عِمَا بصباح العلم رغدًا وانعما
برَبعٍ ظلامُ الجهل عنه تصرَّما
قد انصاح صبح السعد في ليل نحسه
فغادره شيئًا فشيئًا مهزَّما
وثاب إليه العلم عدوًا بعودهِ
إليه فلا لؤمٌ إذا ما تلوَّما
فأصبح داجي أفقه اليوم زاهرًا
وقد كان زاهي أفقه قبلُ مظلما
وأينع ذاوي روضه اليوم بعد أن
تصوَّح من عصف البوارج في الحمى
ترنَّح عِطف السعد منه بُعَيْدَ أن
رأى لثغور العلم فيه تبسُّما
وباتت غصون العز تخطر عندما
رأت فوقها طير المعارف حوَّما
لَعَمرك إن الشرق رُدَّ بهاؤه
فيرفل في ثوب النساءِ منمنما
وعاد إليه الفضل والعَود أحمد
عليه إذا كان الغياب مذمَّما
وما الشرق إلَّا ذلك الشرق لم يزل
مدى الدهر أعلامَ العُلا متسنِّما
فإن نابه يومًا من الدهر صرفُهُ
فلم تمضِ إلَّا برهة فتثلَّما
وإما تُطِشْ دهمُ الليالي سهامَهُ
فهيهات لم تسلبه للحظ أسهُما
وإن فاته للفضل غيثٌ فإنما
توخَّى إليه الرَّجْعَ جمًّا فعتَّما
وإن تعرُه الأحداث من بعد بسطةٍ
فأيُّ الورى لم يلقَ بوسى وأنعُما
وإن يكُ يومًا سوَّد الجهلُ أُفْقه
فقد طالما في الفضل أطلع أنجُما
نجوم عَلومٍ أخجلت بضيائها
نجوم ضياءٍ لُحنَ في كبد السما
بهنَّ اهتدى في سيره كلُّ بارجٍ
توغَّل في بحر الكيان الذي طمى
رجالٌ بهم جادَ الزمان وعلَّهُ
على مثل هذا الجود يومًا تندما
أقامهمُ في الشرق يُحيون شأنه
فأذهل عمَّا نال عادًا وجُرهما
هم الملأُ الأخيار والعصبة الأُلى
رأينا لعمري الرُّشد فيهم مُجسَّما
تظلَّم منه الفجر قبل مجيئهم
فجاءُوا فلما أثقلوه تظلَّما
لكَم أرهفوا بالجد للمجد مخذمًا
وكم أرعفوا بالنيل للفضل مخطما
وكم صرفوا وجه الصروف عن الورى
وكم عفَّروا بالحزم للدهر مرغما
وسلُّوا من الآراء أبيض صارمًا
ففلُّوا من الأرزاءِ بحرًا عرمرما
أماطوا قناع المكرمات وقد جلوا
محيَّا المعالي بعد أن كان أسحما
وأعلوا منار الرشد في أفق شرقهم
وخلَّوا سبيلًا للمآثر أقوما
وأجرَوا ينابيع المعارف في الملا
فطال بها نبت المعاني وقد نما
وشادوا أصولًا للفنون وأوضحوا
لها سُبلًا أضحت إلى النجح سُلَّما
فنعم رجال الشرق قومًا ومعشرًا
إلى جدهم أصل المعالي قد انتمى
جرَوا في رهان الفضل في أول المدى
سباقًا كما أجريت أجرد شيظما
ولم يرهبوا من دونها في جهادهم
خِطارًا فقد خالوا التوقي تقحُّما
فهم أسَّسوا ركن الحضارة في الورى
ولم يفعلوا إلا لنُدرك مغنما
وهم أكنهوا سرَّ المعارف أولًا
وهم عرَّفوا نفع العلوم مقدما
فلما أحلَّ الله فيهم قضاءَهُ
وأوفاهُم داعي الردى متخرِّما
طوتهم أيادي البَيْن من بعد أن رمَوا
من الهمَّة الشمَّاء أبعد مرتمى
فغار ضياء الشرق عند غيارهم
وأظلم وجه الشرق وقتًا وأقتما
ودالت إلى العُرب العلوم مع العُلا
كما حكم المبدي المعيد وأبرما
وأوجف ركْب السعي في طلب العلا
فكان بذا الجري الجواد المصمِّما
فهادنه صرفُ الزمانِ مسالمًا
ونوَّلهُ الخير الأتمَّ المعمَّما
وباتت بلاد الشرق من بعد عزها
كأن لم تنل مجدًا ولم تحوِ مغرما
إلى أن تجلَّى طالعُ العصر بعد أن
تحجَّب عن تلك الجوانب واكتمى
فثابت لدى إشراقه الهمم التي
عن العلم قبلًا قد تقاعسن نوَّما
عن العلم حق العلم بالفضل ظاهر
فذلك للألباب قد كان ألزما
وعفَّت على ما كان قبلًا وذلَّلت
جماح زمان قد طغى وتجرَّما
فإن يكُ خسف الشرق أضحى محلَّلًا
لديه فما كان الفلاح محرَّما
ألا يا بني الأوطانِ إن عليكمُ
إلى السعي في تلك المعالي التقدما
عليكم بها فاسعوا لها وتشبهوا
فمن يتشبه بالكرام تكرَّما
ومن قصرت أيديه فليسعَ طوقَهُ
ومن لم يجدْ ماءً بأرضٍ تيمَّما
وقد نكتفي بالطل إن بان وابلٌ
فإنَّ اعورارَ العين خيرٌ من العمى
ولا سيما العلم الشريف فإننا
نرى نَيْلَهُ جدًّا على الكل مغرما
أما نحن من سنُّوا المآثر واقتفى
مآثرَنا مَن بعدَنا حاز مستمى
ألم نُعلِ أعلام العلوم بقطرنا
على حين حدُّ السيف يرعف بالدِّما
