ابن الرومي وشعره
أيها السادة:
الحديث عن ابن الرومي يخالف الأحاديث عن غيره من الشعراء، حاشا أبا تمام، ومصدر هذا ما تجدونه في الكتب العربية قديمها وحديثها من أن أصل هذا الشاعر يوناني صريح لا يحتمل شكًا ولا خوفًا، وأن ابن الرومي كان قريبًا جدًّا من أصله اليوناني لم يبعد العهد به، فلم تضعف وراثته، ولم يتأثر كثيرًا بوراثات أخرى، فهو إذن بطبيعته وفنه مخالف كل المخالفة لكثرة الشعراء الذين عرفناهم في القرون الأولى للهجرة.
مولده ووفاته
حياة ابن الرومي كحياة غيره من الشعراء المعاصرين مجهولة أو كالمجهولة، فنحن نعلم أنه وُلِد سنة إحدى وعشرين ومائتين، وأنه مات بين سنة ست وسبعين ومائتين وسنة أربع وثمانين ومائتين ونحن نعلم أنه مات مسمومًا، وأن الذي سمه أو أمر من سمه هو القاسم بن عبد الله وزير المعتضد، كان يكرهه ويشفق منه فأغرى به من أطعمه شيئًا فيه السم.
شيء عنه
ونحن نعلم أنه كان سيئ الحظ في حياته، لم يكن محببًا إلى الناس وإنما كان بغيضًا إليهم، وكان محسدًا أيضًا، ولم يكن أمره مقصورًا على سوء حظه، بل ربما كان سوء حظه من سوء طبيعته، فقد كان حاد المزاج مضطربه معتل الطبع ضعيف الأعصاب، حاد الحس جدًّا يكاد يبلغ من ذلك الإسراف، وكان هذا كله قد أعطاه من الحياة صورة رديئة من ناحية، ومحببة من ناحية أخرى، كان اضطراب مزاجه يبغض إليه الناس ويسيء رأيه فيهم، ولكن قوة حسه ورقة طبعه كانت تحبب إليه كل اللذات، فكان يجمع بين الخصلتين، فهو رجل يحب اللذة ويسرف فيها ويتهالك عليها، فهو إذن محب للحياة أشد الحب، وهو في الوقت نفسه مبغض للأحياء، قبيح الرأي فيهم، يتبرم بهم أشد التبرم، ويود لو استطاع أن يتخلص منهم، أما الأحياء فكانوا يبغضونه كما كان يبغضهم، وأما الحياة فلست أدري أكانت تحبه أم كانت تبغضه؟ ولكن الشيء الذي لا شك فيه أنه أخذ من اللذات بحظ لا بأس به، ولعله أسرف في ذلك فضاعف ما كان يجده من ألم، وضاعف ما كان في أعصابه من اضطراب، وفي مزاجه من فساد.
وكلكم يعلم ما يتحدث به الناس عن ابن الرومي من أنه كان يتطير ويسرف في الطيرة، حتى كان ذلك يؤثر في حياته ومزاجه تأثيرًا شديدًا، وكان يضطره إلى أن يلزم بيته أيامًا لا يخرج، إما لأنه رأى جاره الأحدب أو لأنه سمع صاحبًا له، هو علي بن سليمان الأخفش، عبث به مرة كعادته، فمر عليه في الصباح، فدق الباب، فإذا قيل: من الطارق؟ أجاب: مرة بن حنظلة، فتشاءم بهذا الاسم وأقسم لا يخرج، وكان هذا يضطره أن يعذب نفسه ويعذب من معه.
هذا أكثر أو كل ما نعرفه عن ابن الرومي، وهو كما ترون ليس بالشيء الكثير، بل نحن نعرف شيئًا آخر وهو أن سوء حظ ابن الرومي لم يلزمه في حياته فحسب، بل لزمه بعد موته، فديوان ابن الرومي من أكبر دواوين الشعر العربي، بل لعله أكبرها وأضخمها وهو أقلها انتشارًا، ولعله لم يُطبَع إلى الآن، بل لم يُطبَع إلا جزء صغير ومختارات اختارها كاتب أديب من هذا الديوان، هو الأستاذ «كامل كيلاني» فهو إذن سيئ الحظ في حياته وبعد موته، ويقال إن تشاؤمه وتطيره قد أصاب ديوانه أيضًا فلم يعرض له أحد إلا أصابه شيء.
