جواب على اعتراض بخصوص العربية الأولى والمتأخِّرة
ورب معترض يقول إن العربية العصرية، أو العربية التي استحكمت أصولها قبيل الإسلام، غير العربية القديمة التي كانت في تلك العصور الضاربة في القدم، فعربية هذا العهد حديثة بالنظر إلى اللغتين المؤتمتين، ولا سيما مدوناتهما، فإنها — ولا شك في ذلك — أقدم عهدًا من مدوَّنات عدنانيتنا بعدة قرون، فكيف يسوغ القول بما ذهبت إليه؟
قلنا إننا لا ننكر من هذه الحقائق إلا بعضًا منها، نعم، إن الصيغ والتراكيب والمباني في لساننا قد تختلف عما كانت عليه في الأزمان البعيدة العهد، إلا أن «مادتها الأصلية واحدة»، وهذا هو المهم والمعوَّل عليه في مُعَارضة اللُّغَى بعضها ببعضٍ للحكم على أسبقيتها.
وأكثر هذه المواد تُعرف عروبتها من تركيبها الأُحادي الهجاء، الثنائي الحرف؛ أي إنها في أبسط حالة يمكن أن تكون عليها الكلمة، في أول وضعها ونشوئها، وقد مرَّ الكلام على أن المضاعف الثلاثي عندنا هو في الحقيقة أحادي الهجاء (راجع الفصل الخامس) وكيف تفرعت سائر الصيغ؟
ومما لا ينكره إلا المعاندون الحمقى أن أناسًا من الْحِثيِّين كانوا في عداد الترواديين، وكانت صِلاتُهم باليونانيين الأقدمين الأبطال من أوثق الصِّلات وأقواها، وقد أثبتت الأخبار أن أكابر الْحِثيِّين كانوا يصاهرون أماثِل اليونانيين، ووجد اليوم من الأنباء القديمة أن الدولة الأَخائِيَّة الكبرى — تلكم التي ترتقي إلى النصف الثاني من الألف الثاني قبل المسيح — كانت تراسل عظماء الديار التي نسمِّيها اليوم بالأناضول الْقَبَّاذُقِيَّة، وتواصلهم وِصالًا مُهمًّا خطيرًا، يدل على ارتباط القلوب بعضها ببعض.
زِدْ على ما تقدَّم أن أخبار التوراة تفيدنا أن أبناء «حِثٍّ» كانوا ينزلون ربوع كنعان من شماليها إلى جنوبيها، وكان من الْحِثيِّين فرع ثالث يقيم في قِيْلِيقية، وكانوا مرتبطين بِالْحِثيِّين الكنعانيين — شماليين كانوا أم جنوبيين — ارتباطًا وثيقًا، وَعَزَّزَتْ هذه الحقيقة مكشوفات فجر هذا العصر.
على أن في لغتنا من الأوضاع الدخيلة ما لا يمكن إنكارهُ، وقد أقرَّ بهذه الحقيقة أئمة اللغة أنفسهم، واقتباسهم لتلك الألفاظ لا يدل على أن لغتهم خلت منها، بل كان ذلك من الإكثار من المترادف، أو للتفاهم مع أقوام لا يفهمون إلا المهم من كلامهم، أو لأن في بعض الحروف الدخيلة خفة ورشاقة وذلاقة لا تُرى في لسانهم، أو للمباهاة ببعض ألفاظ الأغراب والأجناب، إلى أسباب أُخر قد تخفى علينا اليوم.
وفي كتابنا هذا فصل وسمناهُ: «بالحرب بين الكلم العربية والغريبة» يدل على أنه كان للسلف ألفاظ تغنيهم عن اتخاذ الدخيل، ومع ذلك اتخذوهُ، فقتل الدخيل الأصيل، حتى إنهُ ليصعب على السامع فهم الكلام الصميم العربي بعد أن اعتاد سماع الأجنبي الأعجمي، وألفهُ كل الإلفة.
والألفاظ الفارسية في العربية كثيرة؛ لاختلاط السلف بالفرس منذ أقدم الأزمنة، على ما تقدمت الإشارة إليه في صدر هذا الفصل، ولعلها اللغة التي أبقت أثرًا في لساننا أكثر من سائر الألسنة، ونحن لا نريد أن نسترسل في هذا الموضوع، وقد سبقنا إليه أحد مطارنة الشرق، وهو السيد أدَّي شير، من أخلص أصدقائنا، رحمهُ الله، واسم كتابهِ: «الألفاظ الفارسية في اللغة العربية» على أنه فاتتهُ ألفاظ كثيرة، كما أننا لا نُسَلِّم له بكل ما نسبهُ إلى لغة الفرس.
والكتاب ليس بين يدينا، ونحن نكتب هذه الكلمة بعيدين عن خزانتنا، إلا أننا نتذكر أننا قرأنا في كتاب السيد أدَّي شير أن السراب من أصل فارسي، من «شور آب» أي ماء مالح، مع أننا نعتقد أنه من «سَرَام» الهندية الفصحى أي الماء، واللغويون من السلف يقولون بأنه عربي صميم، وقد يكون، وقالوا إنه من سَرَب الماء إذا جرى، أو من سَرَب الرجل في الأرض إذا ذهب على وجهه فيها ومضى، على أن التأويل الذي يقرب من الطبيعة أصح وأولى وأوجه من سواه.
وقلب ميم «سرام» باءً أشهر من أن يذكر ولا ينكره أحد، وعندنا مئات من الْمُثُلِ والشواهد، ولو نعرف أن هناك مَنْ ينكرهُ لأمطرناهُ شواهد، فنكتفي بالإشارة إليه خوفًا من ملءِ الكتاب أمورًا هي من قبيل تحصيل الحاصل لا غير.
وبقولنا إنه مأخوذ من الهندية الفصحى (أي السنسكريتية) لا نريد أن نقول إن العرب أخذوه من الهنود مباشرة، بل عن يد آخرين وهم الفرس؛ لأن لسانهم من الألسنة الهندية الأوروبية؛ إذ في اتخاذ الألفاظ من أُمَّةٍ دون أمة شروط لا بد من مراعاتها، وإلا تعدَّدت المزالق بين يدي الباحث؛ ولذا دَحَضَتْ أرْجُل رِجالٍ لا يُحصى عديدهم، وبينهم طائفة غير يسيرة من كبار العلماء، من أبناء الشرق والغَرْب.