النوم والصحة
يمكننا تناول العلاقة بين النوم والصحة بطريقتين مختلفتين. عرضنا في الفصل السابق تأثير اضطرابات النوم الإكلينيكية على الصحة وزيادة مخاطر الإصابة بأمراض أخرى. أما في هذا الفصل فسيتم مناقشة ما يتعرض له مَن لا ينالون قسطًا كافيًا من النوم أو يعانون من نوم متقطع. ولقد وفر علم الأوبئة القائم على أساس من الأبحاث السكانية الواسعة النطاق العديد من الدراسات المستفيضة حول العلاقة بين النوم والمرض. ولقد اتبع علماء الأوبئة العديد من الأساليب المنهجية المختلفة التي توفر درجات مختلفة من الثقة في مدى قوة الارتباط بين عامل ما (على سبيل المثال: مدة النوم) والمرض. وتتابع أفضل الدراسات الأفراد على مدى فترات طويلة، قد تصل إلى حياتهم بأكملها، لمعرفة مدى تأثير سلوكياتهم على الإصابة بالأمراض. وهناك أيضًا دراسات قصيرة المدى تدرس على سبيل المثال قطاعًا بعينه من المجتمع، وتشير إلى مدى انتشار مرض ما، لكنها يمكن أن تُظهِر فقط الروابط القائمة بين النوم والمرض، دون إثبات أن بينهما علاقة سبب ونتيجة. ولقد تم تطبيق كِلَا المنهجين فيما يتعلق بالنوم، وسيتم استعراضُ نتائجهما في هذا الفصل.
• النعاس، وحالات النوم المتناهي القصر، والنوم الفجائي |
• حدوث تغيرات في الحالة المزاجية |
• القلق والاكتئاب |
• انخفاض الأداء الحركي |
• انخفاض الأداء المعرفي |
• ضعف الذاكرة والتركيز |
• ضعف القدرة على التواصل واتخاذ القرار |
• زيادة سرعة الانفعال |
• زيادة المخاطرة |
• زيادة الوزن |
• ارتفاع مخاطر الإصابة بالاضطرابات الأيضية ومرض السكر |
• ارتفاع مخاطر الإصابة بضغط الدم المرتفع، والسكتة الدماغية، والنوبات القلبية |
• ارتفاع مخاطر الإصابة ببعض أنواع السرطان |
• ضعف استجابة الجهاز المناعي |
ربما تسأل: لماذا لم يتم إجراء تلك الدراسات إلا مؤخرًا؟ على الرغم من أن إجابة هذا السؤال معقدة، فإن هناك إجابة جزئيةً تتمثل في أن النوم لم يَنَلِ القدْرَ الكافي من الاهتمام مطلقًا كمادة للبحث في الدراسات المتعلقة بالصحة العامة. فالمجتمع بشكل عام لديه نظرة لا مُبالِية تجاه النوم؛ كم مرةً سمعنا عبارة «النوم للضعفاء!» أو «يمكنك النوم حين تموت»؟ وعلى الرغم من أن المواقف المجتمعية تجاه النوم عادةً ما تكون غير مشجعة (انظر الفصل الثامن)، فقد تم الآن إثبات أن هناك روابط قوية بين النوم والمرض. في واقع الأمر، ينبغي أن يصبح قياس فترات النوم جزءًا أساسيًّا من الدراسات المتعلقة بالصحة العامة، وربما يجب أن ينال نفس القدر من الأهمية مثل التدخين، وتناول الكحوليات، وإنقاص الوزن، وممارسة التدريبات الرياضية.
(١) النوم والسلامة
يُعد ارتفاع نسبة وقوع الحوادث والإصابات المرتبطة بالنعاس من أكبر مخاطر قلة النوم على الصحة. فالنوم من فرط الإرهاق أثناء القيادة أو العمل يزيد على نحو كبير من مخاطر وقوع كل من الحوادث المميتة والسقطات والعثرات البسيطة (انظر الفصلين الثامن والتاسع). وعادةً ما يكون أول ما يُفقد عند الشعور بالنعاس هو القدرة على أداء المهام البسيطة «الروتينية» التي عادةً ما نؤديها بسهولة، مثل القيادة. ويمكن حتى لحدوث تغيرات بسيطة في عادات النوم أن يتسبب في بعض المشاكل؛ حيث يؤدي تغيير التوقيت إلى التوقيت الصيفي في الربيع إلى فقدان ساعة من النوم ويقترن هذا بزيادة حوادث السيارات بنسبة ٢٠٪ صباح يوم الإثنين الذي يتبع التغيير مباشرةً. وعلى الرغم من وجود بعض الفروق الفردية في كيفية تأثير نقص النوم على كل من الانتباه والأداء، فإنه لا أحد بمنأًى عن آثار هذا النقص، وفي النهاية سيؤدي الافتقار إلى النوم الكافي إلى الإضرار بالجميع. لسوء الحظ، لا يستطيع الدماغ ونحن نشعر بالنعاس الحكم على قدراتنا؛ ومن ثَمَّ لا ندرك أحيانًا مدى تضرر أدائنا، ويعد هذا أمرًا جيدًا وخطرًا في نفس الوقت.
