مجتمع نشِط على مدار الساعة
نحن نعيش في مجتمع يتسم بالنشاط الدائم على مدار ٢٤ ساعة؛ فهناك التغطية الإخبارية للأحداث على مدار الساعة، ومتاجر مفتوحة طوال الليل، وتوافر خدمات الإنترنت طوال الوقت، لكن تقتطع كل هذه الأمور من ساعات نومنا. ونتيجة لثقافة العمل لساعات طويلة، وعولمة الأعمال، والحاجة المتزايدة للعمل في نوبات ليلية ومرونة ساعات العمل، يبدو أن المجتمع يتآمر ليحتل النوم مرتبة متأخرة في قائمة أولوياتنا. منذ وقت قريب كانت القنوات القليلة الموجودة تُنهِي إرسالَها بحلول منتصف الليل. فقد كان النشيد الوطني يُذاع عند نهاية إرسال قناة بي بي سي ١ حتى نهاية ١٩٩٧، وقال المذيع في آخر مرة لذلك متنبِّئًا بما ستئول إليه الأمور: «… بدلًا من أن نترككم في الظلام مع انتهاء الإرسال، سنقدم خدمة جديدة تمامًا، وهي خدمة بي بي سي الإخبارية على مدار الساعة، التي تتضمن تغطية طوال الليل وتقارير من جميع أنحاء العالم. أما الآن، فسنترككم للحصول على بعض الراحة …» ومنذ ذلك الحين تم تشجيعنا على التسوق، أو إمداد سياراتنا بالبنزين، أو مشاهدة التليفزيون، أو احتساء الشراب في الحانات، أو تصفح الإنترنت على مدار الساعة، سواء أردنا ذلك أم لا. ويعد السبب الرئيسي لكل هذا النشاط هو القدرة على توفير الإضاءة طوال الليل، التي لولاها ما كان لنا أن نقوم بأي من هذه الأنشطة الليلية.
لم تكن القدرة على تبديد ظلام الليل في يد البشر، لكن تمكن البشر من إنارة الليل بحلول نهاية القرن التاسع عشر؛ وذلك مع تطوير سبل الإضاءة الكهربائية المتوهجة وتركيبها على نطاق واسع. وعلى الرغم من إمكانية إنارة الليل قبل هذا باستخدام النار، والشموع، والكيروسين، ومصابيح الغاز، فلم يتوافر مصدر منتظم، وموثوق به، وآمن للإضاءة الليلية إلا مع ظهور الكهرباء، التي أخذت في الانتشار بشكل سريع جدًّا، وخاصةً بسبب الدافع التجاري لتوماس إديسون. فعلى سبيل المثال، بيع في الولايات المتحدة حوالي ٣٠٠ ألف مصباح لأغراض الإضاءة العامة بحلول عام ١٨٨٥، ولقد ازدادت نسبة المبيعات لتصل إلى ٩٠ مليون مصباح تقريبًا بحلول عام ١٩١٤، و٨٠٠ مليون مصباح سنويًّا بحلول عام ١٩٤٥. أما اليوم، فيُباع حوالي ملياري مصباح كل عام في الولايات المتحدة، ويُستخدم حوالي ربع الطاقة الكهربائية المباعة في الإضاءة. ولقد أحدثت هذه التطورات تغيرات جذرية في المجتمع وأصبح من الممكن توفير الخدمات على مدار الساعة.
أوجدت التطورات التي حدثت في مجال النقل الجوي والتي تمثلت في ظهور الطائرات النفاثة تعرضًا مماثلًا غير طبيعي للضوء؛ فلم تكن القدرة على الطيران دون توقف عبر مناطق زمنية عديدة في بضع ساعات ممكنة من قبل. في ظل الظروف الطبيعية، كان الناس يشهدون فقط تغيرات مقدارها ثوانٍ أو دقائق في دورتهم اليومية الخاصة بالضوء والظلام، لكن مع ظهور الطائرات النفاثة، أصبح بإمكاننا الطيران عبر مناطق زمنية متعددة في وقت قياسي.
