تناظر اللغات السامية والعربية
كثيرًا ما يقول العبريون إن اللفظة العربية الفلانية هي من العِبْرية، وكذلك يزعم مَنْ كان عارفًا باللغة الإرميَّة (التي يسميها بعضهم خطأ سريانيَّة أو كلدانية) ويدعوها بعض أبناء الضاد «اللغة النبطيَّة»، وهي أصحُّ من قولهم: سريانية أو كلدانية؛ لأن النبطية هي المندائية أي إنها اللغة الإرمية ببعض مزايا وخصائص وبخلوها من أحرف الحلق الضخمة كالحاء والخاء والعين.
قلنا إن اللغات السامية كلها تتشابه بعضها مع بعض، ولا تكون الكلمة العربيَّة من العبرية أو من الإرمية إلا إذا كانت تلك الكلمة خاصة بشئون بني إرم أو بني إسرائيل، أما الألفاظ العامَّة المشتركة بين الساميين جميعًا فليس ثَمَّ فضل لغةٍ على لغةٍ، ولا أسبقية وضعٍ لهذا القوم دون القوم الآخر.
قال ابن حَزْم في هذا البحث: «إن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينًا أن السُّرْيانية والعبرانية والعربية التي هي لغة مُضر وربيعة — لا لغة حِمْيَر — واحدة، تبدَّلت بتبدُّل مساكن أهلها؛ فحدث فيها جَرْس كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغْمة أهل القيروان، ومن القيرواني إذا رام لغة الأندلس، ومن الخراساني إذا رام نغمتهما، ونحن نجد مَنْ سمع لغة أهل «فَحْصِ الْبَلُّوط»، وهي على ليلة واحدة من قُرْطُبَة، كاد يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قُرْطُبة، وهكذا في كثير من البلاد، فإنهُ بمجاورة أهل البلدة بأُمَّةٍ أُخرى تتبدَّل لغتها تَبدُّلًا لا يخفى على مَنْ تأمَّلَهُ.»
«فَمَنْ تدبر العربية والعبرانية والسريانية أيقن أن اختلافها من نحو ما ذكرناه، من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان، واختلاف البلدان، ومجاورة الأمم، وأنها لغة واحدة في الأصل.» ا.ﻫ. كلام ابن حزم.
فمثال الكلم العبرية الأصل «التوراة» فإنها من «تورا» ومعناها شريعة وسُنَّة، ومنها أيضًا: إسرائيل، وجبرائيل، وميكائيل، وإسماعيل، وجهنم، وصدوقي، وفريسي، وعنصرة، ولاوي، إلى غيرها، فكل ما هنا خاص باليهود، والعربُ أخذوا عنهم هذه الكَلِم.
وأخذوا من الإرمية: بُرْشان، وبَرْنسَاء «وقالوا فيها: بَرْنَاسَاء وبَرْنَشَاء» وبَاعُوث، وقالوا فيها أيضًا: بَاغُوث؛ أي إنهم إذا نطقوا بها بالعين المهملة جعلوا الثاء الأخيرة مثلثة، وإذا نطقوا بها بالغَيْن المعجمة جعلوا الثاء الأخيرة مثنَّاة، ذكر ذلك صاحب القاموس، وهذا غلط، والدِّنْح (وأكثر كُتَّاب الأخبار والتاريخ صَحَّفوها «الذِّبْح» أي بذال معجمة وباء موحدة تحتية) والإِسْكيم، والسِّلِّيح، والسُّلَّاق، والسِّمِلَّاج، والإِشْبِين، أو الشَّبين، والشمَّاس، والمعمودية، والثالوث، وَالْجَبَروت، وَالْكَهَنوت، والملكوت، وَالطَّيْبُوت، (وكتبها كثيرون: الطَّيْبُوث بثاء مثلثة في الآخر)، وَالْبِيعة، والكنيْسَة، وَالْكِرْح، وَالْقِلَّاية، وَالْقِلِّيَّة، والمسيح، إلى غيرها.
فهذهِ الكلم أغلبها نصرانية دِينية، وقد سبق الإرميون النصارى العربَ المسيحيين فأخذ هؤلاء كل ما يتعلَّق بالديانة النصرانية عن أولئك، ولا يقال إنها عربية، وإن كان لها وَجْه تأويلٍ في هذه اللغة الْمُضَريَّة؛ لأن أول الواضعين لها لم يكونوا عربًا، بل من أبناء إرَم.
ولا نريد أن نطيل النَّفَس في هذا الفصل؛ لأن من عادتنا أن نطلق العنان لليراعة في الميادين التي لم يَجْرِ فيها فُرْسَان العرفان، ونُمسك عن الجري في المواطن التي كثر فيها البحث، ولهذا نقف عند هذا الحدِّ من البيان.