تناظر اللاتينية (الرومية) والعربية
إن الْهَلَّنِيَّات المشابهة للعربيَّات شيء لا يُقَدَّر، وأكاد أقول مثل هذا القول
في
المشابهات والمماثلات بين اللاتينية ولغتنا الضاديَّة، لكن لما كانت اليونانية أوسع بحرًا
من اللاتينية كانت النظائر بين هذه اللسان وبين لساننا أقل، وهذا العدد، وإن كان أقل،
يُحْسب بالمئات أيضًا، لا بالآحاد أو العشرات، كما يسبق الوهم إلى تصوُّرهِ.
ونحن نذكر بعض هذه الأمثلة استيفاء للبحث، وإثباتًا لرأينا الذي لا بد من أن يستغربه
كل
مَنْ يزاول علم معارضة اللغات بعضها ببعض:
(١) زَرَع
هذا فِعل، ويقابلهُ في الرومية فِعْل أيضًا، وقد نبَّهنا على مثل ذلك في اليونانية،
والفعل المعروف في اللغة العَجَمية المذكورة هو SERERE،
فإذا حذفنا من آخره علامة الفعل عندهم يبقى SERE، وقد
علمنا سابقًا أن أحرف الحلق تسقط كلها من كلام أبناء الغرب، وقد ينوب عنها أحد أحرف
العلة من أحرفهم، وقد ناب هنا الحرف E، فصارت «سَرَى»
بالسين في الأولى، وهذا ما نراه في كثير من الألفاظ عندهم، أنهم يجعلون الزاي سينًا؛
إذ
الزاي تلفظ عندهم وتصور سينًا كما هو معهود عند عارفي لغات الغرب، إذن تحولت «زرع»
بصورة «سَرَى» وهذا ظاهر ولا يحتاج المرء إلى إمعان في الفكر.
والذي نلاحظه أن كلمتنا وأصولها تبقى على حالتها، وإن اختلفت مشتقاتها من زارع ومزروع
وزَرْع (اسمًا ومصدرًا) ومزرعة إلى آخر ما عندنا، وأما الرومان فقد قالوا في أزْرع
«أنا»: سيرو SERO وفي زرعتُ سَيْفِي SEVI ومزروع: سَاتم SATUM،
والزَّرْع، مصدرًا: سَيْرَرَى، أو سَارَارَا، بإِمالة الألف أي
SERERE، والزَّرْع، اسمًا: سَمَنْ SEMEN، وَالْمَزْرَعَة:سَمِينَاريوم SEMINARIUM، فأي اختلافات وقعت في «أصل الكلمة» الْعَجَميَّة،
وابتعاد مشتقاتها عنه، وتشتُّت أحرف ذلك الأصل! بينما نرى أَحْرُف أصل «زرع» الأولية
باقية في جميع فُرُوعها، ولهذا كانت لغتنا أقرب إلى الأصل من سواها.
(٢) السَّارِية
في لغتنا السارية هي الأسطوانة، ويراد بها كل ما يُسنْد به من حائط، أو سَقْف، أو
بابٍ، أو مِزلاج، أو نحو ذلك، ويراد بالسارية أيضًا المترس؛ لأن الأسطوانة أو الأصطوانة
من «أُسْتُون» الفارسية، وهذه يقع طائر معناها على جميع الشعب المذكورة وغيرها، أو من
اليونانية бτόα, άς (STOA,AS).
وعند اللاتين SERA معناها الْمَتَرْس والرِّتاج
والْمِزْلاج والْمِغْلَاق، وإذا سألت فقهاء لغتهم عن أصل كلمتهم، قالوا لك: إنها مشتقة
من SERO ويتصرف هذا الفعل هكذا: SERO,
SERUI, SERTUM, ومعناها أقفل وأدخل الأزرار في عُرَاها، وضم
الأشياء بعضها إلى بعض، وخلطها بعضًا ببعضٍ، إلى ما جرى في وادي هذه المعاني.
