الاحْتِبَاء في التَّصْحيف أو الاحتباءُ
يقال: احتبى فلان في تصحيف الكلمة: إذا قرأ الكلمة ناقلًا نقطة حرف، أو نقطتَيْ حرف، إلى حرف آخر، وقد أحدث هذا الاحتباء أوهامًا وأغلاطًا شنيعة، وربما لم يحدث أدنى ضرر، فمثال الضرر ما جاء في أصل هذا المثل وهو: «أجهل خاصي المخنَّثين»، فقد قيل: إن جماعة من المخنثين، كانوا في المدينة في خلافة سليمان بن عبد الملك الأموي، فأرد أن ينفيهم منها، وكان عامله فيها أبا بكر عمر بن حزم، فكتب إليهِ يقول: أَحْصِ من عندك من المخنَّثين، واتفق أن نقطة من السطر الأعلى وقعت فوق الحاء فصارت خاء، فخصاهم.
وقد يسبب هذا التصحيف كلمًا جديدة من غير أن يُحدث فيها معاني حديثة، فقد قالوا مثلًا: العترب والعنزب والعيرب وهو السماق (راجع اللسان والتاج).
الحال والخال والجال بمعنى الراية (اللسان والتاج في حول وفي مادة كل لفظة).
الفرزوم والقرزوم: خشبة مدورة يحذو عليها الحذَّاء ونوع من الثياب يقال له: المِرْط أو المئزر.
القِلِزُّ والقُلُز كالفِلِز والفُلُز: النحاس الذي لا يعمل فيه الحديد والرجل الشديد.
النخاريب والتخاريب: خروق كبيوت الزنابير والثُّقَب التي يمج النحل العسل فيها.
وفي الحديث: «إن أخنع الأسماء عند الله، ملك الأملاك.» ويروى: أنخع الأسماء وأنجع وأنخى (راجع النهاية لابن الأثير وتاج العروس).
الخصب (بالضم): حية بيضاء جبلية، قال الأزهري: وهذا تصحيف، وصوابه الحِضْب، بالحاء والضاد المعجمة، يقال: هو حُضب الأحْضاب … قال: وهذه الحروف وما شاكلها أراها منقولة من صُحُفٍ سقيمة إلى كتاب الليث وزيدت فيه سهوًا، ومَنْ نقلها لم يعرف العربية فَصَحَّف وَغَيَّر فأكثر (لسان العرب والتاج).
وقال الشارح في مادة «ق ص ر»: «رُوي عن عليٍّ، رضي الله عنه: أنهُ كتب إلى معاوية: غَرَّكَ عِزُّك، فَصَار قُصَارُ ذلِكَ، ذِلَّكَ؛ فاخْشَ فَاحِشَ فِعْلِكَ، فَعَلَّكَ تَهْدَا بِهَذَا — وهي رسالة تصحيفية غريبة في بابها.» انتهى.
وقال المذكور في مادة «ع ز ر»: «أبو بكر محمد بن عُزَيْز السجستاني، مؤلف «غريب القرآن»، والبغادَّة (أي البغداديون) يقولون بالراء (أي عُزَيْر) … وإليه ذهب الصلاح الصفدي في «الوافي بالوَفَيات»، وهو تصحيف، وبعضهم صنف فيه، وجمع كلام الناس، ورجح أنه بالراء، وقد ضرب في حديد بارد؛ لأن جميع ما احتج به فيها راجع إلى الكتابة لا إلى الضبط من قبل الحروف، بل هو من قِبل الناظرين في تلك الكتابات، وليس في مجموعةٍ ما يفيد العلم بأن آخره راء، بل الاحتمال يطرق هذه المواضع التي احتج بها؛ إذ الكاتب قد يذهل عن نقط الزاي، فتصير راء! ثم ما المانع أن يكون فوقها نقطة، فجعلها بعض مَنْ لا يميز علامة الإهمال.» ا.ﻫ. بحروفه.
قال صاحب هذا الكتاب: «إن سبب ذهاب البغادَّة إلى أن المسمَّى هو «عُزَيْر» براءٍ في الآخر لا «عُزَيز» بزايين، شيوع الأولى دون الثانية، ولم تَشِعِ الأولى إلا لأن العراقيين جميعًا لا يسمعون طول حياتهم إلا ﺑ «العُزَيْر» مُصغرًا ومعرفًا بأل وبراءٍ في الآخر؛ لوجود قبر نبي في العراق بالاسم المذكور، هذا فضلًا عن أن «عُزَيْرًا» ورد في القرآن، فشاعت اللفظة عند الأدباء والعلماء والمتدينين فملأت الأسماع، والعوام تتبع ما يفشو بينهم من الكلام، لا ما يتطلَّب تحقيقًا له، أو تدقيقًا فيه.»
واليهود والنصارى يسمُّون «عُزَيرًا»: عِزْره، أو عِزْرا الكاتب.
وجاء في الأوقيانوس، ونقله صاحب محيط المحيط ولم يُشِرْ إلى مصدره: «في الحديث: فأُتي بثلاثة أقْرِصة على بَتِّيٍّ أي منديل من صوفٍ ونحوه، قيل: والصواب: بُنِّيٍّ أي طبق، أو نَبِيٍّ أي مائدةٍ من خُوصٍ.» ا.ﻫ.
