العقل والعاطفة
ثمَّ طلبت إليه العرافة ثانيةً قائلةً: هات حدِّثنا عن العقل والهوى.
فأجاب وقال:
كثيرًا ما تكون نفوسكم ميدانًا تسير فيه عقولكم ومدارككم حربًا عَوَانًا على
أهوائكم وشهواتكم.
وإنني أودُّ أن أكون صانع سلام في نفوسكم،
فأحوِّل ما فيكم من تنافر وخصام إلى وحدة وسلام.
ولكن أنَّى يكون لي ذلك، إذا لم تصيروا أنتم صانعي سلام لنفوسكم، ومحبين جميع
عناصركم على السواء؟
•••
إنَّ العقل والهوى هما سُكَّان١ النَّفْس وشراعها، وهي سائرة في بحر العالم.
فإذا انكسر السكان أو تمزق الشراع فإن سفينة النَّفْس لا تستطيع أن تتابع سيرها،
بل تُرغم على ملاطمة الأمواج يَمْنَة ويَسْرَة حتى تقذف بكم إلى مكان أمين تحفظون
به في وسط البحر؛
لأن العقل إذا استقلَّ بالسلطان على الجسد قيَّد أهواءه، ولكن الأهواء إذا لم
يرافقها العقل كانت لهيبًا يتأجج ليُفنيَ نفسه.
فاجعل نفسك تسمو بعقلك إلى مستوى أهوائك، وحينئذٍ ترى منها ما يطربك ويشرح لك
صدرك.
وليكن لك من عقلك دليل وقائد لأهوائك، لكي تعيش أهواؤك في كل يوم بعد موتها،
وتنهض كالعنقاء٢ متسامية فوق رمادها.
وأرغب إليكم أن تُعنَوْا بالعقل والهوى عنايتكم بطيفين عزيزين عليكم.
فإنكم — ولا شك — لا تكرمون الواحد أكثر من الثاني؛ لأن الذي يعتني بالواحد ويهمل
الآخر يخسر محبة الاثنين وثقتهما.
•••
وإذا جلستم في ظلال الحور الوارفة، بين التلال الجميلة، تشاطرون الحقول والمروج
البعيدة سلامها وسكينتها وصفاءها، فقولوا حينئذٍ في قلوبكم: «إنَّ الله يستريح في
العقل.»
وعندما تعصف العاصفة، وتزعزع الرياح أصول الأشجار في الأحراج، وتعلن الرعود
والبروق عظمة السموات، فقولوا حينئذٍ في أعماق قلوبكم متهيبين خاشعين: «إنَّ الله
يتحرك في الأهواء.»
وما دمتم نسمةً من روح الله، وورقة في حرجه، فأنتم أيضًا يجب أن تستريحوا في العقل وتتحركوا في الأهواء.
١
سُكَّان السفينة: ما يُعرف بالدفة.
٢
العنقاء: مؤنث أعنق، وهو طائر معروف باسمه مجهول بجسمه، وفي الخرافات
المصرية أنَّه طائر مقدس كان يأتي من بلاد العرب مرة في كل سنة إلى
هليوبوليس، فيحرق نفسه على المذبح، ثمَّ لا يلبث أن ينهض من وسط الرماد
المحترق حيًّا جميلًا كما كان؛ ولذلك كان عندهم رمزًا إلى الخلود.