إثبات ما تقدم من كلام السلف
قال ابن منظور في ترجمة «ه ج ج»: وهَجْ هَجْ، وهَجٍ هَجٍ، وهَجَا هَجَا: زجر للكلب، وأورد الأزهريُّ هذه الكلمات، قال: يقال للأسد والذئب وغيرهما في التسكين، قال ابن سِيدَهْ: وقد يقال: هَجَا هَجَا للإبل، قال هِمْيَانُ:
قال الأزهريُّ: وإن شئتَ قلتهما مرة واحدة، وقال الشاعر:
وضَبَّار: اسم كلب، ورواهُ اللحِياني: هِجِي. الأزهري: ويقال في معنى هَجْ هَجْ: جَهْ جَهْ على القلب. ا.ﻫ. كلام ابن مكرَّم.
وقال المذكور في تركيب «صرر»: «يقال: صَرَّ العصفور يَصِرُّ إذا صاحَ، وصَرَّ الْجُنْدُبُ يَصِرُّ صَرِيرًا، وَصَرَّ الباب يَصِرُّ، وكلُّ صوتٍ شبهُ ذلك فهو صرير: إذا امتدَّ، فإذا كان فيهِ تخفيف وترجيع في إعادةٍ ضوعف، كقولك: صَرْصَرَ الأخطبُ صَرْصَرَةً، كأنهم قَدَّروا في صوت الْجُنْدُب المدَّ، وفي صوت الأخْطَبِ الترجيعَ، فحكوه على ذلك، وكذلك الصقر والبازي.» وقد نقل الشارح هذا النص ولم يعزُهُ إلى قائلهِ على مألوف عادتهِ.
وفي القاموس: «مأمأت الشاة والظبية: واصلت صوتها فقالت: مِئْ مِئْ.»
وقال الأزهري: «صَهَّ القومَ، وصَهْصَهَ بهم: زجرهم، وقد قالوا: صَهْصَيْتُ، فأبدلوا الياء من الهاء، كما قالوا: دهديت في دهدهت. وصَهْ: كلمة زجر للسكوت، قال: صَهْ لا تَكَلَّمْ لِحَمَّادٍ بداهية، عليك عينٌ من الأجذاع والقَصَبِ.
وصَهْ، كلمة بُنيتْ على السكون، وهو اسم سُمِّيَ به الفعل، ومعناه: اسكُتْ. تقول للرجل إذا سَكَّنْتَهُ وأسكَتَّهُ: صَهْ، فإن وصلْتَ نَوَّنْتَ فقُلْتَ: صَهٍ صَهْ، وكذلك: مَهْ، فإن وصلتَ قُلْتَ: مَهٍ مَهْ، وكذلك تقول للشيء إذا رضيتَهُ: بَخَّ وبخٍ بَخْ، ويقال: صَهٍ بالكسر. قال ابن جنِّي: أما قولهم: صَهٍ، إذا نوَّنْتَ فكأنك قلتَ: سكوتًا، وإذا لم تُنَوِّنْ، فكأنك قلتَ: السكوتَ، فصار التنوينُ علمَ التنكير، وتركُهُ علمَ التعريف، وأنشد الليث:
قال: وكل شيء من موقوف الزَّجْر فإن العرب قد تنونه مخفوضًا؛ وما كان غير موقوف فعلى حركة صرفه في الوجوه كلها، وتُضَاعَف صه، فيقال: صَهْصَهْتُ بالقوم.» ا.ﻫ. وقال المبرِّد: إن وصلتَ فقلتَ: صَهٍ يا رَجُلُ! بالتنوين، فإنما تريد الْفَرْقَ بين التعريف والتنكير؛ لأن التنوين تنكيرٌ، وقال ابن الأثير: وقد تكرر ذكر صَهْ في الحديث، وهي تكون للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بمعنى اسْكُتْ، قال: وهي من أسماء الأفعال، وتنوَّن، ولا تنوَّن، فهي للتنكير كأنك قلت: اسكت سكوتًا، وإذا لم تُنون، فللتعريف؛ أي اسكت السكوت المعروف منك، والله تعالى أعلم. ا.ﻫ.
ويمكننا أن نُطِيلُ النَّفَسَ في الاستشهاد، لكن النتيجة واحدة وكذلك تكون الفائدة، فلقد ظهر لنا نشوء أول الكلمة وصُوَر انتقالها من حالة إلى حالة أخرى، حتى لم يبقَ لنا شكٌّ في هذا التحوُّل العجيب؛ أي انتقال الكلمة المحاكية للصوت إلى المضاعف الثلاثي والرباعي، ومما يؤيد كلام الأقدمين قول إمام اللغويين المتأخرين: الشيخ إبراهيم اليازجي، فقد جاء في مجلة الطبيب (في السنة ١٨٨٤ في ص١٩٤): «إن الثنائي موضوع في الأصل على حرفين، والتشديد في الثاني طارئٌ من قِبل الصناعة … فإنك إذا تفقَّدْتَ هذه الأفعال في العبرانية والسريانية وجدتها فيهما مخففة ساكنة الأواخر، جريًا على الحكاية الأصلية؛ لأن الذي سمع قرع جسمٍ بآخر مثلًا سمع شيئًا يحاكي «دَقْ» بالإسكان، فحكاه بصورته مخففًا، ثم لما احتاجوا إلى تحريك الثاني في بعض الصور التصريفية، كرهوا أن يوالوا بين متحركين لا فاصل بينهما، فوسَّطوا بينهما ساكنًا، إما من جنس ذلك المتحرك، فقالوا: «دَقُّوْ» مثلًا بالتشديد، وهو اختيار العبرانيين، وعليه جرت العرب، أو حرف مدٍّ من جنس حركة الأول فقالوا: «دَاقُّون» أي «دَقُّوا» أيضًا، وهو اختبار السريان.» ا.ﻫ.
