اتفاق أصول العربية مع اللغات اليافثية
اتفاق أصول الساميات أمْرٌ لا يجهلهُ صبيان الكتاتيب، ولهذا لم نتعرض له، إنما الاختلاف بل أعظم الاختلاف هو في اتفاق الساميَّات واليافثيَّات، أهو واقع أم لا؟
والظاهر من اسم هذا المحقق أي موس أرنولت، أنه يهودي، أو من أصل يهودي؛ لأن «موس» مقطوع من «موسى»، وما بقي من اسمه هو كالرداء يلقيه على نفسه ليخفي أصله.
على أننا نصرح للجميع أننا لم نستفِدْ من هذين الكتابين ولا من غيرهما؛ لأننا لا نفهم كلمةً من الألمانية.
ثانيًا: لعدم جود هذين التأليفين بين يدينا.
الاشتراك اللغوي واضح في مئاتٍ من الألفاظ مما يدل على أن الحقيقة لا تُنكر، ولا سيما إذا أخذ الباحث بمبدئنا وهو: أن كل كلمة مركبة من هجاء واحدٍ أو هجاءين، لا بد من أن يكون لها مقابل في اليافثيات، وهو المبدأ الذي جاهرنا به، وأنكره علينا مجانًا وبلا أدنى تدبُّر، مَنْ يدعي الوقوف على اللغات الغربية والعربية، ولعلَّ ذلك الوقوف هو «على الرأس لا على الرِّجلين»، ونحن نذكر الآن بعض الشواهد:
(١) الْعُصْفور
هو اسم لكل طائر صغير الجثة يكثر الصفير، وقد قال بعضهم: إنهُ سُمِّي كذلك لأنه لما أُدْخِل الجنَّة «عصا» الله و«فرَّ» (راجع تاج العروس في طفيشل). على أن اشتقاقهُ من «الصفير» واضح لا يحتاج إلى دليل، وصُغِّر على وزن «فُعلول» فقيل: «أُصفور» أي «عُصفور».
ووزن «فُعلول» أو «أُفْعُول» معروف في العربية وإن لم يصرحوا به في مهارقهم. من ذلك: «الْحُتْرُوش»: للصغير الجسم، و«الزُّغْلول»: للخفيف من الرجال والطفل، و«الْمُلْمُول»: للميل الصغير الذي يكتحل به، و«الأُمْلُول»: لدويبة صغيرة تكون في الرمل تشبه العظاءة، إلى نظائرها.
والعصفور بالإرمية «صَفْرا» ويضيفونه إلى كثير من الألفاظ فيكون عندهم ما معناه: القبَّرة، والْبُلْبُل أو الهزار، والسَّمَرْمَر، وعصفور الغاب، إلى آخر ما عندهم.
فترى من هذه المقابلة ما يدهش كل متدبرٍ، ومن ذلك:
(٢) التُّرْعة
(٣) الْعِد
ويقرب من «خُضارة» علَمًا للبحر: «الْخِضْرِم» والأصل واحد، إلا أنه أُرْدِف بالميم، وهم كثيرًا ما يزيدونها مبالغةً لما يقصد منهُ، قال في القاموس: «الْخِضْرِم، كزبرِج، البئر الكثيرة الماءِ، والبحر الغطَمطَم.»
وَيُشْبِه «الْخِضْرِم»: الْغُذَارِم وهو الماء الكثير.
وكان الأقدمون من مُعَربي صدر الإسلام ترجموا هذه الكلمة «بالشجاع». قال في القاموس: «الشجاع كغراب وكتاب: الحية، أو الذَّكَر منها، أو ضرب منها صغير والجمع شجعان، بالكسر والضم.» ا.ﻫ.
وعدم تثبتهم من حقيقة هذه الحية ناشئ من وجودها في الماء، على أن في لغتنا كلمة تضاهي أصول «هُدْرَا» وهي «العُدَار»، ونسب إليها صاحب القاموس رواية مصحفة الأحرف، أصلها هو هذا على ما نرى: «دابَّة تلكع الناس (أي تنكزهم) باليمن، وَلِنَسْغَتِهَا (أي لسعتها) دود.» والمثل العربي مبني على هذا التصحيف الوارد منذ أقدم الأزمنة، وليعذرنا القراء عن إيراده وإنما نسبوها إلى اليمن؛ لأن هذه الربوع عندهم بلاد العجائب، فلقد نسبوا إليها «النَّسْنَاس»، «والفَقنَّس»، أو «القوقيس»، إلى غير ذلك من الغرائب وشواذ الخلْق وشُذَّاذ الخلق.