وبعض الناس يتندر بذلك؛ لأن الأستاذ العقاد أراد أن يكتب عنه فسُجِن، وأرجو ألا تكون محاضرتنا عنه مصدر شيء من هذه الأشياء التي أعيذكم منها أنتم إن لم أعذ منها نفسي.
هو وأبو تمام
قلت إنَّ ابن الرومي يخالف غيره من الشعراء الذين عاصروه أو جاءوا قبله، إلا واحدًا هو أبو تمام؛ وذلك أن طبيعة أبي تمام الشعرية مشبهة لطبيعة ابن الرومي من وجوه، فهما متفقان من حيث إنهما يعتمدان اعتمادًا شديدًا جدًّا على العقل في شعرهما، وهما لا يستسلمان للخيال وحده، وإنما يتخذان الخيال وسيلة إلى تحقيق ما يريده العقل، وهما يتفقان في أنهما حريصان كل الحرص على تعمق المعاني وعلى استيفائها، واستقصائها، والمبالغة في هذا الاستقصاء حتى يأتيا بالأشياء الغريبة التي يضيق بها الناس الذين تعودوا أن يقرءوا المألوف من الشعر، وهما لا يرضيان أن يكون أحدهما عبدًا للغة، وإنما يبيحان لنفسيهما تصريفها كما يريدان وكما تريد المعاني، دون أن يخضعا للتشدد في أصولها ومراعاة قواعدها، يتفقان في هذا كله، ويختلفان بعد ذلك بعض الاختلاف. فأبو تمام أحرص جدًّا من ابن الرومي على متانة اللفظ وروعته في أغلب شعره، لا يعدل عن هذه المتانة ولا ينصرف عن هذه الروعة إلا حين يضطره المعنى إلى ذلك اضطرارًا لا مخرج له منه، أما ابن الرومي فهو سهل في شعره لا يريد أن يشق على نفسه وعلى سامعيه، وهو يرسل لسانه على سجيته كما يرسل نفسه على سجيتها، فهو من أقل الشعراء كلفًا بالغريب وإيرادًا له، وعنايته بالجمال اللفظي قد تحس أحيانًا، ولكنها تلتمس فلا توجد في كثير من الأحيان وقد تروعك سهولة اللفظ في البيت أو البيتين، ولكنك لا تستطيع أن تقرأ قصيدة كاملة دون أن تجد في هذه القصيدة من الألفاظ ما يغيظك أحيانًا ويضيق به صدرك أحيانًا أخرى.
ثم هما يختلفان من ناحية أخرى في أن أبا تمام كان شديد الحرص على البديع والمحسنات البديعية، أو بعبارة أصح كان شديد الحرص على جمال الصنعة الفنية في الشعر، فهو كان يتتبع الاستعارة، ويسرف في تتبعها، ويجدُّ ما استطاع في طلب الجناس والمطابقة، وما إلى هذه الأنواع من المحسنات البديعية، هو كان يجد في هذه الأشياء جمالًا لا بد منه، وكان يحرص على أن يلائم بين جمال الألفاظ وجمال المعاني.
أما ابن الرومي فهو لا يتحرج من البديع، ولكنه لا يتهالك عليه، وكما أنه لا يكلف بالغريب ولا يتكلف متانة اللفظ ولا جزالته ولا رصانته، فهو كذلك لا يكلف بهذا الطباق أو الجناس، إن وفق إلى هذه الأشياء فذاك، وإن لم يوفق فلا يعنيه.
وهما يختلفان من ناحية ثالثة، فأبو تمام شاعر من الشعراء، قصائده متوسطة لا تسرف في الطول، وله مقطوعات.
أما ابن الرومي فشاعر مطيل ومطيل جدًّا، يبلغ بقصيدته المئات من الأبيات، وهذا الاختلاف بين الشاعرين في إطالة القصيدة مصدره واضح جدًّا، وهو أن الشاعرين وإن اتفقا في الغوص على المعاني فهما يختلفان في مقدار هذا الغوص، أو بعبارة أدق، في مقدار البسط والتفصيل في المعاني التي يظفران بها، أما أبو تمام فهو يبحث عن المعنى ويجد في التماسه ويظفر به ويعرضه عليك عرضًا متوسطًا، لا يطيل فيه ولا يسرف، بل في نفسه شيء من الاحترام لك والاعتراف بأن لك عقلًا يستطيع أن يتم ما لم يتمه هو، والاطمئنان إلى أنك ستتم هذا المعنى إتمامًا حسنًا دون أن تقصر أو دون أن تغلو، فهو إذن يفصل المعنى، ولكنه لا يسرف في التفصيل، ويهمل الزوائد ويتجافى عن الأطراف.
