أصول الكلم وتراكيب حروفها
بَيَّنَّا في صدر هذا الكتاب أنَّ أول ما وُضِعت عليهِ أصول هذه اللغة كان يتقوَّم من حرفين، ثم كُسِع بحرفٍ ثالثٍ للتثبت من تحقيق لفظ الحرف الثاني من الكلمة، ومنذ ذيالك الحين بُنِيَت كل لفظةٍ عربيَّةٍ على ثلاثة أحرفٍ، وأصبحت لها كالأثافي، وعليها أُحْكِمَ وضع أصولها، وما زِيد على ذلك القدْر من الأحرف أُلحق بها لغاياتٍ شتَّى، يذكرها علماء العربية في مطاوي مباحثهم.
وقد وضع ابن فارس معجمًا بديعًا سمَّاه «المقاييس»، وذكر لكل مادة ما يتعلق بها من المزايا والخصائص، ولم يذكر مادة واحدة إلا نبَّهَ عليها أنها تفيد كذا وكذا، فقد قال مثلًا في تركيب «د ل ك» بعد أن ذكر ما فيها من مختلف الألفاظ المشتقة منها: «إن لله في كل شيء سرًّا ولطيفةً، وقد تأملتُ هذا الباب، يعني باب الدال مع اللام، من أوله إلى آخره، فلا تُرَى الدَّال مؤتلفة مع اللام إلا وهي تدل على حركةٍ ومجيءٍ، وذهاب وزوالٍ من مكان إلى مكانٍ.»
وقال صاحب العين: «اعلم أن تقاليب هذه المادة (مادة م ل ك) كلها مستعملة، وهي: «م ل ك»، و«م ك ل»، و«ك م ل»، و«ك ل م»، و«ل م ك»، و«ل م ك».» فقال الإمام فخر الدين بعد أن وقف على هذه الكلمة: «تقاليبها الستة تفيد القوَّة والشدة، خمسة منها معتبرة وواحد ضائع.» يعني «ل م ك». قال صاحب القاموس في البصائر: «وهذا غريب منه؛ لأن المادة الضائعة عنده، معتبرة معروفة عند أهل اللغة.» ثم ساق النقل عن العُباب ما قيل في «اللمْك»، قال: فإذن الستة مستعملة، معطية معنى القوة والشدة (وراجع أيضًا تاج العروس في «م ل ك»).
وقال السيد مرتضى في الأصل «ن ف د»: «نقل شيخنا عن الزمخشري في الكشاف أنه لو استقرى أحدٌ الألفاظ التي فاؤها نون، وعينها فاء، لوجدها دالة على معنى الذهاب والخروج، وقاله غيره.» ا.ﻫ.
وقد ذكر الصاغاني في آخر تركيب «ق ن ع»: «والتركيب يدل على الإقبال على الشيء، ثم تختلف معانيه مع اتفاق القياس، وعلى استدارةٍ في شيءٍ، وقد شذَّ عن هذا التركيب «الإقناع»: ارتفاع ضرع الشاة ليس فيه تصوُّب، وقد يمكن أن يُجعل هذا أصلًا ثالثًا ويحتج فيهِ بقولهِ تعالى: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ قال أهل التفسير: أي رافعي رءوسهم» (راجع تكملة الصحاح للصاغاني في قنع).
قال الأب أنستاس مارِي الْكِرْمِلِي: نحن لا نرى في هذا التركيب شاذًّا؛ لأن الإقناع هنا لارتفاع ضرع الشاة إشارة إلى هيئة القنع، والذي يتخذ القُنع يرفعهُ صُعُدًا حين النفخ فيهِ، فتكون الإشارة إليهِ في ارتفاع الضرع من أحسن الإشارات وأبينها.
وقال الصاغاني في مادة «س ل ط»: «والتركيب يدلُّ على القوة والقهر والغَلَبة، وقد شذَّ عنه «السليط» للدُّهْن.» ا.ﻫ.
قلنا ونحن لا نرى شاذًّا، بل داخلًا في حيز المادة؛ لأن السليط بمعنى الدهن يحتاج لعصره إلى قوة وقهر، إذن فلا شذوذ.