(١) لماذا يعد العمل بنظام النوبات مشكلة؟
كما ذكرنا من قبل (انظر الفصل الثالث)، تحتاج الساعة البيولوجية اليومية في الدماغ إلى إعادة ضبط على ٢٤ ساعة يوميًّا، وتنفذ دورة الضوء والظلام الشمسية هذه المهمة. وحين يعمل عامل بنظام النوبات ليلًا، يتعرض للضوء في الوقت الذي تتوقع فيه الساعة البيولوجية اليومية الظلام. تفسر الساعة البيولوجية اليومية الضوء على أنه «النهار» (ويكون هذا هو الحال دائمًا في ظل ظروف الإضاءة الطبيعية)؛ ومن ثَمَّ تبدأ في التحول لإعادة التأقلم مع «النهار» الجديد. يتطلب الأمر يومًا لترحيل تلك الساعة بمقدار ساعة تقريبًا في ظل الظروف الطبيعية؛ ومن ثَمَّ فمن المتوقع أن يستغرق الأمر ١٢ يومًا للتأقلم مع تحول يوم كامل يبدأ في الساعة الثامنة صباحًا، إلى نوبة عمل ليلية تبدأ في الساعة الثامنة مساءً. وهذا ممكن في نوبات العمل الليلية أو النهارية الثابتة التي تستمر لعدة أسابيع في كل مرة. ولسوء الحظ، تتغير نظم عمل معظم عُمَّال النوبات كل بضعة أيام؛ مما لا يسمح بتوافر الوقت الكافي للتأقلم، أو تقطعها العطلات (حين يميل العمال للتمرد على النظام)، ولهذا فإن عامل النوبات إما يتأقلم جزئيًّا أو لا يتأقلم إطلاقًا خلال نوبات العمل الليلية. وحتى إذا تأقلم العمال، فسيحتاجون إلى إعادة التأقلم للعودة إلى نوبات العمل الصباحية وستبدأ المشكلة من جديد. وهناك أيضًا نظام نوبات عمل قائم على التناوب وهو الذي يتغير سريعًا جدًّا بحيث لا تتمكن الساعة البيولوجية اليومية من التأقلم (على سبيل المثال، من يوم إلى ٤ أيام في كل نوبة عمل)؛ مما يضمن استحالة تأقلم العمال مع نوبات العمل الليلية، ويُطلب منهم العمل في الوقت الذي يكون فيه احتمال شعورهم بالنعاس هو الأكبر.
تكمن المشكلة الأساسية في تغير نمط التحول هذا؛ ومن ثَمَّ دورة الضوء والظلام، بسرعة تفوق قدرة نظام الساعة البيولوجية اليومي على التأقلم، ويسفر ذلك عن الاستيقاظ (العمل) والنوم في مرحلة غير مناسبة للساعة البيولوجية اليومية. وتقلل محاولة النوم في مرحلة غير مناسبة للساعة البيولوجية من فترة النوم، وتُغيِّر نوع النوم وجودته، وتؤثر على مستويات الهرمونات وعملية الأيض. وتتسبب أيضًا محاولة البقاء مستيقظًا ليلًا حين ترسل الساعة البيولوجية اليومية إشارات للدماغ للنوم في الشعور بالنعاس وحدوث مشاكل في الأداء، والتركيز، والذاكرة. ويعد الأرق أو النعاس الشديد المرتبط بنظام نوبات العمل الليلية المستمر لمدة شهر على الأقل من الأعراض الإكلينيكية للاضطراب المرتبط بنظام العمل بالنوبات، وهو أحد اضطرابات النوم المعروفة. يعمل حوالي ٣٫٦ ملايين شخص في المملكة المتحدة بنظام النوبات، و١٥ مليونًا في الولايات المتحدة، وملايين غيرهم على مستوى العالم. لم تنتهِ بالتأكيد ثورة العمل بالنوبات لكنها تتكرر، بل وعلى نطاق أوسع في آسيا، وأمريكا الجنوبية، وأفريقيا حيث تعمل المزيد من الدول على تطوير قدراتها الصناعية. يزداد توافر الكهرباء يومًا بعد يوم، وتحدث تطورات تجارية ومجتمعية كبيرة، الأمر الذي يجلب معه مفهوم العمل الليلي وما له من آثار سلبية. وباستطاعة المجتمعات الزراعية الريفية التي يعتمد يومها على النمط الثابت للفجر والغسق الآن، بين عشية وضحاها، أن تلغي آلاف السنين من التفاعل مع البيئة بمد يومها وتقليل النوم.
