موجز هذا الكتاب
يا أشبال اللغة، وفخر الوطن.
دعاني رئيس معهدكم الحديث «الوقور» أن أحاضركم في «اللغة العربية من حيث إنها تهمُّ الشرق والغرب»، فاعتذرت إليه بأني لم أعالج في حياتي إلا قليلًا المسائل التأريخية والأدبية؛ إذ كان معظم اجتهادي في معارضة العربية بسائر اللغات، لغات الأقوام التي احتك بهم العرب منذ أعرق القدم، ولا سيما معارضتها بألسنة اليونان، والرومان، والفرس، والنبط، فوجدت أمورًا لم تخطر ببال؛ لأن لغتنا المبينة لم تُدْرَسْ من هذا الْمَنْحَى.
والسبب — على ما يُخيَّلُ إِلَيَّ — أن الناطقين بالضاد الذين أمعنوا في تدبُّر لغتهم، وتقليبها على مناحٍ ووجوهٍ شتى، ازدروا بكل لسان سواها، ظانين أنها فوق كل لغة، ولا يمكن أن يدانيها شيء من كلام البشر، فكان هذا الاعتزاز داعيًا، بل ناعيًا، كل تَبَحُّرٍ في معارضتها بسائر اللُّغَى والألسنة، فأُهمِل هذا البحث بتاتًا في جميع العصور، حتى في عصر اعتزازها وازدهارها وتسنُّمها صهوات المعالي.
- السبب الأول: أنهم أتقنوا الألسنة الغربية كل الإتقان، وعُنُوا بها عناية دونها كل عناية، بل عناية تُقَطِّع نِياط مَنْ يحاول من الشرقيين أن يسابقهم في هذا الميدان، أما وقوفهم على أسرار الضادية ولطائفها، واستجلاء مزاياها وخفاياها، فهيهات هيهات! ووصولهم إلى مناط العيوق أقرب إليهم من البلوغ إلى الاستبضاع من هذه السوق؛ بل أجرؤ فأقول: إنهم لو وقفوا أعمارهم كلها على هذه الغاية لما استطاعوا إليها سبيلًا؛ لأن الدم الذي يجري في عروقهم غير الدم الذي يتدفق ويتسلسل في عروق بني يعرب، فهذه علة لا يستهان بها.
- والسبب الثاني: أنهم يتحامون كل التحامي أن يجمعوا بين أصول لغتنا وأصول لغتهم، عملًا بمبدأ لهم يُجِلُّونَهُ وَيُعَظِّمُونهُ ويضعونهُ فوق كل مبدأ؛ أي إنهم لا يَوَدُّونَ أبدًا أن يقال إن بيننا وبينهم صلة رحم، أو وَاشِجَة بيِّنة، فتكون ثَمَّ الطامة الكبرى، والداهية الدهياء على ما يتوهمونهُ، فظلموا أنفسهم، وما ربكم بظلام للعبيد، ومع ذلك فقد قام بعضهم حينًا بعد حين ليعالج هذا الموضوع من هذا المنحى، فناهضهُ سائر إخوتهِ من أهل البحث، وتناولوهُ بألسنٍ حداد، فانقبع ولازم الصمت، فكرِهَ غيرهُ أن يعودَ إلى هذا الموضوع، فنبذهُ جماعة المستشرقين، ومنذ ذلك الحين وجموا وجومًا، ولا يزالون واجمين، ولعلهم يبقون كذلك إلى ما شاء ربُّك ربُّ العالمين.
والآن أعرض عليكم كيف وقع في صدري الأخذ بهذا البحث: كنت في التاسعة عشرة من عمري حينما شرعت في تعلُّم اللاتينية، وما كدت أقف على أوائل أحكامها حتى شُغِفْتُ بها كل الشَّغَف؛ وذلك لأني رأيتُ فيها مشابهة، بل عدة مشابهات للغة الفصحى، وأنا أذكر المشابهة الأولى والكبرى التي أثرت في نفسي تأثيرًا قصيًّا.
