العقل النائم
(١) النَّوى فوقَ التصالُبية والساعة الجزيئية
لقد أدَّى تَلَفُ مناطق صغيرة من دماغ الفأر، تحديدًا الجزء الأمامي من تحت المهاد، إلى اعتبار كتلة مترابطة تتكون من حوالي ٢٠ ألف خلية تعرف بالنَّوى فوقَ التصالُبية، من العناصر الحيوية المسئولة عن تنظيم إيقاعات السلوك لدى الفأر، مثل الشرب والتنقل، على مدار أربع وعشرين ساعة. وتعتبر الدراسات التي أُجريَتْ في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته دليلًا آخرَ على أن النَّوى فوق التصالُبية هي مركز الساعة البيولوجية؛ حيث أظهرتْ تلك الدراسات أنه يمكن الاستعاضة عن تلف النَّوى فوق التصالبية بزراعة أنسجة نوى فوق التصالبية عن طريق نقلها من حيوان إلى آخر؛ الأمر الذي يُعيد الإيقاع اليومي الممتد على مدار ٢٤ ساعة، بما في ذلك دورة النوم والاستيقاظ.
تعدُّ كل خلية في النوى فوق التصالبية ساعة منفصلة بذاتها، حيث تظهر كل خلية عصبية منها إيقاعات من النشاط تقارب ٢٤ ساعة، وتتسق تلك الخلايا على نحو ما في نشاطها الكهربائي الفردي لتنتج في النهاية الإيقاع الكلي للنوى فوق التصالبية الذي يقارب الأربع والعشرين ساعة. جاء الدليل على قدرة الخلية العصبية الواحدة المنعزلة في النوى فوق التصالبية على إصدار ذبذبات لقرابة اﻟ ٢٤ ساعة، ليثبت أن الآلية التي تجعل الساعة «تدق» يجب أن تكون آلية جزيئية دون خلوية. ولقد قادت النتائج — التي تم التوصل إليها في حقبة السبعينيات — من خلال العمل البحثي الذي تم إجراؤه على ذبابة الفاكهة، وفئران وهامستر طافرة، مع قليل من الإلهام وجانب من الحظ؛ قادتْ جميعُها إلى إنتاج نموذج جزيئي لاستحداث النظام اليومي الإيقاعي الذي يعتمد على نشاط مجموعة «من جينات الساعة» الحيوية. ويكمن في جوهر ذلك النموذج حلقة من ردود الأفعال الجزيئية حيث تعمل بروتينات «بي إم إيه إل ١» و«سي إل أو سي كيه» على تنظيم عملية النسخ الجيني والتحكم في إنتاج بروتينات «بي إي آر ١»، و«بي إي آر ٢»، و«بي إي آر ٣»، و«سي آر واي ١» و«سي آر واي ٢». وفي إيجاز، ترتبط بروتينات «سي إل أو سي كيه» و«بي إم إيه إل ١» بمناطق جينات «بيريود» و«كريبتوكروم»؛ مما يؤدي إلى التعبير عن البروتين «بي إي آر» و«سي آر واي». ثم تتفاعل حينها بروتينات «بي إي آر» مع بروتينات «سي آر واي» لتكوين مركب بروتيني في سيتوبلازم الخلية، ثم يدخل ذلك المركب البروتيني إلى نواة الخلية ويحفز حلقة من التغذية الراجعة السلبية من خلال تثبيط عملية النسخ التي ينشطها بروتينا «سي إل أو سي كيه» و«بي إم إيه إل ١»؛ مما يوقف إنتاج بروتينات «بي إي آر» و«سي آر واي». ثم بعد ذلك يتحلل هذا المركب البروتيني، وينتهي تثبيط النسخ الذي يقوم به كل من بروتين «سي إل أو سي كيه» وبروتين «بي إم إيه إل ١»، ويصبح بإمكانهما مواصلة عملية النسخ مرة ثانية. وتستغرق تلك العملية الجزيئية من إنتاج البروتين إلى تحلُّله نحو ٢٤ ساعة.