أما ابن الرومي فالأمر في شعره ليس كذلك، فهو يمضي مع أبي تمام في الغوص على المعنى والتفتيش والجد في طلبه حتى يبلغ المعنى الجيد، فإذا ظفر بهذا المعنى ساء ظنه بالناس في الأدب، كما يسوء ظنه بهم في الحياة العملية، فكما أنه كان يعتقد أن الناس ليسوا أخيارًا في معاملتهم، فهو كذلك كان يعتقد أن حظ الناس من الذكاء ليس بحيث يمكنه من أن يطمئن إليهم في فهم المعاني، فهو إذن حريص على أن يتم معانيه بنفسه، ويستقصي البحث والعرض حتى لا يتعرض لأي عبث من الذين يسمعونه أو يقرءونه. ومن هنا كان المعنى الذي يستطيع أبو تمام أن يعرضه في بيتين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة — على أكثر تقدير — يطيل فيه ابن الرومي في الأبيات التي تبلغ العشرة أو تتجاوزها، ومصدر هذا كما قلت هو أخذ أبي تمام بما لا بد منه، وثقته بعقل الناس، وحرص ابن الرومي على أن يصل إلى كل شيء، وعدم اطمئنانه إلى الذين يسمعونه أو يقرءونه.
هل أقول أيضًا إن علم أبي تمام باللغة العربية والأدب العربي كان أوسع وأعمق من علم ابن الرومي بهذه اللغة وهذا الأدب؟ الواقع أن القدماء قد اتهموا أبا تمام بالسرقة؛ لأنه كان كثير الرواية للشعر يطيل النظر فيه، وظنوا أنه أسرف في استغلاله، ولست أدري أكان هذا حقًّا؟ ولكن الذي لا شك فيه أن إطالة الرواية وإطالة النظر في أشعار القدماء قد أثرت في لفظ أبي تمام فجعلته من أرصن ألفاظ الشعراء في عصره، بينما ابن الرومي لم يُعرَف عنه تعمق كتعمق أبي تمام في الرواية، ولا في اللغة، وإنما كان حظه من هذا كحظ غيره من الشعراء الذين عاصروه، فهو إذن لا يمتاز بكثرة الرواية كما امتاز البحتري وأبو تمام، فليس غريبًا أن يظهر أثر هذا في شعره، وأن يكون شعره من أسهل الشعر الذي نعرفه في القرن الثالث للهجرة.
لفظ ابن الرومي غير متين، بل ربما كانت الجزالة والرصانة فيه نادرة، وشعره في هذه الناحية أقرب إلى النثر منه إلى الشعر، قريب إلى النثر من ناحيتين: إحداهما تعمده التفصيل والبسط والإجادة في أداء المعاني التي يريد أن يؤديها، فالذي نعرفه — لا في اللغة العربية وحدها بل في اللغات على اختلافها — أن الشعراء ليسوا في حاجة إلى الإطناب، ولا في حاجة إلى التفصيل الشديد، وأن الجمال الشعري ربما اعتمد على الإيجاز دون التفصيل أو «اللمحة الدالة» كما يقولون، أما التفصيل والبسط والتطويل فهو من خصائص النثر ومن مزاياه، في هذه الجهة — جهة التفصيل والإطالة — ربما فسد شعر ابن الرومي بعض الشيء؛ لأن الشعر كما قلت لكم لا يحتاج إلى كل هذه الإطالة ولا إلى هذا التفصيل الذي أملَّ القدماء، والذي أملَّ ابن الرومي نفسه، واضطره أن يعتذر في بعض قصائده من الإطالة.
الشعر لا يحتمل هذا الإطالة في المعاني الغنائية، وهو إذا احتمله في القصص فقل أن يحتمله في غيره.