في الرومانية، كما في اليونانية، أوجُهُ الإعراب؛ أي الرفع والنصب والخفض، وبصورة مألوفة جارية على الألسن: الضم والفتح والكسر؛ بل ثَمَّ ثلاثة أوجه أُخَر ليست في فصحانا وهي: وجه المنادى، ووجه المفعول له، ووجه المفعول بسببه، وهذه الأوجه تختلف في حالاتها عن حالات الأوجه العربية الثلاثة التي تعرفونها، فدُهِشتُ من هذه المعلومات وفروقها الدقيقة، وقلت في نفسي إن هذه اللغة لجدُّ جميلة، وتضارع العربية بمحاسنها وأساليبها، فلأدرسنَّها ولو كلفني درسها عرق القربة.
ولما كان هذا الضوء يختفي عند حلول الظلمات أي إن الشمس قد تحتجب بالغيوم الكثيفة أو بالليل، أقاموا له صورًا وتماثيل إكرامًا له، وإقرارًا لفضله، وبأنه الإله الأعظم؛ إذ منه الحرارة والنور والقوة؛ أي الحياة.
أما أولئك الذين اختارهم الله ليكونوا من عباده المقرَّبين فإنه أوحى إليهم بالحق؛ ولذا لا يرون في «الضوء» أو «النور» أو «الشمس» إلا صورة ضئيلة للرب المتعالِ، الرب الذي لا يصل إليه الحس من أي نوع كان؛ إذ يترفع عنه لروحانيته المحضة التي لا تصفها الألسن، بل لا يمكن أن تصفها، وإن كانت بليغة فصيحة.
فاتضح لي من مقابلة هذين اللفظين في اللسانين المختلفين دارًا، وقومًا، وأصلًا، ونسبًا، أن هناك غير هذه الكلم تتجانس بينها وبين العربية، ولا بد من الإمعان في البحث؛ لينجلي الأمر بوجهه الصبيح، إلا أن الأمور مرهونة بأوقاتها؛ لأني كنت قد عقدت النية على السفر إلى بيروت للدخول في كلية الآباء اليسوعيين لدرس اليونانية واللاتينية على معلم، وليس على نفسي، كما كنت أفعل؛ إذ هذا الأمر الأخير شاق وطويل الأمد، وفيه إضاعة الوقت، دَعْ عنك أني لا أصل إلى هدفي وصولي إليه على يد معلم ماهر خبير بصير.
فغادرت بغداد وكان عمري يومئذٍ عشرين سنة، فبقيت في بيروت نحو ١٤ شهرًا درست فيها اللغتين المؤتمتين (أي اللاتينية واليونانية)، ثم سافرتُ إلى بلجكة، فواليت فيها درسهما، ومن بلجكة إلى جنوبي فرنسة، فزاد حبي لهما؛ إذ انتفح لي فيهما مهيع واسع للتحقيق والتدقيق، وألْفَيْت من انهتاك حُجُب الأسرار ما زادني شغفًا بهما، وأشبهت نفسي ذيالك الغنيَّ الذي يزداد حبهُ للمال كلما وجد ركازًا، أو كنزًا دفينًا في الأرض الجديدة التي اقتناها.
أما الكنز الدفين الذي وُفِّقت للْعُثُور عليه ولم أجدهُ في كتاب ولم أسمعهُ من أستاذ أيًّا كان، فهو أني لاحظتُ هذا المبدأ وهو: كل كلمة ذات هِجَاءٍ أو هِجَاءَين في الرومية أو اليونانية، ولم تكن من أصل منحوت، بل من وضع أصيلٍ، أو توقيفي، فلا بُدَّ من أن يكون لها مقابل في لغتنا الْمُضَرِيَّة.
ولاحظوا هذا الأمر، أني قلتُ: كل كلمة ذات هِجَاءٍ واحدٍ (أي مقطع واحد)، أو هجاءين (أي مقطعين)؛ لأن اللفظ إذا زاد على هذا الْقَدْر يكون قد وقع في اللغتين المؤتَمَّتَيْن نَحْت، أي تركيب من كلمتين، أو أكثر؛ أي إنه أخذ من هذه الكلمة شيء ومن تلك شيء، وجُعِلت واحدة، فهذا هو «النحت» أو «التركيب».
