استشهد الأمير شكيب في بعض كتاباته أولًا وثانيًا بأبيات للبارودي على غير معرفة
شخصية سابقة، فكتب محمود سامي باشا إلى الأمير بالمقطوعة الآتية، قال:
لكَ الله من عانٍ بشكرٍ مُنمنمِ
لتقدير حقٍّ من عُلاك مُحتَّمِ
وشهمٍ أبيِّ النفسِ أضحى يرى يدًا
تذكُّرَ فضلٍ أو جميلٍ لمُنعمِ
رأى كرمًا مني تذكُّر قولِه
فدلَّ على أعلى خلالًا وأكرمِ
ولو كان يدري فاضلٌ قدرَ نفسِهِ
رأى ذكرَهُ فرضًا على كل مسلمِ
أَيعجَبُ مِن تنويهِ مثلي بمثلِهِ؟
لَعَمرِي الذي قد شقَّ في شعره فمِي
ومهما يَكُن من أعجمٍ فبفضلِهِ
يرى ثقفيًّا في الورى كل أعجمِ
إذا مطرَ الغيثُ الرياضَ بوابلٍ
فأيُّ يدٍ للطائر المترنِّمِ؟
إذا ما تصبَّت بالعميدِ صباحة
بوجهٍ فما فضل العميدِ المتيمِ؟
وهل يُنكِر الإحسانَ إلا لئامةٌ
وينكِرُ حُسنًا غيرُ مَن طرْفُهُ عَمِي؟
وهل في شهودِ الشمسِ أدنى مَزِيَّةٍ
وقد جاءَ ضوءُ الشمسِ لم يتكتَّمِ؟
رويدَكَ لا تُكثِر لدهرِكَ تُهمَةً
ولا تَيأسَنْ من أهلِهِ بالتوهُّمِ
فمَا زالَ مَن يدري الجميلَ ولم يكُنْ
لتأخذَهُ في الحقِّ لومةُ لوَّمِ
وأنتَ الذي لو أنصفَ الدهرُ لم يَكُن
لغيركَ في العلياءِ صدرُ التقدُّمِ
جمعتَ العُلا من تِلْدِها وطَرِيفِها
فجاءت كعقدٍ في ثناك منظَّمِ
غدت خطَّتي إما يراعٍ ومخذم
وأنك قطب في يراع ومخذمِ
ولم أرَ كفًّا مثل كفِّك أحسنت
إلى المجد إرعاف المداد مع الدمِ
جمعْتَهما جمعَ القدير بكفِّه
إلى محتدٍ سامٍ إلى المجد ينتمي
ولو كان يرقى المرء ما يستحقه
إذَنْ لبلغتَ النيِّرات بسلَّمِ
وأنت الذي يَا ابن الكرام أعدتها
لأفصح من عهد النواسي ومسلمِ
وأنشرتَ مَيْت الشعر بعد مصيره
لأعظم نثرًا من رفاتٍ وأعظُمِ
وأشهدُ: ما في الناس من متأخِّر
يدانيك فيه لا ولا متقدم
ولو شعراء الدهر تعرض جملة
بمُنجِدهم من كل حيٍّ ومُتهم
لأبصرت شخص البحتري منك بُحترا
وخلْق أبي تمام غير متمم
لك الآبداتُ الآنساتُ التي نأت
وأنْست عكاظ الشعر بل كل موسم
لَكَمْ أسهرت جفن الرواة وخالفت
حظوظك منها شُرَّدٌ غير نوَّم
شغفت بها طفلًا فأروى بديعها
ولم أروِ من وجدي بها نار مضرم
ولا عجبٌ أني أحنُّ صبابةً
فيسري الهوى بالقول للمتكلم
أفي كلِّ يومٍ فيك وجْد كأنه
طوى جانحًا مني على نار مِيسم
أحمِّل ريح الهند كل تحية
فكم من صبًا منها عليك مسلِّم
