منافع معارضة العربية بغيرها من اللغات
إن منافع معارضة اللغة الضادية بغيرها من اللغات لا تُقَدَّر، ولا يمكننا أن نأتي على ذكرها كلها، إلا أننا نذكر بعضها؛ إذ ما لا يُدْرَك كُلُّه لا يترك جُلُّهُ.
فأول هذه الفوائد أنها تطلعنا على معاني بعض الكلم التي لم يشرحها لغويونا الأقدمون شرحًا كافيًا لنقف على حقيقة المشروح وقوفًا يُصَوِّرُهُ لنا تصويرًا لا نرتاب فيه، فهناك ألفاظ قالوا فيها: «معروف»، ولا بدَّ أنه كان معروفًا عندهم حينئذٍ، وأما اليوم فإن طائر الريب والشك يحوم حوله، وهناك ألفاظ لم يُذكر منها إلا بعض الشيء الذي لا يكفي لتعريفه، كقول القاموس: «الدُّهْنة، بالضم، الطائفة مِنَ الدُّهْن، والجمع: أدْهَان ودِهان، وقد ادَّهَنَ بهِ، على افتعل، والْمُدْهُن بالضم آلتهُ وقارورتُهُ، شاذ.» ا.ﻫ. هذا كل ما ذكرهُ في هذا المعنى، فما هو الدُّهْن؟ فلنسأل ابن منظور، فلعلهُ يوضح لنا معناهُ.
قال في مادة «دهن»: «الدُّهْن: معروف. دَهَنَ رأسهُ وغيرهُ، يدْهُنُهُ دَهْنًا: بَلَّهُ، والاسم: الدُّهْن، والجمع: أدْهان ودِهَان.» إلى آخر ما سَرَدَهُ من الكلام والأبيات والأحاديث؛ لكن لم يَتَبَيَّن من كل ذلك معناه الواضح.
وكان أول اهتدائنا إلى معنى الدهن الحقيقي والأصلي بمعارضتنا إياها باليونانية التي ذكرناها في الحاشية هنا، فكتبنا في مقتطف يوليو سنة ١٩٣٨ (أي المجلد ٩٣ : ١٠٥): «هذا المعنى «الأصلي» سبق معناه الآخر الفرعي؛ أي الزيت بمعنى ما يُستخرج من الأنبتة؛ إذ ورد بالمعنى الأول في الإلياذة في ٣٢ : ٥٠١ و٢٣ : ٧٥٠، إلى غيرهما من المواطن، والعدد الأول يشير إلى رقم القصيدة بموجب ترتيبها، والرقم الثاني إلى رقم البيت بحسب ترتيبه، وجاء أيضًا في الأودسَّة في ١٤ : ٤٢٨ إلى مواطن عدة أخر، وكذلك في هسيودس الأسكري المتوفى بين ٩٠٠ و٨٠٠ق.م، في قصيدته الموسومة بثئوغونية في البيت ٨٣٨، إلى غير هؤلاء الشعراء والكَتَبة والمؤرخين اليونانيين بما يضيق المقام عن إيراد شواهدهم، وذلك قبل الميلاد.»
وأما الدهن بمعنى الزيت فكان في أوائل النصرانية وقبيل الإسلام، فحصر العرب معنى الدهن بما ماع من الشحم، أو بما يُستخرج عصرًا من بعض الأنبتة الدهنية أو الدسمة، وعليه: كان العَوْد إلى الدهن بمعنى الشحم أحمدَ، وهو الوجه الأوجه والأشبه، والأصل أحق أن يُتبع؛ لأنه إذا جاز لنا أن نتخذ الفرع حجة لنا، فَبِحُجَّة أولى أن نتبع الأصل، ويزيدنا إثباتًا لذلك وأخذًا به استعمال جميع الناطقين بالضاد في الربوع العربية اللسان، بلا شاذٍّ ومن أقدم العهد، ولا يهمنا إنكار المكابرين لهذا الشيوع والتعميم، ثم قلنا:
«قد قلنا سابقًا: إن «الدهن» العربية تنظر إلى اليونانية (المقتطف ٩٢ : ٦٤)، ومعنى ذلك أنها تشبهها، وليس معناهُ أن اليونانية هي من العربية، ولا أن العربية هي من اليونانية، كما يتوهمه بعضهم، ولما لم يكن عندنا كلام مدوَّن يرتقي عهده إلى ما قبل الميلاد، بخلاف ما عند الإغريق، نضطر إلى النظر في هذه اللغة اليونانية في الألفاظ المشابهة لألفاظنا فيما ورد في مدوناتهم لمعرفة قِدَمها عندنا؛ وعند استشارة كتبهم وجدنا أن أول معنى للدهن هو الشحم الجامد.»
«وهكذا كان في لغتنا، ولو كان عندنا من المدوَّنات القديمة، كما نرى منها عند الْهَلنيين، لوجدنا أول معنى كان للدهن هو الشحم الجامد، ثم انتقلوا به إلى المعنى الثاني؛ أي إلى الدهن السائل والإهالة، وبالحالة التي يكون عليها وهو في الْجِسْم.» ا.ﻫ. المطلوب من إيرادهِ هنا.
وقد اهتدينا إلى معاني مئاتٍ من الألفاظ غير البينة في المعاجم باتخاذنا هذا الأسلوب اللغوي؛ أي بمعارضة ألفاظنا بألفاظهم، فكانت النتيجة من أعظم ما يحلم به فقهاء هذه اللغة المُبِينة.
ولا نريد أن نتبسط في البحث هذا لاتساعه فهو كالبحر الخضم، فاجتزأنا بالإشارة إليه فقط.