على أننا نلاحظ شيئًا وهو قولهم العدَّار هو الْمَلَّاح، فكما أن «الْمَلَّاح» منسوب إلى الْبَحْر «الْمِلْح». «والْبَحَّار» إلى الْبَحْر، وَجب أن يكون هناك لفظ مُمَات هو «الْعَدْر» بمعنى البحر، حتى يؤخذ منهُ الْعَدَّار للْبَحَّار، وإلا لما جاز أن يقال العدَّار: الملَّاح.
ومما يضارع العَدْر الْمِضْرِس، فليس فيه سوى تفخيم الدال وزيادة السين في الآخر، وهو من الأمور المألوفة عندهم. «والْعَضْرَسُ: كجعفر: … الْبَرْد، والماء البارد العذب، والثَّلْج، والْوَرَقُ يُصْبِح عليهِ النَّدَى، أو اللازقةُ بالحجارةِ الناقعةِ في الماء، وعُشْب أشْهَب الْخُضْرَةِ يحتمِل الندى شديدًا، ويُكسر كالْعُضَارِس، بالضم في الكلِّ وجمعهُ بالفتح.» ا.ﻫ. ففي هذا كله معنى الماء، وهو أصل معنى اليونانية أيضًا مع فروعها المختلفة، فلا جرم أن الأصل واحد، وأن يحاول بعضهم إنكارهُ على غير جَدْوَى.
وهناك مشابهات أخر لألفاظ لا تحصى، وكلها تتصل بهذا الأصل أي «العِد»، وقد حلَّت به الغِبَرُ لُغَى القبائل، كالوادي والودْي.
والعَذِب «كحذِر» وهو الْمُطَحْلَب من الماءِ.
والعِذْي: للزرْع الذي لا يسقيه إلا المطر.
وَوَذَعَ الماء: سال، والواذِع: الْمَعِين؛ وكل ماءٍ جرى على صفاةٍ.
وَوَدَفَ الشَّحْمُ، وغَيْرُهُ يَدِفُ وَدْفًا: سال يسيل سيلًا.
وَوَدَكَ الشيءُ: بَلَّهُ وَنَقَعَهُ.
وَوَذَفَ الشحم كوَدَفَ، بالمهملة والمعجمة على السواء.
واهْدَوْدَرَ المطرُ اهديدارًا: انصبَّ وانْهَمَرَ.
وَوَدَنَ الشيءَ يَدِنُهُ، وَدْنًا، وودانًا، فهو مَوْدُون، وودين أي منقوع، فاتَّدَن، إلى غير هَذهِ الْمجَانسات والمشابهات والمقاربات، وكلها ناشئة من أصلٍ واحدٍ، هو «العِد» الذي وُضِعَ على أبسط وجْهٍ أمكن أن ينطِقَ به المتكلِّمون، وما بقي ففروع وفروق اختلفت باختلاف القبائل، أو باختلاف الناس الذين جاورهم بنو مُضَر.
(٤) الأَباءَة
الأباءَة: الأجمة من القصب، والجمع: أباءٌ (اللسان في أبأَ) وقال في «أبى»: الأَباءَة: البْرِديَّة، وقيل: الأجمة، وقيل: هي من الحلفاءِ خاصةً. قال ابن جِنِّي: «كان أبو بكر يشتق الأباءَة من أبَيْت، وذلك لأن الأجمة تمتنع وتأبى على سالِكِها، فأصلها عندهُ أَبَايَةٌ، ثم عُمل فيها ما عُمل في عَبَاية وصَلَاية وعَظَاية، حتى صِرْن عباءَة وصلاءَة وعظاءَة، في قول مَنْ همز، وَمَنْ لم يهمز أخرجهنَّ على أصولهنَّ، وهو القياس القوي. قال أبو الحسن: وكما قيل لها: أجَمَة، من قولهم: أَجِمَ الطعام: كرِههُ، والأباءُ بالفتح والمد: الْقَصَب، ويقال: هو أَجَمَةٌ الْحَلْفاءِ والقصب خاصة …» ا.ﻫ.
