تناظر العربية واليونانية
أجمع الْبُصَرَاء وَالْحُذَّاق في اللُّغى المختلفة، وعلى رأسهم المستشرقون أنْ لا صلة البتة بين الألسنة السامية والألسنة اليافثية، ولا سيما لغة قحطان، فإنها أبعد اللُّغَى عن الْهِندية (أي السنسكريتية) عن كل لغة عربية.
أما نحن فنخالف الجميع على الإطلاق، وقد وجدنا المشابهات بين العربية واللغتين المؤتمتين (أي اليونانية واللاتينية) عظيمة جدًّا، وبلغ بنا الاستقراء إلى هذه القاعدة وهي: كل لفظة يونانية أو لاتينية ذات هجاء واحد أو هجاءين، فلا بد من أن يكون لها مقابل في الْمُضَرِيَّة، وقد تتفق معاني اللفظتين كل الاتفاق، وقد تبتعد قليلًا، وهذا لا بدَّ منه، بعد نزوح الدار، واختلاف العادات والأخلاق، وتغيُّر الأهواء والأهوية والمياه، إلى غير هذه الأمور التي تؤثر في المرءِ تأثيرًا لا يمكن إنكارهُ، فإذا كانت هذه العوامل أدَّت إلى نتائج عظيمة في اللغات السامية نفسها، تلك الساميات الأخوات، فكيف لا تصدم اللغات المتباينة في عناصرها وأقوامها صدمة أعظم، بل صدمة عنيفة مزعزعة للأصول والفروع معًا، بل صدمة تشبهُ ما تفعلهُ القارعة في يوم الدين!
وقد تتبعنا أصول الكلم في اللغتين المؤتمتين، فوجدنا لكل كلمة ذات هجاءين فيهما مفردة مقابلة لها ولم نهتدِ إلا لبضعة ألفاظ، وربما نهتدي إليها مع الزمن، والذي لم نظفر بمقابلاتها تكون على نسبة اثنين إلى العشرة لا غير، وإلا فإننا وُفقنا لما بقي منها.
- (١) aiglè, αίγλη الضياء أو البَرْقة éclat de lumière قال بوازاق، وهو من مشاهير اللغويين الأثبات: هذه اللفظة تحوي الدرجة الأولى من الأصل AIG الذي معناه: «هَزَّ وقذف» ثم حاول أن يدنيها من لفظة في الهندية الفصحى، وختم قوله بهذه الكلمة: «إن معنى اللفظة الأول هو الحركة الفجائية والتموُّج وَالتَّرَهْرُهُ.»فالعلَّامة الحاذق أقرَّ أن الأصل هجاء واحد AIG وعليه يقابله في لغتنا «عَقَّ»، قال في القاموس: «الْعَقَّة: البرقة المستطيلة في السماء … وَعَقَّ السهم: رمى به نحو السماء وذلك السهم عقيقة.» ا.ﻫ. فإن كان بين القراء مَنْ ينكر هذه المقابلة فليفعل، وإن كان هناك مَنْ يجد كلمة قريبة من اللغة اليونانية كقرب العربية منها، فليذكرها لنا، ولا سيما إذا تقارب اللفظان والمعنيان معًا، وهؤلاء لُغَوِيُّو الغرب مع اختلاف قوميَّاتهم والهلَّنيون مع جماعات فقهائهم، لم يجدوا لفظة واحدة مثل هذهِ الكلمة الْمُضَرِيَّة التي ذكرناها.
- (٢) BALANOS, Bάλαυος البلُّوطة. قال لغويو الغرب: أقرب كلمة إلى هذه اليونانية اللفظة اللاتينية glans ثم ذكروا لها مقابلات في سائر اللُّغَى، فمنها ما تبتدئ بحرف Z ومنها بحرف G، وأخرى بحرف D، ولم يعرفوا أن الكلمة التي تجانس الهلَّنية هي العربية «البَنَان»، ومعناها الأصابع أو أطرافها، والمشابهة بين البلوط والبَنَان لا ينكرها بشر؛ إلا أن أصلها العربي هو «بَلَان» بلام بعدها الباء الموحدة التحتية؛ لأنها ترى بهذا الحرف في جميع الألسنة كالصقلبية القديمة واللتية والرومية واللتوانية والبروسية القديمة والأرمنية على ما عدَّد مفرداتها العلامة بوازاق، ولو كان عندنا نص عربي يذكر عربيتنا بألف سنة قبل المسيح لسمعناهم يقولون: «بلان.»