(٢) النوم وأمراض القلب
تناولت العديد من الدراسات المُوسعة العلاقة بين النوم وأمراض القلب والأوعية الدموية وأظهرت نتائج شديدة الاتساق. يعاني الأشخاص الذين يعانون من قلة النوم (الذين ينامون عادةً ٦ ساعات أو أقل) من ارتفاع مخاطر إصابتهم بضغط الدم المرتفع، والسكتة الدماغية، وأمراض القلب، وغالبًا ما يموتون بسبب النوبات القلبية، أكثر من الأشخاص الذين يتمتعون بفترات أطول من النوم (عادةً من ٧ إلى ٨ ساعات). ومن المثير للاهتمام أن مخاطر الإصابة بالنوبات القلبية ترتفع بنسبة ٥٪ في الأسابيع الثلاثة التالية لفقداننا ساعة من النوم خلال فترة بدء العمل بالتوقيت الصيفي، لكن لا يحدث ذلك عند تأخير التوقيت في الخريف.
تُظهر الكثير من هذه الدراسات أيضًا علاقة «عكسية» بين النوم والمرض؛ حيث تظهر آثار سيئة على الصحة لدى الأشخاص الذين ينامون لفترات أطول من المعدل الطبيعي (عادةً ٩ ساعات أو أكثر). ويمكن تفسير هذا بأن الأشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة أو ضعف في الصحة العامة قد ينامون لفترات أطول، أو يبقون في الفراش لفترات أطول؛ ومن ثَمَّ ينامون لفترات أطول. وسواء تم إثبات وجود أضرار صحية نتيجة «الإفراط في النوم» أم لا، فمن غير المرجح توافر فرص النوم لفترات أطول من المطلوب لدى الكثير من الأشخاص الذين يعيشون في مجتمعنا الذي يعاني غالبية أفراده من نقص في النوم؛ ومن ثَمَّ لا ينبغي أن يقلق الأشخاص بشأن الإفراط في النوم؛ فالمشكلة الكبرى تكمن في عدم حصولنا على كفايتنا من النوم.
كيف يؤثر نقص النوم على القلب؟ لم تُفهَم آليات هذا التأثير حتى الآن على نحو تام، لكن قد تؤدي العواقب الأيضية للحرمان من النوم إلى زيادة معدلات الدهون في الدم، وقد تؤدي مع الوقت إلى زيادة مخاطر الإصابة بأمراض القلب. يرتبط ضغط الدم المرتفع، الذي تترتب عليه زيادة خطورة الإصابة بالسكتة الدماغية وأمراض القلب والأوعية الدموية، بقِصَر فترات النوم، كما هو الحال مع زيادة فرص الإصابة بتكلُّس في الشرايين، الذي يُعد من أهم العوامل التي تزيد من مخاطر الإصابة بالنوبات القلبية، التي تؤدي بدورها إلى تكوُّن المزيد من الجلطات الدموية. تتأثر العمليات السابقة على الإصابة بالالتهاب، والتي تتضمن إنتاج السيتوكينات وزيادة نشاط الخلايا البطانية للأوعية الدموية، تتأثر أيضًا بقِصَر فترة النوم وتساهم بقوة في زيادة مخاطر الإصابة بأمراض القلب. ولقد اتضح أيضًا أن النوم المتقطع يرتبط بارتفاع معدلات البروتين التفاعلي سي، وهو من العلامات البيولوجية المعروفة لأمراض القلب.