ألم نكُ أهل الأوَّلية في العُلا
ليالي لم نقصر عن المجد معزما
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا
زمان توخَّى حيفنا وتحكما
وما زال أهل الغرب يدرون قدرنا
من الفضل ما أبدَوْا من الدهر معجما
متى يذكر الأفضالَ فيهم خطيبُهم
على منبرٍ صلَّى علينا وسلَّما
فلا تحسبونا قد عرينا وطالما
جررنا من الفضل الرداء المرقَّما
وهم أثروا عنا العلوم فهذَّبوا
فجرُّوا علينا مطرف المجد مُعلما
تبارَوْا بعلمٍ بينهم وتنافسوا
فلا جرم أنَّ العلم سرَّ فأشكما
وقد بلغوا من باذخ العز منزلًا
يظل لسانُ الحال عنه مترجِما
إذا نظر الشرقيُّ حال صلاحهم
بكى صاحبي منها دمًا سال عَنْدَمَا
فيا وطني حتَّام تلبث غافلًا
وحتَّام يا شرقي أراك مهوِّما؟
ألم تدرِ بالغربي في الأرض سائحًا
على سابحٍ من علمه ليس مُلجما؟
فلله درُّ العلم إنَّ جداءَهُ
لمِمَّا يفوق العارض المتسجِّما
لكَمْ نال من فخر وأيَّد صاغرًا
وكم عال من فقر وقلَّد مُعدِما
وكم حلَّ من عِيٍّ وأطلق حبة
وكم فلَّ من غيٍّ وأنطقَ أبكما
فمن يعتصم بالعلم يظهر بهديه
فلم يكُ غير العلم شيء ليعصما
إذا العلم هذا الحق ما فيه شبهةٌ
وحسبك بالحقِّ المبين مُعلِّما
ومن عزَّ دون العلم شأنًا فإنه
لسوف يلاقي أمره متحتِّما
فذو السيف يلقى العز حينًا ومفردًا
وذو العلم يلقى العزَّ دهرًا وتوءَما
ومن نال أخطار اليراع فإنما
ستقرن كفَّاه يراعًا وصيلما
فسعدًا لمن في حَلْبة العلم قد جرى
وسحقًا لمن في حَلْبة العلم أحجما
وما ذلَّ من يهوى العلوم وإنما
تسوَّد مَن بالعلم كان مُتيما
سما بالذي كان الحضيض مقرَّهُ
فطنَّب من فوق الدراري مُخيِّما
فما يبلغ المنطيقُ وصفَ جدائه
ولو كان كل الكون في وصفه فما
فحثُّوا مطايا العزم كي تظفروا به
تنالوا بيُمن العصر منه المُيمَّما
فلا منيةٌ إلا ونلتم أعزَّها
ولو أنها باتت على روق أعصما
لئن تبذلوا فيه النفيس فغيركم
لإحرازه هلْكَ النفوس تجشُّما
وما غيركم والله إلا أصولكم
نخبِّر عنهم لا حديثًا مرجَّما
وقومٌ هدوا في الحق هَدْيَ جدودكم
إلى أن غدوا أَعلَيْن في الأمر مثلما
أولئك قد سادوا وأقصى نكاية
لنا فيهم ألقاب علجٍ وأعجما
بعلم إذا ما بات فيهم متوَّجًا
فيا طالما قد كان فينا معمَّما
فإما لعمري قدوةٌ بمعاصرٍ
وإما تراث للذي صار أعظُما
ولا نحسب الأحوال وهي عوارضٌ
تغير في أصل المبادي فنسأما
وإما نصبنا في سبيل جهادنا
فأي قرارٍ لا يقابل مخرما
وقد أشرع الدرب الموصل نحوهُ
بما شفع الرحمن فينا وألهما
فلا صدفت فتياننا عن ولوجه
ليغدو بهم رثُّ البلادِ مُرمَّما
ويرتق فتق الشرق بعد اتساعه
ويرفي غطاه بعدما قد تشرما
فإن الفتى من زان مسقط رأسه
بما ناله من حكمة وتعلَّما
فذاك الذي في بردة الفضل ينثني
وليس الفتى مَن بالعقيق تختَّما
فإن ينتظم شمل الرجال بقطرنا
ترتَّب فيه أمرنا وتنظَّما
لأن نجاح الصقع في حسن أهله
إذا كان أمر الود في القوم محكما
وكانوا كما الأعضاء في الجسم فاغتدى
على الكل منهم خيرهُ متقسِّما
فيشتدُّ أزر القوم بعد انحلاله
إذا شدَّ من عقد التضافر محزما
إذا نبتغي علمًا بدون تضافرٍ
إذَنْ فاتباع الجهل قد كان أحزما
وكل امرئٍ عن قومه متخلِّف
فلا يعدمنَّ الدهر للوطء منسما
فكونوا كجسم واحدٍ إن تألمت
له أنمل تلقى الجميع تألَّما
تفوزوا بتذليل الصِّعاب إذا عصت
وتقوَوْا على ذا الدهر إِما تهضَّما
وتحظوا بأعلاق المنى وتُحققوا
بهمَّتكم من عصرنا ما توسما
هو العصر وافى ضاحكًا عن فنونه
وقد كان من قبل عليكم تأجَّما
تبدَّى وهذا الجهل في الناس سائدٌ
فأطرق منه هيبةً وتحشَّما
وراحَ على الدنيا ينشُّ بدائعًا
فهزَّ أخا عشق ورنَّح ضيغما
بكُمْ معشرَ الحضَّار تزَّان أرضنا
ويصبح عرض الخسف فيها مكلما
تجلُّون عن أن تُرشَدوا من مماثلي
ولكنها ذكرى لما ليس مُبهَما
كفى عصركم فخرًا وعزًّا إذا ادَّعى
أميرَ الورى عبد الحميد المعظما
