فعلت. قال الكندي: ما بعد الله شيء. قال: فكتفه والله يا أبا عثمان كتفًا لا يستطيع معه قبضًا ولا بسطًا وتركه، ولو أكل لشهد عليه بالكفر، ولكان عنده قد جعل مع الله شيئًا.
قال معبد: نزلنا دار الكندي أكثر من سنة نروِّج له الكراء، ونقضي له الحوائج ونفي له بالشرط. قلت: قد فهمت ترويج الكراء وقضاء الحوائج، فما معنى الوفاء بالشرط؟
قال معبد: فبينما أنا كذلك إذ قدم ابن عم لي ومعه ابن له، وإذا رقعة منه قد جاءتني: إن كان مقام هذين القادمين ليلة أو ليلتين احتملنا ذلك، وإن كان إطماع السكان في الليلة الواحدة يجر علينا الطمع في الليالي الكثيرة.
فكتبت إليه: ليس مقامهما عندنا إلا شهرًا أو نحوه. فكتب إليَّ: إن دارك بثلاثين درهمًا، وأنتم ستة، لكل رأس خمسة، فإذا قد زدت رجلين فلا بد من زيادة خَمْستين، فالدار عليك من يومك هذا بأربعين.
فكتبت إليه: وما يضرك من مقامهما؟! ثقل أبدانهما على الأرض التي تحمل الجبال، وثقل مؤنتهما عليَّ دونك! فاكتب إليَّ بعذرك لأعرفه، ولم أدرِ أني أهجم على ما هجمت، وأني أقع منه فيما وقعت.
فلو ترك الناس حينئذ ربَّ الدار وقَدْر بليَّته، ومقدار مصيبته لكان عسى ذلك أن يكون محتملًا، ولكنهم يتشاءمون به ولا يزالون يستثقلون ذكره، ويكثرون من لائمته وتعنيفه.
ثم لا ينصبون التنانير، ولا يمكنون للقدور إلا على متن السطح، حيث ليس بينها وبين القصب والخشب إلا الطين الرقيق، والشيء (الذي) لا يقي هذا مع خفة المؤنة في إحكامها وأمن القلوب من المتالف بسببها.
فإن كنتم تُقدمون على ذلك منا ومنكم وأنتم ذاكرون فهذا عجب! وإن كنتم لم تَحلفوا بما عليكم في أموالنا، ونسيتم ما عليكم في أموالكم فهذا أعجب!
ثم إن كثيرًا منهم يدافع بالكراء، ويماطل بالأداء، حتى إذا جُمِعت أشهر عليه، فرَّ وخلى أربابها جياعًا، يتندَّمون على ما كان من حسن تقاضيهم وإحسانهم، فكان جزاؤهم وشكرهم اقتطاع حقوقهم، والذهاب بأقواتهم.
ثم يستكثر من نفسه في السنة إخراجَ عشرة دراهم، ولا يستكثر من رب الدار ألف دينار في الشراء، يذكر ما يصير إلينا مع قلته ولا يذكر ما يصير إليه مع كثرته.
هذا، والأيام التي تنقُض المبرم، وتُبلي الجدة، وتُفرق الجميع المجتمع، عاملةٌ في الدُّور، كما تعمل في الصخور، وتأخذ في المنازل، كما تأخذ من كل رطب ويابس، وكما تجعل الرطب يابسًا هشيمًا، والهشيم مُضمحلًّا.
فإن كان الرسول جارية رب الدار أفسدها، وربما أحبلها، وإن كان غلامًا خدعه، وربما شطر به، هذا مع الإشراف على الجيران والتعرض للجارات، ومع اصطياد طيورهم وتعريضنا لشكايتهم.
وربما أخذهم ومعه امرأة يفجُر بها، فيجعل استئجار البيوت، وتصفُّح المنازل علَّة لدخولها، والمقام ساعة فيها، فإذا استقر في المنزل قضى حاجته منها وردَّ المفتاح.
وربما اكترى المنزل وفيه مرمة فاشترى بعض ما يصلحها، ثم يتوخَّى عاملًا جيد الكسوة، وجيرانًا أصحاب آنية وآلة، فإذا شغل العامل وغفل، اشتمل على كل ما قدر عليه، وتركهم يتسكَّعون.
وربما استأجر إلى جنب سجن، لينقُب أهله إليه، وإلى جنب صراف لينقب عليه، طلبًا لطول المهلة والسِّتر، ولطول المُدة والأمن.
