تناظر اللغات السكسونية والعربية
ما أظن أن فكرة هذا التناحر خطر على بال أحدٍ، ولا تعرَّض لهُ باحث من أرباب اللغة،
فإنهُ
كالسحابة الرقيقة في أفق السماء، تلك السحابة بل اللطخة التي لا تكاد تراها العين لرقتها
وخفتها، ومع ذلك نودُّ أن نتعرض لهذا البحث؛ ليظهر لكل ذي عينين أنه كان العرب قد اتصلوا
بقومٍ يمتُّون إلى السكسون بسببٍ من الأسباب هو هذا:
السكسون قبيل من الجرمان، وكان هذا الجيل متصلًا أشد الاتصال بالآريين، وكانت منازل
الآريين ديار إيران — وما إيران إلا مقلوب أريان — فاتصل بهم الناطقون بالضاد على صعيد
العراق، والعراق رقعة قديمة من رقاع جزيرة العرب، وكان الاختلاف إليها معروفًا منذ أقدم
الأزمنة، فاتصل إذن آباءُ الجرمان بآباء العرب، فوقع إلى سلفنا من الألفاظ ما اتفق بعضه
مع
بعض كلامهم، وعلى ذلك نرى إلى اليوم آثارًا من ذيالك الاختلاط الضارب في القِدَم، ونحن
نذكر
بعض ما يحضرنا من هذا القبيل:
(١) ذن
ذكر صاحب القاموس في مادة «إذن»: «إذَنْ: جواب وجزاء، تأويلها إن كان الأمر كما ذكرت،
ويحذفون الهمزة فيقولون: «ذَنْ» وإذا وقفت على «إذَنْ» أبدلت من نونه ألفًا.» ا.ﻫ. قلنا
«ذَنْ» هي أقدم صورة للكلمة وأُتِي بالهمزة لتكون الكلمة على ثلاثة أحرفٍ، و«ذَنْ» تنظر
إلى الإنجليزية مبنًى ومعنًى أي THEN وقد تكلمنا عليها
كلامًا طويلًا في [فصل: إثبات ما تقدم من كلام السلف] فارجع إليه.
(٢) بَيْد
في القاموس: طعام بَيْد أي رديءٌ وهو بالإنجليزية BAD
وقد قال وبستر شاكًّا في هذا الأصل: لعلها من الإنجليزية السكسونية
BAEDEL أي الخنثى، وقابلها بالكلمة
BAEDLING أي المخنَّث، وأما في لغتنا فكأنما الرديء
سمِّي به؛ لأنه أهل لأن يبيد أي يهلك، أو عرضة للتلف والهلاك، ثم لاحظ كيف أن الإنجليز
لم يهتدوا إلى معرفة أصل كلمتهم معرفة تامة.
(٣) بَيْد
قال ابن مكرم: بَيْدَ بمعنى «غير»، يقال: رجل كثير المال بَيْدَ أنه بخيل، معناه غير
أنه بخيل، حكاه ابن السِّكِّيت، وقيل: هي بمعنى «على» حكاه أبو عبيد، قال ابن سِيدَه:
والأول أعلى، وأنشد الأموي لرجل يخاطب امرأةً:
عَمْدًا فَعَلُت ذَاكِ «بَيْد أنِّي»
إِخالُ إِنْ هَلَكْتُ لم تَرِنِّي
يقول: على أني أخاف ذلك، وفي الحديث عن النبي
ﷺ، أنه قال: «أنا أفصح العرب،
بَيْدَ أني من قريش، ونشأت في بني سعدٍ.» «بَيْدَ» بمعنى «غير». وفي حديث آخر: «نحن
الآخِرون، السابقون يوم القيامة، بَيْدَ أنهم أُوتوا الكتاب من قبلنا، وأُوتيناه من
بعدهم.» قال الكسائي: قوله: «بَيْدَ» معناه: «غَيْرَ» وقيل: معناه: «على أنهم.» ا.ﻫ.
كلام اللسان.
فَبَيْدَ بمعنى «غير» تنظر إلى الإنجليزية BUT وقد
تكلم عليها وبستر كلامًا طويلًا، وحاول محاولات عدة ليقنع القارئ بتأويله وشروحه، فنحول
الباحث عليه، إلا أننا نجلب نظره إلى أن الصلة بين اللفظين العربي والإنجليزي واضحة كل
الوضوح.
(٤) الذَّيْل
الذَّيل: الذَّنَب وآخر كل شيء، وهو ينظر إلى الإنجليزية
TAIL. قال وبستر: هو بالإنجليزية السكسونية
TEGEL,TAEGL ويتصل بالجرمانية
ZAGEL والأسلندية
TAGL والأسوجية
TAGEL والقوطية
TAGL ومعناها الشَّعَر، وأصل العربية أقرب إلى
العقل؛ لأن معناه: آخر كل شيء، فقد يكون الذَّنَب آخر ما في الحيوان أو السمك أو الحشرة
وليس هناك شَعَر، فليحكم الباحث بعد هذا إلى صحة ما في لغتنا وما فيها من الحكمة وإيضاح
الحقائق.