وهذا النحت يتدفق تدفق السيل الجارف في لغة كيكرون وديمستينس؛ أما في لغة عدنان، فإنه قليل لا يعتدُّ به، ولا يتقوم منه قواعد، ولا يصلح لأن يُجْرَى عليه جَرْيًا، والذي يرد في ألفاظنا الكثيرة الأحرف أن زيادتها تدل على معانٍ خاصة بكل حرفٍ منها، وهي معانٍ دقيقة تزيد المعنى الواحد معاني عدة جديدة لم تكن فيها قبل ذلك التوسيع الذي يسميه اللغويون «التَّفْئِيم».
والملاحظة الثانية التي أجلب إليها نظركم هي أني قلتُ «ولم تكن تلك الكلمة من أصل منحوت، بل من وضع أصيل»؛ لأنها إن كانت مركبة الأصل، فليس لها مقابل في لغتنا؛ إذ خرجت عن القاعدة المطردة، وصارت في حَيِّزٍ آخر هو حيِّز العجمة الصِّرفة.
وقد ذكرت لكم كلمتين لاتينيتين، وعارضتهما بأخريين عربيتين، وبينت لكم تآخيهما، والآن أذكر لكم مثالين آخرين آخذهما من الإِغْرِيقيَّة:
قال الجوهري: «الْحَدْو سَوْق الإبل والْغِناء لها، ويقال: بينهم أُحْدِيَّةٌ وأُحْدُوَّة، أي نوع من الْحُدَاء يَحْدُون بهِ، على ما نقلهُ اللحياني.» ا.ﻫ. ومثل الْحَدْو: الْحُدَاءُ.
ووَضْع السلف هذه الكلمة لهذا المعنى أقرب إلى السليقة؛ لأن ابن الشرق الأدنى وُلِد وهو مُحاط بأنواع الحيوانات، يأكل من لحومها، ويشرب من ألبانها، ويلبس من أوبارها، ويستدفئ بجوارها، ويظعن على صهواتها، ولا سيما إذا جاز رمال القفار، فلا بد له من الإبل؛ إذ لا تعطش إلا قليلًا، ثم إذا مات فهو بين جماعاتها، فكان إذن من طبع ابن البادية أن يكون أول غنائهِ للْعِيس، فخصَّ حُدَاءَهُ بها، وحسنًا عمل؛ إذ قام بما لتلك الحيوانات من الحق الصريح على مَنْ يعتز بها وينشأ بينها.
وأغرب من هذا وذاك أن نفس الكلمة اليونانية تستعمل لنوع من الغناءِ، يَتَغَنَّى بهِ الساحِر في سِحرهِ، أو النَّفَّاثات في الْعُقَد؛ ثم أطلقوها على كل رُقْية أو أُخْذَة أو سِحْرٍ. أما أبناءُ عَدْنان فإنهم رأَوا في هذا الخلط بين الْمَعْنَيَيْنِ، واللفظُ واحد، إجحافًا باللغة، ففرَّقوا بين معنًى ومعنًى، وجعلوا «الْحُدَاءَ» لغِناءِ الإبل، و«العوذة» للسِّحْر، واللفظ في الأصل واحد.
ولا بد لي من مثل ثانٍ أدعم به هذا الرأي، وإن كان عندي عشرات، بل مئات من الشواهد:
فمن هذه المعارضة الوجيزة ترون خطورة هذا البحث وما ينشأ منه من الفوائد والعوائد الجليلة، والوقوف على أسرار الألفاظ ومعانيها الأولى الأصلية وتشعبها واتصال بعضها بالبعض الآخر من سائر اللغى، وهو درس لذيذ طريف، لم يطأ أرضهُ البكر أحدٌ من الإنس ولا من الجن إلى يومنا هذا، وبعبارة أخرى، لم يعالج موضوعهُ أحد من العرب، أو من أبناءِ الغرب، وعسى أن يقوم من معهدكم مَنْ يُعْنَى بمثل هذه المباحث البديعة التي مع عقمها من جهة النفع المادي تزيد العقل نشاطًا، واللغة سعة، والوطن شهرة، والصلة بالأمم توثُّقًا، والإمعان في الحقائق جرأة واكتشافًا، وتوسعًا، ولعل العقم المادي هو السبب الذي حال دون التبسط في هذا الموضوع، ومعالجتهِ معالجةً صادقة.