وقلب اللام نونًا والنون لامًا عند السلف شيءٌ مشهور، وفي كل سِفر لغةٍ مذكور، وهل ينسى أحد منا الكلم الآتية: هتنت السماء وهتلت، والسُّدُون السدول (ما جلل الهودج)، والرَّهْدنة والرَّهْدلة، وهو «طويئر»، ولقيتهُ أُصَيْلَانًا وَأُصَيْلَالًا، والشواهد أكثر من أن تُحصى، فليراجِعْ الباحث المزهر للسيوطي (١ : ٢٢٢ و٢٢٣ و٢٢٩ و٢٦٩ من طبعة بولاق) فَيَرَ فيه ما يجزِئه.
وفي اللسان في مادة «ب ل»: الفرَّاء: قولهم «بَلْ» بمعنى الاستدراك. تقول: بَلْ واللهِ لا آتيك: وبَنْ واللهِ، يجعلون اللام فيها نونًا، قال: وهي لغة بني سعد ولغة كلب، قال: وسمعتُ الباهليين يقولون: «لا بَنْ» بمعنى «لا بَلْ». قال: ومن خفيف هذا الباب: بَنْ ولا بَنْ لغة في بَلْ ولا بَلْ، وقيل: هو على البدل. ا.ﻫ. ونقل هذا الكلام صاحب التاج ولم ينسبه إلى صاحبه، على حد ما فعل ابن مكرم؛ إذ نقل هذه العبارة بطولها وحروفها عن التهذيب ولم يَعْزُهَا إلى مدوِّنها.
ثم إن السلف قصروا «البَنَان» بصورة «بَان» وخصُّوها بهذا الشجر المعروف بقوامه السَّبْط الليِّن وبزهرهِ الناعم كالأذناب وَالْمُنْفَرِشة، ويخلف قرونًا كقرون اللوبياءِ، وبداخلها حب أكبر من الحِمِّص، ولهذا الحب دهن طيب الرائحة يعرف بدهن البان والواحدة من هذا الشجر بانة، وسُمِّي كذلك لأن الثمرة تشبه البنانة، وسَمَّاها اليونان βάλαυος أي بنفس الكلمة التي سمَّوا بها البلوط، وأما الفرنسيون فسمَّوها BEN كما في العربية، والعلماء يسمونها MORINGA APTERA.ومن العربية «بنان» أخذ الإسبانيون كلمتهم BANANA بمعنى الموز، من باب المشابهة نقلًا عن العرب أنفسهم، ومنهم أخذها الفرنسيون فقالوا: BANANE، والإنجليز فقالوا: BANANA، وكنت قد قرأت بَيْتَ شعر لأحد عرب الأندلس يشبه به الموز بالبنان واليوم لا أتذكرهُ فهذهِ ألفاظ ثلاثة أُخذت عن العرب إحداهن بمعنى البلوطة، والثانية بمعنى ثمرة البان، والثالثة بمعنى الموزة.فهذا فضل العربية لا ينكَر، ومع ذلك ترى من أبناء هذه اللغة من يعقُّونها فيشهدون على أنفسهم أنهم من الأدنياء الذين عاشوا بين الشُّعُوبيَّة، فاقتبسوا منهم آراءهم فغدوا مكروهين من أبناء الغرب؛ لأنهم ليسوا من عِدَادِهِم، وممقوتين من العرب؛ لأنهم يرونهم من الشُّعُوبيَّة التي لعنها الناطقون بالضاد، ولا يزالون يلعنونها ما اختلف الْمَلَوَانِ.
- (٣) γέφυϱα GÉPHRA: قال بوازاق: وهذه بالبيوتية (من لغات اليونانية)، وBÉPHURA باللَّاقونية، وdiphura بالغُرْطونيَّة وDÉPHURA عند غيرهم. قال: ومعناها: الْمُسَنَّاة وَالْجِسْر، ثم سَرَدَ آراء بعض الْحُذَّاق من أهل اللغة، وانتهى به التحقيق إلى القول: «أصلها غير معروف»؛ لأنه لم يتمكن من أن يهتدي إلى لفظة ثنائية الهجاء تُجِيزُ لهُ توجيه الكلمة وتأييد معناها للمسنَّاة والْجِسْر.
أما نحن فنقول لهُ ولكلِّ مَنْ ينكر فضل العربية على جميع اللُّغَى قاطبة: إنها من «الضفيرة» وهي المسناة، ومسألة نقل الضاد الخاصة بأبناء إسماعيل، مشكلة من المشاكل منذ أقدم الزمان إلى عهدنا هذا، فقد اختلفوا في تحويلها إلى ألسنتهم كل الاختلاف، وأعظم دليل على هذا التشتت في الرأي هذه الكلمة، وإن كان هناك مفردات جمة العدد، نصرِّح بها كلما احتجنا إليها، فالاختلاف الواقع هنا ظاهر بين قبائل اليونان أنفسهم بين البيوتيين واللاقونيين والغُرْطونيين، فأنت ترى أن البيوتيين نطقوا بها بالجيم، واللاقونيين بالباء، والغرطونيين بالدال، وسواهم بالدال أيضًا، فأقرب كلمة من لغاتهم هي ما كانت بالدال المهملة أو الذال المعجمة؛ لأن اليونان اختلفوا أيضًا في النطق بدالهم.