وقد طالما حدَّثت نفسي وعاقني
تردُّدها ما بين: أَقْدِمْ وَأحْجِم
حلفت بما بين الحطيم وزمزم
وبالروضةِ الزهرا أليَّةَ مُقسِمِ
لألفيت عندي دوس مشتجر القنا
وخوضيَ في حوض من الطعن مفعم
أقَلَّ بقلبي في المواقف هيبةً
وأهون من ذاك المقام المعظَّم
وهبْ أنني بازٍ
٢ قد انقضَّ أشهبٌ
فهل يطمع البازي بلُقيان ضَيْغم؟
ولكنَّ لي من عفو مولاي ساترًا
فها أنا ذا منه به بتُّ أحتمي
أمحمود سامي إن يكُ الدهر خائنًا
وطال عليك الزجر طائر أشأم
فما زالت الأيام بؤسًا وأنعُمًا
وحظُّ الشقا بالمُكث حظُّ التنعم
ولولا الصدى ما طاب وردٌ ولا حلا
لك الشهدُ إلا من مرارة علقم
عسى تُعتب
٣ الأقدار والهمُّ ينجلي
وينصاح صبحُ السعد في ذيل مظلم
وأُهديك في ذاك المقامِ تهانئًا
حبيرة مُسدٍ في ثناك ومُلحِم
ثم كتب محمود سامي باشا إلى الأمير شكيب بهذه القصيدة:
أدِّي الرسالة يا عصفورةَ الوادي
وباكري الحيَّ من قولي بإنشاد
ترقَّبي سِنَةَ الحرَّاس وانطلقي
بين الخمائل في لُبنانَ وارتادي
لعلَّ نَغْمةَ ودٍّ منكِ شائقةً
تهزُّ عِطف شكِيبٍ كوكبِ النادي
هو الهمامُ الذي أحيا بمَنْطِقِهِ
لسان قومٍ أجادوا النطقَ بالضَّادِ
تَلْقى به أحنفَ الأخلاقِ منتديًا
وفي الكريهةِ عمرًا وابنَ شدَّادِ
أخي ودادًا وحسبي أنه نسبٌ
خالي الصحيفةِ من غِل وأحقادِ
أفادني أدبًا من منطقٍ شَهِدَتْ
بفضله الناسُ من قارٍ ومن بادِ
عذْب الشريعة لو أن السحابَ هَمَى
بمثله لم يَدَعْ في الأرضِ من صادِ
سرَتْ بقلبيَ منه نشوةٌ ملكَتْ
بحُسنها مسمَعِي عن نَغْمةِ الشَّادِي
يا ابنَ الكرامِ عدتْنِي منك عاديةٌ
كادت تسُدُّ على عيني بأسدادِ
فاعْذِرْ أخاك فلولا ما به لجرى
في حَلْبةِ الشكر جريَ السابقِ العادِي
وهاكَها تُحفةً مني وإن صَغُرتْ
فالدُّرُّ وهو صغير حليُ أجيادِ
هل تعلمُ العِيسُ إذ يحدو بها الحادي
أن السُّرى فوق أضلاعٍ وأكبادِ
وهل ظعائنُ ذاك الرَّكْبِ عالمةٌ
أن النَّوَى بين أرواحٍ وأجسادِ
تحمَّلوا ففؤادي منذ بَيْنِهِمُ
في إثرهم نضوُ تأويب
٤ وإيساد
٥
يرتادُ منزلهم في كل قاصيةٍ
وحجبُهُ لو درى أحرى بمرتادِ
بين الجوانحِ ما لو أنت جائِبُهُ
أغناكَ عن لفِّ أغوارٍ بأنجادِ
وفي الفؤادِ كشطر الكفِّ بادية
في جنبها تيه موسى ليس بالبادِ
كم بِتُّ أَنشُدُ أحبابي وأُنشِدهم
في الهند يا شدَّ ما أبعدت إنشادي!