وأما الناحية الأخرى التي تقرب شعر ابن الرومي من النثر فهي هذه السهولة في اللفظ والإعراض عن التجويد اللفظي، فابن الرومي يبلغ من ذلك ما يريد أحيانًا، ولكنه لا يريد هذه الإجادة في كثير من الأحيان، ويكفي أن تقرءوا قصيدة لابن الرومي فسترون فيها متانة عارضة، ولكنكم سترون فيها شيئًا يشبه العلة الدائمة في شعر ابن الرومي، وهو هذا اللفظ الذي يقرب من أذهان الناس جميعًا حتى يكاد يبلغ حد الابتذال.
خصائص شعر ابن الرومي
بعد هذه المقارنة السريعة بين شعر ابن الرومي وأبي تمام بوجه عام، أريد أن ألفتكم إلى الخصائص التي تميز شعر ابن الرومي من الشعر العربي عامة، والتي تظهر فيها آثار طبيعته اليونانية وآثار ثقافة اليونانية، فقد يكون من الحق علينا أيضًا ألا نغلو في إضافة خصائص ابن الرومي إلى طبيعة جنسه اليوناني أو إلى الوراثة اليونانية فيه، بل قد يكون من الحق أن نلاحظ أن التأثير اليوناني في شعر ابن الرومي، إن عاد إلى الوراثة فهو في الوقت نفسه يعود إلى الثقافة اليونانية الإسلامية.
لسنا نعرف أكان ابن الرومي يحسن اليونانية أم لا؟ وليست هناك نصوص تدلنا على أنه كان يعرف هذه اللغة معرفة تمكنه من أن يتصل بالآداب اليونانية مباشرة.
وابن الرومي ليس يونانيًّا خالصًا، ولكنه يوناني من ناحية، وفارسي من ناحية أخرى، فإذا كان أبوه أو جده يونانيًّا فأمه فارسية، وإذن فالطبيعة الخاصة التي تؤثر فيه ليست هي الطبيعة اليونانية الخالصة، ولا الطبيعة الفارسية الخالصة، إنما هي الطبيعة المختلطة، وإنما الذي كون عقله وملكته الشعرية هي ثقافته، وهذه الثقافة فيما يظهر كانت متأثرة جدًّا بما عرفه المسلمون من الثقافات الأجنبية والعربية، وكانت في الوقت نفسه ثقافة عربية إسلامية فهو على حظ لا بأس به من العلم بالعربية ولغتها، وهو على حظ لا بأس به من الدين الإسلامي وأحكامه، وحظ عظيم مما كان يعرفه الرجل المثقف من علوم اليونان غير الإسلامية.
وأنا أضيف تكوين عقل ابن الرومي إلى الثقافة الإسلامية اليونانية أكثر مما أضيفه إلى وراثته اليونانية، ومن المحقق أن اجتماع الثقافة إلى تلك الوراثة هو الذي كون هذه الطبيعة الخاصة التي نجدها في شعر ابن الرومي.
نظرة ابن الرومي إلى الأشياء ونظرته إلى الطبيعة، وتفكيره فيما يفكر فيه من المعاني، كل هذا يخالف المألوف عند الشعراء المتقدمين والمعاصرين، إلا في شعر ابن الرومي كما قلت لكم.
ابن الرومي كان قوي الخيال جدًّا، وكان خياله بعيدًا ليس بالقريب، وكان حاد الحس جدًّا، وكان قوي الشعور، فكان إذا ألم بمعنى من المعاني تأثر به تأثرًا واضحًا، وربما كان أحسن ما يصور لنا خاصية ابن الرومي، أو خصائصه في الشعر، أن نقف وقفة قصيرة عند شيء من شعره لنرى أنه كان يمتاز من الذين عاصروه ومن الذين تقدموه.
ما عيب على أبي تمام وابن الرومي
قبل أن أقف عند شيء من هذا الشعر، أريد أن ألفتكم إلى نوع من النقد وُجِّه إلى أبي تمام كما وُجِّه إلى ابن الرومي؛ ذلك هو أن أبا تمام كان يضيف إلى الأشياء صفات ليس من المعقول أن تضاف إليها، فهم ينكرون مثلًا على أبي تمام أنه كان يشخص، فهو كان يجعل للدهر أخدعين، وكان يجعل الدهر طويلًا عريضًا، وكان يجعل الدهر شيئًا يُركَب، وكان يصور هذه المعاني كما تُصوَّر الأشخاص، كان يتحدث إليها كما يتحدث إلى الأشخاص والكائنات الحية، ويضيف إليها من الأوصاف ما لا يضاف إلا إلى الأشخاص أيضًا، هذا النقد وُجِّه إلى أبي تمام وأسرف الآمدي وغير الآمدي في أخذه به، وزعموا حين نقدوا أبا تمام أن هذا النوع من الاستعارة وُجِد عند المتقدمين ولكن أقل جدًّا مما وُجِد عند أبي تمام.