وإليك الآن شاهدًا على تولُّد الأجوف والمهموز من المضعَّف، قال أبو الفضل جمال الدين في «ذيم»: «الذَّيْمُ والذَّام العيب … وقد ذامه يذيمه ذيمًا وذامًا: عابه، وذِمْته أذيمه، وذأمته، وذممته، كله بمعنًى، عن الأخفش، فهو مذيم على النقص، ومذيوم على التمام، ومذءوم إذا همزت، ومذموم من المضاعف، وقيل: الذيم والذام: الذمُّ.» ا.ﻫ. المقصود من إيرادِه.
وقال ابن الأعرابي: «من العرب مَنْ يقلب أحد الحرفين الْمُدْغمين ياءً، فيقول في مَرٍّ: مَيْر، وفي زِرٍّ: زِير، وهو الدُّجَة، وفي رِزٍّ: ريز» (راجع لسان العرب في زور).
وقال السيد مرتضى: «كَاعَ عن الشيءِ يَكَاعُ، كخاف يَخَافُ، لغة في كَعَّ يَكَعُّ.» وقال اللغويون: زال عمرهُ مثل زلَّ، والشواهد أكثر من أن تُحصى.
وقد ذكر صاحب اللسان كلامًا طويلًا في مقدمة ديوانه لغات العرب في مَنْ يهمز بعض الألفاظ وَمَنْ لا يهمزها، فيَحسُن بالمتتبع أن ينظر فيها إذا أحبَّ التوسع في هذا البحث فيرى ما يرضيه عن ضروب المهموز، ونأخذ عن بعضهم ما جاء بخصوص الهمز، وننبه القارئ على أن الهمز في أول الكلمة موجود في جميع اللغات، فلا عبرة له هنا، أما مهموز العين واللام فخاصَّان بالعربية، على أن قريشًا، وكانت لغتها أفصح اللغات، ما كانت تهمز (أو تَنْبِر) لكن سيبويه قال: «ليس أحد من العرب إلا ويقول: تَنبَّأ مُسَيْلِمةُ، بالهمز، غير أنهم تركوا الهمز في «النبيِّ» كما تركوه في الذُّريَّة وَالْبَرِّيَّة والخابِيَة»، إلا أهل مكة، فإنهم يهمزون هذه الأحرف، ولا يهمزون غيرها، ويخالفون العرب في ذلك، قال: والهمز في النبي لغة رديئة، يعني لقلة استعمالها، لا لأن القياس يمنع من ذلك. ألا ترى إلى قول سيدنا رسول الله ﷺ، وقد قيل: يا نَبيءَ الله! فقال له: لا تَنْبِرْ باسمي، فإنما أنا نَبيُّ الله، وفي رواية: فقال: لستُ بنبيءِ الله، ولكني نبيُّ الله، وذلك بأنه عليه السلام أنكر الهمز في اسمه، فردَّه على قائله؛ لأنه لم يدرِ بما سَمَّاه، فأشفق أن يُمْسِكَ على ذلك، وفيهِ شيءٌ يتعلَّقُ بالشرع فيكون بالإمساك عنه مُبِيحَ مَحْظُورٍ، أو حاظِرَ مُباحٍ. ا.ﻫ. عن اللسان.
وأما في تاج العروس فقد قال: «وفي رواية، فقال: إِنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لا نَنْبِرُ، والنَّبْرُ: همز الْحَرْف، ولم تكن قريش تهمز في كلامها، ولما حجَّ المهديُّ قدَّم الكسائيَّ يُصَلِّي بالمدينةِ، فَهَمَزَ، فأنكر أهل المدينة عليه، وقالوا: تنبِر في مسجد رسول الله ﷺ بالقرآن» (مادة نبر؛ وكذلك لسان العرب في المادة المذكورة).
وقريش تُعوِّض عن الهمز بالتخفيفِ فتجعله بين بين، «ففي الحديث: أنهُ أُتِيَ بأسيرٍ يُرْعَدُ، فقال لقومٍ: اذهبوا بهِ، فأَدْفُوهُ، فذهبوا بهِ فقتلوهُ، فوداهُ رسول الله ﷺ. أراد: الإدفاءَ من الدِّفءِ، وأن يُدْفأ بثوب، فحسبوه بمعنى القتل في لغة أهل اليمن، وأراد أَدْفِئُوه بالهمز، فخفَّفه بحذف الهمزة، وهو تخفيف شاذ كقولهم: لا هَنَاكَ الْمَرْتَعُ (بمعنى لا هَنأَك الْمَرْتَعُ)، وتخفيفهُ القياسي أن تُجْعَلَ الهمزةُ بينَ بيَن، لا أن تُحْذَفَ، فارتكب الشذوذ؛ لأن الهمزَ ليس من لغة قريش، فأما القتل، فيقال فيه: أدْفأْتُ الجريحَ، ودَافأتُهُ، ودَفَوْتهُ، ودَافَيْتهُ، ودافَفْتُهُ: إذا أجهزتَ عليهِ» انتهى بحرفه (عن اللسان في د ف أ).
وقد ذكر لك الإمام اللغوي دافَّ، وأدْفَأَ، ودفَا يَدْفُو، بمعنى واحد وفيها المضَاعَف، والمهموز، والناقص، وإن اختلفت أبوابها وصيغها، فهذا كلام واضح على أن جميعها ناشئة من المضاعف الثلاثي.