بالإضافة إلى عمال نوبات العمل الليلية «التقليديين»، يعاني حوالي خُمْس القوة العاملة أيضًا من اضطراب ساعات النوم لديهم بشكل كبير. فيقتطع الأشخاص الذين يبدءون عملهم في وقت مبكر جدًّا من الصباح، من ساعات نومهم بسبب عدم ذهابهم إلى الفراش في وقت مبكر بشكل كافٍ نتيجة للضغوط الأسرية والاجتماعية وغيرها. يعمل الكثير من الأشخاص أيضًا حتى وقت متأخر ولفترات طويلة؛ الأمر الذي يؤدي إلى تأخير وقت النوم دون تأخير وقت الاستيقاظ بالضرورة، مما يؤدي إلى تقليص الوقت المتاح للنوم.
(٢) هل اضطراب الرحلات الجوية الطويلة حقيقي؟
يعد اضطراب الرحلات الجوية الطويلة مشكلة مهمة مثل العمل بنظام النوبات، باستثناء أن السفر لمسافات طويلة هو السبب في عدم التزامن بين إيقاعات الساعة البيولوجية اليومية ودورة الضوء والظلام. وكما هو الحال بالنسبة إلى العمل بنظام النوبات، لا يتمكن نظام الساعة البيولوجية اليومي من التأقلم مع التغير السريع في التعرض للضوء والظلام، وتستمر الأعراض المرتبطة به — وهي الأرق، والتعب، وضعف الإدراك، والمعاناة من مشاكل في الجهاز الهضمي — حتى يتأقلم نظام الساعة البيولوجية اليومي مع المكان الجديد، ويستغرق هذا الأمر حوالي يوم لكل منطقة زمنية. وعدد الأشخاص الذين يتأثرون بهذا الاضطراب في تزايد سريع، وخاصةً مع انتقال مئات الملايين من المسافرين بين الدول كل عام.
يعتمد مدى كفاءة التأقلم مع المنطقة الزمنية الجديدة على نظام الساعة البيولوجية اليومي للفرد. يمتلك حوالي ثلاثة أرباع الناس ساعة بيولوجية يومية تتأخر بشكل طبيعي (مدتها أطول قليلًا من ٢٤ ساعة)؛ مما يعني أن عليهم تقديم ساعتهم كل يوم لتصبح متزامنة. في حين يمتلك الربع الآخر من الناس ساعة بيولوجية يومية مدتها أقل من ٢٤ ساعة؛ مما يعني أن ساعتهم متقدمة قليلًا وتحتاج إلى تأخيرها يوميًّا. يتطلب السفر غربًا تأخير الساعة، في حين يتطلب السفر شرقًا تقديم الساعة؛ وذلك حتى يتمكن المسافر من التأقلم. وحتى يتمكن المسافر من تحديد توجه التأقلم، عليه أن يفكر فيما يفعله الناس الآن في المنطقة الزمنية التي سيتوجه إليها؛ فإذا كان في لندن يتناول وجبة في أول المساء، فإن أهل نيويورك في ذلك الوقت يتناولون وجبة الغداء؛ حيث إن أنشطتهم متأخرة ٥ ساعات مقارنة بأهل لندن؛ ومن ثَمَّ فعملية التأخير مطلوبة من أجل التأقلم في رحلة متجهة غربًا من لندن إلى نيويورك. وفي الوقت نفسه، يخلد سكان مومباي إلى النوم، حيث إن توقيتهم متقدم ٦ ساعات مقارنةً بلندن؛ ومن ثَمَّ فعملية التقديم مهمة للتأقلم مع التوقيت الهندي. وحيث إن معظم الناس لديهم ساعة بيولوجية يومية تتأخر تلقائيًّا يوميًّا، فهم يجدون أنه من الأسهل عليهم التأقلم مع السفر غربًا. وعلى الجانب الآخر، سيشعر مَن يمتلكون ساعة بيولوجية يومية تتقدم تلقائيًّا أنه من الأسهل عليهم التأقلم مع السفر شرقًا. ويمكن لتلك الاختلافات أن تؤثر بشكل ملحوظ على معدل تأقلم النوم، والانتباه، وأنماط الأداء.