هذا العيب — إن كان عيبًا — يوجد عند ابن الرومي أكثر جدًّا مما يوجد عند أبي تمام للسبب الذي قدمته، وهو أن وقوف ابن الرومي عند المعاني أطول جدًّا من وقوف أبي تمام عند هذه المعاني، ومتى كان الأمر كذلك، فطول وقوف ابن الرومي عند المعاني يضطره إلى أن يطيل النظر فيها، فهو يتصرف فيها ويعبث بها أكثر مما كان أبو تمام يتصرف في معانيه، وإذا كان أبو تمام قد استطاع أن يجعل للدهر أخدعين وأن يجعله طويلًا وعريضًا، فإن ابن الرومي قد فعل ما هو أكثر من ذلك، فابن الرومي قد تصور هذه المعاني على أنها أشخاص، ووقف هذه الأشخاص منه موقف المتحدث الذي يخاصمه ويطيل معه الخصومة، فهو أجرى في معانيه حياة وحركة من شأنها ألا تجري إلا في الكائنات الحية، ثم لم يكتفِ بذلك بل جعل هذه المعاني عقولًا تفكر وتقاضي، فهو إذن قد جعل معانيه أشخاصًا من الناس وجعلها تفكر وتناقش على أصول المنطق، وهو إذن قد جعل معانيه كأنها أشخاص من الناس، وجعل الحياة ملعبًا أو مسرحًا من مسارح التمثيل، وجعل هذه المعاني هي الأشخاص أو أبطال القصة. هذا النحو من التفكير وهذا النحو من معالجة المعاني، وإجراء التفكير فيما ليس من شأنه أن يفكر، وإطالة هذا التفكير وهذا الحوار من الأشياء التي تدل على أنها نتيجة من نتائج الطبيعة والثقافة اليونانية عند أبي تمام وابن الرومي، وهي هذه الطبيعة التي أنشأت فن التمثيل عند اليونان، والتي لم تستطع أن تتصور الشعر الغنائي نفسه كما تصوره العرب على أنه مجرد التعبير عن الآراء المختلفة والميول المتباينة، وإنما اضطرت إلى أن تثبت الحركة، واضطررت إلى أن يكون غناؤها نفسه تمثيلًا، وأن يتكلف غير واحد إنشاد الشعر الغنائي، فالشعر الغنائي عند اليونان، لم يكن في أول الأمر يستقل بإنشاده شاعر واحد، وإنما كان يشاركه في ذلك شاعر آخر، ويستعين بالمغنين والموقعين.
هذا النوع من الكثرة أو من التعديد، أو من إيجاد المغايرة الظاهرة جدًّا بين الفرد الذي يتأثر بالمعاني ويحس العواطف، هذا النوع من التفكير هو الذي يميز ابن الرومي وأبا تمام من الشعراء الذين تقدموهما أو عاصروهما.
قصيدته في عتاب الشطرنجي
ويكفي لأجل أن تفهموا هذا النوع أن تنظروا إلى هذه القصيدة التي يعاتب بها صاحبه وصديقه أبا القاسم الشطرنجي، انظروا إليه كيف يبدأ هذه القصيدة، وكيف يكوِّن من الخصال السيئة التي استكشفها عند صاحبه جماعة من الأشخاص يتحدث إليهم ويتحدثون إليه:
هذه الهنوات التي كشفتها حاجته عند صاحبه، وهي التي سيشخصها ابن الرومي، وسيتخذ منها جماعة يسبغ عليهن ثوب النساء، وسيتحدث إليهن وسيكون بينه وبينهن حوار لو اتسعت اللغة العربية له لكان كالحوار التمثيلي، ولكنها لم تكن تتسع له في ذلك العصر، فلم يسعه إلَّا أن يقول «قلت، وقلن»؛ أي: أَنْ يحدث بينه وبينهن سؤالًا وجوابًا «قلن، وقلت»:
انظروا أولًا إلى «الظن» و«الظنون» وإلى تكرار هذا اللفظ مفردًا في الشطر الأول وجمعًا في الشطر الثاني، فهو يحدث لنا موسيقى كالبحتري حين كان يكرر الألفاظ، أو يرشح في الشطر الأول للقافية التي تأتي في الشطر الثاني كقوله:
يقول ابن الرومي:
يقول إنه لما رأى هذه الخصال التي ظهرت له أساء ظنه بأصدقائه، ولم يكن من شأنه ذلك، وقال: ربما توجد المرأة السيئة في ظل المرأة الحسناء؛ إذ ربما توجد الخصلة السيئة في ظل الخصال الحسنة:
في البيت السابق كان يتحدث إلى نفسه، ثم انتقل إلى الحديث إلى هذه الخصال.