ولا تقتصر تلك الساعات الجزيئية وآلياتها الإيقاعية على خلايا النوى فوق التصالبية فحسب، فمن الواضح الآن أن معظم خلايا الجسم قادرة على تكوين نظام يومي لتذبذباتها الإيقاعية بعيدًا عن النوى فوق التصالبية (وإن كانت تتسم بالضعف وعدم القدرة على دعم ذاتها). غيَّر هذا الاكتشاف النظرة إلى نظام الإيقاع اليومي للثدييات؛ حيث تغير ذلك الافتراض القديم القائم على فكرة أن النوى فوق التصالبية تفرض إيقاعاتها الممتدة ﻟ ٢٤ ساعة على باقي أعضاء الجسم، وأصبحنا نقدِّر الآن حقيقة وجود العديد من الترتيبات الهرمية للعديد من الساعات الإيقاعية الطرفية، التي يحقق التزامن بينَها النوى فوق التصالبية التي تعد بمنزلة «القائد» أو «مايسترو» الأوركسترا الإيقاعية، مستخدمة في ذلك كلًّا من الإشارات الكيميائية والعصبية. ويتلقَّى نظام الإيقاع اليومي بدوره العديد من المردودات من الجسد ومجموعة متنوعة من الأجهزة العضوية، لتكون النتيجة في نهاية الأمر نظامًا ترتيبيًّا معقدًا من التفاعلات المتبادَلة تُسهِم جميعها في فترة، وطور، وسعة الإيقاع اليومي للفرد. إلا أنَّ تفرُّد النوى فوق التصالبية يتجلَّى في قدرتها على التنسيق بين الساعات الإيقاعية للأنسجة الأخرى، وكونها الجزء الوحيد من الدماغ القادر على استعادة الإيقاعية عند زراعتها داخل مضيف تلفت النواة فوق التصالبية به.
تتسق تلك التذبذبات الجزيئية التي تتم داخل النوى فوق التصالبية مع دورة الضوء والظلام المرصودة من قِبَل العين؛ حيث تقوم القناة الشبكية تحت المهادية التي ترسل إشاراتها إلى النوى فوق التصالبية بإطلاق الناقلات العصبية الجلوتامات ومتعدد البيبتيد النخامي المنشط لسكلاز الأدينيلات. وتنشط حينها سلسلة كبيرة من الإشارات بين الخلايا؛ الأمر الذي يقود في النهاية إلى زيادة نشاط الجينات «بي إي آر ١» و«بي إي آر ٢». ويؤدي التوليف اللاحق بين كلٍّ من بروتينَيْ «بي إي آر ١» و«بي إي آر ٢»، إلى تثبيط طويل الأمد لنشاط بروتينَيْ «بي إم إيه إل ١» و«سي إل أو سي كيه». ويبدو أن هذا التثبيط الناجم عن الضوء لدافع النسخ لدى كل من بروتينَيْ «سي إل أو سي كيه» و«بي إم إيه إل ١» هو العامل المهم للغاية لربط الساعة الجزيئية بدورة الضوء المحلية.
وبينما يعد الضوء الإشارة البيئية الزمنية الأساسية لإعادة ضبط النوى فوق التصالبية، فإنه من المهم التأكيد على أن بعض المسارات الترابطية المختلفة بدأت تظهر وأثبتت قدرتها على تعديل الساعات الإيقاعية الطرفية في الكبد والأمعاء وغيرها من الأعضاء الأخرى على نحو مستقل عن النوى فوق التصالبية. إن نقص التزامن الداخلي بين أجهزة الأعضاء المختلفة في الجسم، في واقع الأمر، يؤدي إلى ظهور العديد من أعراض اضطراب الرحلات الجوية الطويلة. حيث تَتَلقَّى الساعاتُ الإيقاعية الطرفية إشاراتٍ زمنيةً متعارضة من النوى فوق التصالبية (التي تكون هي ذاتها قد دخلتْ طور التعديل)، ومن البيئة بسبب جداول نشاط النوم غير المنتظمة (العملية إس)، والتعرض غير الطبيعي للضوء، وتناول الطعام. حيث يؤدي ذلك كله إلى ضياع الاتساق الطبيعي للعمليات الفسيولوجية الداخلية وعمليات التمثيل الغذائي؛ مما قد يُؤثِّر على الصحة (انظر الفصول: السابع والثامن والتاسع).
