نظرة عامة خاطفة في نشوء لغة قحطان
اللغويون على فريقَيْن متعادلين على سُرُر موضونة؛ فريق يذهب إلى أن الكلم وُضِعت في أول أمرها على هجاءٍ واحد: متحرك فساكن؛ محاكاةً لأصوات الطبيعة، ثم فُئِّمَتْ (أي زِيد فيها حرف أو أكثر في الصدر أو القلب أو الطرف)، فتصرَّف المتكلمون بها تصرُّفًا يختلف باختلاف البلاد والقبائل والبيئات والأهويهْ، فكان لكلِّ زيادةٍ أو حذف أو قلب أو إبدال أو صِيغة مَعْنَاةٌ أو غايةٌ أو فكرة، دون أختها، ثم جاء الاستعمال فأقرَّها مع الزمن، على ما أوحته إليهم الطبيعة، أو ساقهم إليه الاستقراءُ والتتبع الدقيق، وفي كل ذلك من الأسرار، والغوامض الآخذة بالألباب، ما تجلَّت لها بعد ذلك تجلِّيًا بديعًا استقرَّت على سُنَن وأصولٍ وأحكام ثابتة لن تتزعزع.
وفريق يقول: إن الكلم وُضعت في أول نشوئها على ثلاثة أحرف بهجاءٍ واحد أو بهجاءَين، ثم جرى عليها المتكلمون بها، على حد ما تقدمت الإشارة إليه قُبيل هذا، فاتسعت لهم الآفاق المتنوعة، وظهرت الفروق، وكثرت اللغات، واختلفت اللثغات، إلى آخر ما كان من هذا القبيل، على السبيل الذي اتضح لك آنفًا.
على أننا اتَّبعنا الرأي الأول منذ أن أولعنا بهذه اللغة المبينة الرائعة، فأخذنا بنشره وتفصيل دقائقه منذ سنة ١٨٨١، وأوضحنا كثيرًا من مناحيهِ في الصحف والمجلات التي كانت تُنشر يومئذٍ في الديار العربيةِ اللسان، ولا ننفك نصرح به إلى يومنا هذا، دون ما ملل ولا وجل، نبوح به على رءوس الملأ، أو نجهر به في المجالس، أو ندافع عنهُ في المجامع، أو ندعمهُ في الأندية، حتى إنه لم يخْفَ على أحد، بل عُرِفْنا بهِ لدى الجميع، والناس لنا بين مادحٍ وقادحٍ، وهم كلما زادونا قدحًا زدناهم مدحًا، وازددنا مضيًّا في وجهنا لا نلوي على غير الرأي المذكور بَعْد أن تجلَّت لنا صحتهُ وظهرت لنا محاسنهُ وأطايبهُ.