موت كَلِمٍ عربيٍّ وزوالهُ واندراسُهُ
قال ابن فارس اللغوي الشهير: «اعلم أنَّ لغة العرب لم تَنْتَهِ إلينا بكليتها، وأن الذي جاء من العرب «قليل من كثير»، وأن كثيرًا من الكلم ذهب بذهاب أصله» (راجع مقدمة تاج العروس ص٧).
وقال الْمَجْد الفيروزآبادي في مقدمته: «ولما رأيت إقبال الناس على صحاح الجوهري، وهو جدير بذلك، غير أنهُ فاتهُ نصف اللغة، أو أكثر؛ إما بإِهمال المادة، أو بترك المعاني الغريبة النادَّة.»، ثم قال: «قال شيخنا: وصريح هذا النقل يدلُّ على أنه جمع اللغة كلها، وأحاط بأسْرِها، وهذا أمر متعذر لا يمكن لأحدٍ من الآحاد إلا الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام.»
وقال الشارح «ص٢٦»: «فإذا عرفت ذلك ظهر لك أن ادعاء المصنف (أي المجد) حَصْر الفوات بالنصف، أو الثُّلْثَيْن في غير محلهِ؛ لأن اللغة ليس يُنال مُنْتَهاها، فلا يُعرف لها نصف ولا ثُلُثٌ؛ ثم إن الجوهري ما ادعى الإحاطة، ولا سمَّى كتابهُ «البحر» ولا «القاموس» وإنما التزم أن يورد فيه الصحيح عندهُ، فلا يلزمهُ كل الصحيح، ولا الصحيح عند غيرهِ، ولا غير الصحيح، وهو ظاهر.» ا.ﻫ.
وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان، في مادة «يمامة» في كلامه على الزرقاء: «ولما نزل بجديس ما نزل قالت لهم زرقاء اليمامة: كيف رأيتم قولي؟ وأنشأت تقول:
وهي من أبيات ركيكة.» ا.ﻫ.
وقال السيد مرتضى في تركيب «ع ي ر»: «قال الْحَرث بن حِلِّزَة اليشكريُّ:
هكذا أنشدهُ الصاغاني، وفي اللسان: مَوَالٍ «لنا»، ويُروى الْوِلَاءُ بالكسر، وقد اختُلف في معنى «الْعَيْر» في هذا البيت اختلافًا كثيرًا، حتى حكى الأزهري عن أبي عمرِو بن العلاءِ أنه قال: مات مَنْ كان يُحْسِنُ تفسير بيت الحرث بن حِلِّزَة … وها أنا أجمع لك ما تشتَّت من أقوالهم في الكتب؛ لئلا يخلو هذا الكتاب (أي التهذيب) عن هذه الفائدة: فقيل … (وذكر هنا عشرة أقوال، لا تُرَى مجموعة في سِفْرٍ واحدٍ).» ا.ﻫ.
وقد نقل إلينا بعض الرواة أبيات شعر عن مرثد بن سعد، وقد كان في زعمهم في أيام النبي هود (وهود عاش على ما قال أبو الفداء، وابن الأثير، وجمهرة من مؤرخي العرب، بعد نوح وقبل إبراهيم الخليل)، وأنت تعلم أن إبراهيم عاش سنة ٢٠١٦ قبل المسيح، فيكون بلغنا شعر لم يبلغ إلى جميع أمم الأرض ما يماثلهُ قِدَمًا؛ ولا يرى المحققون صحة هذه الرواية، والعرب في بدء أمرها كانوا رُحَّلًا في ذلك العهد وليس لهم من وسائل الرواية ما يضمن لنا صحتها.
وروى لنا المسعودي شعرًا لِرَجُلٍ كان في عهد النبي صالح، ونُقِل لنا من كلام الحارث بن مُضَاض الأصغر الجرهمي ما دوَّنهُ المسعودي في مروجهِ.
وجاءنا كلام وأشعار من يعرب بن قحطان نفسه، وعاد بن عُوصٍ، وثمود بن عابر، وسائر رءوس الأمم والقبائل العربية البائدة، وقد ذكر كل ذلك المسعودي في كتابه المشار إليه هنا، وذكر لنا كلامًا وشعرًا عربيًّا، من أيام النبي بَرَخِيَّا، ومن يطالع المروج يقع على كلام وشعر من كل عصر من عصور العربية.
بل أغرب من هذا وذاك ما ورد إلينا من نظم آدم أبي البشر، ولا جرم أن أهل النقد لا يلتفتون إلى هذه الأقوال، ويعدونها ملفَّقة من أولها إلى آخرها، إلا أنه يُؤخذ منها أن لغة الضاد قديمة، يشهد على ذلك «سِفْر أيُّوب»، فإن كثيرين من العلماء يذهبون إلى أن صاحبه وضعه بلغته العربية؛ إذ فيه عبارات وتشبيهات ومجازات واستعارات لا تُعرف إلا في العربية، فلا شك أنه نُقِل من اللغة العربية إلى العبرية وبقيت في النقل أصول اللغة ومبانيها وصيغها على أصلها، أو يكاد.
ولا يزال مثل هذا الكلام الغريب الذي لا يعرف معناهُ اليوم أحد مجهولًا لا يهتدي إليهِ أوسع اللغويين وقوفًا على العربية، ويُسَمَّى مثل هذا الكلام «الْعُقمِي» أو «الْعُقْبِي». قال ابن مكرم في «ع ق م»: «كلام عُقْمِي: قديم قد دَرَسَ. عن ثعلب، وَالْعُقْمِيُّ من الكلام: غريبُ الغريبِ، والْعُقْمِيُّ: كلام عقِيمٌ لا يُشْتَقُّ منه فعلٌ، ويقال: إنه كَعَالِم بِعُقْمِيِّ الكلامِ، وَعُقْبِيِّ الكلام، وهو غامض الكلام الذي لا يعرفهُ الناسُ، وهو مثل النوادر، وقال أبو عمرو: سألتُ رجلًا من هُذَيْل عن حَرْفٍ غريبٍ، فقال: هذا كلام عُقْمِيُّ؛ يعني أنه من كلام الجاهلية لا يُعرف اليومَ، وقيل: عُقْمِيُّ الكلام؛ أي قديم الكلام، وكلامٌ عُقْمِيٌّ وَعِقْمِيٌّ (أي بضمِّ الأول وكسره) أي غامض.» ا.ﻫ.
فَعُقْمِيُّ الكلام ناشئ من قراع الكلم بعضها لبعضٍ، ولولا هذا الْقِراع لما مات بعضها وعاش البعض الآخر، وهو هذا الواصل إلينا، أما المنقرض فلا يعلمهُ إلا الله، ولعلهُ أكثر مما وصل إلينا منهُ.