والآن دعوني أروي لكم ما وقع لي من الأحداث بخصوص هذهِ المباحث اللغوية التي توخَّيت مزاولتها:
كان يتردَّد إليَّ في بغداد في سنة ١٩٣٥ في أوقاتٍ معينة وفي مكان عزلة أحد شبان الهنود النصارى، من خِرِّيجي كُلِّيةِ اليسوعيين في كَلْكَتَّة، من ديار الهند، وكان مِمَّنْ أُولعوا بدرس اللغات من حَيَّةٍ وميتة، ومقابلتها أو معارضتها بعضها ببعضٍ، وكان يباهي كل المباهاة بالهندية الفصحى (بالسنسكريتية)؛ لأنها أم اللغات الغربية الآرية كلها قاطبة، ولا سيما أم اللغتين المؤتمتين: اليونانية واللاتينية.
وكان قد اطلع في المقتطف، والهلال، ولغة العرب، وغيرهن من المجلات والصحف على ما كنت كتبتهُ في هذا المعنى؛ أي «أن اللغة العربية أم اللغات» أو «مفتاح اللغات»، فكان يضحك بملء شدقيهِ من هذا الرأي، ويعدهُ في منتهى السخافة، ويسخر مني؛ لأني أنا أول القائل به، ويرى أن هذا الرأي رأي شرقي غير ناضجٍ، وهو لا يجد فيه سوى المبالغة والإغراق في الوصف، والتعظيم للغة الضاد ليس إِلَّا.
وكان مع ذلك متأثرًا من قولي؛ لأنهُ فعل في فكرهِ فعل الصاعقة في جسمهِ، وإن كان يُرِي أنهُ يستخف بهذهِ الْفِكْرَى، فكان جاء إلى بغداد في السنة التي أشرت إليها لأشغالٍ تتعلق بشئون والدهِ؛ ثم بحث عني حتى وجدني، وزارني مرارًا لا تُحصى، وحاول أن يقنعني أن أعدل عن فكري إلى رأيه، فألفاني كالجلمود أو أصلب في وجهه؛ وكان يقول لي ويعيد قوله مرارًا إن رأيك فائل؛ أيها الأب المحترم، لا يرضى به كل لغوي، وأرجو منك أن تعدل عنهُ احترامًا لشخصك، ولا جرم أنهُ لا يُعَمَّر؛ لضعفهِ، وسقمهِ، وعدم قبول العلماءِ لهُ، وقد رذلهُ جماعة المستشرقين الذين قتلوا هذا الموضوع خَبَرًا وخُبْرًا ولا سبيل إلى هدمهِ، بل لا مطمع في الزيادة عليهِ قيد شعرة، إلى كلام طويل مُمِل لا محلَّ لإيرادهِ هنا؛ لأن الشاب كان مفتونًا بمذاهب أهل الغرب وباحثيهم، كسائر أبناء الشرق حين يتصلون لأول مرة بأناس غير أناس وطنهم، وبأفكار غير أفكار قومهم، لا بل ما كان يريد أن يسمع برأي جديد لم يذهب إليهِ الإفرنج، أو لم يَقُلْ بهِ الإفرنج، أو لم ينص عليهِ الإفرنج، أو لم يمر بخاطر الإفرنج؛ فهو من عَبَدة الإفرنج لا غير، أصابوا أم أخطئوا، ولا يريد أن يحاكمهم بأي شيء كان، وكان يقول ليس أدنى صلة بين اللغة الضادية وأي لغة يافثية قديمة أم حديثة، كالهندية الْفُصحى، واليونانية، واللاتينية، والفارسية القديمة، كالفهلوية، والزندية، والدَّرِيَّة.