ليجهد في استرجاع رونق شرقنا
وتجديد ما من مجده قد تهدَّما
فلا زال في عصر الخلافة قائمًا
لما انآد من أمر العباد مقوَّما
ينثُّ عليه الخافقان بعدله
ثناءً جميلًا بالدعاءِ مختَّما
وقلت في مثل ذلك عند حضور امتحان المدرسة السلطانية في السنة نفسها:
بدورٌ بأُفْق العلم هذي المواسمُ
على البدر قد لاحت لهنَّ مواسمُ
لتغدو بها عين الفلاح قريرةً
وتبدو ثغور السعد وَهْي بواسم
يقدِّر فيها العلم ما هو كاسبٌ
ويعرف فيها الفضل ما هو غانم
فتنتج ما قد حاول الجهد في العُلا
وتسفر عمَّا باشرته العزائم
شهورٌ على صدق الفِعَال أمينة
ولكن قضاةٌ بالسباق حواكم
مضامير أقران النباهة والنهى
يميَّز مرغومٌ لديها وراغم
هو الجد حتى البعد للقرب سابق
وحتى الخوافي خلفهنَّ القوادم
وحتى ترى ما كان في نيله الرجا
صريمًا قد التفَّت عليه الصرائم
وهل يبلغ الآمال إلا مجاهدٌ
وهل يطرد الأهوالَ إلا مقاوم
وهل دون غاي الجهد تُدرك غايةٌ
ودون اخترام النفس تعنو المخارم
وكيف يرجِّي الوصل من ليس يمتطي
وكيف يزيل القرن من لا يصادم
ولا بد من غوص الفتى قصر لجةٍ
لتخرج غُرَّان اللآلي الخضارم
ومَن مدركٌ من فاته وهو قاعد
ومَن لاحقٌ من جازهُ وهو نائم
وما النفع من جيش تعبَّى صفوفه
إذا لازمت أغمادهنَّ الصوارم
فإن تمام الجهد للنَّجح واجبٌ
وليس يسوغ الصدُّ عمَّا يلائم
وإن المسمي العقل في المرء صاحبٌ
لعلم غدت منه عليه رثائم
فأجدِر بخلٍّ أن يصاحب خلَّهُ
ولا يترك الملزوم ما هو لازم
وللعقل طول العمر بالعلم صبوة
بلا سلوةٍ والإلف بالإلف هائم
أليفان لا ينفك كلٌّ متيمًا
بصاحبه تعيى لديه اللوائم
فإن عُدَّ حقًّا أفضلَ الناس عالمٌ
فأفضل منه عاقلٌ وهو عالم
وإن أمكنت من دون ذا العلم عزة
فبالعلم أسنى ما تسود العوالم
كما عزَّ بالعلم الأعارب قبلنا
فذلَّت وهابتهم لذاك الأعاجم
ليالي لا أملاك إلا ملوكهم
تُعَدُّ ولا تيجان إلا العمائم
تقدَّمَنا منهم رجالٌ تقدَّموا
وسادوا وما في القوم إلا ضبارم
رجالٌ مضوا لم تلههم عن علومهم
وشغل الورى غاراتهم والملاحم
لهم أشرقت تلك الديار وأزهرت
بأقطارنا أنجادها والتهائم
قد استخرجوا درَّ المعارف بالعنا
وموج العوادي حولها متلاطم
فمنم بآثار العدوِّ صوائفٌ
ومنهم لآثار العلوم معالم
لقد أوسعوا الأمرين فتحًا كأنما
مكارمهم في الحالتين مغارم
فغنَّت رهام الطير فوق رياضهم
وأثنت عليهم في النزال القشاعم
وسادوا العدى في كل أمرٍ فأصبحت
بأيديهمُ أمصارهم والعواصم
وأصبح منهم هؤلاء على الثرى
كما سكنت بطنَ التراب الأراقم
يخافون أمر العُربِ حتى كأنَّما
لِهيبتهم فيهم رقًى وطلاسم
ولم يكُ إلا العلم علة مجدهم
فجادهمُ ما لا تجود الغمائم
فمَن يعتصم بالعلم يُمسِ معَزَّزًا
ومن يُفتَتَنْ عنه تطأْه المناسم
إذا ما تأمَّلتَ الزمان رأيته
بكل نجاحٍ في العباد يساهم
فإن عُدَّ كسب العلم فينا فريضة
فكل جهالات الأنام محارم
وهل نرتضي ذا اليوم ذلًّا بتركه
إذا ساد فيه جيلنا المتقادم
لعمري لقد كانت لنا بجُدُودنا
مآثر في حقِّ القصور مآثم
فلا غرو أن نقتصَّ آثار مجدهم
طرائقُهم قدَّامنا والمناجم
ولِمْ لا نرجِّي كل فوزٍ وما لنا
سوى الفضل في جنب الزمان جرائم
ونعلم أنَّا إن نجِدَّ نجِدْ وذا
مجرَّبُ أمرٍ ليس فيه مزاعم
وكيف يُرى نَيل الفلاح بدونه
ويأمل دون الجدِّ ذا النَّيلَ حازم
بعصرٍ يفوت القوت فيه مُعِدَّهُ
ويعدم وِردَ الماء من لا يزاحم
وقد نهضت كل الخواطر للعُلا
وزادت جيوشًا في الصدور الشكائم
فكل فخارٍ ناهلُ الفكر حائم
له وعليه طائر الذهن حائم
فعزمًا بني الأوطان فالجهد واجبٌ
بذا وبحول الله فالنصر قادم
فقد قيَّض الرحمن فينا ذرائعًا
وقامت لهذا الفضل فينا دعائم
ويومٍ هو المشهور أيامنا به
مقلَّدة أجيادها والمعاصم
لدى مشهدٍ يستوقف الركب عن ظما
وتسكن من جَفْلٍ إليه النعائم
تناهب فيه الحمدَ من كل جانبٍ