ومن أغرب الغرائب أن مثل هذا الاختلاف وقع لقبائل العرب أنفسهم في لفظ هذه الضاد التي يرمقها جميع الْحُسَّاد بعيون تدل على ما في سرائرهم من الغيرة والغَمْط.
أما أن أبناء عدنان اختلفوا في النطق بها على حد ما اختلفت فِرَق اليونان، فظاهر من وقوع أمثال ذلكم الإبدال في لهجاتهم، فقالوا في إبدالها جيمًا: وضح الطريق ووجح، كما في المحكم لابن سِيْدَه، وأوضفَهُ وأوجفهُ؛ أي حملهُ على الإسراع في المشي، وضرح الشهادة وجرحها، إلى غيرها وهي جمَّة العدد.
وأمثال إبدالها باءً: ضَؤُل وبَؤُل بمعنًى واحد، وكذلك الضَّئِيل وَالْبَئيل، وَالْبَوْنَة: البنت الصغيرة ومثلها الضَّوْنَة، والضؤضُؤُ كالبؤْبُؤ بمعنى الأصل إلى نظائرها وهي لا تُحصى.
وأما قلبها دالًا مهملة فقد قالوا في نهض: نهد، وفي ناهض: ناهد، وفي الضرس: الدِّرْس وَالْحُضُضُ وَالْحُضُد، والنُّعْض وَالنُّعْدُ، شجر، واحدتهُ نُعْدة، ونُعْضَة (عن اللسان) إلى آخر ما عندهم.
وجَعْلُها ذالًا معجمة معروف أيضًا فقد قالوا: الْحُضُض وَالْحُضُذ، وغَضَضْتُ منهُ وغذذتُ؛ أي نَقَصْتُهُ، ونبض الْعِرْق ونبذ، والعِضْيَوط، والعِذْيَوْط، ويقال للأحمق: أضْوَط وأَذْوَط، وضَعَطَهُ وذعَطَهُ أي ذَبَحَهُ، وهَضَّ الشيءَ يَهضُّهُ هَضًّا، كسرهُ ودَقَّهُ، وَهَذَّهُ يَهُذُّهُ هذًّا: قطعهُ سريعًا، أو هو قطع كل شيء، إلى آخر ما ضارع هذه المفردات الكثيرة.
بقي علينا أن نذكر أصل معنى الضفيرة التي قلنا إنها تعني الْمُسَنَّاة، فواضح أن اشتقاقها من ضفر البِنَاء أي بناه. قال ابن الأعرابي: «الضفيرة، مثل المسناة المستطيلة في الأرض فيها خشب وحجارة، وضفْرُها: عَمَلُها، من الضفْر وهو النسج، ومنه ضفر الشعر وإدخال بعضه في بعض، ومنه حديث علي: أن طلحة بن عبيد الله نازعه في ضفيرة كان عليٌّ ضفرها في وادٍ كانت إحدى عدْوَتَي الوادي له، والأخرى لطلحة، فقال طلحة: حَمَلَ عليٌّ السيول وأَضَرَّ بي، ومنه الحديث الآخر: فقام على ضفيرة السدة، والحديث الآخر: وأشار بيده وراء الضفيرة، قال أبو منصور: أُخذت الضفيرة من الضفر وإدخال بعضه في بعضٍ معترضًا.» ا.ﻫ.
والضفيرة إذن قديمة في العربية، ولو كان عندنا نصوص مكتوبة أقدم من هذه لذكرناها، ويظهر من اختلاف لغات اليونانيين في نقل الضاد إلى لغتهم أنه لا يبعد عن اختلاف لغات العرب فيها، ولعل كل فخذٍ من أفخاذ قبائل الهلنيين أخذ لغته من الفخذ العربي الذي كان ينطق بذاك الإبدال، وهو أمر غير بعيد؛ إذ المشابهات بينة كل البيان ولا يمكن أن تخفى على أي مُتَدبِّر لها.