وأحب أن ألفتكم إلى شيء من الإهمال في هذا البيت وهو قوله «ذاك» وكأنه يتحدث إلى مفرد، ولكنه يتحدث إلى الجميع ولست أقول إن هذا خطأ فإنه مألوف شائع، ولكني أقول إن فيه إهمالًا في الذوق، وستجدون هذا الإهمال كثيرًا جدًّا في شعر ابن الرومي:
يقول: لولا أننا ظهرنا لك ما تجلت عنك هذه الشبهة المظلمة التي تغشتك في صاحبك أبي القاسم.
هنا يلم ابن الرومي بالبديع: كاسفات كاشفات (جناس)، كاسف مستضاء (نوع من المطابقة):
الخصال هي التي تتحدث إليه، فتقول: عجيب أنك مهتدٍ، ولكنك تتمنى أن تظل حائرًا، مع أننا نكشف عنك الشبهة!
أظنكم تلاحظون أن الهوى كثير في هذا البيت:
فأنتم ترون إلى هذا الحوار بين ابن الرومي وبين هذه الخصال من صاحبه وقد كان مغرمًا به مسرورًا من حسن العشرة، وما كان يظهر له من أنه مخلص صحيح الإخلاص، ثم عرضت له حاجة فتقدم فيها إلى أخيه فلم يسعفه ولم يواته، فاستكشف أنه ليس كله حسنًا، وبدت له هذه العيوب شنيعة قبيحة، فأسف؛ لأنه فتش عن صاحبه فبدت له عيوبه، وود لو لم تظهر هذه العيوب، ولكن هذه الخصال نطقت بنفسها وقالت: قد أزلنا عنك الشبهة، وعرفناك حقيقة الصديق، وهذا النحو هو الذي نجده في القصص التمثيلية اليونانية عند «إسكيلوس» أو «سوفوكليس» أو «إيروبيد».
ثم يتحدث ابن الرومي إلى صديقه وصاحبه أبي القاسم في عتاب فانظروا كيف يستقصي المعاني، ولا يطمئن إلى الإيجاز، وإنما يفصل ويشرف في التفصيل:
أراد أن يقول لصاحبه: هبك لم ترد أن تجيبني إلى ما طلبت، وهبك لم ترد أن تسعى إلى هذه الحاجة التي كلفتك السعي فيها، أما كان ينبغي أن تجيب جوابًا حسنًا أستطيع أن أطمئن إليه؟ هذا هو المعنى الذي كان يريد أن يقوله وقد فصلته هنا تفصيلًا، ويستطيع الكاتب المجيد أن يوجزه أكثر مما قلت أنا، ولكن ابن الرومي لا يطمئن إلى ذكاء قارئ أو سامع في أن يستكمل المعنى ويتمه إذ ظفر به، ثم يقول بعد ذلك:
تلاحظون أن في هذه الأبيات، من أول «يا أخي» إلى آخر بيت وقفنا عنده، عذوبة في اللفظ ورفقًا في الحديث نلاحظ فيه العتاب بمعناه الصحيح، هو شيء بين الرضا والسُّخط، بل هو سخط يلبسه صاحبه ثوب الرضا، هو شيء قريب من الهجاء ولكنه ليس هجاء.