وربما جنى الساكنُ ما يدعو إلى هدم دار المُسكن، بأن يقتل قتيلًا، أو يجرح شريفًا، فيأتي السلطان الدار، وأربابها إما غيب وإما أيتام، وإما ضعفاء، فلا يصنع شيئًا دون أن يسويها بالأرض.
فما ظنك بقوم هؤلاء أصلحهم، وهم خيارهم؟
وأنتم أيضًا إنما اكتريتم مستغلات غيركم بأكثر مما اكتريتموها منا، فسيروا فينا كسيرتكم فيهم، وأعطونا من أنفسكم مثل ما تريدونه منا، وربما بنيتم في الأرض، فإذا صار البناء بنيانكم، وإن كانت الأرض لغيركم، ادعيتم الشركة وجعلتموه كالإجارة وحتى تصيِّروه كتلاد مال، أو موْروث سلف.
وإنما جر ذلك علينا حسن اقتضائنا، وصبرنا على سوء قضائكم، وأنتم تقطعونها علينا وهي عليكم مجملة، وتلووننا بها وهي عليكم حالة، فصارت لذلك غلات الدور — وإن كانت أكثر ثمنًا ودخلًا — أقل ثمنًا وأخبث أصلًا من سائر الغلات.
وأنتم شر علينا من الهند والروم ومن الترك والدَّيلم؛ إذ كنتم أحضَر أذى، وأدوم شرًّا، ثم كانت هذه صفتكم وحيلتكم ومعاملتكم في شيء لا بدَّ لكم منه، فكيف كنتم لو امتحنتم بما لكم عنه مندوحة، والوجوه لكم فيها معرضة، وأنتم فيها بالخيار، وليس عليكم طريق الاضطرار؟
وهذا مع قولكم إن نزول دور الكراء أصوبُ من نزول دور الشِّراء، وقلتم لأن صاحب الشراء قد أغلق رَهْنه، وأشرط نفسه، وصار بها ممتحنًا، وبثمنها مُرتهنًا.
ومن اتخذ دارًا فقد أقام كفيلًا لا يخفر، وزعيمًا لا يغرم، وإن غاب عنها حنَّ إليها، وإن أقام فيها ألزمتْه المؤن، وعرضته للفتن، إن أساءوا جوارَه، وأنكر مكانه، وبعد مصلاه، ومات عنه سوقه، وتفاوتت حوائجُه، ورأى أنه قد أخطأ في اختيارها على سواها، وأنه لم يُوفَّق لرُشده حين آثرها على غيرها، وإن من كان كذلك فهو عبد داره وخول جاره.
وإن صاحب الكراء الخيارُ في يده والأمر إليه، فكل دار هي له متنزَّه إن شاء الله، ومتجر إن شاء، ومسكن إن شاء، لم يحتمل فيها اليسيرَ من الذلل، ولا القليلَ من الضيم، ولا يعرف الهوان، ولا يسام الخسف، ولا يحترس من الحساد، ولا يداري المتعلِّلين.
وصاحب الشراء يجرع المرار، ويُسقَى بكأس الغيظ، ويكُد لطلب الحوائج، ويحتمل الذلة وإن كان ذا أنفة، إن عفا عفا على كظم، ولا يوجه ذلك منه إلا إلى العجز، وإن رام المكافأة تعرَّض لأكثر مما أنكره، قال رسول الله ﷺ: «الجارَ قبل الدار، والرفيقَ قبل الطريق.»
وزعمتم أن تسقط الكراء أهون إذ كان شيئًا بعد شيء، وأن الشدائد إذا وقعت جملة جاءت غامرة للقوة، فأما إذا تقطَّع وتفرَّق فليس يكترث لها إلا من يفقدها ويذكُرها، ومالُ الشراء يخرج جملة، وثُلمته في المال واسعة، وطعنته نافذة، وليس كل خرق يُرقَّع، ولا كل خارج يَرجع، وأنه قد أمن من الحرَق والغرق، وميل أسطُوان، وانقصاف سهم، واسترخاء أساس، وسُقوط سُترة، وسوء جوار، وحسد مشاكل، وإنه إما لا يزال في بلاء، وإما أن يكون متوقعًا لبلاء.
وقلتم إن كان تاجرًا فتصريف ثمن الدار في وجوه التجارات أربح، وتحويله في أصناف البياعات أكيس، وإن لم يكن تاجرًا ففيما وصفناه له ناهٍ، وفيما عددنا له زاجر، فلم يمنعكم حرمة المساكنة، وحق المجاورة، والحاجة إلى السُّكنى، وموافقة المنزل، إن أشرتم على الناس بترك الشراء، وفي كساد الدور فساد لأثمان الدور، وجرَاءة للمستأجر، واستحطاط من الغَلة، وخسران في أصل المال.