ولو أناجي ضميري كنتُ مُسمِعَهم
قولي كأنهمُ في الغيب أشهادي
مَن كان دون مرامي العِيسِ منزعُهُ
فلِي هوًى دون أمواجٍ وأزبادِ
دون الخضارمِ إن ضلَّ الحبيب سُرًى
فإنَّ وجديَ نعم القائف الهادي
هوًى بأروعَ لو أنَّ الزمان دَرَى
لَمَا أحلَّ سواه الصدر بالنَّادي
سامي الأَرُومةِ في أعراقِهِ نسبٌ
في المجد لا يشتكي من ضعفِ إسنادِ
أرقُّ من شمأَلِ الوادي شمائِلُهُ
وعند شد الليالي صخرة الوادي
من معشرٍ لو يقيس الناس شَأْوَهمُ
إلى العلا افتقروا فيه لأرصادِ
يا مَن لنا ردُّه من فائتٍ عوض
يُمحى به وزر أحقابٍ وآمادِ
إن يَحجبوكَ فما ضرَّ النجومَ دجًى
ولا زرى السيفَ يومًا طَيُّ أغمادِ
لا بأسَ إن طال نجْز السعد موعِدُهُ
فأعذبُ الماءِ شربًا في فم الصَّادِي
عسى لياليك قد سُلَّت ضَغِينَتُها
وقد صفَتْ كأسُها من سؤر أحقادِ
واستأنف الدهرُ سلمًا لا يكدرها
فالدهر قد يرتدي حالات أضدادِ
لو كان يُسعد قومٌ قدرَ فضلِهم
ما لاقَ مثلك أن يحظى بإسعادِ
وكتب محمود سامي إلى الأمير من جزيرة سيلان:
رُدِّي التحية يا مهاةَ الأجرع
وصِلِي بحبلك حبلَ مَن لم يقطعِ
وترفَّقي بمتيَّمٍ علِقت به
نارُ الصبابة فهو ذاكي الأضلُعِ
طرب الفؤاد يكاد يحمله الهوى
شوقًا إليكِ مع البروق اللُّمَّعِ
لا يستنيم إلى العزاء ولا يرى
حقًّا لصبوتِهِ إذا لم يجزعِ
ضمنت
٦ جوانحُهُ إليك رسالة
عنوانها في الخد حُمْر الأدمعِ
فمتى يبوح بما أجنَّ ضميرُه
إن كنتِ عنه بنجوةٍ لم تسمعي؟
أصبحتُ بعدكِ في دياجر غربةٍ
ما للصباح بليلها من مَطلعِ
لا يهتدي فيها لرحلي طارقٌ
إلَّا بأنَّةِ قلبيَ المتوجِّعِ
أرعى الكواكبَ في السماء كأنَّ لي
عند النجومِ رهينةً لم تُدفعِ
زُهر تَألَّقُ في السماء كأنَّها
حببٌ تردَّد في غدير مُترَع
وكأنها حول المجرِّ حمائمٌ
بِيضٌ عكفن على جوانب مشرعِ
وترى الثريا في السماء كأنها
حلقاتُ قُرطٍ بالجُمانِ مُرصَّعِ
بيضاء ناصعة كبَيض نعامة
في جوف أدحيٍّ
٧ بأرضٍ بَلقعِ
وكأنها أكَرٌ تَوقَّد نورها
بالكهرباءة في سماوة مصنع
والليلُ مرهوبُ الحميةِ قائمٌ
في مسحِهِ كالراهب المتلفعِ
متوشحٌ بالنَّيِّراتِ كباسلٍ
من نسل حامٍ باللُّجَينِ مدرَّعِ
حَسِبَ النجومَ تخلَّفت عن أمره
فوَحَى لهن من الهلال بإصبعِ
ما زلت أرقُبُ فجرَهُ حتى انجلى
عن مثل شادخة الكُمَيت
٨ الأتلعِ
وترنَّحت فوق الأراك حمامةٌ
تصِف الهوى بلسان صَبٍّ مُولعِ
تدعو الهديل
٩ وما رأته وتلك من
شِيَم الحمائم بدعةٌ لم تُسمَعِ
ريَّا المسالك حيث أمَّت صادفت
ما تشتهي من مجثم أو مَرتَعِ
فإذا علت سكنت مظلَّة أيكةٍ
وإذا هوت وردت قرارة منبعِ
أمْلتْ عليَّ قصيدة فجعلتها
لشكيب تحفة صادق لم يدَّعِ
هي من أهازيج الحمام وإنما
ضمَّنتُها مدح الهُمام الأروعِ
هو ذلك الشهم الذي بلغَتْ به
مشكاته حدَّ السِّماك الأرفعِ
نبراس داجيةٍ وعُقلة شاردٍ
وخطيب أندية وفارس مَجْمعِ