المربع رقم ٥: اضطراب الرحلات الجوية الطويلة والأداء الرياضي
في عام ١٩٩٥، قام باحثون في الولايات المتحدة بتحليل نتائج مباريات البيسبول بناءً على اتجاه سفر الفرق الزائرة. ولقد افترضوا أن الفرق المسافرة غربًا، التي سيتحول لاعبوها في المتوسط في نفس اتجاه ساعتهم البيولوجية، سيحققون نجاحًا أكبر من الفرق المسافرة شرقًا، التي سيتحول معظمها عكس اتجاه ساعتهم البيولوجية الطبيعي. وبالفعل تأكدت نظريتهم. فحين كان يسافر الفريق الزائر غربًا، مع نفس اتجاه ساعته البيولوجية، فاز في ٤٤٪ من المباريات. أما حين كان يسافر شرقًا، أي عكس اتجاه ساعته البيولوجية، فاز فقط بنسبة ٣٧٪ من مبارياته. ولقد كان الفريق في أفضل حالاته حين لم يسافر؛ حيث فاز في ٤٦٪ من المباريات حين لم يَعبُر أي مناطق زمنية (على المقامرين أن ينتبهوا لهذا!) وبشكل مثالي، ينبغي على الفرق الرياضية السفر إلى المكان الذي سيلعبون فيه قبل موعد المباراة بوقت كافٍ لإعادة ضبط ساعتهم البيولوجية؛ حيث إن بضعة أجزاء من ألف جزء من الثانية قد تفصل بين الفوز والهزيمة، وهذا ما يجعل التأقلم الكامل للساعة البيولوجية اليومية شيئًا أساسيًّا.
(٣) كيفية التعامل مع العمل بنظام النوبات واضطراب الرحلات الجوية الطويلة
يُعد تقليص كل من اضطراب النوم وعدم اتساق الساعة البيولوجية اليومية المرتبط بالعمل بنظام النوبات واضطراب الرحلات الجوية الطويلة أمرًا معقدًا لكنه ممكن. وعلى الرغم من أن استعراض الحلول بالتفصيل يتخطَّى نطاق هذا الكتاب، فإنه يمكن عرض بعض المبادئ العامة. ينبغي تقليص مدة التحول، عن طريق العمل بنوبات ليلية قصيرة قدْر الإمكان. وينبغي تقليل عدد نوبات العمل الليلية المتتالية، وينبغي أن تتطور دورة النوبات باتجاه التأخير؛ أي من النوبات الصباحية، إلى المسائية، ثم الليلية. وينبغي إعطاء فترات راحة كافية قدْر الإمكان بعد نوبات العمل الليلية لتعويض عدم النوم على نحو كبير. وتكمن المشكلة الرئيسية لعمال نوبات العمل الليلية في عجزهم عن النوم خلال النهار. لذلك، ينبغي عليهم العودة إلى منازلهم والنوم بأسرع ما يمكن بعد انتهاء نوبة العمل (وعدم مشاهدة التليفزيون أو الرد على رسائل البريد الإلكتروني)، وينبغي عليهم استخدام قناع العين وسدادات للأذن وإيقاف تشغيل الهاتف عند النوم. وقد يكون الكافيين مفيدًا في الحفاظ على الانتباه أثناء العمل، لكن يجب تناوله «بجرعات قليلة وعلى مرات كثيرة» والتوقف عن تناوله قبل الميعاد المحدد للنوم بخمس ساعات على الأقل (انظر الفصل الثامن). يمكن استخدام التعرض للضوء والظلام في الأوقات المناسبة لتسهيل التأقلم مع التحول، لكن سيحدد نمط التحول الوسيلة المثلى، ومع ذلك ينبغي وضع كل نظم العمل بحيث تساعد على زيادة النوم والانتباه إلى حدهما الأقصى.
(٤) تأثير العمل بنظام النوبات على الصحة
أصبحنا الآن أكثر قدرة على فهم الآثار الضارة للعمل بنظام النوبات على صحة الجسم والصحة العقلية؛ حيث يعاني مَن يعمل بهذا النظام من مشاكل في النوم، والتعب، وضعف الأداء والذاكرة، ومتاعب في الجهاز الهضمي، وزيادة خطر التعرض للحوادث والإصابات، وارتفاع مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية ومرض السكر وبعض أنواع السرطان على المدى الطويل.
المربع رقم ٦: العمل بنظام النوبات واضطراب الرحلات الجوية الطويلة في سفن الفضاء والغواصات
تمثل رحلات الفضاء والغواصات تحديات فريدة للنوم والإيقاعات اليومية، وتشكل الحوادث المرتبطة بالنعاس في مثل هذه البيئات الخطيرة مصدرًا شديدًا للقلق.