فقلتُ لهُ يا سيدي، إن الحقيقة ابنة البحث، فإن أنت اختلفتَ إليَّ مرارًا عدة، فإنك تعدل عن رأيك هذا إلى رأيي، وعن تصلبك في مخالفتك إياي، وتنقلب آخذًا بفكري، من غير أن أمنعك من أن تشايع المستشرقين في بعض آرائهم الصائبة، والتي أنا أوافق عليها أيضًا.
فكان يأتيني في مكان ناءٍ عن كل زائرٍ، لا يدري به أحد، وكنا قد اتفقنا على الاجتماع فيهِ أيامًا وساعاتٍ معلوماتٍ، فكنا نتجاذب أطراف الجدل في جوٍّ يسود فيهِ الهدوءُ، وَالطُّمَأنينة، وحُرِّيَّة الفكر والقول، وليس ثَمَّ مَنْ يُزْعِجنا، أو ما يُزْعِجنا.
ومن غريب أمر هذا الشاب المتنور أنه كان يأبى أن يزورني وأنا في الدير لأسبابٍ لم يَبُحْ لي بها؛ مع أنه كان نصرانيًّا دَيِّنًا، فتركته وشأنه وجاريته في هواه، فكنا نجتمع في المكان القصي عن المدينة وأهلها، وكان الحديث يجري بعض الأيام ساعاتٍ طوالًا، ونحن لا نشعر بانسلالها من أيدينا.
وكان صاحبي الشاب يُحسن الهندية الفصحى، والإنجليزية، كأنه أحد أبنائها، ويكتب بها، ويتكلم، ويخطب بها بسهولة عظيمة، وكذلك كان يتقن الفارسية وهي لغة أغلب علماء الهنود الذين يتفرغون للعلوم والدروس العالية، وكذلك كان يحسن العربية ويجيدها كأنه أحد أبناءِ العرب، إلا أنهُ كان في لسانه شيء من اللكنة، لا سيما في أحرف الْحَلْق كالحاءِ، والعين، والقاف، ويشدو شيئًا من الألمانية، واليونانية، والرومية، وهو من بيت عريق في الشرف، غني، ثري، نبيل، يمكِّنهُ من الدرس، والتفرُّغ له، من غير أن يخالف أوامر والدهِ، فكان كلُّهُ للتخصص في معارضة اللغات بعضها ببعض، على الأساليب الحديثة العلمية الجارية في ديار الغرب في عهدنا هذا، وعلى ما هو متعارف عند أهل البحث والإمعان في التحقيق.
وفي أول بحثه معي كان يكاد يقتلني قتلًا لمخالفتي إياه في رأيهِ، ومخالفتهِ إياي في رأيي، فقلتُ له: لا يتم التحقيق بالغضب، والتهوُّر، والتسرُّع في الكلام؛ إن الحق ينجلي لِمَنْ يمتاز بالصبر والْجَلَد، ولا يحتقر رأي مَنْ يخالفه، ولا يتهكم منهُ، بل يجدُّ كل منا في إقناع صاحبهِ بالتي هي أحسن، فانكسرت حينئذٍ سَورة غضبهِ، وزايلَتْهُ حدَّتُهُ، وأخذنا نتباحث في الهدوءِ، والراحة، والسكينة، والوقار، واحترام كل منا رأي صاحبهِ.
وفي مطاوي بحثه معي أظهرت لهُ أن رأيي حديث بلا شك ولا ريب؛ لكنهُ قائم على قواعد راسخة لا تتزعزع، وعلى أحكام هي وليدة سُنَنٍ بَيِّنةٍ وَاضحةِ المعالم، فإذا أخذ بها الباحثُ الصادقُ النية والطوية، الخالي من كل غرضٍ وسوء قصدٍ، ومن كل سبقٍ في الوهم، وروح المعاداة، أدَّت به مساعيهِ إلى أحسن النتائج، وأبهجها للخاطر.