هناك عوامل أخرى، بالإضافة إلى النوم، مرتبطة بقصر أو اضطراب النوم من شأنها التأثير أيضًا على القلب. يزيد التعرض للضوء ليلًا من معدل ضربات القلب؛ ومن ثَمَّ فإن الاستيقاظ المتكرر ليلًا يزيد من التغيرات التي تحدث في معدل ضربات القلب في الوقت الذي من المفترض في ظل الظروف الطبيعية ألا يتم التعرض فيه للضوء الساطع. يُظهِر القلب أيضًا إيقاعات يومية قوية يوميًّا؛ حيث تتزايد ضربات القلب ومعدلات التغير في ضربات القلب في ساعات الصباح الأُولَى، وخاصة خلال نوم حركة العين السريعة، وتبلغ قدرة الصفيحات الدموية (عوامل تجلط الدم) على التجمع وتكوين الجلطات ذروتها أثناء الليل. ويبدو أن هذه العوامل، بالإضافة إلى تغيير الأوضاع الجسدية، ومعدلات الهرمونات، والانتقال من حالة النوم إلى الاستيقاظ، تتجمع بعضها مع بعض لتساعد على تفسير الملاحظة المتعلقة بارتفاع معدلات الإصابة على نحو كبير بالنوبات القلبية والسكتات الدماغية في آخر الصباح (من السادسة صباحًا وحتى الثانية عشرة ظهرًا). تعمل مثل هذه الإيقاعات البيولوجية الملحوظة وزيادة مخاطر الإصابة بالأمراض على زيادة إمكانية تطور «علم توقيت العقار» — المَعْنِي بتقديم العقَّار في الأوقات التي يرتفع فيها معدل الإصابة بالمرض — وهو بمثابة مجال طبي ناشئ ذي أهمية كبيرة محتملة.
(٣) النوم وعملية الأيض
أظهرت الكثير من الدراسات أن قصر فترات النوم أو النوم المتقطع يرتبط بحدوث زيادة في الوزن، وازدياد ترسُّب الكُتَل الدهنية، والسمنة، ومرض السكر، ولقد تأكد الآن أن قلة النوم يغير عملية الأيض لدينا بطُرُق تزيد من خطورة الإصابة بتلك الاضطرابات الأيضية. ومِن المثير للاهتمام الإشارة إلى أن فترة النوم قد انخفضت منذ ستينيات القرن الماضي بالتزامن مع ارتفاع معدلات السمنة؛ الأمر الذي يشجع على التكهن بأن نقص النوم المزمن قد لعب دورًا هامًّا، ولا يزال، في انتشار هذا الوباء الصحي.
ولقد بدأت دراسات معملية مفصلة في استكشاف العلاقات الكامنة بين النوم وعملية الأيض عن طريق دراسة التغيرات التي تطرأ على الهرمونات، واستهلاك الطاقة، والشهية، والتي تحدث نتيجة حصول الأشخاص محل الدراسة على فترات مختلفة من النوم. وبعد اتباع أسلوب لتقييد النوم (عادةً من ٤ إلى ٥ ساعات في مقابل من ١٠ إلى ١٢ ساعة في الليلة لمدة أسبوع تقريبًا)، يصبح الأنسولين أقل فاعلية في خفض نسبة السكر في الدم (أو ما يسمى بزيادة مقاومة الأنسولين) وتتضرر أيضًا قدرة الجلوكوز على تنظيم معدلاته بمنأًى عن الأنسولين (أو ما يسمى بانخفاض تحمل الجلوكوز). وتؤدي المعدلات المرتفعة للجلوكوز في الدم إلى تدمير الأوعية الدموية ثم الكُلى، والعيون، والوظائف العصبية، في حالة عدم ضبطها بشكل صحيح. تغير قلة النوم، وخاصة قلة النوم البطيء الموجات، معدلات الشهية أيضًا؛ مما يُشعر الأشخاص بجوع أكبر ويدفعهم إلى تناول المزيد من الطعام، وخاصة الكربوهيدرات. لا تحدث هذه التغيرات نتيجة لبقاء الأشخاص مستيقظين لفترات أطول وزيادة فرص تناولهم للطعام، لكن تحدث بسبب حدوث تغير في الهرمونات الرئيسية التي تؤثر على الشهية وعملية الأيض.