كرام صنوف المجد فيهم مقاسم
بهم رجع الفضل الأصيل لأهله
وعادت إلى أصحابهنَّ المكارم
وهل ناجح بالأمر إلا رجالهُ
وهل ساجع بالأيك إلا الحمائم
وهل يتحرى الفضل إلا عميدُه
وهل تسكن الآجامَ إلا الضراغم
فسقيًا لروضٍ للمعارف ناضرٍ
بها وعليه عارض الفضل ساجم
لأطياره في العلم شدوٌ وإنما
به الطائر المحكيُّ في القول جاثِم
١٢٣
يضوع له في الأرض عَرْف معارفٍ
ثناءٌ على عرفِ الخليفة دائم
سلامٌ على السلطان أما مرامه
فنفعٌ وأما شُغله فالعظائم
سليل بني عثمان أما جداؤه
فغيثٌ وأما عزمه فلهاذم
أطاع له البرَّان شرق ومغربٌ
ودانت له في العدوتين الأناسم
له بين أعباء الخلافة في العُلا
صرائم إلا أنَّهن صوارمُ
أقام أمور العرش بعد تظاهرت
عليه خطوب للظهور قواصم
وقام بأمر الملك حق قيامِه
يدافع عنه تارةً ويهاجم
فسدَّ ثغور الملك بعد انثلامها
وجاز إلى دار الوغى وهو ثالم
وأحكم إجراء العدالة في الورى
وعمَّت له كل العباد مراحم
فيومًا تراه وهو للرزق قاسمٌ
ويومًا نراه وهو للخطْب حاسم
يسهَّد جفنًا لا يطيب له الكرى
وفي أرض عثمانٍ ظليمٌ وظالم
فلا زال بدرًا نورهُ متكاملٌ
وغيثًا علينا وَدْقه متراكم
يعيد لنا عزَّ الخلافة عهدُه
ويغتبط الإسلام إذ هو سالم
تضيءُ على الدنيا مطالع شكرِه
وتعطر فيه بالدُّعاء الخواتم
من الدهر تشكو أم على الدهر تعتب
وما صاحب الأيام إلا معذَّبُ
شكيٌّ بلا قاضٍ شجيٌّ بلا أسًى
إذا بات في دنياهُ يعتبُ يعتبُ
يلاقي الأسى في صدره كل مذهب
متى ضاق عنه في البسيطة مذهبُ
هو المرء في كف الزمان مقلبٌ
يقاسي عذاب الموت والدهر يلعبُ
تولَّد في الدنيا حليف مصائبٍ
فلم يُغنِ عنه حرصه والتجنُّب
يصاحبها وهي العداة وإنه
لخسفٌ بأن تشنا الذي أنت تصحب
إذا نقصت من كل عزٍّ حظوظهُ
فأسهُمُه من نكبةٍ ليس تغلب
طريد ليالٍ بات في كفِّ طارد
ومطلوب دهرٍ عند من هو يطلبُ
فبَيْنا يسامُ الخسف من كل وجهة
إذا هو في بطن الضريح مغيَّبُ
فلله يا دنيا حياتك كربةٌ
وفيكِ غراب البَيْنِ ما زال ينعبُ
رأيتك محض الغشِّ في محض قدرةٍ
فلا منك رهبان ولا فيك أرحب
وإني وإن ضاقت عليَّ مذاهبي
لديك فصدري من فنائكِ أرحب
أرى بك من نكدي وصبري عجائبًا
وأعجب من حالي وحالُك أعجب
فهل فيك ضيمٌ مثل بُعد أحبتي
مضى ذلك الأمر الذي أتهيَّب
بكيت عليه وانتحبت لياليًا
فلم يُجْدِني ما كنت أبكي وأنحب
فكم ليلةٍ منها قضيت مسامرًا
نجوم السما طورًا تضيء وتغرب
إلى جانب الورقاء تندب في الدجى
شجيَّين طول الليل نشكو ونندب
تشبُّ شرارات الأسى بترائبي
ويطفئها من ماء عينيَّ صيِّب
وقد كنت لا أبغي خمود صبابتي
وأزجر طرفي إذ يجفُّ وينضب
بصدري حرُّ الشوق بردٌ يلذ لي
وعندي ورد الدمع واللهِ طيِّب
أبى الله أن أهوى السرور وإنني
على غير صوت النوح أشجي وأطرب
لئن عذُب التعذيب لي قبل ذا النوى
بوجدي فهل بعد النوى ليس يعذُب
فيا ليت شعري هل أرى الدهر مرةً
لدى غفلةٍ عن نكبتي يتنكب
أليست لتصفو منه يومًا سرائر
فيحلوَ لي طعمٌ وينساغ مشرب
أما تحفظ الأيام مني وقيعة
وتغضب مني مثلما أنا أغضب
فقد طال وصفي نكدها غير كاذب
ألا ليتها تسعى بردٍّ وأكذب
فتبًّا لها من مصميات سهامها
ولا ينفع الإنسان منها التأتُّب
هي الدُّجن أمَّا صاعقات خطوبها
فصدقٌ وأما البرق منها فخُلَّب
قضى قبلنا الكندي
١٢٤ أحمد حقبةً
يعنِّفها في شِعره ويؤنب
على أنها الدنيا إذا شئتُ وصفها
وإن لم أشأ تُمْلي عليَّ وأكتب
وإني وإن لم تُحْيني غير صبوةٍ
فكم ناشني منها إلى اليوم مِخلبُ
سأشكرها إذ إنها مذ حداثتي
لقد عوَّدتني الصبر وهو محبَّبُ
وقد نجَّذتني الحادثات وأدَّبت
وليس كمثل الحادثات مؤَدِّب
ولكنها مني تمارس شدة
وقد عجمت عودي فعودي أصلب
وما عدمت من شدةٍ وبراعةٍ
ولكنَّ من لاقت أشدُّ وأنجب
ولكنه لا نفع فيها لصابرٍ
إذا لم يكن منها لَعَمرك مهرب
مُحاكية للبحر تعلوهُ جيفةٌ