وزعمتم أنكم قد أحسنتم إلينا حين حثثتم الناس على الكراء؛ لما في ذلك من الرخاء والنماء، فأنتم لم تزيدوا نفعنا بترغيبهم في الكراء، بل إنما أردتم أن تضرونا بتزهيدكم في الشراء، وليس ينبغي أن يُحكَم على كل قوم إلا بسبيلهم، وبالذي يغلب عليهم من أعمالهم.
فهذه الخصال المذمومة كلها فيكم، وكلها حجة عليكم، وكلها داعية إلى تُهمتكم وأخذ الحذر منكم، وليس لكم خصلة محمودة، ولا خلة فيما بيننا وبينكم مرضيَّة.
وقال الآخر:
أنت تطالبني ببغض المعتزلة للشيعة، وبما بين أهل الكوفة والبصرة، وبالعداوة التي بين أسد وكندة، وبما في قلب الساكن من استثقال المسكن، وسيعين الله عليك والسلام.»
في هذه السهولة وهذا اليسر الجمال يصور لنا الجاحظ الخصومات، لا كما كانت تقع بين المُلَّاك والمستأجرين في بغداد، بل كما تقع هنا في القاهرة.
وكما أن جمال الشعر وتطوره قد مكننا من إنشاء البديع على أنه علم، فكذلك جمال النثر وتطوره قد مكننا من إنشاء البيان على أنه علم.
وأنا أذكر أني تحدثت إليكم في هذا المكان منذ عامين عن هذا الموضوع، وأريد أن أبسط في دقائق ما قلته لكم من قبل، فقد أُتيح لي الآن أن أصل فيه إلى شيء جديد.
قدامة والبيان
هذا الجاحظ الذي نتحدث عنه ربما كان أول من حاول أن يضع نظريات في البيان، وقد تحدثت إليكم عن هذه النظريات، وقد ذكرت لكم أن رجلًا نصرانيًّا أسلم في آخر القرن الثالث، وكان من كتاب ديوان الخلافة في بغداد وهو قدامة، وأن له كتابين أحدهما في نقد الشعر والآخر في نقد النثر، وقلت لكم في ذلك الوقت إنه قد ضاع، وإن أجزاء منه في كتاب الصناعتين، ولكن أتيح لنا أن نظفر بهذا الكتاب، ذهب زميلنا الأستاذ عبد الحميد العبادي إلى إسبانيا، فوجد هذا الكتاب في مكتبة الأسكوريال.
هذا الكتاب لم نكد ننظر فيه حتى كان نظرنا مصدر دهشة ورضى، فهو يظهرنا على رأي العرب في البيان، وهو في الوقت نفسه يحقق ما كنت أميل إليه، وهو أن بعض العرب في بيانهم العلمي قد تأثروا ببيان أرسططاليس، وكتاب قدامة — وأنا متحفظ في نسبته إلى قدامة — مؤلف بالضبط على طريقة أرسططاليس في كتابه الخطابة، فكما يبدأ أرسططاليس في نقد أصحاب البيان، ويحاول أن يضع بيانًا جديدًا ملائمًا لحقيقة الأدب وطبيعة الفن، فكذلك قدامة يبدأ بنقد كتاب البيان والتبيين للجاحظ، ويرى أن هذا الكتاب لا يشفي غلة من يريدون أن يعرفوا نظريات البيان، ويعد بوضع نظريات جديدة للبيان.
كتاب أرسططاليس
وقوام كتاب أرسططاليس ثلاثة أشياء: المنطق، والسياسة، والأخلاق.
المنطق: لأنه قانون العقل ونظام التفكير، والسياسة: لأنها قانون المدن، والأخلاق: لأنها الوسيلة الوحيدة إلى أن يعرف المتكلم طبيعة الناس الذين يتحدث إليهم، وعلى هذا النحو نظام كتاب قدامة: فقوامه المنطق والأخلاق دون السياسة؛ لأن الحياة في ذلك الوقت لم تكن تحتمل التعرض للمسائل السياسية، وهو يقسم البيان إلى أقسام: بيان الأشياء بذواتها، وبيان العقل عن الأشياء، وبيان الإنسان عنها بالقول، وبيانه عنها بالكتابة، فكل شيء يبين عن نفسه فهو بيان الأشياء بذواتها، فإذا فكر فيه الإنسان، فهو بيان العقل عن الأشياء، فإذا قال ما فكر فيه ليفهمه عنه غيره، فقد أبان عنها بالقول، فإذا كتب ذلك، فقد أبان عنها بالكتابة.