تفرز الأنسجة الدهنية والمعدة هرمونَيِ الليبتين والجريلين، على التوالي، وهما من العوامل الرئيسية المنظِّمة للمراكز التي تتحكم في الشهية في الدماغ. إن الليبتين هو هرمون «الشبع»؛ حيث تحدُّ معدلات الليبتين المرتفعة من الرغبة في الطعام وتقلل الشهية. يُحفَّز هذا الهرمون عن طريق الطعام؛ مما يساعدنا على معرفة الوقت المناسب للتوقف عن تناول الطعام، وعادةً ما تزداد معدلاته بشكل عام ليلًا لضمان تناولنا للطعام في الوقت المناسب من اليوم. يتمتع هرمون الجريلين بتأثير معاكس؛ إذ تُحفز معدلاته العالية الشهية، وترتفع معدلاته بتزايد الفترات بين الوجبات. تساعد نسبة هذين الهرمونين على تنظيم الشهية؛ فبعد تناول أي وجبة يرتفع لدينا معدل الليبتين وينخفض معدل الجريلين مما يقلل الشهية. لكنَّ قِلَّة النوم تُغيِّر هذا التوازنَ؛ حيث تقلل من كمية هرمون الليبتين وتزيد من كمية الجريلين، مما يزيد من الشعور بالجوع. وهكذا، فمن المرجح أن قلة النوم المزمنة قد تؤدي بنا إلى الإفراط في تناول الطعام، وتناول المزيد من الكربوهيدرات؛ مما يؤدي إلى السمنة، ومقاومة الأنسولين، وارتفاع معدلات الجلوكوز، وتزيد كل هذه العوامل من مخاطر الإصابة بمرض السكر من النوع الثاني. وبالفعل، أظهرت دراسات وبائية أن النوم لفترات قصيرة (٦ ساعات أو أقل)، أو مواجهة مشاكل في الدخول في النوم أو الحفاظ عليه، يؤدي إلى زيادة مخاطر الإصابة بمرض السكر مرتين أو ثلاث مرات مقارنة بالنوم لمدة تتراوح من ٧ إلى ٨ ساعات كل ليلة.
بينما من الواضح أن قلة النوم تلعب دورًا في تنظيم الشهية والعمليات الأيضية، فقد قيدت معظم الدراسات النوم بمد فترة النهار؛ مما يعني أيضًا مد فترة التعرض للضوء وتغيير فترة الليل. تنظم دورات النوم والاستيقاظ تَعرُّض الدماغ للضوء؛ حيث إننا نتعرض للضوء عادةً أثناء الاستيقاظ فيما نحجب معظم الضوء عند إغلاق العينين للنوم. وعلى الرغم من قدرة البشر على الحفاظ على قدرتهم على اكتشاف التغيرات التي تحدث في فترة الليل من خلال إيقاع الميلاتونين الخاص بهم (انظر الفصل الثاني)، فإن بعض هذه التغيرات الأيضية قد تنتج أيضًا عن آثار التعرض للضوء أثناء الليل بشكل مباشر أو التغيرات في طول الفترة الضوئية. ومن المثير للاهتمام أن بعض أعراض الاضطراب العاطفي الموسمي، وهو الاكتئاب الذي يحدث نتيجة التغيرات الموسمية في مدة الليل، تتشابه مع الأعراض التي تحدث أثناء قلة النوم، ومنها الرغبة الشديدة في تناول الكربوهيدرات، وحدوث تغيرات في الشهية، واكتساب وزن زائد. يفرض انتشار استخدام الإضاءة الكهربائية أثناء الليل على المجتمع الحياة في صيف أيضي لا نهاية له؛ وربما تُعزَى معدلات السمنة المرتفعة جزئيًّا إلى أننا لا نصادف أبدًا أي شتاء كيميائي حيوي من شأنه استهلاك مخزون الدهون المتراكم منذ بداية العام. لم يتم دراسة اضطراب الدورات الموسمية لدى البشر على الإطلاق، لكن بعد مرور عشرات الآلاف من السنين من التطور في ظل دورة طبيعية من الضوء والظلام، من الصعب تخيل عدم وجود أي آثار ضارة لذلك.
وكما هو الحال مع العديد من العمليات النفسية والكيميائية الحيوية الأخرى، فإن عملية الأيض لدى البشر تُظهِر أيضًا نمطًا يوميًّا مميزًا؛ فينتج عن تناول وجبة في الواحدة والنصف صباحًا ارتفاع في معدلات الجلوكوز، والأنسولين، والدهون في الدم لعدة ساعات بعد الوجبة مقارنةً بتناول نفس الوجبة في الواحدة والنصف ظهرًا. ويكون حجم التأثير كبيرًا في بعض الأشخاص لدرجة أن معدلات الجلوكوز في الدم لديهم تتشابه مع تلك الخاصة بمرضى السكر؛ فقط لأنهم تناولوا الطعام أثناء الليل. وحيث إن الإنسان كائن نهاري (أي ينشط أثناء النهار)، فلقد تطور البشر بحيث تتم عملية أيض الطعام على النحو الأمثل لديهم أثناء النهار؛ ومن ثَمَّ يترتب على تناول الطعام ليلًا عملية أيض أقل كفاءة بكثير. وتعد هذه مشكلة مزمنة يعاني منها العاملون بنظام النوبات وهي تعد جزئيًّا السبب في زيادة مخاطر تعرضهم للإصابة بمرض السكر وأمراض القلب (انظر الفصل التاسع). ومع ذلك، حتى مع مَن لا يعملون بنظام النوبات، فإن تناول الطعام في وقت متأخر من شأنه أن يؤدي إلى المعاناة من مشاكل مشابهة؛ يمثل التقليد السائد في شمال بريطانيا الخاص بتناول الوجبة الأساسية في منتصف اليوم (وقت «العشاء») مع كمية قليلة من «الشاي» في بداية المساء المثال الأمثل في هذا السياق، على الرغم من أن مَن يحافظون على القيلولة في حياتهم اليومية في منطقة البحر المتوسط، بالإضافة إلى تناول وجبة في وقت متأخر من المساء، قد لا يوافقون على هذا.