وفيه نفيس الدُّر في القعر يرسب
فيعدم فيها الحظَّ من يستحقه
ويُحرَم فيها الكسبَ من يتكسب
ويحظى بها بالجدِّ من لا يرومه
ويُشوى بها بالسهم من لا يصوِّب
إذا الحق لم يصبح على الكل سائدًا
فليس لحرٍّ في البرية مأرب
وإن عدم الحقُّ المبين نصيره
فما يرتضي بالعيش حرٌّ مهذَّب
وإن لم تكن فينا على الخير عصبة
ففيما سواه ساء ما نتعصَّب
فليس بمغنٍ للكريم اتساعها
إذا كان فيها الحق كالمال يُنهب
لكَم بتُّ أنضي همَّتي لأقيمه
وأُظهرَه في بعض أمرٍ ويُحجب
فما زال للأبصار تحت ستائرٍ
إذا زال عنه غيهبٌ جنَّ غيهب
فقد قلت ما قد قلت لا عن مآرب
أجَلُّ أنا من مثل ذاك وأحسب
وإني من القوم الذين همُ همُ
إذا غاب منهم كوكب لاح كوكب
عتاق المعالي قد تسامت جدودهم
على الشمِّ ممن أنسل الشيخ يعرُب
لهم نسبةٌ في أقعس المجد عرقها
له منزل فوق السماك مطنَّب
وأصحابهم فيها الفصاحة والحِجَى
وبذل اللُّهى والمشرفيُّ المذرَّب
بدور إذا الهامات بالبِيض عُمِّمت
ليوث إذا الهامات بالبِيض تضرب
بحور إذا الأرزاءُ ألقت جرانها
غيوث إذا الأعوام في القوم تجدب
فياصل حق بالبيان وتارةً
فياصل إذ دار الأصمُّ المكعب
لهم حسَب يحكي الشموسَ وضوحُهُ
يزاحم منه منكب الشمس منكب
فإن كنت منسوبًا إليهم فإنها
إليهم لَتُعزَى المكرمات وتُنسَب
فدون انتساب المرء للمجد والعُلا
لَعَمرك لا يغنيه أمٌّ ولا أب
فما دمت حيًّا في الزمان فلم تزل
عليَّ حقوق ليس منهنَّ أوجب
أهمُّ بأشياءٍ كبارٍ ودونها
من البعد في ذي الحال عنقاء مغرب
أرى الفتح يدنو كلما أنا ساكنٌ
ويبعد عني كلما أنا أقرب
وقد غادرَتْ قلبي العوارض حائرًا
هو القلب من تلك الحوادث قُلَّب
توارد أنواعًا كثارًا وكلها
تؤثِّر في القلب اللطيف وتنشب
وقلت متغزلًا بالحُسن المعنوي مفتخرًا بأصحابه:
مال الصِّبا بعواطف النشوان
ميْلَ الصَّبا بمعاطف الأغصان
ولوى الغرام عنانه نحو اللِّوى
وبدا الحنين لأبرقَ الحنَّان
وهوى الهوى بالقلب بين أعقَّةٍ
ومتالعٍ ومطالعٍ ورعان
فغدا يراوح من معاهدها التي
في نجد بين معالمٍ ومغان
يأتي اللصاب من الشعاب وينتحي
من منزل الجرعا سفوح البان
في كل منعطف وكل ثنيةٍ
يبدو له شجنٌ من الأشجان
ويح المحب لقد تهتَّك في الهوى
فرعاه في سرٍّ وفي إعلان
أجرى العقيق بطرفه وبنى بأو
تاد الضلوع مضارب الكثبان
صبٌّ ألمَّ به الهوى فمضى به
للحُسن تحت أسنَّة الخرصان
أنذرته سوءَ المصير فقال لي
إن الصبابة عزَّة الفتيان
أطلقت للقلب العنان فهِمْتُ لا
ألوي ولست لذا العنان بثان
لهفي عليه عدت بمهجته الظِّبا
حبًّا إلى حيث الظُّبى بمكان
بين البوارق والصفوف زواحف
تحت البيارق والرماح دوان
طلب المحاسن في الخيام ودونها
ضرب يطيح سواعد الشجعان
وإذا هوى نجد تحكَّم في فتًى
جعل الردى في حيز النسيان
•••
هيهات ليس لعاشق أمنية
يسعى إليها في طريق أمان
وإذا العواسل دون معسول اللمى
يزداد معها القلب في الخفقان
وإذا الخدودُ القانياتُ تعرَّضت
للحب سال لها النجيع القاني
وإذا الأسود وقد تردَّت في الحمى
صرعى أمام كوانس الغزلان
وإذا رجالُ كتائب النعمان قد
ذلَّت لعز شقائق النعمان
وإذا الأعز الأيهم الغسان قد
أمسى رقيق الأهيف الغساني
حالٌ تطيش بها العقول وربما
أخبت ذكاء ثواقب الأذهان
تُعيي فؤاد الأحوذيَّ كأنه
مما أصيب صريعُ خمرِ دنان
ما إن يقاوم بأسها بطل ولو
حازت يداه عزة العُقبان
تغشى مقاصير العظام ولم تكن
عنها تعز مناسك الرهبان
عمَّت فإن فاتت عديم القلب بالـ
ـوجدان ما فاتته بالبرهان
لكنَّ ما أودى بعُذرة حبه
لم يختلف بشعوره إثنان
وترى القلوب على المحاسن أقبلت
مثل الدِّلاء جُذبن بالأشطان
وترى إلى وصل الحبيب حنينها
يحكي حنين النُّجب للأعطان
كيف الخلاف وللفؤاد تأثُّر
بجميع ما مرت به العينان
أو كيف لا أهوى الجمال وقد بدا
من نور ذاك العالَم الرباني
عين الوجود اللامع النور الذي