صدق البيان أعضَّ «جرول» باسمه
١٠
وثنى «جريرًا» بالجرير
١١ الأطوعِ
لم يتخذْ «بدر المقنَّع» آية
بل جاء خاطره بآية «يوشعِ»
أحيا رميم الشعر بعد هُمُودِهِ
وأعاد للأيام عصر «الأصمعي»
كلِمٌ لها في السمع أطرب نَغْمةٍ
وبحجرة الأسرار أحسن موقعِ
كالزهر خامره الندى فتأرَّجت
أنفاسُه بالعنبر المتضوِّعِ
يعنو لها الخَصم الألدُّ ويغتذي
بلبانها ذهن الخطيب المصقعِ
هي نجعة الأدب التي مَن أَمَّها
ألقى مراسيَه بوادٍ مُمرعِ
ملكت هوى نفسي وأحيت خاطري
وروت صدى قلبي ولذَّت مسمعي
فاسلم شكيب ولا برحتَ بنعمةٍ
تحنو إليك بأيكها المتفرِّعِ
فلأنت أجدرُ بالثناء لمِنَّةٍ
أوليتها والبر أفضل ما رُعِي
أرهفتَ حدي فهو غير مفلَّل
ورعيت عهدي فهو غير مُضيَّعِ
وبثقت لي من فيض بحرك جدولًا
غمر البحار بسيله المتدفِّعِ
عَذُبَتْ مواردُهُ فلو ألقت به
هِيمُ السحاب دلاءها لم تقلعِ
وزهت فرائده فصارت غُرَّةً
لجبين كلِّ مُتوَّجٍ ومقنَّعِ
هو ذلك النظم الذي شَهِدَتْ له
أهل البراعة بالمقال المُبدعِ
أبصرتُ منه «أخا إيادٍ» خاطبًا
وسمعتُ «عنترة الفوارس» يدَّعي
وحَلَمتُ أني في خمائل جنة
ومن العجائب حالم لم يَهجَعِ
فضلٌ رفعتَ به منارَ كرامةٍ
صرف العيونَ عن المنار لتُبَّعِ
فمتى أقوم بشكر ما أوليتني
والنجم أقرب غايةً من منزعي؟
فاعذِرْ إذا قصُر الثناء فإنني
رزتُ المقال فلم أجد من مَقنعِ
لا زلت تَرفُلُ في وشاء سعادةٍ
وحَبير عافيةٍ وعيشٍ أَمرَعِ
أَتُرى يحلُّ هواكِ بين الأضلعِ
ويحل لي بسواك ذرفُ الأدُمع
وأبِيت أُشرك فيكِ في دِين الهوى
وأكون للتوحيد أوَّل مدَّعِ
وتظل تشرد بي لغيركِ صبوةٌ
هي من سجونك في المحلِّ الأمنعِ
وأسيم في روض الحسان موزعًا
قلبًا وَهَى بالحمل غير موزعِ
قلب عليك تختَّمت أبوابه
ما نحوه لسواك طرفة مطمعِ
إني طويت عن النسيم شغَافَه
أن جاءني من غير تلك الأربعِ
وحجبت عن كل العواطف حُجبه
إلا الحنين لبدر ذاك المطلعِ
وأبحت إلا في الغرام هوادةً
ومنعت إلا أنَّة المتوجعِ
أضحت تَغايرُ في هواك جوارحي
حتى ليغضب ناظري من مسمعي
وأغار من طرفي لغيرك ناظرًا
لمحًا ولو شَيْمَ البروقِ اللمَّعِ
ولو استطعتُ الشمسَ ذُدْت لعابَها
عن وجنتيك ولو سعت في بُرقعِ
ولقد أغار لهاجسٍ من خاطرٍ
من سر مهجة راهب متورِّعِ
يمشي إليك ولو بأعمق قلبه
ويشير بالأفكار لا بالإصبعِ
درَّعت حُسنك بالكمال وفتية
من حول خدرك حاسرين ودرَّعِ
في كلَّةٍ تذَرُ الضراغم عندها
من ذلَّةٍ أمثال عُفر الأجرعِ
١٢
ما للمطامع في الوصال ودونَهُ
خَفْر الشريعة والرماح الشرَّعِ
نفسي الفدا لمقنَّعٍ
١٣ هجرت له
أجفانهن شفار كل مُقنَّعِ
١٤
تتهافت الأوهام عن حجراته
ويرد خاطره المتيم إذ يعي
ذاك الحمى إلا على مَن أَمَّه
مني بممتنع الوجيب مشيَّعِ
١٥
أكنهتُ بالأقدام سرَّ ضميره
وحللت بالأقدام قلب المصنع
هي زورةٌ تحت الظلام وردتُها
فردًا بلا عَضدٍ، بلى قلبي معي!