لا ينام رواد الفضاء أكثر من ٥ إلى ٦ ساعات في الليلة الواحدة في الفضاء بسبب الشعور بالإثارة، وأعباء العمل، والحرارة، والضجيج، وانعدام الجاذبية؛ ولذلك فإن الحبوب المنومة هي الأدوية الأكثر استخدامًا في الفضاء، وتتم مراقبة الأماكن التي يمكن لرواد الفضاء أن يضعوا فيه منتجات الكافيين بعناية. ويمكن أن تصاب نظم الإيقاع اليومي للجسم لدى رواد الفضاء بالخلل بسبب أنماط الضوء خارج كوكب الأرض. فالدوران حول الأرض يستغرق ٩٠ دقيقة، ويفرض دورة ضوء وظلام لمدة ٩٠ دقيقة مع ظهور الشمس وغيابها. وهذه الفترة أقصر من أن تتزامن معها الساعة البيولوجية؛ ومن ثَمَّ يتوجب تحقيق دورة ضوء وظلام مدتها ٢٤ ساعة من أجل الحفاظ على التزامن. بَيْدَ أن قيود الطاقة تحد من الضوء المتاح بحيث لا يزيد عن ضوء الغرفة المغلقة. علاوة على ذلك، فإن عمل رواد الفضاء يفرض مخططات زمنية صعبة للعمل في بعض الأحيان؛ الأمر الذي يتطلب نوبات عمل لمدة ١٢ ساعة من النهار إلى الليل، أو يتطلب عيش يوم طوله ٢٣٫٥ ساعة تقريبًا لضمان الوفاء بمواعيد الإطلاق والعودة. بعض هذه التحديات موجودة أيضًا على الأرض؛ فقد اضطر القائمون على التحكم الأرضي في رحلة مسبار الفضاء فينيكس الأخيرة إلى المريخ للعيش في يوم المريخ — البالغ ٢٤٫٦٦ ساعة — خلال الرحلة التي استغرقت ٣ أشهر من أجل تحسين الاتصال. ويجري حاليًّا اختبار إجراءات مضادة — خاصة التعرض للضوء المخطط له جيدًا — على الأرض وكذلك في الفضاء، لتوفير إشارة بيولوجية أقوى وتأثير تنبيهي مباشر، خاصة قبل الأنشطة الخطرة مثل «المشي في الفضاء».
هناك اعتبارات مماثلة مطلوبة للعاملين في الغواصات. فالسفر في جميع أنحاء الكوكب تحت الماء يمنع وجود دورات ضوء وظلام طبيعية، وحتى مع الضوء الصناعي، فإن الساعات البيولوجية للعاملين في الغواصات يمكن ألا تتزامن مع توقيتاتهم الفردية الداخلية في بعض الأحيان. وبعض مخططات العمل أو المراقبة أيضًا تجعل التزامن صعبًا على الساعة البيولوجية اليومية؛ الأمر الذي يؤدي إلى اختلال النوم وزيادة الشعور بالنعاس، وتقليل الأداء؛ وهو عكس ما هو مطلوب تمامًا. ومن ثم فإن وضع مخططات عمل اعتمادًا على مبادئ النوم والساعة البيولوجية أمر حيوي في هذه البيئات عالية الخطورة التي تعرض حياة مَن يعمل بها للخطر.
مع ذلك، لا ينتهي الخطر بانتهاء نوبة العمل، فقيادة السيارة من العمل إلى المنزل تمثل فرصة سانحة للتعرض للحوادث بسبب النعاس أثناء القيادة؛ نظرًا لاستيقاظ العامل في نوبة العمل الليلية لفترة طويلة وقيادة السيارة في الوقت الذي يستحثه فيه نظام الساعة البيولوجية اليومي على النوم. ففي دراسة أُجريت على الحوادث التي يتعرض لها الأطباء الجدد في الولايات المتحدة، وجد أن هناك زيادة بمقدار ٢٫٣ ضعف في احتمالات التعرض للحوادث أثناء قيادة السيارة للمنزل بعد العودة من نوبة عمل استمرت ليوم كامل مقارنة بالعودة من نوبات العمل التي لا تستمر ليوم كامل. إن عدم تأقلم الساعة البيولوجية اليومية إلى جانب سوء نوعية النوم خلال النهار يزيدان من الشعور بالنعاس لدى مَن يعملون في نوبات ليلية على نحو كبير ويُعرِّض كلًّا من هؤلاء والناس لخطر التعرض للحوادث المرتبطة بالنعاس.