وفي العُباب في ترجمة «عرض»: «العين والراء والضاد تكثر فرُوعُها، وهي مع كثرتها ترجع إلى أصل واحدٍ وهو «العرْض» الذي يخالف الطول، ومن حَقَّقَ النظر ودقَّقَهُ علم صحة ذلك.» ا.ﻫ.
وقد انتبه جمهور اللغويين إلى أصول الكلم وما بينها من المعاني، على أنهم لم ينبهوا في كل منها على ذلك الاشتراك الظاهر لكل ذي عينين، إمَّا لوضوح الأمر، وإما لأنهم لم يروا فيه عظيم فائدة، وإما لأسباب نجهلها، وقد سبق جميع أصحاب المعاجم الليث بن نضر بن سيَّار الخراساني في كتابه «العين»، المنسوب وهمًا إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي، فإنه نَبَّه في صدر كل ترجمة ما يشعر أن في التركيب الفلاني المعنى الفلاني، وإن لم يصرِّح به تصريحًا بَيِّنًا، نراهُ يقول مثلًا: «باب العين مع الباء: عبا، عبو، عيب، وعب، بوع، بعو، بيع، عاب، مستعملات.» لكن اللغوي الذي وضع معجمه مبنيًّا على المواد، واحدة واحدة، وذكر ما لكل مادة من المعنى الخاص بها هو ابن فارس، فإن سِفْرَهُ الجليل الذي لا يمكن أن يقوَّم هو «المقاييس» الذي يجد فيه الباحث كل ما يتمناه من خصائص الأصول وتراكيبها الأصلية.
فقد عقد في آخر ديوانه بابًا بديعًا وَسَمَهُ: «فهرس الأصول الواردة في المعجم مع ذكر أهم الألفاظ المتصلة بها»، وقد وقع في ٢٦ صفحة، وكل صفحة منها منشطرة إلى ثلاثة أشطر، وذكر فيها أصل الكلمة بالحرف اليوناني مع ترجمته، وعدد بعض المفردات اليونانية مع تفسيرها إلى الفرنسية، فجاء هذا الباب من أنفس الأبواب، ونحن ننقل إلى القارئ ثلاثة من أصولهِ، لا أكثر؛ ليتضح الأمر بوجههِ الصبيح ونهجهِ البديع.
وجلا السيف والمرآة جلوًا وجلاءً: صقلهما.
وَجَلَا الْبَصَر بالكحل: روَّقهُ.
وجَلَا عن فلانٍ الأمر: كشفهُ.
وَجَلَا لي الْخَبَرُ: وَضُحَ.
وَجَلَا العروسَ على بعلها: جِلْوَة «مثلَّثةً» وجِلاءَ: عرضها عليهِ مَجْلُوَّة. وجلاها زوجها وصيفةً أو غيرها: أعطاها إياها في وقت العرض والزفاف.
وجَلِي الرجُلُ يَجْلى جَلًى: انحسر مقدم شعرهِ، أو نصف الرأس، أو هو دون الصلع فهو أَجْلى.
ويُشتق من هذا الثلاثي مزيدات عدة وأسماء مختلفة، لو ذكرناها لتعدَّى قدرها المائة، فانظر هذا الاتفاق بين اليونانية والعربية!
قلنا وعندنا نحن بهذا المعنى جأر وجهر، فمن الأول:
جَأر إلى الله يَجْأَرُ جَأْرًا وجُؤَارًا: رفع صوتهُ بالدعاءِ إليهِ، وتَضَرَّع واستغاث وجَأر الثَّوْر: صاح، وجأر النبات: طال، كأنهُ بذهابهِ إلى السماءِ يصرخ إليها، وجأرت الأرض: طال نبتها، وجَئِرَ الرجل يَجْأَر جَأْرًا. غَصَّ في صدرهِ. وفي هذا الأصل مشتقات عديدة يتدبَّرُها الباحث في دواوين اللغة إذا أراد التوسع في البحث.
ومن الثاني:
جَهَرَ الأمر يَجهَرُ جَهْرًا وَجِهَارًا: عَلَنَ.
وجَهَرَ الكلام وبالكلامِ: أعلنهُ.
وجهر الصَّوْتَ: أعلاهُ.
وجَهَرَ الْقَوْمَ: استكثرهم حين رآهم.