فنظرت من ذاك الهلال لنيِّر
وعلقت من ذاك الغزال بأتلعِ
وأسغت في نهل الشفاه وعلِّها
ما ليس يعذُب بعده من مكرعِ
بِتنا كأنَّا خَطْرةٌ في خاطرٍ
أو وهلة حلَّت فؤادَ مروَّعِ
نبَّهت بالأغزالِ هاجِعَ حبِّها
وحُمَاتها من غافلين وهُجَّعِ
وسقيتها كأس الهوى دهقًا ولم
يحلُ الهوى إلا بكأسٍ مترعِ
متملِّيَين من العناق كأننا
قوس خلا لزيادة من مَنزعِ
أروي غريب حديث أحوال الجوى
والراحُ ليس يطيب غير مُشعشَعِ
وصلٌ أعاد الشمل أيَّ موصَّل
لكن أعاد القلب أيَّ مقطَّعِ
عاطيتها صرف الهوى وعفافنا
طول التلازم لم يُشب من موضعِ
كانت مضاجعنا تَنِثُّ كمالنا
لو كان يوجد منطقٌ للمضجعِ
والليل يكتمُ ما ينمُّ بسرِّه
أرجُ النسيم سرى بمسكٍ أضوعِ
وترى المجرَّة في السماء كأنَّها
دُرٌّ تناثرَ من سماء مُضرَّعِ
١٦
حتى إذا شقَّ الدُّجُنَّة شوقها
للقا ذُكاءَ وشاب فَود الأسفعِ
ورأيت أسراب النجوم تتابعت
بفرارها مَصْعَ
١٧ النعامِ الأمزعِ
١٨
ما كان أحوجَنا بذاك لآيةٍ
تأتي لنا في عكس آية يوشع!