أما المستشرقون فإنهم لا يريدون أن يكون بين العربية وبين لغاتهم أدنى صلةٍ، أو مجانسة، أو ملابسة، أو مشابهة؛ خوفًا من أن يقال لهم، أو أن نقول لهم نحنُ العربَ بيننا وبينكم يا قوم، لحمة نسب قديم، وصلة رحم؛ وهو مما يتبرءون منه، وينبذونه من مسامعهم، بل ينفضون ثيابهم عند سماع هذه الكلمات، كأنها تدنِّسهم، وتدنِّس ثيابهم، بل لا يريدون أن يتصوَّروا مثل هذه الفكرة الهادمة لأبنيتهم المتصدعة المتشعثة، تلك الأبنية التي أقاموها منذ أن وضع أُسُسها إمامُهُم الألماني الكبير مَكْس مُلَّر.
ثم أخذتُ أسرد له ألفاظًا لا تُحصى مُؤيدًا له إياها بالأدِلَّةِ الناصعة، والبراهين النَّيِّرَةِ، وَمُبَيِّنًا له أن هذهِ الكلمة العربية هي عَيْنُ الكلم اليونانية، أو اللاتينية، وأنا لم أذكر لهُ سوى ما كان منها أُحادِيَّ الْهِجَاءِ، أو ثُنَائِيَّهُ لا غيرُ، ولم أتجاوز هذا التركيب؛ لأني أقفُ عند هذا الأفُقِ من فقهِ اللغة، ولا أذهب إلى أبعدَ منهُ، وكنتُ قد نشرتُ بعض ذلك في الصُّحُف والْوَضائعِ والمجلَّات.
وثابرنا على عقد مجالسنا زُهاءَ ثمانيةِ أشهر، في جَدَلٍ لا يخرج موضوعهُ عَمَّا توخَّيناهُ من البحث، وفي الآخر — ومن بعد أن بلغت روحي التراقي — وافقني على رأيي؛ فلم يذهب سعيي سدًى، لأنهُ أصبح أحد كبار الدُّعاة إليهِ، بكل إخلاص وصدق نية، وبذل نفس، فنشر في مجلة ديارهِ الهندية، وصحفها عدة مقالات، أثبت فيها صحة هذا الرأي الحديث، ودعا أهل وطنهِ إلى الأخذ بهِ ودراسة العربية الفصحى؛ لأنها «أمُّ اللغات ومفتاحها الْمُحكم»، والتي لا يستغني عنها مَنْ أراد التفرغ لمقابلة الألسنة بعضها ببعض، والتوغُّل في حناياها، وخفاياها، وزواياها.
ورحل بعد ذلك إلى ديار المغرب، وجوَّل تجويلًا في فرنسة، وأسبانية، وإيطالية، وألمانية، والنمسة، وبلجكة، وهولندة، وإنجلترة، وجالس كثيرين من متقني اللُّغى الشرقية والغربية، فدافع عن رأيي أحسن دفاع، بل دَافع عن الحق والصدق، ونافح عنه كأنه صاحب الرأي، وواضعه، ومبدعه، وليس كالآخذ برأي رجل آخر سبقه إليه أو وضعه قبله.
وقد كانت كلمة المستشرقين أو أجوبتهم — على اختلاف قومياتهم ولُغَاهم وديارهم — لهذا الأديب الفاضل الهندي واحدة في المآل، وإن اختلفت في المبنى، وهي أننا لا نرى أدنى صلةٍ بين العربية وسائر اللغات اليافثية، ولا أدنى مناسبة بيننا وبين الناطقين بالضاد، فكان يجادلهم في الموضوع على حد ما كان يقارعني لما كان في بغداد، لكنه كان كَمَنْ يكلم الموتى؛ لأنهم كانوا يصمُّون آذانهم عن سماع أدلَّتِهِ، وفي الآخر أشاروا عليه تصريحًا أو تلويحًا بأن يقطع عنهم زيارته إياهم، أو ما يشبه هذه الإشارة، بتصرفهم مع هذا الأديب الفاضل الكامل الآداب، فعجب من آداب أولئك العلماء الأفاضل، آداب لم يكن يتوقعها منهم.