أما نحن فنخالفهم ونقول: إن السارية العربية مشتقة من السراة وهي الظَّهْر، فيكون
معناها «ذَاتَ الظهر» من باب النسب كتَامِر ولابن؛ لأن السارية تسند ما تُتخذ له، وأما
SERERE التي قال الرومان: إن منها اشتق سلفهم
SERA، فلا نوافقهم عليه، بل نقول: إِنَّ كلمتهم هذه
توافق عندنا «شَرَجَ»، قال لغويونا: شَرَجَ الخريطة: دَاخَلَ بين أشرَاجها وشدَّها،
وشَرَج اللَّبِنَ: نَضَّدَهُ وَضَمَّ بعضهُ إلى بَعْضٍ.» وإنما قالوا:
SERERE؛ لأن الشين المعجمة غير موجودة في صميم
كلامهم، ولأن جيمنا تُقْلَبُ ياء عند كثير من العرب، وهي لغة فاشية إلى اليوم عند أعراب
المنتفق في العراق يقولون في جرح، ورجح، وحرج: يرح، ورَيَح، وحَرَى، ففعلهم هذا وفعلنا
من نَبْعٍ واحد أو مَصْدرٍ واحدٍ؛ ولهذا كانت السارية العربية مُضَرِيَّةً
مَحْضَةً.
(٣) نَضَاهُ
يقال: نَضاهُ من ثوبه أي جَرَّدهُ فهو نَضِيٌّ ومنه النَّضِيُّ للسَّهْم بلا نَصْلٍ
ولا ريشٍ (اللغويون)، وهو كقولك: سهم عري من النصل والريش، والنَّضِيُّ أيضًا
وَالنِّضْو: المهزول من جميع الدواب (اللغويون ولا سيما اللسان) كأنه جُرِّد من لحمهِ،
وَعَرِيَ منهُ، والأنثى نِضْوَة، وجمع المذكر والمؤنث أنْضَاء.
فأنت ترى من هذا أن النَّضِي أو النِّضْو ينظر إلى اللاتينية
NUDUS والمؤنث NUDA
لا فرق في اللفظ والمعنى، إذا نزعت من اللفظة الحرف S
الذي هو من علامات الإعراب عندهم، وإذا سألتهم من أين لكم لفظكم؟ خَرِسوا، أو لا أقل
من
أنهم يتلعثمون في أجوبتهم ويتمحلون لك ألفاظًا، تكاد تخر من السقف عند سماعك إياها،
أفليس الأجدر بهم أن يقولوا: إنهم اقتبسوها من العرب؟ وفي كلامنا يُرَى الفعل، وله
مشتقات عديدة، تُرَى في جميع المعاجم، دع عنك ما هناك من المفردات المأخوذة مجازًا من
الأصل المذكور، فالمادة عندنا غنية وأما مادتهم فالعَوَز والفاقة والذلة ظاهرات عليها،
فنحن نُبيح لهم أن يغترفوا من غَمْر لغتنا؛ إذ نحن العرب معروفون بالكَرَم والضيافة
والْجُود الذي دونه كل جود.
(٤) عَرَاهُ وَعَرَّهُ
من غريب اختلاف الآراء عند لغويي الغرب تفرق نظرهم في أصل الكلمة
ORARE التي معناها صَلَّى، أو طلب من الله ما يحتاج
إليه، ففريق اشتق هذا الفعل من OS, ORIS الذي معناهُ
الفم؛ لأن المرء إذا طلب شيئًا لا بد من أن ينطق بفمه ليفوز بمطلوبه، ومنهم مَنْ رأى
أنها من اليونانية الهومريَّة (arè), άϱή وهي بالأتيكيَّة
(ARA), άϱά ومعناها
الصلاة والدعاء، ولما كان الدعاء يُستعمل للخير وللشر، فكذلك الكلمة اليونانية ترد
بالمعنيين المذكورين، وإذا سألنا الهلنيين من أي سماء هبط عليكم هذا الحرف؟ قالوا: إنه
من الهندية ARYATI أي ثنى ثناء طيبًا، وبالأرمنية
ALACEM ومعناها: تذلَّل، واستنجد، واستغاث، وابتهل،
إلى نظائر هذا المعنى.