وجَهَرَ الأرض: سلكها من غير معرفة.
وجَهَرَ الرجلُ: رآهُ بلا حجابٍ، أو نظر إليهِ وعَظُمَ في عَيْنَيْهِ.
وجَهَرَ السِّقاءَ: مخضهُ.
وجَهَرَ الشيءَ: كشفهُ وحزرهُ.
وجهَرَ البئْرَ: نقَّاها وأخرج ما فيها من الحمأَة، أو نزحها، أو بلغ الماءَ، قال الأخفش: تقول العرب: جَهَرْتُ الرَّكيَّة: إذا كان ماؤُها قد غطَّى الطينَ، فنقَّيْتَ ذلك حتى يظهر الماءُ ويَصْفُوَ.
وجَهَرَ الرجلُ فلانًا عَظَّمَهُ.
وجَهَرَ بالقوْلِ: رفع بهِ صوتَهُ.
وجَهَرَ بِالْبَسْمَلَةِ: نطق بها واضحًا وبصَوْتٍ عالٍ عند فاتحة الصلاة.
وجَهَرَتِ الشمسُ المسافِرَ: أَسْدَرَتْ عينَهُ.
وجَهَرَ الشيءُ فلانًا: راعهُ جمالهُ وهيئتهُ.
وجَهَرَ القومُ القَوْمَ: صَبَّحُوهم على غِرَّةٍ.
وجَهِرَتِ العين تجْهَرُ كفرِحَ: لم تُبْصِر في الشمْسِ.
وجَهُرَ الرجلُ يَجْهُرُ، بضمِّ الهاء ماضيًا ومضارعًا، جَهَارَةً فخُمَ بين عَيْنَي الرائي.
وجَهُرَ الصوت يَجهُرُ، بالضم أيضًا ماضيًا ومضارعًا: ارتفع.
ولو أردنا التبسُّط في هذا الأصل لبعدنا في شُقَّتنا، والمادة واسعة جدًّا تقع مشتقاتها من أفعالٍ وأسماءٍ في صفحاتٍ عِدَّة، يشترك فيها معنيان: الجلاءُ والصوت، كما قلنا في أول مادة «جلا».
-
جمَّ الماءُ وغيرُهُ يَجُمُّ وَيَجِمُّ (بالضم وبالكسر) جُمُومًا: كثر واجتمع.
-
وَجَمَّتِ البئْرُ: تراجع ماؤها.
-
وَجَمَّ الفرَسُ: تَرَكَ الضِّرَابَ، فتجمَّعَ ماؤهُ في صلْبِهِ.
-
وَجَمَّ قدومُ الغائب: دنا وحان.
-
وَجَمَّ الْجَوَادُ جَمًّا وَجَمَامًا أيضًا: تُرِك فلم يُرْكَبْ، فعفا من تَعَبهِ.
-
وَجَمَّ الْعَظْمُ: كثر لحمُهُ.
-
وَجَمَّ الكيلَ يَجُمُّهُ وَيَجِمُّهُ (بالضم والكسر) جَمًّا وَجِمامًا (وهذهِ مثلثة الجيم): كالهُ إلى رأس المكيال.
-
وَجَمَّ الماءَ: تركهُ يجتمع.
-
وَجَمَّ المكيالَ: ملأهُ إلى رأسهِ طفافًا.
وأما فروع هذا الأصل فشيءٌ كُثَارٌ، ولا بد من مراجعة الأمَّهات للوقوف عليها.
وقد سردنا هنا ثلاثة شواهد من أصول اللغوي الفرنسوي «بابي»، وفي مكنتنا أن نتوسع في هذا البحث توسُّعًا، لا يقوم به حقَّ قيامه إلا سِفْرٌ ضخم، ويظهر ظهورًا بارزًا أن أصول الْهَلَّنِيَّة والأصول الْمُضَرِيَّة متفقة، وهو أمر غريب، ولسوء الحظ لم يُنَبِّه عليهِ أحدٌ؛ لذهاب أغلب أرباب اللغة أنْ لا مناسبة بين لغتنا ولغتهم، وهو قَوْل فائل ينجلي فسادهُ من أول تبصُّرٍ لهذا البحث.