وقال ابن مكرَّم في لسانهِ في تركيب «ب ش ق»: «في حديث الاستسقاءِ: بَشِقَ المسافِرُ ومُنِع الطريق. قال البخاري: أي انسد، وقال ابن دُرَيْد: بَشِق؛ أي أسْرَع، مثلُ بَشِكَ، وقيل: معناه تأخَّر، وقيل: حُبِس، وقيل: مَلَّ، وقيل: ضَعُف، وقال الخطابي: بَشِقَ، ليس بشيءٍ؛ وإنما هو لَثِقَ من اللثَقِ، وهو الوحل، وكذا هو في رواية عائشة، رضي الله عنها، قال: ويحتمل أن يكون مَشِق؛ أي صار مَزِلَّة وزلقًا، والميم والباء تتقاربان، وقال غيره: إنما هو بالباء، من بشقت الثوب ونشكته: إذا قطعته في خفة؛ أي قُطِع المسافر، وجائزٌ أن يكون بالنون، من قولهم: نَشِقَ الظبي في الْحِبَالةِ: إذا عَلِق فيها، ورجُلٌ بَشِقٌ: إذا كان يدخل في أمورٍ لا يكاد يَخْلُصُ منها.» ا.ﻫ. بنصه وفصه.
وفسَّر اللغويون الأحبش بقولهم: الشديد الحاد من الأصوات، والصواب الأجش.
وجاء في «كتاب ليس» لابن خالويه: «الظَّرَوْرَى، كشَرَوْرَى: الرجل الكَيِّس، العاقل، الظريف، واختلف في البصرة في مجلس اليزيدي نديمان له نَحْوِيَّانِ في الظرورى، فقال أحدهما: هو «الكيِّس»، وقال الآخر: هو «الكَبْش»، فكتبوا إلى أبي عمر الزاهد يسألونه عن ذلك، فقال أبو عمر: من قال: إن الظرورى الكَبْش فهو تَيْسٌ؛ إنما هو الكَيِّس.» ونقل هذه الحكاية صاحب تاج العروس في مادة «ظ ر ر».
وجاء في القاموس: الفناة: البقرة، وفي محيط المحيط للمعلم بطرس البستاني: البعرة في «ف ن و» وهنا انقلبت الْبَقَرَةُ بَعْرَةً، فيا لسوء حظها، لكن أي انقلاب!
وقال الشرتوني في أقرب الموارد: «وذكر بعض اللغويين أنها البقة وهو غير صحيح أيضًا.» ا.ﻫ.
وفي البستان للشيخ عبد الله البستاني: الفناة: البقرة، فانظر وتأمل!
وقال الزبيدي في ترجمة «خ ش ف»: «الْمَخْشَف كَمَقْعَدٍ: الْيَخْدَان، عن الليث، قال الصاغاني: ومعناه: مَوْضِع الْجَمَد، قلتُ: وَالْيَخْ بالفارسية: الجمد (وفي الأصل المطبوع: الجمدان، وهو خطأ من الناظر في نشرهِ)، ودان: موضعُهُ. هذا هو الصواب، وقد غلط صاحب اللسان لما رأى لفظ اليخدان في «العين»، ولم يفهم معناه، فصحفه، وقال: هو النجران، وزاد: الذي يجري عليه الباب، ولا إخاله إلا مقلدًا للأزهري، والصواب ما ذكرناه.» ا.ﻫ.
وقال في «ط و س»: «الطُّوس، بالضم: دوام الشيء، وهكذا في سائر النسخ، وفي بعضها: دوام المشي، وهو غلط فاحش، لا أدري كيف ارتكبه المصنف مع جلالة قدره، ولعله من تحريف النساخ، والصواب: «دواء المَشِيِّ»، كما هو مضبوط بخط أبي السناء الأرموي في نسخة التهذيب، ونسبه الصاغاني إلى ابن الأعرابي، إلا أنه ضبط المشي، بفتح فسكون، وهو بكسر الشين وتشديد الياء، كما ضبطه الأرموي، ومعناه: دواء يُمَشِّي البطن وهو الإِذْرِيطُوس … فاقتصر على بعض حروف الكلمة، وفي الأساس: شرب فلان الطوس أي الإذريطوس.» ا.ﻫ. المقصود من إيراده.
وفي محيط المحيط: «والطوس: دوام الشيء، ودواء يشرب للحفظ وهي عبارة القاموس بحروفها.»
وهذا البحث طويل المدى، عريض المنكب، حتى إننا لنستطيع أن نضع كتابًا ضخمًا فيه، ونقر بعد إتمامه بأننا لم نبلغ منه إلا طرفًا ليس إلا، ومثل هذه التصحيفات المحتبى فيها زادت في العربية منذ أن وضع المحدثون معاجمهم أي منذ نحو مائتي سنة، وفيها من المضحكات المبكيات ما يُطْرِب ويذرف الدموع معًا!