ترتيبُ نُشُوءِ المفردات في أول وَضْعها
يؤخذ مما بسطناه بين يديك أن المفردات أول ما نشأ منها كان موضوعًا على هجاءٍ واحدٍ، محاكاة للطبيعة، أوله متحرك وثانيه متحرك، ثم جاء المضاعف من ثلاثي ورباعي، فيكون ثلاثيًّا إذا لم تتخيل الحركة في الشيء، ورباعيًّا إذا تخيلتها فيه، وإنما حُرِّك الساكن في آخر الهجاء لحاجة الناطق إلى إسماع الحرف الأخير من الكلمة التي ينطق بها لئلا يختلط مخرج حرفٍ بمخرج حرف آخر يقاربه ويدانيه صوتًا، ولا يكون ذلك إلا بالشد على الحرف الأخير وإبرازه متحركًا لكي لا يقع أدنى لبس.
ولما كان بعضهم يطيل حركة أول الهجاء، وآخرون يطيلونها في آخره، وكلٌّ يجري على ما يبدو له من توجيه فكر السامع إلى لفظه، على خلاف مَنْ يشدد الحرف الأخير من لفظته، نشأ في وقتٍ واحد الأجوف والناقص، فالذي أراد أن يحاكي حكاية صوت صَرَّار الليل حاكاه بأن قال: «صَرْ» ولما حاول أن يثبت لسامعهِ أن الحرف الأخير هو راء قال: «صَرَّ» وشد على الحرف الأخير وهو الراء، ولما أراد أن يفهم السامع أن الصَّرَّار كان يكرِّر صوته قال: «صَرْصَرَ» فأسكن الراء الأولى على الوضع الأول لحكاية صوت الحشرة، وحرك الثانية للإشارة إلى مواصلته للكلام، أما أنه لو لم يرد مواصلته بل قطعه، قال: «صَرْصَر» لا غير؛ أي بتحريك الصادين وإسكان الراءين.
ولما حاول فريق أن يمدوا صوتهم على أول الهجاء اضطُرُّوا أن يقولوا: «صَارْ» في مكان «صَرْ»، ولم يخصوهُ بصرَّار الليل، بل أطلقوه على كل ذي صوتٍ، وغدا معنى «صار يصور»: صَوَّت يصوِّت بمعنى عام، والذين لم يمدُّوا أول الهجاء ومَدُّوا آخرهُ قالوا: «صَرَى يَصْرِي» وخصوا معناهُ بالقطع، كأن المقطوع يحكي «صَرَى».
وبعد أن عُرِف المضاعف والأجوف والناقص في وقتٍ واحدٍ نشأ المهموز وهو أثقل وطأةً على اللسان من سائر الصيغ، فكان مهموز الأول (أو مهموز الفاء)، ومهموز الثاني (أو مهموز العين) ومهموز الثالث (أو مهموز اللام).
وفي الآخر ظهر المثال الواوي واليائي.
ونحن في ذكرنا الأفعال بهذا الترتيب لا نريد أن نقول: إنها حدثت بعد أن مرَّ على الطائفة الواحدة منها عصور طوال أو مُدَدٌ قصار، بل نريد أن نشير إلى أن تلك التحولات نشأت شيئًا بعد شيء، والطائفة الأولى منها ساقت الناطقين فدفعتهم إلى ما بعدها من غير أن نُعَيِّن زمنًا، ولا نُحَدِّد وقتًا، فهذا كله موكول إلى الغرائز والبيئات والمتكلمين بلغة يعرب، وقحطان، وإسماعيل.