(٤) النوم والجهاز المناعي
لم يُستكشف بعدُ بشكل منهجي دورُ النوم كنوع من التدخل المحتمل لتسهيل العلاج، لكن قد يكون له تأثير فعال. فعلى سبيل المثال، عادةً ما تكون بيئة النوم التي توفرها المستشفيات سيئة جدًّا، بسبب الإزعاج المتكرر نتيجة الضوضاء التي يُصدرها المرضى الآخرون، والإجراءات الطبية والجولات التي تتم في وقت متأخر من الليل أو في الصباح الباكر، التي من شأنها أن تقلص وقت النوم، وتضعف دورات الضوء والظلام، وتؤدي إلى حدوث فشل عام في أن يتصدر نوم المريض أولويات المستشفى الحديث فيما يتعلق بالإدارة اليومية لعملها. وتشير العديد من الدراسات الصغيرة إلى أن التعرض لضوء النهار يمكن أن يقلل من التوتر واستخدام المسكنات بعد العمليات الجراحية، ويقلل المدة التي يَقضيها المريض في المستشفى. ومع تطور مستوى فهمنا للعلاقة بين عمل جهاز المناعة والنوم، فإن زيادة التركيز على نوم المريض قد يعود بالفائدة على مدى شفائه ومعدله. وسيعود المزيد من التركيز على نوم ويقظة القائمين بالرعاية الصحية بالفائدة على كيفية رعاية المريض، وذلك كما سنوضح في الفصل التاسع.
(٥) النوم والسرطان
ركزت معظم الأبحاث التي أُجريت بشأن العلاقة بين اضطراب النوم والسرطان على مخاطر الإصابة بهذا المرض لدى العاملين بنظام النوبات. وكما سيرد في الفصل التاسع، فإن العاملين بهذا النظام الذين يعانون من اضطراب شديد في الإيقاع اليومي والنوم، مُعرضون أكثر بنسبة ٥٠٪ تقريبًا لمخاطر الإصابة بسرطان الثدي والبروستاتا مقارنةً بالنساء والرجال الذين لا يعملون بهذا النظام. وعلى الرغم من عدم وضوح الروابط الآلية بين اضطراب النوم ومرض السرطان حتى الآن، فإنه تم تقديم العديد من الاحتمالات، ومنها (أ) اضطراب وظائف جهاز المناعة، و(ب) التعرض للضوء ليلًا مما يسبب انخفاض معدلات الميلاتونين، و(ﺟ) حدوث خلل في إيقاعات دورة الخلايا، و(د) التغيرات المقصودة التي يتم إدخالها على نظام النوم أو الإيقاع اليومي في العديد من النظم الهرمونية والأيضية.
(٦) النوم، والصحة العقلية، والأمراض العصبية التنكسية
هناك تاريخ طويل لمحاولة تحديد العلاقة بين اضطراب النوم والعمل الكُلِّي للدماغ. ولقد ذكر إميل كرايبلين، أحد مؤسسي الطب النفسي الحديث، في أول كتاب له عام ١٨٨٣، أن هناك تلازمًا بين أنماط النوم غير الطبيعية وضَعْف الصحة العقلية. وعلى الرغم من هذه العلاقة الواضحة، نشب الكثير من الجدل دون أن يتم الوصول لأي نتائج قاطعة فيما إذا كانت تلك العلاقة عبارة عن علاقة بين سبب ونتيجة. ولقد أتاحت لنا التطورات الحديثة في فهم الأساس العصبي للنوم وإنتاج الإيقاع اليومي الفرصة لإعادة تقييم هذه العلاقة وفهم أهمية النوم في الحفاظ على الصحة العقلية. ينشأ الآن إطار مفهومي جديد في هذا الشأن ويمكن تلخيصه في السطور التالية.