وابن الرومي يجيد هذا الفن إجادة لا حد لها، فهو شديد على صاحبه ولكنه على شدته هذه رفيق بالحديث، وهو يحس أنه لم يبلغ من الشدة ما ينبغي من صاحبه، فهو بعد أن قال كل ما سمعتم يقول:
فهو يعتذر إذن عن هذا الدرس القاسي الذي سيلقيه على صاحبه، والذي بدأ في إلقائه منذ حين:
انظروا إليه كيف ينتقل من الحديث السهل والعتاب الرقيق والخصومة اللينة، إلى هذا العنف وهذه الشدة في التأنيب والتقريع، حتى يصل إلى أن يقول لصاحبه: إن الذي يريد أن يبلغ العلا، وأن يكسب المحامد للناس، لا ينبغي أن يأتي من الأمر مثلما أتيت، وليس هكذا يفعل من بلغ مرتبة في السماحة، يعد ثم لا يفي كأنه الصفصاف يورق للعين حتى يخدعها، ثم لا يتحرج أن يصف صاحبه بالنفاق فيقول:
وهنا يحس ابن الرومي أنه اشتد على صاحبه، واشتط في الشدة وغالى حتى آلمه، وهاج حفيظته، وهو مضطر إلى أن يرق، ويصرف صاحبه عن هذا الحديث الخشن الثقيل، فهو يخرج من العتاب إلى نوع من التملق واللطف، فهو يصف صاحبه:
انظروا إلى هذه الصفات التي جمعها ورتبها في هذا البيت بعد هذا التقريع العنيف، هو مضطر إلى أن يخفف من حدة هذا التوبيخ، فيأتي بهذا البيت يجمع فيه كل هذه الصفات الحسنة، وهي هنا أشبه بالدش البارد، ثم لا يكتفي بهذه الصفات بل يُفصِّل فيقول:
انظروا إلى هذا البيت فهو من أجمل تشبيهات ابن الرومي، فهو يريد أن يقول إن نبوغ صاحبه في لعب الشطرنج نبوغ خفي دقيق، كأنه السر في ضمير المحب الذي أفشى سرَّه مرة؛ فعوقب على هذا الإفشاء:
انظروا إلى هذا البيت جيدًا «أو مسير القضاء»:
هذه الأبيات من أجمل ما قيل في اللغة العربية في لعب الشطرنج، ولكن ابن الرومي من غير شك لم يكن يريد أن يمدح صاحبه، ولا أن يتملقه ببراعته في لعب الشطرنج من حيث إنه بارع ماهر، وإنما هو يتخذ هذا الوصف والثناء ذريعة إلى أن يخفف عن صاحبه حدة هذا التقريع، فهو يريد أن يترضاه وأن يتملقه فيصفه بأحب الأشياء إليه وبالشيء الذي يجد فيه هذا الرجل رضًا وراحة، وهو مهارته في لعب الشطرنج، ثم يمضي ابن الرومي، فيصف صاحبه بالذكاء وبالذكاء النادر، ويصفه بهذا الذكاء الذي يجمع إلى البراعة استقامة في الخلق بأنه لا يتهالك على السلطان، ولا يتهالك على الثروة، وهو من أجل هذا أعرض عن صحبة الملوك وصحبة المترفين والأمراء، ومن أجل هذا أيضًا ابتعد عن التجارة وربحها، وهو يؤثر حياة هؤلاء الناس الذين يرضون الحياة السهلة اللينة، ولكن بما فيها من ضيق اليد مع الترف الميسور، واللذة العقلية، يؤثر هذا على الثروة والجاه، ويمضي في هذا حتى يوقن أنه أرضاه.
فإذا بلغ ابن الرومي من ذلك ما أراد بأن حمل صاحبه على أن يعجب بنفسه وخلقه وفلسفته، إذا بلغ من ذلك ما أراد، وإذا نسي صاحبه ذلك التقريع والتعنيف، عاد بغاية اللين والسهولة وعاتبه وسأله: أترى كل هذه الأشياء التي حدثتك عنها مجتمعة فيك، ثم يعسر عليك بعد ذلك أن تفهم مودتي وصداقتي، وأن تسعى وراء هذه الحاجة التي كلفتك السعي فيها؟! حتى إذا بلغ من هذا العتاب مأربه اشتد مرة أخرى وعنف صاحبه، ولم يكتفِ بهذا العنف وهذا التقريع، بل يلتمس قاضيًا، هذا القاضي هو أبو بكر أخو أبي القاسم، فيعرض عليه القضية ويطلب إليه أن يمضي فيها رأيه، ولا يمكن أن يكون فيها إلا عدلًا. فيصور صاحبه أشنع صورة أمام القاضي، فإذا فعل ذلك عاد إليه فاستعطفه بأرق لفظ حلو، وأكد له أنه لم يرد هجاء، إنما يريد عتابًا، ثم تنتهي هذه القصيدة عند هذا الحد، ولست أرى بأسًا أن تسمعوا ما بقي منها بعد هذا التخلص:
فأنتم ترون أن هذه القصيدة، التي هي من أواسط قصائد ابن الرومي، وله كثير خير منها، لو اتسع الوقت لدرستها معكم درسًا مفصلًا، تعطينا فكرة واضحة عن ابن الرومي.