زحزحتُ عنها ساعدي وتركتها
دون الكَرَى من تحت عبءٍ مُضلعِ
وطلعتُ أعثر بالسيوف ولو درى
أهل السيوف مقامتي لم أفزعِ
أيغولُ مهجتيَ الكماةُ وما لهم
فخرٌ سواي إذا اغتدَوْا في مَجمعِ
وتُرى تخونُ الخيلُ فارسَها وهل
يُردَى الحسينُ على يد المتشيعِ؟
أو مَن لهم مثلي إذا عبس الوغى
وتضاحكت أنياب ثَغْرِ المصرعِ؟
وتشاجرت سُمْرُ القنا وتجاذبت
بذوائبٍ والسيفُ شبهُ الأصلعِ
ولقد بذذتُ السابقينَ فمن لهم
بوقوف سيرٍ بالمكارم مُوضِعِ؟
١٩
وبلغتُ من سامي الفخار وجاءني التَّـ
ـقريظُ من «محمود سامي» الأرفعِ
خِنذِيذِ
٢٠ هذا الدهر واحدِ أهلِهِ
مقدامِ حَلْبته الأغر الأبتعِ
القائلِ الفُصح التي عن مثلها
يُثنى «المقفَّع» في بنان مقفَّعِ
لو جاءَ في العصر القديم لما روى
إلا قصائده لسان «الأصمعي»
قد قاد مملكةَ الكلامِ وحازها
أخذَ الأعِزَّةِ للذليلِ الأضرعِ
إن يعصِهِ قولٌ فلم يك لفتَةً
حتى يذلل مستقيم الأخدعِ
٢١
سهل البيان عصيُّه للمُحتَذي
فلأنت منهُ بين عاصٍ طيِّعِ
خُلقتْ له عليا اللغات فلو هفا
نحو الركاكةِ جاء كالمتصنِّعِ
تغدو المعاني حُوَّمًا حتى إذا
سَامينَ فكرته هبطنَ بموقعِ
ما زال يُبدع قائلًا حتى يرى
بِدْعًا على الأيام إن لم يُبدعِ
إن أجدبَتْ أرض الخلائق بالثنا
فخِلَالُهُ للحمد أمجد مَرتعِ
أو حار قوم في الشعاب فإنه
ربُّ المُضِيِّ على المُضِيء المهيعِ
أضحى يطارحني القريض وهل ترى
من أصبعٍ يومًا يُقاس بأذرُعِ؟
أملى إليَّ قصيدةً فأذابني
خجلًا وهيبةَ خاشعٍ متصدعِ
يابن الغطارفة الأُلَى لم ينتموا
إلا بأزهرَ في النديِّ سميذعِ
٢٢
لا غروَ إن يُرْتَجْ عليَّ بحضرةٍ
إن قابَلت شمسَ الضحى لم تسطِعِ
فلوَ انَّ سحبانَ الفصاحةِ قائمٌ
في بابها ما قال غير متعتَعِ
فهناك ما بَهر الخواطرَ هيبةً
وزرَى بعارضةِ الخطيبِ المِصقَعِ
كلُّ العقائل في حماكَ وصائفٌ
والمنشآت
٢٣ من الجواري الخضَّعِ
فاسلم رعاك الله سابغَ نعمةٍ
وأعاد عيشَك للزمانِ الأمرَعِ
واعذِرْ إذا قصَّرتُ عن حقٍّ فلو
أمليتُ أسود مقلتي لم أقنَعِ
انتهى النقل عن مختارات الزهور.
وكنت سنة ١٩٠٨ شاتيًا في طبرية عند ابن عمي الأمير أمين المصطفى أرسلان، حيث كان
قائمقام في تلك البلدة، فأرسلت إلى محمود سامي باشا في مصر قصيدة ميمية من بحر الخفيف
فُقدت من بين أوراقي، وكان قد فقد إحدى كرائمه، فكان موضوع القصيدة التعزية والتسلية،
وإني أتذكَّر منها بعض أبيات:
ومما أتذكَّره من هذه القصيدة وصف طبرية وغورها:
فأجابني محمود باشا سامي بهذه القصيدة:
حَيِّ مَغنَى الهوى بوادي الشآم
وادعُ باسمي تُجِبْك وُرْقُ الحَمامِ
هُنَّ يعرفنني بطول حنيني
بين تلك السهولِ والآكامِ
فلقد طالما هتفنَ بشدوِي
وتناقلن ما حلا من هُيامِي