علاوةً على ذلك، سيؤدي وجود اضطراب في النوم والإيقاع اليومي إلى التعرض غير الطبيعي للضوء وأنماط غير طبيعية من السلوك الاجتماعي؛ مما يؤدي إلى المزيد من عدم الاستقرار في الفسيولوجيا الطبيعية للجسم وتفاقم نمط غير طبيعي لإطلاق الناقلات العصبية داخل الدماغ؛ ومن ثَمَّ يمكن أن يؤدي هذا إلى حالة من عدم الاتساق الداخلي بين الكثير من الإيقاعات الهرمونية والسلوكية. أضف إلى ذلك تأثير العقاقير (مثل استخدام مضادات الذهان أو مثبطات الكولينستيراز) وإمكانية الإدمان وسوء استخدام المواد، وهكذا تكون النتيجة النهائية هي احتمال اضطراب الكثير من المسارات العصبية والعصبية الصماوية. وبالفعل، يمكن لهذه العوامل مجتمعة أن تتفاعل لتفسر الطبيعة المتغيرة لاضطرابات النوم التي يتم ملاحظتها في مرضى الاضطرابات النفسية والأمراض العصبية التنكسية، مع حدوث تغيرات طفيفة نسبيًّا في البيئة التي تعزز ضعف الأفراد وسهولة إصابتهم بالأمراض. يُلقِي النقاش التالي الضوء على صعوبة التوصل لتفسيرات بسيطة بشأن «السبب والنتيجة» لأي نمط ظاهري غير طبيعي للنوم لدى الأفراد الذين يعانون من مرض عقلي أو مرض عصبي تنكسي.
تعد الاضطرابات في توقيت النوم والتخطيط الكهربائي للدماغ أثناء النوم مشاكل مَرَضية شائعة في العديد من الاضطرابات النفسية. وبالفعل، تُعد التغيرات في سلوكيات النوم بمثابة المعيار الرئيسي لتشخيص الاضطرابات العاطفية (المزاجية) في نظم التصنيف الحالية للاضطرابات العقلية (مثل «الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية، الطبعة الرابعة»). يذكر ما يصل إلى ٩٠٪ من المرضى الذين يعانون من نوبة اكتئاب حادٍّ حدوث تغيرات في نمط نومهم، وتوصف عادةً بأنها عبارة عن مصادفة صعوبات في الدخول في النوم وصعوبة الحفاظ عليه ليلًا. ومن المثير للاهتمام أن الأرق المستمر يزيد من خطورة الانتكاس والتعرض لنوبة اكتئاب جديدة أخرى، وأن زيادة اضطرابات النوم، كما يحدث مع الأمهات بعد ولادة أطفالهن، يزيد مخاطر تعرضهن لاكتئاب ما بعد الولادة، ومع تأثر جودة النوم بشكل أكبر، تزيد احتمالية الإصابة بحالة أشد من الاكتئاب. تتميز بعض مضادات الاكتئاب الثلاثية الحلقات (مثل الأميتريبتيلين، والإيميبرامين، والكلوميبرامين) ومضادات الاكتئاب غير ثلاثية الحلقات (مثل الترازودون أو الميرتازابين) بأن لها آثارًا مهدئة شديدة الوضوح، ويشيع استخدامها كعوامل مساعدة على النوم لدى الأشخاص غير المصابين بالاكتئاب. وكنتيجة لذلك، فإن جزءًا من فاعلية بعض تلك المضادات قد يكمن في تأثيرها المباشر على النوم.
يعد الاضطراب ثنائي القطب مصطلحًا شاملًا لحالات تتراوح من الاكتئاب الشديد أو الطفيف لارتفاع المزاج الشديد أو الطفيف (الهوس والهوس الخفيف) ومن تغير المزاج البسيط للذهان الكامل. ومن الواضح أن توقيت النوم غير المنتظم وتقليص فترة النوم الإجمالية من العوامل المهمة لحدوث نوبات هوس، وفي الأفراد الذين لديهم استعداد مسبق، يبدو أن حدوث خلل بدورة النوم والاستيقاظ اليومية، أو تقليص فترة النوم، أو السفر عبر مناطق زمنية متعددة يمثل عاملًا هامًّا لتعرضهم لانتكاسة (في ٧٧٪ من الحالات) إلى حالة الهوس. ونتيجة لذلك، كثيرًا ما تتضمن سبل العلاج نُظُمًا من شأنها العمل على استقرار جدول الأعمال والسلوك مما يسمح بالنوم لفترات كافية، وذلك على الرغم من عدم توافر إرشادات إكلينيكية متسقة ومختبرة جيدًا لمثل هذه العلاجات.