مع أن هذه القصيدة لا تكاد تتجاوز تسعة وعشرين ومائة بيت فقد ألم فيها بفنون مختلفة، فهو مادح وهو محاور، وهو واصف، وهو بالغ بعتابه حدًّا نستطيع أن نقول إنه الهجاء، ولكنه نفسه يقول إنه لا يهجو، وهو على هذا ملم بطائفة غير قليلة من الفنون الشعرية، وهو على هذا حريص أن يرتب قصيدته وألا يرسلها إرسالًا، وإنما هو كأبي تمام يرتب قصيدته ترتيبًا منطقيًّا دقيقًا، فأنتم حينما تقرءونها لا تستطيعون أن تقدموا جزءًا على جزء، إنما تقرءونها كما رتبها هو، وأنتم مضطرون إلى أن تنتقلوا معه من معنى إلى معنى، ومن فصل إلى فصل من فصول القصيدة إلى فصل آخر.
وابن الرومي من أخص الشعراء الذين جعلوا شعرهم فصولًا كالنثر — يقسم قصيدته إلى فصول يبدأ الفصل فيستقصيه ويتمه، ثم ينتقل إلى فصل آخر، ومن حيث إنه يطيل فهذا أظهر في شعره منه في شعر أبي تمام.
إذن هذه القصيدة كما ترون على جمعها لكثير من فنون ابن الرومي تصور لنا الخاصة التي يمتاز بها، وهي إسباغه الحياة والحركة على الأشياء والمعاني.
آسف أشد الأسف لأن ساعة أو ساعات لا تكفي لأداء ما كنت أود أن أؤديه، ولكن ما تخسرونه من ضيق الوقت ليس شيئًا؛ فإن ابن الرومي ظل طول العصور مضطهدًا، فلما جاء هذا العصر كوفئ عن صبره أحسن مكافأة؛ لأنه درس وفكر فيه أكثر ما درس غيره من الشعراء، لا أكاد أستثني إلا المتنبي وأبا العلاء، ودرس دراسة تلائم عصرنا، درسه بنوع خاص الأستاذان العقاد والمازني.
العقاد وابن الرومي
أما العقاد فكتب عنه كتابًا هو من غير شك أحسن ما كُتِب عن ابن الرومي إلى الآن، وإن كان الأستاذ العقاد عني بالشاعر أكثر مما عُنِيَ بالشعر، ولكن هذا نفسه فوز كبير؛ فشخصية ابن الرومي من أحسن الشخصيات الإنسانية التي يجب أن تُدرَس، وأنا حين أقول الإنسانية أعني ما أقول؛ فالباحثون يجب أن يُعنَوا بابن الرومي لا أقول في الأدب وحده بل في الأدب والفلسفة وعلم النفس؛ فالأستاذ العقاد في كتابه — على عنايته بالشاعر — قد أحسن إلى ابن الرومي، وأحسن إلى الأدباء المعاصرين إحسانًا لا حد له.
المازني وابن الرومي
وعُنِي المازني في مقالاته عن ابن الرومي في كتابه «حصاد الهشيم» عناية أشهد أنها من أقوى العنايات، فلا أعرف أني قرأت شيئًا أروع ولا أمتع من هذه الفصول التي كتبها، والمازني قد يكون أكثر استشهادًا بشعر ابن الرومي من العقاد، ولكنه كالعقاد يقف عند شخصية ابن الرومي أكثر مما يقف عند الجمال والتحليل الفني، والظاهر أنهما يكلفان كلفًا خاصًّا بشخصيات الشعراء.
أما أنا فربما عُنِيت بالشعر أكثر من عنايتي بالشعراء، وربما اتخذت الشاعر وسيلة إلى فهم الشعر؛ ولذلك أرجو أن تتيح لي الأوقات والظروف أن أدرس مع العقاد والمازني ابن الرومي، ولكن من ناحية شعره وفنه، لا من ناحية شخصه، فأظن أنهما قد بلغا من ذلك فوق ما أريد.