والذي عندنا أن الكلمتين الهلنية واللاتينية تَنْظُرَان إلى الْمُضَرِيَّة «عَرَا
يعرو» قال في القاموس: «عَرَاهُ يعروهُ: غَشِيَهُ طالبًا مَعْروفهُ كاعْتَرَاهُ»، وفي
عري: «وعرَيْتُهُ: غَشِيتُهُ كَعَروْتُهُ.» ا.ﻫ. وقال في «ع ر ر»: «الْمُعْتَرُّ:
الفقير، وَالْمُعْتَرِض للمعروف من غير أن يَسْأل: عَرَّهُ عَرًّا، واعترَّهُ، وبه.»
ا.ﻫ. وقال في صدر تلك المادة أو يكاد، «وعره: ساءه، وبِشَرٍّ: لطخه به»، فالظاهر من هذا
الكلام أن عَرَّهُ المضاعف سبق عَراهُ الناقص، وفَرَّق العرب بين المعنيين تبعًا لصيغتي
الْفِعْلَيْنِ، إلا أن المعنى واحدٌ في الأصل ومُتَّفِقٌ مع اليوناني.
فنجيب عن اشتقاق اللاتين لكلمتهم من OS,ORIS أي الفم:
أن المرء قد يصلي إلى الله من غير أن يتخذ فمه ذريعة لذلك، بل إرادته، كما أنه قد يتخذ
الفم لغير الصلاة والعبادة، فادِّعاؤهم أن ORARE مأخوذة
من هذه اللفظة ادعاءٌ باطل لا يقوم على سند رصين.
أما أن اللاتينية مستعارة من اليونانية بمعنى الدعاء، خيرًا كان أم شرًّا، إلى آخر
ما
ذهبوا إليه، فهذا الرأي أَوْجَهُ من ذاك، وإن لم يكن صحيحًا في نظرنا، والذي عندنا أن
كلمتنا «عَرَاهُ يعروهُ عَرْوًا» أقرب إلى ما يريدونه من سواها؛ لأنك ترى في معنى
«الْعَرْوِ»: «الصلاة» سواء أخرجت من الشفاه، أم من الإرادة، وفي «العرو» ترى معنًى
دقيقًا للصلاة؛ لأن المصلي يغشى باب الله طالبًا معروفه وبركته وخيراته، وهذا الطلب هو
المقصود من الصلاة والدعاء، ولهذا أجمع علماء الكلام على أن غاية الصلاة هي هذا الطلب،
وهو صريح في مصنفاتهم من عرب وعجم.
فأما أنها صريحة في كتب السلف فواضحة من أنهم عَرَّفوها أنها «الدعاء والرحمة
والاستغفار» (القاموس)، وأما في كتب العجم فأشهر من أن تُذكر، ونحن نذكر هنا شهادة
لاروس الصغير؛ لأنه في أيدي الجميع، وفي متناول الكبير والصغير، فإنه يقول: «الصلاة طلب
إلى الله»، وقد جاء الاعترار في لغتنا كالاعتراء؛ فلقد رأينا أن «الْمُعْتَرَّ» هو
الفقير المعترض للمعروف من غير أن يسأل، وكل منا فقير بين يدي الله، معترضًا لمعروفه،
ولو لم يسأل بلسانه.
وأما أن الكلمة اليونانية ARA تعني الدعاء بالخير أو
بالشر، فَحَرْفُنا «الْعَرُّ» المضاعف، يفيد أيضًا هذين المعنيين، على ما بسطنا ذلك،
فنرى من هذا صحة كلامنا: أن لفظة الصلاة عندهم؛ أي
ORARE هي أقرب إلى لغتنا من أي لغةٍ سواها.