ويقف صاحبنا عند القول والكتابة، ويحلل القول تحليلًا منطقيًّا، فيذكر المقولات والكليات والقضايا والقياس، ثم يذكر أنواع الجدل والقياس على نحو ما ذكره أرسططاليس، ثم يذكر خصائص اللغة العربية، ويعرض لشيء من التشبيه والاستعارة والكناية، كما فعل أرسططاليس، ثم يذكر آداب الكتابة والكاتب والرسول، ثم يذكر آداب الحديث وخصائصه وما يجب أن يتوخى الناس فيه من عادات.
ونحن نعلم أن كتاب أرسططاليس في الخطابة قد تُرجِم في القرن الثاني والثالث، وأن الكتَّاب كانوا يلهجون بهذا الكتاب ويُعنَون به، حتى أنكر عليهم ابن قتيبة في أدب الكتاب، وسخر من تقسيم أرسططاليس للكلام، وسخر من تهافت هؤلاء الكتاب على صاحب المنطق، وسخر من صاحب المنطق نفسه، ولخص ابن سينا كتاب الخطابة لأرسططاليس، وكنا نحب أن نصل إلى كتاب الخطابة مترجمًا إلى العربية لنعرف ما كان بين الأصل اليوناني والترجمة العربية، أكانت هذه الترجمة مطابقة للأصل اليوناني مطابقة تامة، أم كانت ممثلة لمختصر ما؟ وأنا أخشى أن تكون الترجمة للمختصر السرياني، ومن حسن الحظ أننا علمنا أنه في الأسكوريال.
نتيجة هذا أننا أمام أمرين، لا بد من ملاحظتهما في النثر: فمنذ القرن الثاني للهجرة ظهرت في النثر طريقتان مختلفتان:
طريقتا النثر
طريقة قوم اتصلوا بالفلسفة، وهم المتكلمون وأصحاب الفلسفة والمعتزلة بنوع خاص، ومن زعمائهم الجاحظ والنظام، وطريقة قوم لم يتصلوا بالفلسفة ولكنهم اتصلوا بالأدب العربي واتصلوا بالحضارة الفارسية والأدب الفارسي.
والفرق بين هاتين الطريقتين واضح جدًّا، ولكن وضوحه يظهر في القرن الثالث وفي القرن الرابع، فأما أصحاب الفلسفة اليونانية، والمتصلون بهذه الثقافة الغربية، فهم أصحاب تفكير وعناية بالمعاني وبترتيب الكلام ترتيبًا منطقيًّا، أما المتصلون بالثقافة الفارسية فهم أصحاب سجع وأصحاب بديع.
ولذلك نلاحظ أن رجلًا كأبي حيان التوحيدي، كان من تلاميذ الجاحظ وأشد الناس تأثرًا باليونان، لا يلتفت إلى البديع ولا يُعنَى بالسجع، ولكنه في القرن الرابع يمضي على نحو الجاحظ، بينما ابن العميد والصاحب ابن عباد ومن إليهما كانوا يلمون بالثقافة اليونانية، وكانوا حراصًا على الثقافة الفارسية فكانوا أصحاب بديع وسجع.
ونحن عندما نقول: «بُدِئت الكتابة بعبد الحميد، وخُتِمت بابن العميد.» نعني كتابة عبد الحميد المتأثرة بالثقافة اليونانية، المعتمدة على الترتيب وعلى المنطق، وكتابة أخرى عُنِيَتْ بالفن اللفظي والزخرف أكثر من المعنى.
هاتان الطريقتان في النثر نفسه تقابلهما طريقتان في البيان: فهناك بيان قام على بيان اليونان ومنطقهم، وهو هذا الذي نجده عند أصحاب المنطق وعند قدامة، وبيان آخر قد تأثر بالحضارة الفارسية والأدب العربي من بعيد، وهو هذا البيان الذي نجده في كتاب الصناعتين، وأساسه العناية الفنية.
عناصر النثر
- أولها: وأهمها وهي مادة هذا النثر، اللغة العربية التي تعتمد على القرآن.
- ثانيها: الفلسفة اليونانية والعلوم اليونانية.
- ثالثها: الحضارة المادية، والفن الفارسي الذي اتصل به العرب طوال القرنين الثاني والثالث.