ما لاح مثل سناه للأعيان
العاقب الإكليل مصباح الهدى
والصادق المبعوث بالفرقان
هو أحمد المحمود من في حله
كنف الوجود تشرَّف الثقلان
فالله يشهد أن طه المجتبَى
هو خير من سارت به قدمان
واذكر صحابة صاحب المعراج مَن
حازوا السباق بأول الميدان
الراشدين العاملين إلى الهدى
والناشرين شريعة القرآن
هم عصبة الدين الحنيف وشيعة الشَّـ
ـرع الشريف وفتية الإيمان
تلقى أبا بكرٍ بصدرهم انبرى
يهدي الأُلَى رجعوا إلى الكفران
وترى أبا حفصٍ يقيم المسجد الـ
أقصى بهمَّته على أركان
يرمي الممالك بالجيوش وقد غدت
في قبضتيه شواسع البلدان
ضرب القياصرة العظام بصارمٍ
أنسى البرية «سيفَ» في غمدان
فعنت له بالرغم شُمُّ أنوفهم
وخَلا له كسرى من الإيوان
وأباد فارسَ سيفُ سعدَ وأذعنت
مصرٌ لعمرٍو أيَّما إذعان
وقضى الإله علاءَ ذادة دينه
بالنصر والجيشان يلتقيان
فالهَدْيُ فيهم ضاربٌ أطنابه
والحق ملقٍ في الورى بجِران
والدين تعصف بالممالك ريحه
عما يُزِلُّ مواقف البهتان
بجهاد قوم أصبحت أعمالهم
أبدًا بجِيد الدهر عقدَ جُمان
فيهم أبو الحسنين صفحة سيفه
فجرٌ ينوِّر ليل كل طِعَان
قد كان ليث عرينه وفؤاده
بحقائق الأكوان بحر معان
وافى منازل في العلوم تقطَّعت
عن دركهنَّ نِيَاط كل جَنَان
فلكَم حوَت تلك الصحابة سادةً
غرًّا من الأنصار والأعوان
صرفوا إلى الأرواح جُلَّ عنائهم
وتجانفوا عن خدمة الأبدان
أسياف حقٍّ بالهداية قطَّعت
بين العباد هواديَ الأوثان
حقَّ الفخار بهم لكل موحِّد
لثبوت مجدهمُ بكل أوان
فاذكر فتوحات العقول برشدهم
تهدي لحقِّ العلم والعرفان
واذكر لهم فتح الممالك في الورى
من كل ناحية وكل لسان
من مشرقٍ ذاق النكال ومغربٍ
طلعت عليه كواكب الفرسان
هم قدوة للعالمين بها اهتدى
شُمُّ المعاطس في أولي السلطان
أهل الخلافة من بني العباس من
بعد الخلائف من بني مروان
بلغوا جدار الصين من جهةٍ ومن
أخرى تخطَّوا شاهق البيران
وترى حذاءَ فروقَ وقْعَ سيوفهم
وتجاوب الأصداء في السودان
والغزنويةُ يوغلون بزحفهم
في السند آونةً وهندستان
وبنو أمية في الجزيرة حكَّموا
أمضى ظُباهم في ذوي التيجان
وانظر بني أيوب لما أعملوا
في المعتدين عواسل المرَّان
وصلاح دين الله أنزل بطشه
بالقوم في حطِّين كل هوان
ولواء يوسف تاشفين بمغربٍ
خرَّت له الأعداء للأذقان
ثم السلاجقة العظام وإثرهم
أصوات ضرب الصيلم العثماني
سيف الصناديد المساعير المغا
وير القروم المعشر الغرَّان
ما كان ينضى في وغًى إلا ملا الدُّ
نيا برعب صليله الرَّنان
سل عنه عثمان القديم وإن تَمِل
لزيادةٍ فاعطف على أرخان
وانظر مراد وبايزيد بغربه
قادا الأعادي كلها بعران
وارمق أبا الفتح الأعزَّ محمدًا
أخنى على جرثومة الرومان
في مأزقٍ والجانبان تصادما
وتقابل البرَّان والبحران
والخيل باشرت البحار فردَّها الـ
ـفرسان فامتنعت على الأرسان
والبِيض تخطب في الرءوس رواكعًا
طَورًا وتنطق ألسن النيران
حتى تصاغرت البلاد لأمره
واستسلمت ليديه مثل العاني
وغدا سليمٌ ربُّ كل أيالة
في الشرق محميًّا به الحَرَمان
وأتى سليمانُ الزمان بفيلق
خضعت له الأفلاك في الدوران
مادت لهيبته البسيطة ميدة
لم تبقِ من أُحد ومن ثهلان
وسعت عزائمه الزمان وقائعًا
من كل حرب في العداة عوان
تفدي بني عثمان كلُّ قبيلة
في الأرض أبرزها لنا العصران
حملوا الخلافة والبلاد طرائق
في كف أهل البغي والعصيان
فغدت وقد صارت لهم أطرافها
تيهًا تجر ضوافي الأردان
ولهم بها العدل الذي أبدى لنا
كيف استواء الشاة والسرحان
حقٌّ إذا ما أمَّنوا فيه الورى
ردوا غرارهمُ إلى الأجفان
فبمثلهم فلنفتخر وبهديهم
فلنهدِ بعد تقاعدٍ وتوان
في السالفين من الأفاضل عبرة
تجلو المراء بأقصر الإمعان
في كل يومٍ من برازخهم لنا
داعٍ ينبِّه خاطر الغفلان
أوَلا نجيب ونحن أحيا في الورى
يومًا نِدا الأجنان في الأجنان
إن نعتذر بزماننا وطباعه