(٢) محفزات الاستتباب أو الاتزان الداخلي
يخضع النوم كذلك للتنظيم الاستتبابي (العملية إس)؛ حيث يتزايد ضغط النوم مع طول فترة الاستيقاظ، ويتبدد مع ما يلي ذلك من الخلود إلى النوم. يؤدي الحرمان من النوم إلى رد فعل تعويضي يتمثل في النوم العميق، كما اتضح من خلال قياس نشاط الموجة البطيئة لحركة العين غير السريعة، وطول مدة النوم التعويضي. وعلى الرغم من الدراسة المستفيضة التي أُجريت على ديناميات تنظيم النوم الاستتبابي، فإننا لم نفهم سوى القليل فيما يتعلق بطبيعة هذه العملية. وعلى النقيض من الموقع التشريحي الواضح للساعة البيولوجية الرئيسية داخل النَّوى فوق التصالبية، تظل «النَّوى» المسئولة عن النوم والمواد التنظيمية المحفزة للنزعة الطبيعية له غيرَ مفهومة على نحو كامل.
أفادتْ دراسات أُجريت في القرن الماضي أن السائل الدماغي النخاعي يحتوي على مادة تتجمع أثناء اليقظة، ويمكن أن تحفز النوم إذا ما نُقلت من متبرِّع محروم من النوم إلى حيوان آخر. ولقد ركز السعي خلف «المحفز» الخاص بالنوم الاستتبابي على مفهوم وجود عنصر النوم الذي يفي بكافة هذه المعايير أو بعض منها: (١) إذا قُدِّم ذلك العامل إلى المخ، فإنه سيعزز النوم. (٢) إذا عُزِل العامل، فإن النوم سيقل. (٣) ينبغي أن يتغير العامل تبعًا لمحفز النوم أو النزعة الطبيعية للنوم. (٤) ينبغي أن يعمل العامل على الدوائر الكهربائية للدماغ التي تدخل ضمن عملية النوم. (٥) قد يتغير العامل في بعض الحالات المرضية المرتبطة بالنوم.
ظهر أول دليل على آثار الأدينوسين في تحفيز النوم عند القطط خلال فترة خمسينيات القرن العشرين. وتُستخدم حاصرات مستقبلات الأدينوسين (مثبطات الأدينوسين)، مثل الكافيين والثيوفيلين، الموجودة في القهوة والشاي، على نطاق واسع كمنشطات للجهاز العصبي المركزي لتحفيز اليقظة وزيادة فترة الاستيقاظ. يقلل الكافيين من نشاط الموجة البطيئة في التخطيط الكهربائي للدماغ خلال فترة النوم التالية، وتخفف آثار استهلاك الكافيين خلال فترات اليقظة الطويلة من حدة الآثار النمطية للحرمان من النوم على التخطيط الكهربائي للدماغ الذي يُجرَى أثناء الاستيقاظ والنوم.
يُعَدُّ الأدينوسين ناتجًا ثانويًّا عن التمثيل الغذائي للطاقة واستخدامِ الأدينوسين ثلاثيِّ الفوسفات. ولقد اتضح أن تركيزات الأدينوسين خارج الخلية تزيد في الدماغ مع زيادة معدل التمثيل الغذائي والنشاط العصبي واليقظة. وأفادت قياسات الأدينوسين في أدمغة القطط والفئران التي تتحرك بحرية خلال دورة النوم والاستيقاظ أن مستويات الأدينوسين في الدماغ المقدم تكون أقل بكثير خلال النوم منه أثناء اليقظة.