يعاني الأفراد الذين يتعاطَوْن الكحوليات من اضطراب في النوم ليلًا سواء تناولوا الكحوليات أم لا. خلال فترات تناول الكحوليات بكثافة، وحتى بعد عامين من التوقف عن تناولها، تقل فترات النوم العميق، وينعدم نوم حركة العين السريعة، ويكون هناك نوم متقطع في النصف الثاني من الليل، مع تقلص فترة النوم ككل. وتتراوح معدلات الإصابة بالأرق بين مَن يتعاطَوْن الكحوليات ما بين ٤٠٪ إلى ٧٠٪.
وتحدث اضطرابات النوم أيضًا في ٣٠٪ إلى ٨٠٪ من مرضى الفصام، وتعد إحدى أكثر الأعراض شيوعًا للاضطراب. ولا يحصل مرضى الفصام على قدر كافٍ من النوم وتكون نتائجهم سيئة في العديد من التقييمات الخاصة بجودة الحياة، ويعد تحسين جودة النوم أحد أهم الأولويات في علاجهم. كثيرًا ما يرتبط تحسين النوم لدى مرضى الفصام بحدوث تحسن في الأعراض السلبية. فهناك علاقة واضحة بين اضطراب النوم والعديد من الاضطرابات المرتبطة بالقلق، وفي هذه الحالة، يصبح التمييز بين السبب والنتيجة أمرًا أكثر صعوبة. فعلى سبيل المثال، يجعل الأرق الأفراد لديهم استعداد للإصابة بالقلق، الذي يساعد على حدوث اضطرابات في النوم؛ الأمر الذي يؤدي بدوره إلى زيادة احتمالات الإصابة بالهلع (انظر الفصل السادس). وفي المقابل، هناك دليل على أن الإصابة بالقلق أو الاكتئاب يسبقها مشاكل في النوم.
يرتبط النوم غير الطبيعي بشكل وثيق بالأمراض العصبية التنكسية. وكما هو الحال مع الصحة العقلية، يتفاوت نمط النوم وتظل الروابط الآلية المحددة غير واضحة تمامًا. ومما لا يثير الدهشة أن اضطراب النوم ينتج عن تأثير الأمراض العصبية التنكسية على مناطق الدماغ والناقلات العصبية المتعلقة بالنوم والإيقاعات اليومية (انظر الفصل الثالث). عادةً ما تزداد أعراض تلك الأمراض سوءًا بالتدريج ولا تتحسن، لكن يبرز علاج الخلل في دورة النوم والاستيقاظ ودورة الراحة والنشاط كأسلوب محتمل لتحسين الحالة العامة للمرضى وجودة حياتهم، وقد يؤدي هذا أيضًا في بعض الحالات إلى تخفيف حدة التدهور الجسدي والعقلي. ففي حالة الإصابة بمرض ألزهايمر، على سبيل المثال، يُسبب النوم المتقطع ليلًا إرهاقًا شديدًا لكل من المرضى ومقدمي الرعاية الطبية، ويعد سببًا رئيسيًّا في نقل المرضى إلى دار رعاية. تعد «متلازمة الغروب»، أو الميل للشعور بالارتباك والاهتياج في وقت متأخر من بعد الظهر والمساء، أحد الملامح الأساسية لمرض ألزهايمر. وقد يرتبط هذا بالإنهاك الجسدي والعقلي في نهاية اليوم، لكن يمكن أن يساهم تقليل الضوء في هذا الوقت من اليوم أيضًا في تقليل مستويات الانتباه المعرفي، وخاصة لدى المرضى المقيمين في دور الرعاية، حيثما تكون الإضاءة عادةً سيئة (انظر الفصل الخامس).