لم أسَتَغْرِب ما أخبرني به الأديب الهندي، وقد عاملتني لجنة تحرير المجلة الخاصة بمجمع اللغة العربية الملكي في مصر مثل هذه المعاملة، بل أقسى منها، مع أني أحد أعضائها.
فقد كنت أنشأتُ ثلاثَ مقالاتٍ، موضوعها البحث في مقابلة اللغة العربية باللغتين المؤتمتين اليونانية واللاتينية، ودفعتها إلى رئيس لجنة التحرير، فأَطْلَعَ عليها المستشرقين أعضاء المجمع، فلم يُقِرُّوها، وقالوا: هذا موضوع خيالهُ أكثر من حقيقتهِ، أو ما يقارب هذا المعنى، فأعادها إليَّ رئيس اللجنة وهو لم يقرأ منها كلمة واحدة، وكذلك لم يفعل شيئًا المستشرقون؛ إذ لم يقفوا على كلمة واحدة منها؛ بل اجتزءوا بمعرفة العناوين والموضوع، فلم يستحسنوا شيئًا منها؛ بل سخروا من البحث ورذلوهُ، وهكذا نُحَكِّم الأجانب في أمورنا جميعها، ونسلِّطهم علينا وعلى لغتنا، وندخلهم في صميم شئوننا، ولساننا، وقوميتنا، ونسلمهم قيادنا، ثم نشكو أمرنا إلى الله وأنبيائهِ ورسلهِ، ونتأسف، ونتحَسَّر، ونطعن بذا وذاك، ونلقي الملامة على الناس، وما اللوم والعتب إلا علينا نحن الضعفاء في كل شيءٍ.
ثم إني فَرَّقتُ تلك المقالات الثلاث على ثلاثٍ من الصحف والمجلات، وما انتشرت بين الأدباءِ والعلماءِ، حتى جاءتني رسائل عدة تستزيدني في البحث، وتستحسن الموضوع، وَتُلِحَّ عَلَيَّ بمتابعتهِ ونشرهِ في كتابٍ قائمٍ بنفسهِ، ليستفيد منُه أولو العرفان، وَمَنْ لم يُطالع أو لا يطالع الجرائد ولا الموقوتات.
فأين هذا الصنيع من إساءة المجمع إِلَيَّ، وأنا أحد أعضائه؟ فعلى مَنْ الملامة؟ أعلى الأعضاء العرب أم على المستشرقين؟ فعندي أن اللائمة على الأعضاء العرب، أو لا أَقَل من أن تقع على لجنة المجلة، ولا سيما على رئيسها؛ إذ لم يفحص الأمر بنفسه، ولا على يد أحد أعضاء لجنتهِ، ولا على استشارة أعضاء المجمع الموقَّر، فحكم على إهمال نشرها، من اشمئزاز المستشرقين من معالجة هذا الموضوع — وكيف لا يشمئزُّون منهُ وهم أصحاب الغرض فيه — ولا يريدون البتة أن يمسَّهُ أحدٌ ولو من بعيد.
فلو كانوا مصيبين في رأيهم لأذنوا بنشرها ثم عمدوا إلى تزييفها أو تفنيدها، فحينئذٍ نؤمن بعلمهم ووقوفهم على أسرار العربية، ولكن لا حياة لِمَنْ تنادي، بعد أن أسلمنا أمورنا الخاصة بنا إلى أيدي الأجانب.
ولا أُريد أن أسترسل في الكلام أكثر من هذا، وإن كان المجال ذا سعة؛ إلا أن الموضوع جاف يابس، ناشف، لِمَنْ لا يتفرَّغ له؛ ولهذا أقف عند هذا الحد، طالبًا منكم العفو والصفح، متوقعًا مع كل ذلك أن يقوم بينكم مَنْ يحاول طرق الموضوع ولو على سبيل الفضول والتبسُّط في الآداب واللغة، وعسى ألا يخيب في مسعاهُ.