كما أن لنوبات العمل الليلية أيضًا عواقب سيئة على الصحة على المدى الطويل. فقد أظهرت الدراسات الوبائية أن العمل في نوبات ليلية يرتبط بارتفاع خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية ومرض السكر من النوع الثاني، وبعض أنواع السرطان. وفي حين أن هذه الدراسات تعجز عن تحديد الآلية الدقيقة للإصابة بتلك الأمراض، فإنه من المرجح أن التعرض للضوء، وقلة النوم، واضطراب الإيقاع اليومي المرتبط بالعمل بنظام النوبات تلعب دورًا أساسيًّا في الإصابة بتلك الأمراض.
أولًا: غالبًا ما يتناول عمال نوبات العمل الليلية طعامهم في طور بيولوجي «خاطئ»، أثناء الليل، عندما لا يكون الجسم مستعدًّا لأيض الطعام بكفاءة. فمستويات الأنسولين والجلوكوز والدهون في الدم تزيد بعد تناول وجبة ليلًا مقارنة بتناول نفس الوجبة نهارًا. ويعد الارتفاع المزمن في نِسَب الأنسولين والجلوكوز والدهون من أعراض مقاومة الأنسولين والمتلازمة الأيضية، وهذا هو أحد عوامل التعرض لخطر الإصابة بمرض السكر من النوع الثاني وأمراض القلب؛ وهكذا فإن بضعة أيام فقط من محاكاة العمل في نوبات عمل ليلية في المختبر يمكن أن تكون كفيلة بأن تجعل شابًّا يتمتع بصحة جيدة يصاب بمرض السكر. علاوة على ذلك، فإن انخفاض مدة النوم الملازمة لعمال نوبات العمل الليلية يؤدي إلى حدوث تغيير في عملية الأيض، بما في ذلك تغيير نسبة هرمونَيِ الليبتين والجريلين بحيث تزيد الشهية ومقدار الطعام المتناول بعد قلة النوم (انظر الفصل السابع).
وأخيرًا: توصلت دراسات حديثة إلى أن كل أعضاء جسمنا تقريبًا، بما في ذلك الكبد والقلب والبنكرياس والكلى والرئتين، قادرة على توليد إيقاعات يومية خاصة بها بالإضافة إلى تلك التي تولدها الساعة البيولوجية في الدماغ. وتحقيق التزامن السليم بين هذه الإيقاعات الداخلية ربما لا يقل أهمية عن تحقيق التزامن مع العالم الخارجي من أجل إتمام عملية الأيض بفاعلية. ومن البديهي أن الساعات البيولوجية اليومية في كل من المريء والمعدة والبنكرياس والأمعاء والكبد والكلى والمثانة يجب أن تكون متزامنة معًا من أجل العمل بشكل صحيح. ويبدو أن هذه الإيقاعات الفرعية أكثر حساسية من الدماغ للإشارات الخاصة بالوقت غير الضوء، مثل توقيت تناول الوجبات. ونظرًا لعدم اتساق التعرض لكل من الإشارات الضوئية أو غير الضوئية الخاصة بالوقت من جانب عمال النوبات، فإن تنظيم إيقاعاتهم الداخلية يحدث فيه خلل. بَيْدَ أن عواقب مثل هذا الخلل غير معروفة حتى الآن، على الرغم من أن فئران التجارب التي تم تعريضها لظروف شبيهة بالعمل بنظام النوبات ومخططات السفر التي تؤدي للإصابة باضطراب الرحلات الجوية الطويلة ماتتْ في سن أصغر من الحيوانات المعرضة لدورات نوم واستيقاظ ودورات ضوء وظلام منتظمة.