(٣) مراكز الدماغ والناقلات العصبية للنوم واليقظة
(٤) الناقلات العصبية لليقظة
(٥) تحفيز نوم حركة العين غير السريعة ونوم حركة العين السريعة
(٦) التناوب ما بين نوم حركة العين غير السريعة وحركة العين السريعة
(٧) جينات نوم متعددة وأنماط متعددة للنوم والاستيقاظ
أظهرت دراسات أُجريت خلال ثلاثينيات القرن العشرين أن التوائم أحادية الزيجوت المتطابقة، الذين تتطابق جيناتُهم بنسبة ١٠٠٪، يتشابهون كثيرًا في أوقات وفترات نومهم مقارنةً بالتوائم ثنائية الزيجوت، والذين يتشاركون في ٥٠٪ فقط من جيناتهم. ولقد أظهرت دراسات أُجريت حديثًا على البشر والفئران أن أنماط نوم حركة العين غير السريعة ونوم حركة العين السريعة تُظهِر معدلات أعلى من التشابه في الأفراد الذين تجمعهم صلات وثيقة. إن حقيقة وجود عنصر جيني في النوم أمرٌ لا يُثير الدهشة، لكن ما هي تلك الجينات؟
يوجد الآن دليل قوي يربط بين تغيرات معينة في جينات الساعة البيولوجية واليقظة الصباحية واليقظة المسائية. فعلى سبيل المثال، يرتبط التعدد الشكلي للجينات البشرية «بي إي آر ١» و«بي إي آر ٢» و«بي إي آر ٣» بالفئات التي تتمتع بذروة يقظتها في الصباح (القُبَّرات). كما يرتبط تفضيل فترة الصباح أيضًا بالطفرات في إنزيمات كيناز (سي كي١ دلتا وسي كي ١ إبسيلون) التي تضيف الفوسفات إلى البروتين «بي إي آر»؛ مما يؤدي إلى اضطراب في استقرار البروتين والحركة داخل النواة. وعند الفئران، تعمل الطفرات في جين «سي آر واي ١» على تعزيز النوم، بينما تعمل الطفرات في جين «سي آر واي ٢» و«سي إل أو سي كيه» على تأخير النوم.
ولقد وُجد أن ثمة علاقة أيضًا بين جين «سي إل أو سي كيه» والتنظيم الاستتبابي للنوم؛ حيث تنام الفئران التي بها طفرات في جين «سي إل أو سي كيه» حوالي ساعتين أقل من الفئران التي لم يحدث لها أي طفرات، بينما تنام الفئران التي حدثت لها طفرات في كل من «سي آر واي ١» وسي آر واي ٢» لفترات أطول. ولقد أفادت الدراسات التي أجراها بول فرانكين وزملاؤه أن مستويات البروتينَيْنِ «بي إي آر ١» و«بي إي آر ٢» في الدماغ المقدم للفئران تتزايد مع الحرمان من النوم وتقل خلال فترة تعويض النوم. وتبقَى آليات تنظيم تلك الجينات للنوم غامضة.
في هذا الوقت، يبدو أنه من غير المحتمل وجود ناقلات عصبية فريدة أو تكوين دماغي مسئول عن النوم بمفرده، حيث يبدو أن كلًّا من النوم والاستيقاظ هما نتاج شبكة من النشاط الدماغي. وخلال النوم، ينشِّط كل شخص هذه الشبكة على نحو مختلف قليلًا تتفاعل من خلاله الخبرات والتجارب اليومية مع العواطف الماضية، ويحدث ذلك كله مع استيعاب عملية التقدم في العمر. وهكذا، وعلى سبيل فك غموض اللغز سيبقى علماء الأعصاب في حالة انشغال دائم بديناميات هذه المؤثرات الذاتية والبيئية على النوم الطبيعي وغير الطبيعي خلال السنوات العديدة القادمة.