(٥) الْمِلْح
قال ابن الأعرابي: «الْمِلْح (بالكسر): اللبن. ابن سِيدَه: ملح: رَضَعَ.» ا.ﻫ (راجع
اللسان في ملح، وكذلك القاموس والتاج)، فالْمِلْح ينظر الإنجليزية
MILK، ومعلوم أنْ ليس لليافثيين حرف حلق، فيجعلون
في مكانه أحرفًا مختلفة ولا يتبعون في إبدالهم هذا قاعدة مطردة، فمرة يضعون الهاء
H وتارة C أو
K، وأخرى CH وحينًا
KH، وكثيرًا ما يسقطونها بتاتًا في كلامهم، إلى ما
يتخذونه من الأسباب بلوغًا إلى أمنيتهم، أو تحقيقًا للَّفظ السامي، قال وَبْستَر في
معجمه (وفيه ترى تنقل الحاء إلى أحرف مختلفة) في MILK
هو بالإنجليزية السكسونية: MEOLUC, MEOLOC, MEOLC, MILC
قال: وهو يتصل بالأصل الفريسسياني القديم أي OLD
FRIESIC الذي هو MELOC وبالهولندية
MELK وبالجرمانية
MILCH، وبالألمانية العالية القديمة
MILUH، وبالأسلندية
MJOLK، وبالدنيمركية
MELK، وبالقوطية
MILUKS، وبالجرمنية
MELKEN؛ أي حَلَبَ، وهو بالجرمنية العالية القديمة
MELCHAN، وباللثْوَانيَّة
MILSZTI، وباللاتينية
MULGERE، وباليونانية (AMELGEIN)
άµέλειν.
وقد نقلنا كل ذلك بحروفه عن وبستر وهو من أعظم اللغويين الأمريكيين معرفةً
للإنجليزية، لغرضين؛ الأول: لتقارب اللغات السكسونية بعضها من بعضٍ، وكيفية انتقال
الحرف الواحد إلى صور مختلفة باختلاف الأقوام، والثاني لتوجيه نظر الباحث إلى أن بعض
المفردات العربية والسكسونية تتشابه مشابهة أو تتناسب مناسبة لا بد من القول بوجودها،
ولا ينفع النكير فتيلًا بعد هذا الدليل الجليل.
(٦) باع
باع: يفيد في لغتنا معنيين؛ معنى أعطى رجلًا ما يملكه بدل ثمن يقبضهُ، ومعنى اشترى
شيئًا من رجل، فباع بالمعنى الثاني هذا يقابله بالإنجليزية TO
BUY وهي تلفظ كالعربية ما خلا العين، فإنها ليست في لغتهم لأنها من
أحرف الحلق وإلا فإنها تلفظ «بَاي» والمعنى واحد.
قال وَبْستر في BUY: هو بالإنجليزية القديمة
BUGGEN, BIGGEN, BIEN، وبالإنجليزية السكسونية
BYCGAN، وهو يتصل بالسكسونية القديمة
BUGGEAN، وبالقوطية
BUGIAN، وهنا أيضًا تقلبت العين تقلُّباتٍ شتى بحسب
القوم الذي نطق بها، وهذا دليل آخر على أن الحرف الحلقي لا يبقى على حالةٍ واحدةٍ حين
انتقاله إلى لغات اليافثيين على ما يُتوقع منهم.
على أن العرب أنفسهم تصرَّفوا في لفظ العين على حد ما تصرَّف فيها الأجانب، وعندنا
أدلة لا تُحصى ليس هنا محل إيرادها لكثرتها وخروجها عن الموضوع، بيد أننا نقول إنهم
ذكروا للفعل: «باع» يبيع كالمعنيين المذكورين: «بَاك» يَبُوك، وهو غريب.
(٧) حَسَّ
المراد بِحَسَّ هنا أحد معانيه، قال في اللسان ما هذا بعضه: حَسَّ البردُ الكلأ
يَحُسُّهُ حَسًّا: أحرقهُ، فالْحِسُّ: بَرْدٌ يُحْرِقُ الكلأَ، وهو اسم، وقد ذكر أبو
حنيفة الدينوري أن الصاد لغة فيه، وفي كلتا المادتين في اللسان كلام طويل.
قلنا وهو يقابل الإنجليزية TO ICE أي: جَمَّدَ
تجمِيدًا أو أجمد إجمادًا، قال وَبْستر: ICE
بالإنجليزية القديمة IIS, IS، وبالإنجليزية السكسونية
IS، وهي تتصل بالأصل الهولندي
IJS، وبالجرمنية
EIS، وبالجرمنية العالية القديمة
IS، وبالأسلندية
ISS، وبالأسوجية
IS، وبالدنيمركية IIS،
ولعلها تتصل بالإنجليزية IRON التي معناها الحديد، كأن
الْجَمَدَ غَدَا صُلْبًا كالحديد.
وفي هذه الألفاظ سقطت الحاء وهي من الأحرف الحلقية، ورأينا السين نُقلت إلى بعض
اللغات بالحرف الغربي S، ونُقلت الصاد بحرفين غربيين أي
SS، كما في الأسلندية.
وقد اجتزأنا هنا بمعارضة حرفين عربيين، واسمين عربيين، وفعلين عربيين، بأمثالهما من
اللغة السكسونية، وعندنا غيرها، إلا أن هذه الشواهد تدل على أن هناك أمثالًا عديدة تؤيد
هذه الفكرة، وهي أن أجداد الناطقين بالضاد اتصلوا بآباء السكسون من قديم الزمان ولا
يُعرف ذلك الوقت، إلا أن الآثار اللغوية لا تُبقي شكًّا في هذا الموضوع.