(٥) العمل بنظام النوبات، واضطراب الرحلات الجوية الطويلة، والإصابة بالسرطان
نالت العلاقة بين العمل بنظام النوبات ومخاطر الإصابة بالسرطان الكثير من الاهتمام في الآونة الأخيرة؛ حيث يشير عدد من الدراسات الوبائية (وإن لم يكن كلها) إلى ارتفاع مخاطر الإصابة بسرطان الثدي بنسبة ٥٠٪ لدى النساء العاملات بنظام النوبات اللاتي يعملن بانتظام في نوبات عمل ليلية، والمضيفات الجويات اللاتي يسافرن بشكل روتيني عبر المناطق الزمنية. وبعد مراجعة الأدلة المتوافرة، أعلنت منظمة الصحة العالمية في عام ٢٠٠٧ أن «العمل بنظام النوبات الذي يُحدث اضطرابًا في إيقاع الساعة البيولوجية اليومي ربما يتسبب في إصابة الإنسان بالسرطان.» وهو ما يجعلنا نضع العمل بنظام النوبات في نفس الفئة مع الأشعة فوق البنفسجية وعوادم محركات الديزل (المجموعة ٢أ؛ أي المواد التي يحتمل أن تكون مسرطنة). بعد ذلك بوقت قصير، دفعت الحكومة الدنماركية تعويضات لعشرات من العاملات بنظام النوبات والمضيفات الجويات اللاتي أُصبْنَ بسرطان الثدي لأسباب مهنية. وهناك أدلة أيضًا على وجود زيادة طفيفة في مخاطر الإصابة بسرطان القولون والمستقيم لدى العاملات بنظام النوبات، وزيادة في خطر الإصابة بسرطان البروستاتا لدى العاملين بهذا النظام (مرة أخرى، لم يثبت هذا في كل الدراسات).
ورغم عجز الدراسات الوبائية هذه عن تحديد آلية التسبب في المرض، فإن هناك عددًا من النظريات التي تربط بين مخططات العمل هذه وخطر الإصابة بالسرطان. ففي الدراسات التي أُجريت على الحيوانات تَبَيَّن أن انحسار إفراز هرمون الميلاتونين من الغدد الصنوبرية بسبب التعرض للضوء أو استئصال الغدة الصنوبرية قد أدى إلى زيادة معدلات نمو الأورام، وربما يرجع السبب في ذلك إلى زيادة توافر المواد المغذية للأورام. ومن المثير للاهتمام أن خطر إصابة النساء المصابات بعمًى كامل بسرطان الثدي ينخفض بنسبة ٥٠٪ مقارنة بالنساء المبصرات، كما تربط التقديرات المستمدة من الأقمار الصناعية لشدة التلوث الضوئي في الليل بينها وبين خطر إصابة النساء بسرطان الثدي (ولكن ليس سرطان الرئة).
يعمل الميلاتونين على التخلص بفاعلية من الجذور الحرة، وهذا قد يجعله يلعب أيضًا دورًا في منع التلف الذي تسببه الخلايا السرطانية وانتشارها. وبما أن دورات الخلايا تخضع لتحكم الإيقاع اليومي للجسم، فإن اضطراب إيقاع الخلايا في أعضاء الجسم الفرعية بفعل العمل بنظام النوبات قد يجعل الخلايا أكثر عرضة للتضرر؛ خاصةً أن الأورام في الحيوانات التي خضعت لمخططات تؤدي لاضطراب الرحلات الجوية الطويلة تنمو بسرعة أكبر من تلك الخاصة بالحيوانات الخاضعة لدورة ضوء وظلام طبيعية، حتى في الحيوانات التي لا تنتج ميلاتونين. للأورام أيضًا إيقاعات يومية، وفي بعض الحالات تبين أن الخضوع للعلاج الكيميائي في توقيتات محددة أكثر فاعلية من الخضوع له على نحو مستمر، وربما يرجع السبب في ذلك إلى زيادة عرضة الخلايا السرطانية للتلف في أوقات مختلفة من اليوم. وقد تبين أيضًا أن الجينات الأساسية للساعة البيولوجية تسهم في نمو الورم؛ على سبيل المثال، يعد جين «بيريود ٢» مثبطًا فعالًا للأورام، ووقف عمل هذا الجين يسرع من نمو الورم ووفاة المضيف، وقد تم الربط بين تعدد الأشكال في جين «بيريود ٣» وزيادة خطر إصابة النساء قبل انقطاع الطمث بسرطان الثدي.
بينما تشير هذه البيانات الوبائية وتلك التي أُجريت على الحيوانات إلى وجود ارتباط قوي بين التعرض للضوء، واختلال الساعة البيولوجية، والميلاتونين، والسرطان، فلا يوجد دليل مباشر حتى الآن يثبت أن حدوث تغيير في مستويات الميلاتونين، أو التعرض للضوء، أو الإيقاعات اليومية يغير من مخاطر إصابة الإنسان بالسرطان، أو أن أخذ الميلاتونين الصناعي له أي تأثير على خطر الإصابة بالسرطان أو انتشاره. ويجري المزيد من العمل لاستكشاف هذه العلاقات.