ولَكَمْ سِرْتُ كالنسيم عليلًا
أتقرَّى ملاعبَ الآرامِ
في شعارٍ من الضنى نسجَتْهُ
بخيوط الدموع أيدي الغرامِ
كلما شِمْتُ بارقًا خِلتُ ثغرًا
باسمًا من خلال تلك الخيامِ
والهوى يجعل الخِلاجَ يقينًا
ويغُرُّ الحليمَ بالأوهامِ
خطراتٌ لها بمرآة قلبي
صورٌ لا تزول كالأحلامِ
ما تجلَّت على المَخِيلَةِ إلا
أذكرتني ما كان من أيامي
ذاك عصرٌ خلا وأبقى حديثًا
نتعاطاه بيننا كالمُدامِ
كلَّما زحزحَتْ بنانةُ فكري
عنه سِترَ الخيال لاح أمامي
يا نسيمَ الصَّبا فديتك بلِّغْ
أهل ذاك الحِمى عبيرَ سلامي
واقضِ عني حقَّ الزيارة واذكُرْ
فرطَ وجْدي بهم وطولَ سَقَامي
أنا راضٍ منهم بذُكرَة وُدٍّ
أو كتابٍ إن لم أفُزْ بلِمَامِ
هم أباحوا الهوى حريمَ فؤادي
وأذلُّوا للعاذلين خِطَامي
أتمنَّاهم ودون التلاقي
قذفاتٌ من لُجِّ أخضرَ طامِ
صائل الموج كالفحول تَراغَى
٢٤
من هياجٍ وترتمي باللُّغامِ
وترى السُّفْنَ كالجبال تَهَادَى
خافقاتِ البنود والأعلامِ
تعتلي تارةً وتهبط أخرى
في قضاء بين السُّها والرُّغامِ
هي كالدُّهم جامحاتٌ ولكن
ليس يُثنَى جماحُها بلجامِ
كلُّ أرجوحةٍ ترى القوم فيها
خُشَّعًا بين رُكَّعٍ وقيامِ
لا يُفيقون من دُوارٍ فهاوٍ
لِيَديهِ وراعفُ الأنفِ دامِ
يستغيثون فالقلوب هوافٍ
حَذَرَ الموتِ والعيونُ سَوامِ
في وعاءٍ يحدُونَهُ بدعاءٍ
لجلال المهيمن العلَّامِ
ذاك بحرٌ يليه برٌّ ترامى
فيه خوضُ المطيِّ مثل النعامِ
فسوادي بمصر ثاوٍ وقلبي
في إِسارِ الهوى بأرض الشآمِ
أخدع النفس بالمُنى وَهْي تأبى
وخداع المُنى غذاءُ الأنامِ
فمتى يسمحُ الزمانُ فألقَى
بشكيبٍ ما فاتني من مرامِ
هو خِلٌّ لبست منه خلالًا
عبقاتٍ كالنُّور في الأكمامِ
صادقُ الود لا يَخيسُ بعهدٍ
وقليلٌ في الناس رَعيُ الذمامِ
جمعتنا الآدابُ قبل التلاقي
بنسيم الأرواحِ لا الأجسامِ
وبلغنا بالوُدِّ ما لم ينَلْهُ
بحنان القُربى ذوو الأرحامِ
فلئن لم نكن بأرضٍ فإنَّا
لاتصال الهوى بدار مُقامِ
وائتلافُ النفوسِ أصدق عهدًا
من لقاءٍ لم يقترن بدوامِ
ألمعيٌّ له بَداهةُ رأيٍ
تدرك الغيب من وراء لِثَامِ
وقريضٌ كما وشت نسماتٌ
بضمير الأزهار إثر الغمامِ
هزَّني شِعره فأيقظ منِّي
فكرةً كان حظها في المنامِ
سُمتُهَا القولَ بعد لَأْيٍ فبَضَّتْ
بيسيرٍ لم يروِ عود ثُمامِ
فارضَ مني بما تيسَّر منها
رُبَّ ثَمْدٍ فيه غنًى عن جمامِ
ولوَ انِّي أردت شرحَ ودادي
واشتياقي لضاقَ وُسْعُ الكلامِ
أنا أهواك فطرةً ليس فيها
من مساغٍ للنقضِ والإبرامِ
وإذا الحب لم يكن ذا دواعٍ
كان أرسى قواعدًا من شمامِ
فتقبَّلْ شكري على حُسنِ وُدٍّ
رُحْتُ منه مُقلَّدًا بوسامِ
أتباهى به إذا كان غيري
يتباهى بزينةِ الإنعامِ
دمتَ في نعمةٍ يَرِفُّ حُلاها
فوق فرعٍ من طِيبِ أصلك نامِ