فأصل التركيب «أَبَا» لا غير، فضعَّفها الإرميون فقالوا: «أبُّوبَا» ويريدون بها الأنبوب؛ أي ما بين عقدة وعقدة من القصبة، أو كل مجوَّف مُدَوَّرٍ، ثم توسعوا في الكلمة والمعنى فقالوا: «أَبُّوْبتَا» أي الأنبوبة والقصبة.
وإذا بحثت في اللغة عن هذا الهجاء أو هذا الأصل الأول «بر»، أو «فر» تراه يدل على الرقة والدقة والخفة؛ فقد قالوا في مركبات «بر»: بَرَى العود والقلم والقدح وغيرها: يبرِيهِ بَرْيًا: نَحَتَهُ، وابتراهُ كبراهُ.
وبَرَاهُ السفر يَبرِيهِ بَرْيًا: هَزَلهُ (عن اللحياني في اللسان).
والْبُرَة: حَلْقة من فضَّةٍ أو صُفرٍ تُجعل في أنف الناقة إذا كانت «دقيقة» معطوفة الطرَفينِ (اللسان).
والْبَرَى أيضًا: التراب ولا سيما الدقيق منهُ، ومنهُ في الدعاءِ على الإنسان: «بفيهِ الْبَرَى.» كما يقال: «بفيهِ التُّرَاب».
وقال في القاموس في «ب ور»: «الْبُورِيُّ، وَالْبُورِيَّة، وَالْبُورِيَاءُ، والبارِيُّ، وَالْبَارِيَاءُ، والبارِيَّة: الحصير الْمَنْسُوج.» ا.ﻫ. وقالوا: إنها من الفارسية وهو غير بعيد، وقد اتصل العرب بالفرس فربما أخذوها منهم، لكنهم لم يتصلوا مباشرة بغيرهم، ليقال إنهم اقتبسوها من غير الفرس، والذين يزعمون يجهلون سُنَن اقتباس الألفاظ، والمشهور في العراق أن البواري تُتخذ من القصب، والقصب يكثر في وادي الرافدين (راجع ما كتبناهُ في لغة العرب في ٧ : ٣٣٤ و٣٣٥، وفي ٦ : ٧٨٢ و٩ : ٢٢٥ إلى مواطن أُخر).
والفارسية «بوري» من أصل عربي محض هو «برع»، أو «يرع»، أو «ورع»، ومنها الْيَرَاعة للقصبة؛ ولأن البواري تُتخذ من القصب على ما أسلفنا القول، ولما لم يكن للفُرس وَمَنْ كان من أصلٍ يافثي حرف العين عوَّضوا عنهُ بحرف عليل كما هو مألوفُ عادتهم.
وأما مركبات «فر» فمعروفة أيضًا للدلالة على الدقة والصغر والخفة، كما رأيناه في «بر»، فقد قال الْبُصَراء في الأصول العربية: إنَّ الفُرار: ولد النعجة، والماعزةِ، والبقرةِ الوحشيةِ، أو هي الْخِرفَان والْحُمْلان، وكذلك الْفَرير والْفَرور، والْفُرْفور والْفُرفُر والْفَرافِر، ولو أردنا السير في هذا الوادي المتشعب الأطراف لأرهقنا القارِئ عُسْرًا على غير طائل ولا جَدْوى.
وتتبع هذه الأصول العربية ومعارضتها بالأصول اليافثية أمر متسع الأكناف، ولا يمكن تحقيقه إلا بمئاتٍ من الصفحات، إن لم يكن بالألوف، ولهذا نعدل عنه لمعالجة بحث آخر.
قال الأب أنستاس ماري الكرملي: ونحن لاحظناه في غير المشدد أيضًا كقولهم: العنسل في العسل، وهي الناقة السريعة. والجُنْضَم في الجِضَم وهو الضخم الجنبين والوسط. وقالوا: القِنْطار وهو طَرَاءٌ لعود البخور، قال ابن دُرَيْد في جمهرتهِ: «فِنْعال من القُطْر: طرَاء لِعُود البخور … والقُطْر هو عود البخور، والعَرَنْدل كالعَرْدَل وهو الصُّلب الشديد.» ونقف عند هذا الحد إشفاقًا على القارئ؛ لكي لا يَحْرَجَ صدره.