فهي العوارض لم تخصَّ بآن
إن المبادئ لا تزال فواعلًا
ما بين ما يتعاقب الملوان
فيها يكون إلى الحصول توسُّل
وبدون ذلك علة الحرمان
يغدو الزمان بها على أحواله
بالناس من زيدٍ ومن نقصان
والعقل لا يعنو لحالاتٍ إذا
ما شاء أوقعها بحال تفان
وإذا تحصلت الشجاعة لم تكن
عند المحصل غاية الإمكان
فلنعملَنْ؛ فالرأي في نيل المنى
هو أولٌ وهي المحل الثاني
أقلُّ عذابي ما تصاب مقاتلي
وأضْيع نصحي ما تقول عواذلي
وأسعرُ ناري ما تُكِنُّ جوانحي
وأهدأ حالي ما تهيج بلابلي
تفيض دموعي كلما لاح بارقٌ
وتطرب من مرِّ النسيم شمائلي
وإني لتشجوني الحمائم إن شدت
على عَذَبات البان عند الأصائل
سواجع بالشكوى ينُحنَ على النوى
نواعم لا يعرفن غير الخمائل
يبكِّين أوقات الصفاء التي خلت
وأبكي لأيام الصَّبَاء الرواحل
وإني لصبٌّ لم أزل أندب اللقا
بدمعٍ طويل الذيل هامٍ وهامل
حنيني إلى عهد الوصال وأهله
وسهدي على هجر الخليط المزايل
ولكنه قد رمَّث الحب مهجتي
وروَّق إعنات الغرام مناهلي
تفردتُ في طبعٍ إلى الحب نازع
وقلب على حُكم الصبابة نازل
فيُطربني همس القصائر في الحمى
ويُعجبني في الرمل هدي المطافل
وأهوى لِحَاظ العين معسولة اللمى
وأعشق ربَّات الخصور النواحل
وأختال في غي الهوى غير عابئ
وأمرح في بذخ الصبا غير سائل
وإني ليجري في جناني هوى الحمى
وحب الدمى مجرى الدما في مفاصلي
فيا ظبية الكثبان حُسنك فاتِني
ويا غادة الجرعاء حبك قاتلي
ويا هذه الأعطاف رمحك طاعِني
ويا هذه الألحاظ سحرك بابلي
ويا عاذلي أقصِر فلست بوازعي
أطلْت بتعنيفي على غير طائل
سأمنع عن عيني لأجلك نومها
وأَقسِم ما تبكيه بين المنازل
وأجري بمضمار الهوى متهتكًا
أُجرِّر في شوطي فضول الغلائل
لأعشق حتى ليس لي من معادل
وأكلَف حتى ليس لي من مماثل
وأرهن هذا القلب للغيد والمهى
وأجعل هذا العقل مهر العقائل
وما الحب إلا خلق كل مهذب
وما الوجد إلا شأن كل حلاحل
وما الحسن إلا دون كل عرينة
وما الوصل إلا في مجال الغوائل
إذَنْ كل طرف ذابلٍ عند ذابل
وكل قوام عاسل دون عاسل
تجُول جياد الخيل في كل عرصة
وأُنضي إليها كل يوم رواحلي
وتحمي سيوف الهند عن كل كلة
لقد طالما علَّقت فيها حمائلي
أزور خيام الربع غير موارب
وأغشى ديار الحي غير مخاتل
وإني من الشعب الذين إذا سعوا
يجلُّون قدرًا عن حئُول الحوائل
ألم ترهم بالأمس حزمًا وقوة
مفاعيلهم في الأمر قبل المَقاول
فما آجلٌ يرجونه غير عاجل
وما عاجلٌ يأبَونه غير آجل
لقد خيَّبوا آمال كل مُعارض
وقد زلزلوا أقدام كل مُنازل
بشُقرٍ سراحيب وسُمرٍ ذوابل
وبِيضٍ أصاليتٍ وصُفرٍ عياطل
غداة بلاد الناس شرقًا ومغربًا
أطلُّوا على أقطارها بالجحافل
لقد دكدكوا الأجبال فيها وشيَّدوا
سواهن شُمًّا من غبار القساطل
سقَوا تربة الأرضين سهلًا ومرقبًا
من الدم بالأنهار لا بالجداول
أطاروا قلوب الكاشحين وأرقصوا
فرائصهم من كل حافٍ وناعل
وقد سحقوا بطشًا رءوس عداتهم
وقد نزَّلوهم من رءوس المعاقل
فما زال منهم باخعًا كل عامل
وما زال فيهم عاملًا كل عامل
إلى أن ولوا بالسيف أقصى بلادهم
فلم يدَعُوا فيها مجالًا لجائل
فهم خير مَن في الأرض سلُّوا صوارمًا
وقادوا عتاق الخيل قب الأياطل
وهم خير من ضمُّوا اليراع إلى القنا
وهم خير حدٍّ بين حق وباطل
لقد نشروا العلم الحقيقيَّ في الورى
على حين تغلي الحرب غلي المراجل
وقد خطبوا في الأرض بالحق من على
منابر عزٍّ من متون الصواهل
أزالوا سفاهات الشعوب وقابلوا
سفاسفهم بالمكرُمَات الجلائل
وشادوا على تلك الرسوم حضارة
أقيمت على أس التقى والفضائل
فأصبح منهم عامرًا كل غامر
وأضحى لديهم ممرعًا كلُّ قاحل
زها ونما نبت الوشيج بأرضهم
وفي مدنهم زادت فنون الصياقل
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
وإلا فهم في الأرض خير القبائل
رجال لديهم راق جمع مناقبٍ
عفاف وإقدام وحزم ونائل
بدور بآفاق الزمان أوافل