- (٤) бέϱω, бείϱω dero, deiro: من أغرب ما أصبناه في معارضة لغتنا باللغتين المؤتمتين أننا وجدنا المشابهة في الأسماء كما وجدناها في الأفعال والحروف، وهذا لم نسمع به البتة، بل هو من أغرب الغرائب، ونحن نذكر هنا مثالًا من عشرات الأمثلة لكي لا نحرج الصدور.الفعل اليوناني الذي صدَّرنا به هذه المادة يعني سلخ، ولا سيما سلخ الشاة، ثم قال بوازاق: وδοϱòς doros الزِّق، والأتيكيون يسمونه бέϱϱίς, εως dérris-eos.قلنا الفعل العربي هو هو اليوناني بعينه؛ فقد قال اللغويون: دَرَعَ الشاة كمنع: سلخها من قِبَل عنقها ودرع رقبته: فسخها من المفصل من غير كسر، ودرعه تدريعًا: خنقه خنقًا، ولم نجد في هذه المادة كلمة تدل على الزِّق، لكنا ظفرنا في مادة «ذرع» بالذال المعجمة ما يفي بالمراد، ولما سبقنا فقلنا إن الدال اليونانية أي: Δ يلفظها بعضهم كالدال المهملة العربية، وبعضهم كالذال المعجمة، جاز لنا أن ننظر في ترجمة «ذرع» بالمعجمة ما ننشده، فإذا فيها: «ذرع فلانًا: خنقه من ورائه بالذراع كذرَّعه، والذراع ككتاب: الزق الصغير يسلخ من قِبل الذراع.» ا.ﻫ. فهذه تفاصيل دقيقة في منتهى الفائدة.
- وأولى هذه الفوائد: أننا لو أردنا أن نكتب «دَرَع أو ذَرَع» بأحرف هلَّنية فلا نجد رسمًا آخر غير الذي رُسم لتصويرها.
- والثانية: أن الكلمة اليونانية التي تدل على سلخ الشاة؛ إنما تدل على السلخ من عنقها، أو من ذراعها، ولما كان هذان العضوان متفاوتين في الشاة، فكأن المراد من هذا السلخ أنه يكون من قِبل أعلاها لا من قِبل أسفلها (أي رجليها).
- والثالثة: أن قدم لفظ الدال اليونانية مرة كالمهملة، وأخرى كالمعجمة معهود عند العرب وعند اليونانيين أيضًا.
- والرابعة: أن في معارضة اللغة العربية باليونانية إيضاحاتٍ وبياناتٍ لا تقدر.
- والخامسة: نستدل بهذه المقابلة أن هناك ألفاظًا لم يدونها العرب؛ إما نسيانًا وإما إهمالًا، ففي معارضة مادة «درع» بتركيب «ذرع» نجد مشابهاتٍ رائعة متفقة كل الاتفاق؛ لكنا نرى أن «الدِّراع» بالمهملة لم ترِد بمعنى الزِّق، بخلاف الذراع بالذال المعجمة، إلى غير هذهِ العوائد التي تبدو لِمَنْ يتدبَّر المادتين العربيتين والمادة الهلَّنية.
وقد قلنا إننا وجدنا مثل هذه المماثلات والمتناظرات في الأسماء والأفعال والحروف أيضًا، وهي كثيرة الأمثلة في الأسامي، وهذا واضح من أن المرء يضطر إلى اتخاذ الأشياء أكثر من استعمال الأفعال، وأما الحروف فهي أقل الكل.
- (٥) نَعَمْ: ونحن نذكر لك هنا شاهدًا للحروف وهو «نَعَمْ» وتستعمل أداةً للتصديق والإيجاب، وفيها لغات، قال النحاة: نَعَمْ بالتحريك، ونَعِم بفتح فكسر، ونِعِمْ بكسرتين، ونَعَام بالتحريك وبألف قبل الأخير، ونَحَمْ، بحاءٍ في مكان العين، وهي في اليونانية υαί, (NAI) وفيها لغات منها: υαί бή, (NAIDÉ) وυαί µήυ, (NAI MÉN) وυαί µαυ, (NAI MAN) وυαί µήυ, (NAI MEN) وυαί µέυτοι, (NAI MENTOI) إلى غيرها، وقد اجتزأنا بما سردنا، وأقرب كلمة هَلَّنِيَّة إلى كلمتنا الضادِيَّة هي NAI MAN، ولما كانت تلفظ سريعًا تظهر على اللسان كأن المتكلم ينطق بكلمة واحدة هي «نَيْمَنْ»، وكلنا يعلم أن العين وكل حرف حلقي يسقط من لغات الغربيين، فلا عجب بعد هذا إذا كانت «نَعَمْ» تشبه «نَيْمَن» أو «نَعْمَن» بزيادة النون في الآخر.
وقد زاد السلف النون في الآخر في كثير من الكلم، ففي النثر كقولهم: قَطعَنَ في قَطَعَ، وما عليهِ قِرْطَعْنَة أي قطعة، فَزِيدت الراء في الوسط والنون في الآخر، وقالوا: الْعُرَيْقِصَانة في الْعُرَيْقِصَاء لنوعٍ من النبات، وأمَّا مثل الشِّسْعَنِ وَالضَّيْفَنِ بمعنى الشِّسْع وَالضَّيْف فأشهر وأعم، وكذلك مثل الْقُطُنِّ وَالْقُطْتُنِّ في الشعر من قبيل الضرائر، فهو أيضًا كثير غير مجهول.