ولقد تضمن أول وصف لمرض «الشلل الرعاش» (مرض باركنسون) الذي قدمه جيمس باركنسون إشارة إلى وجود اضطراب في النوم. يحدث كل من اضطراب النوم الليلي والنعاس أثناء النهار عند الإصابة بمرض باركنسون، ويُعاني حوالي من ٨٠٪ إلى ٩٠٪ من المصابين بهذا المرض من اضطراب في النوم يؤثر على قدرتهم على النوم والحفاظ على النوم، وعلى أحلامهم، والنشاط الحركي خلال النوم، والشعور بالنعاس أثناء النهار. يحدث فقدان للخلايا العصبية في المادة السوداء في الدماغ؛ مما يؤدي إلى نقص الدوبامين، ويحدث أيضًا داخل نوى جذع الدماغ التي تمثل عاملًا أساسيًّا في تنظيم حالات النوم والاستيقاظ (انظر الفصل الثالث). يؤدي تضرر تلك النوى إلى اضطراب نمط نوم حركة العين السريعة ونوم حركة العين غير السريعة. هناك دليل قطعي على أن سلوك نوم حركة العين السريعة غير الطبيعي يسبق الإصابة بمرض باركنسون والخرف بعدة سنوات؛ ومن ثَمَّ يمكن أن يكون هذا بمثابة علامة مفيدة في المرحلة المبكرة من مرض باركنسون تزيد من احتمالية التدخل المبكر.
يظهر أيضًا على المصابين بمرض هانتنجتون اضطرابات تنكسية في سلوك الإيقاع اليومي والنوم، ترتبط بحدوث ضمور في المناطق الرئيسية بالدماغ المتعلقة بتنظيم النوم مثل جذع الدماغ وتحت المهاد الجانبي.
إن المرضى الذين يعانون من التصلب العصبي المتعدد وتحلل مايلين المسارات العصبية يعانون من اضطراب في النوم ليلًا وشعور بالنعاس أثناء النهار، ويرتبط هذا في كثير من الأحيان بارتفاع معدلات الألم، والإرهاق، والاكتئاب. ونظرًا للتفاعلات المركبة لنظم الخلايا العصبية المتعددة المتعلقة بالقدرة على النوم والتحكم في دورة النوم والاستيقاظ، يمكن لتحلل المايلين في واحد من هذه النظم أو أكثر أن يؤثر بشدة على النوم والاستيقاظ في مرضى التصلب العصبي المتعدد.
في ضوء ما ناقشناه في هذا الفصل، من المفترض أن يكون لاستقرار نظم النوم والإيقاعات اليومية تأثير إيجابي على كل من جودة الحياة والأعراض المرضية في الأمراض النفسية والعصبية التنكسية. وثمة أدلة متزايدة على أن هذا الاستقرار له فائدة كبيرة؛ فعلى سبيل المثال: يستخدم العلاج بالضوء الساطع كإشارة لتزامن نظام الإيقاع اليومي، وثبت أنه يخفف بعض أعراض العديد من الاضطرابات المزاجية ومنها الاكتئاب الأحادي القطب والاكتئاب الثنائي القطب، على الرغم من أنه يمكن أن يؤدي للإصابة بالهوس لدى بعض مرضى الاكتئاب ثنائي القطب. ويمكن أيضًا للعلاج اليومي بالميلاتونين أن يؤدي إلى تزامن نظام الإيقاع اليومي. ويمكن للإشارات الاجتماعية، بالإضافة إلى الضوء أو الميلاتونين، أن تفيد أيضًا في تنظيم نظام الإيقاع اليومي والنوم. يمكن لأنشطة مثل ممارسة التدريبات وتناول الوجبات أن تؤثر على الأنماط اليومية للتعرض للضوء وتعديل توقيت السلوك عن طريق التعلم الارتباطي والتعزيز، ويمكن أن تكون مفيدة عند دمجها في نظم العلاج السلوكي المعرفي لعلاج اضطرابات النوم (انظر الفصل السادس).
من المهم أن نأخذ في الاعتبار أن العديد من الروابط بين النوم والصحة التي ناقشناها في هذا الفصل، حتى الآن، ليست إلا مجرد روابط. ولقد استخدمت معظم الدراسات حتى الآن أساليب لا تسمح بتحديد السبب. وفي حين أن التجارب الإكلينيكية ستفيد في تحديد علاقة السبب والنتيجة بين اضطراب النوم والمخاطر الصحية قصيرة المدى، فهناك حاجة لقياسات أكثر دقة للنوم، لمجموعات سكانية كبيرة تتم متابعتها لسنوات عديدة، لتحديد إن كان للنوم آثار صغيرة دائمة على التبعات الصحية الطويلة المدى. ومع ذلك، من الواضح بالفعل أن النوم سلوك مهم وينبغي أن يُعد أحد الركائز الأساسية للصحة الجيدة، بالإضافة إلى اتباع نظام غذائي متوازن وممارسة التدريبات؛ ومن ثَمَّ ينبغي أن يأخذ مكانه في قائمة أولوياتنا الصحية.