(٦) اضطراب النوم واضطراب الإيقاع اليومي يكوِّنان سلسلة متصلة
إن اضطراب النوم واضطراب إيقاع الساعة البيولوجية اليومي لا يحدثان وفق منطق «كل شيء أو لا شيء»؛ فدرجة الاضطراب نسبية ويمكن اعتبارها سلسلة متصلة. وقد تكون التغيرات المتعلقة بنظامك الأساسي في النوم، أو طور الإيقاع اليومي، أو مستويات الميلاتونين، بغض النظر عن المستوى المطلق، هي ما يهم. وهذا المفهوم يعني أنه على الرغم من تركيز الأبحاث على أكثر الأمثلة تطرفًا من اضطرابات النوم والإيقاع اليومي، فقد يكون للتغيرات الصغيرة نسبيًّا ولكن اليومية والمزمنة في النوم وطور الإيقاع اليومي تأثيرات مهمة على الصحة لم نفهمها بعدُ. فكِّرْ في التغيرات التي تحدث في دورة النوم والاستيقاظ لديك. كيف يتغير نظام نومك ما بين أيام العمل وأيام الإجازات؟ وكم مرة سهرت حتى وقت متأخر أو استيقظت مبكرًا جدًّا من أجل شيء ما؟ وكم مرة تغيَّر نمط نومك على نحو غير متوقع بسبب المرض، والأطفال، والحيوانات الأليفة، والضوضاء والتلوث الضوئي، والضغط العصبي، والحفلات، وغير ذلك؟ ضع نصب عينيك أن التغيرات في أنماط النوم والاستيقاظ تعني أيضًا تغيرات في التعرض للضوء والظلام الذي يغير بدوره توقيت ساعتك البيولوجية.
يصبح السؤال إذن: ما المخاطر الصحية المرتبطة بهذه التغيرات اليومية؟ على الرغم من ضآلة تلك التغيرات، فإنها لم تَظهَر إلا في الآونة الأخيرة في نمونا التطوري ويمكن اعتبارها «غير طبيعية»؛ فقبل المصابيح الكهربائية، كان نمط النوم لدى أجدادنا أكثر ارتباطًا بدورة الضوء والظلام الطبيعية. فمصطلحا «منتصف الليل» و«منتصف النهار» لم يعودا دقيقين فيما يتعلق بدورات النوم والاستيقاظ لدينا؛ فنحن في كثير من الأحيان لا نذهب إلى الفراش إلا بعد «فترة منتصف الليل». على سبيل المثال، عادة ما يبدأ إنتاج الميلاتونين في الفترة من الساعة التاسعة إلى العاشرة مساءً في ظل ظروف الإضاءة الخافتة. أما البقاء مستيقظًا، حتى في ضوء الغرفة الخافت نسبيًّا، فيحد من إفراز الميلاتونين بشكل كبير ويقصر فترة إفرازه. واتساقًا مع العاملين بنظام النوبات (الذين يُعتبَرون مثالًا متطرفًا على فترات النوم «القصيرة» ليلًا)، فإن النساء اللاتي أشرن إلى نيلهنَّ قسطًا كافيًا من النوم (٩ ساعات أو أكثر كل ليلة) ينخفض لديهن خطر الإصابة بسرطان الثدي إلى أدنى حد مقارنة بالنساء اللواتي أشرن إلى نومهن من ٧ إلى ٨ ساعات أو ٦ ساعات أو أقل في الليلة الواحدة.
إلى أن نفهم المزيد عن تأثير قلة النوم واضطراب الإيقاع اليومي والتعرض للضوء ليلًا على صحة الإنسان، فإن الأدلة الحالية تشير إلى فكرة أن الأشخاص الأصحاء يجب أن يحصلوا على المزيد من النوم، وأن يكون لديهم مخطط منتظم للنوم والاستيقاظ، وأن يقللوا من التعرض للضوء ليلًا. وكمجتمع، علينا دعم سياسات وأساليب حياة من شأنها زيادة فترة نوم الأفراد وتقليل تعرضهم للضوء، كما يجب علينا أن نعطي أولوية وتقديرًا أكبر لفترة راحتنا بالليل باعتبارها وقتًا لاستعادة الجسم، والدماغ، لنشاطهما ولحفاظنا على صحتنا وأن نسعى بشتى الطرق لعدم اقتطاع أي جزء منها. فمن دون نوم سنَهْلك سريعًا، وسيكون هلاكُنا أسرع إذا لم نحصل على نوم جيد؛ لذا حريٌّ بنا أن ننال قسطًا كافيًا من النوم!