بقي أن هناك ملاحظة لا بد لنا من إبدائها وهي: أن لغويي الغَرْب، ولا سيما الألمان
منهم، الْبُصَراءُ بلسان أهل يُونان، ذهبوا إلى أن άϱά
أصلها عندهم في القديم άϱΓά، وذهب آخرون إلى أنه
άϱαΓά أي إنه كان في العهد العهيد بين الراء والألف
الأخيرة حرف مزدوج يسمونه دِيجَمَّا DIGAMMA وينوب
عندهم دائمًا عن حرف محذوف، ويكون في أغلب الأحيان حرف حلقٍ، لكنه قد يكون حرفًا آخر،
وقد تصرفوا في هذا الحذف تخفيفًا للفظ على اللسان، وهذا مما يسلم به جمهور حذاقهم في
الهلنية بلا شاذٍّ واحدٍ؛ أيًّا كان عنصرهم أو قوميتهم، ولا جرم أننا تابعون لهم في هذا
الرأي الصحيح القويم الذي ليس عليه أدنى غبار، والمحذوف هنا «الفاء»، فإذا أعدناها إلى
اللفظ الجاري عليه الكلام؛ أي «عرا» الحرف المحذوف عندهم ترانا بين يدي «عرفة» أو
«عرفات» التي اختلف في تأويلها المفسرون على نحو اثني عشر رأيًا، على ما في كتب التفسير
المطولة كالطبري والآلوسي، وبين تلك التفاسير رأي مَنْ يقول إن «عرفات» أو «عرفة»
سُمِّيت بذلك؛ لأنها مُقَدَّسة مُعَظَّمة، لا لأنها عُرِفَتْ أي طُيِّبت، أخذًا من
العَرْف وهو الطِّيب، بل لأن المصلين يجتمعون ثَمَّ للدعاء والابتهال والصلاة
والاستغفار والتقديس والثناء على عزته تعالى ثناءً «مَعْرُوفًا» أي طيبًا.
فَنِعْم التسمية وَنِعْمَ الْمُسَمَّى! وهذا من فضل هذا البحث الجزيل الفائدة،
والجليل النفع.
(٥) ثُمَّ
من الحروف التي تتشابه لاتينيتها بعربيتنا «ثُمَّ»، فإن الرومان يقولون:
TUM، فالمشابهة تامَّة، لا سيما عند الوقف، بمعنى
العطف، لا بمعنى الظرف؛ لأن اللفظة اللاتينية تأتي أيضًا ظرفًا ومعناها: «حينئذٍ»،
والكلام هنا على TUM العطفية وهم لا يعرفون من أين
أتتهم.
ونحن نظن أن أداة العطف العربية «ثُمَّ» قَصْر الإِرَمِيَّة «ثُوبْ» ومعناها العطف
و«أيضًا» و«بعد» و«ما عدا ذلك»، وهي مشتقة من «ثب»؛ أي رجع، وآض، وتاب، وعاد، وثاب، كما
أن «أيضًا» مصدر آض يئيض؛ أي رجع يرجع، ويصح أن تكون «ثُمَّ» أصلها «ثوْبًا» أي عودًا،
ورجوعًا إلى الكلام الذي يجري بيننا، ثم قلبوا باء «ثوبًا» «ميمًا» لقرب مخرج اللفظين
فقالوا: «ثَوْمًا» وبينها وبين «ثُمَّ» فرق زهيد.
فأداتنا العطفية تُؤَوَّل وقد عرفها أصلها واشتقاقها وصحة استعمالها، أما هم فلا
يعرفون من أداتهم شيئًا، فإذا قلنا إنهم أخذوها من لغتنا فإننا لا نظلمهم حقهم.
ونقف عند هذا الحد من هذا الفصل، وإلا فإن الموضوع واسع لا يتمُّ إلا في نحو مئاتٍ
من
الصفحات من مثل هذا الكتاب؛ لكثرة ما فيه من عجائب وغرائب!