التصحيف الناشئ من تشابه رسم الحروف
ذكرنا في الفقرتين اﻟ ١٣ واﻟ ١٤ بعض ألفاظٍ من هذا القبيل، والآن نذكر لك شواهد أُخر تقع تحت هذا العنوان، وأول كل شيء نبتدئ بكلام البيروني فيما يتعلق بهذا الموضوع:
قال في مقدمة كتابه «الصَّيْدَنَة»: «ولكن للكتابة العربية آفة عظيمة، هي تشابه صور الحروف المزدوجة فيها، واضطرارها في التمايز إلى نقط العَجْم، وعلامات الإعراب التي إذا تُرِكت استبهم المفهوم منها، وإذا انضاف إليه إغفال المعارضة، وإهمال التصحيح بالمقابلة، وذلك الفعل من عامِّ قومنا، يُسَاوى به وجود الكتاب وعدمه، بل عِلْم ما فيه وجهله، ولولا هذه الآفة لكفى ما في كتاب ديسقوريدس، وجالينوس، وبولس، وأُرِبَا سِيُوس، المنقولة إلى العربي من الأسامي اليونانية، إلا أنَّا لا نثق بها …» ا.ﻫ. المقصود من إيراده.
ومشابهة الحروف بعضها لبعضٍ أوقع أعظم العلماء واللغويين في مجادلات طويلة، أضاعت من السلف كثيرًا من أوقاتهم وعلومهم وأعمارهم والإيغال في ضروب العرفان المفيدة، وقد أشرنا إلى هذا الأمر فيما مرَّ بنا من الكلام، والآن نذكر لك غير ما تقدم شرحه.
قال أبو الفضل الخزرجي في تركيب «ي و ح»: «ابن سِيْدَهْ: يُوح: الشمس، عن كراع. لا يدخله الصرف، ولا الألف واللام: والذي حكاه يعقوب بُوح (بالباء الموحدة التحتية). قال ابن بري: لم يذكر الجوهري في فصل الياء شيئًا، وقد جاء منه قولهم: يُوح (بياء مثناة تحتية): اسم للشمس. قال: وكان ابن الأنباري يقول: هو بُوح بالباء (الموحَّدة التحتية)، وهو تصحيف، وذكره أبو علي الفارسي في الحلبيَّات عن المبرِّد (يوح) بالياء المعجمة باثنتين (من تحت)، وكذلك ذكره أبو العلاء بن سليمان في شعره فقال:
قال: ولما دخل بغداد، اعتُرِض عليه في هذا البيت، فقيل له: صَحَّفْتهُ؛ إنما هو بوح، (بالباء الموحدة التحتية)، واحتجُّوا عليه بما ذكره ابنُ السِّكِّيت في ألفاظهِ، فقال لهم: هذه النُّسَخُ التي بأيديكم غيَّرها شيوخكم؛ ولكن أخْرِجوا النُّسَخَ العتيقة؛ فأخرجوا النسخ العتيقة فوجدوها كما ذكره أبو العلاء، وقال ابن خالوَيْهِ: هو يُوح، بالياء المعجمة باثنتين (من تحت)، وصحَّفهُ ابن الأنباري، فقال: بُوح، بالباء المعجمة بواحدةٍ، وجرى بين ابن الأنباري وبين أبي عمر الزاهد كل شيء، حتى قالت الشعراء فيهما، ثم أخرجنا «كتاب الشمس والقمر» لأبي حاتمٍ السِّجِسْتَاني، فإذا هو يُوح، بالياء المعجمة باثنتين (من تحت)، وأما البُوح، فهو النفس لا غير.
وفي حديث الحسن بن علي عليهما السلام: هل طلعَتْ بوحِ (بكسر الحاء) يعني الشمس، وهو من أسمائها كَبَراحِ، وهما مبنيان على الكسر. قال ابن الأثير: وقد يُقَال فيه: يُوحَى، على مثال فُعْلَى، وقد يقال بالباء الموحَّدة لظهورها من قولهم: بَاحَ بالأمر يَبُوحُ.» ا.ﻫ. نقلهُ بحرفهِ، ومثل هذا القول ورد في ديوان الشارح.
قال صاحب هذه الكلمة ومؤلفها: الذي عندنا أن الصواب هو يَرَح، بياء مثناة تحتية مفتوحة، يليها راء مفتوحة، وفي الآخر حاء مهملة، وهي الشمس بلغة أهل تَدْمُر، وكانت لغتهم تشبه العربية كثيرًا، والكلمة نفسها تعني القمر بلغة الأشوريين، وقد تمد فيقال: يَرَاح كسحاب وصُحِّفت بَرَاح بباء موحدة تحتيَّة.
وفي اللغة الإِرَمية: يَرَحْ ويَرْحَا الشهر أو التاريخ و«يَرْحُوثَا» مُدَّة الشهر، فيحتمل معناه الأصلي: الشمس والقمر؛ لأن منهم مَنْ كان يؤرخ الحوادث باعتمادهِ على دوران الشمس كالمجوس، ومنهم مَنْ كان يؤرخ باعتماده على القمر كاليهود.
ومن هذا القبيل: الرَّبْرَق، والرَّيْرَق والرَّيْزَق، وهو عِنَب الثَّعْلَب.
وجاء في لسان ابن منظور في «سوف»: السواف بفتح السين: الفناء، وفي القاموس: السواف كسحاب: القِثَّاء، والمَوْتان، فأين الفَنَاء من القِثَّاء، والصواب: أن المجد خاطئ، وابن منظور هو المحق أي الفناء بنون بمعنى الهلاك.
وورد في اللسان أيضًا في ترجمة «ق ﻫ ا»: «القَهَة من أسماء النرجس، عن أبي حنيفة، قال ابن سيده: على أنه يحتمل أن يكون ذاهبها واوًا وهو مذكور في موضعه.» ا.ﻫ.
وقد فتشنا في معجمه فلم نجدها في «وقه» ولا في «وقا»، ولم يذكرها أحد من أرباب دواوين اللغة، ونحن نظن أن الصواب هو القَهْد، بقاف مفتوحة وهاء ساكنة يليها دال مهملة، وقد ذكرها اللغويون في معاجمهم بمعنى النرجس.
وفي القاموس: الرفن البيض (في رفن)، وفي اللسان: النبض، عن ابن الأعرابي، فمَنْ الْمُحِقُّ؟ قلنا إن المحق هو ابن منظور؛ لأنه جاء في هذه المادة: ارفأن الرجل: نفر ثم سكن، وعند النفور يشتد النبض وليس في تلك المادة ما يوجه معنى البيض.
وقد جمعنا شيئًا كثيرًا من أمثال هذه الأوهام وتقع في سِفْر ضخم، وأغلب هذه التصحيحات علقناها على هامش نسخة اللسان وتاج العروس وأساس البلاغة والمصباح.