نحيبي على تلك البدور الأوافل
أقاموا زمانًا ثم مرَّ عليهمُ
عُتُوُّ الدواهي والليالي الدوائل
زمانًا قضوه بالعلاء ولم تكن
ليالي عُلاهم بالليالي القلائل
كذلك قد كانت أوائل قومنا
ألا ليتنا نبني بناء الأوائل
ونُحيي رسومًا غادروا لاعتبارنا
فأصبح منها دارسًا كلُّ ماثل
أمَا نحن من حازوا الغنى بعقولهم
وجادوا على كل الورى بالفواضل
وقد كان منا كل ندب مجرب
بنور الحجى جالٍ دياجي المعاضل
وكل همام مشبع الحِجر راشد
موفق آراءٍ دليل مجاهل
وكل إمام كالغزالي وَهْو من
إذا قال لم يترك مجالًا لقائل
وكل حكيم كالرئيس الذي جرى
وخلَّى أرسطو خلفه بمراحل
وكل أريب كابن رشدٍ ومن على
هداه وكالرازيِّ ند الأوائل
فبالشرق منا كالرشيد وقومه
وبالغرب منا ناصر بعد داخل
١٢٥
ولا تنسَ في وادي الفرات وجلَّق
وفي مصر آثار الصلاح وعادل
١٢٦
ولا سادة منهم محمد
١٢٧ جاعل
بقبضته البرَّين دون مُطاول
لعمري إذا ندري الأمور فإنما
زوال العنا بين القنا والقنابل
وغر العُلا فوق العوالي دواميًا
ونيل المُنى دون المَنى والمناصل
لنِعمَ نداء الحرب في كل أمة
أناخ عليها دهرها بالكلاكل
لينشر من أكفانه كل ميت
ويوقظ من تهويمه كل غافل
فذلك أمر لا يزال مجددًا
نشاهده فليذكرَنْ كلُّ ذاهل
إذا ضاق عنه النثر فالبحر واسع
بنا والقوافي رافدات الفواصل
وكتبت إلى السيد جمال الدين الأفغاني — رحمه الله:
وقلت، وكتبت بها إلى الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده:
وقلت أمدح الأمير الكبير علي باشا صاحب تونس الخضراء، وأقرظ تأليفه المسمى بمناهج
التعريف في أصول التكليف:
باتت سعاد على ذا كله وغدت
تضفو عليها من النعمى سرابيل
إذا تمرُّ الصبا في خدرها غلسًا
راحت عليها من الريا مثاقيل
كذاك حتى إذا شمس الضحى طلعت
قامت ومنها وشاح الصدر محلول
قامت سعادٌ تحيِّينا فما قمر
على قضيب على الكثبان محمول
جلَّت محاسن ما يُلفَى لها مثل
وما لملتَمِسٍ منهنَّ تنويل
نقول بدر وغصن كي نشبِّهها
وإنما قولنا يا صاحِ تمثيل
فلا يغرَّنْكَ في مثلٍ لها طمع
فدون أمثالها العنقاء والغول
حتى إذا شغف القلب الذي اجتذبت
«بانت سعاد فقلبي اليوم متبول»
يحاول الجهد كي يقتص مدرجها
وهل يطيق تباع العيس مغلول
تجوب جوز الفلا في كل ناحية
تزل عن متنها رقطاء زهلول
مرثومة بالبرى خلَّت مخاطمها
جذبًا كما غودر الثوب الرعابيل
فاعطف على طللٍ بالجزع إنَّ دمي
منها على طلل بالجزع مطلول
كانت لنا غر أوقاتٍ مضت معها
والخطب منهزم والهم معزول
تلك الليالي التي ما بِتُّ أذكرها
إلا شجيتُ وبي اهتاجت عقابيل
كنا نهيم بها والعمر مقتبل
والعيش غض ورَبع الأُنس مأهول
في كل وادٍ من الآرام ليس به
إلا أغنُّ غضيض الطرف مكحول
أما الليالي فقد عادت وهنَّ بنا
من بعد ما كنَّ أطفالًا مطافيل
ولَّت سعاد وبدلْنَا بها جزعًا
وكل شيء له في الأرض تبديل
فلا يغرَّنْك من دنياك زخرفها
فما زخارفها إلا الأباطيل
إنَّا نزلنا على وادي تضلل قد
تدفَّقت من حوالينا الأضاليل
يمد في كل يومٍ للورى شَرَكًا
والناس منهم به ناجٍ ومحبول
فمن سعى عن طريق الغي مبتعدًا
فحبل مسعاه بالخيرات موصول
ومن تهافتَ عمدًا في ضلالته
فليعلمنَّ فعرش الكفر مثلول
كم زلزل الله من قوم لكفرهِمُ
قدمًا وأُهلِك جيل قبله جيل
فليس تبرح للرحمن حامية
لتزهق البطل إن البطل زحليل
هل باي تونس إلا السيف جرَّده
في الأرض ربي فحدُّ البغي مفلول
فاليوم للرشد بين الناس واسطة
وللتعسف والإلحاد تذليل
بكف أبلجَ ميمون مطالعه
فخم الجناب وقَيلٍ قيله القيل
أشد أوسع مَن في ذرعه سعة
طولًا وأطول من في باعه طول
مشبوب عزم بحسن الحدس متَّقد
فؤاده وبحب الله مشغول
يلاحق القصد بالتسديد منتهجًا
إذا انتحت هدية الساري العواقيل
إذا تغضف جنح الخطب معتكرًا
فما على غيره في الكشف تعويل
من معشر المؤمنين الغر محتده
لدى عمامته تعنو الأكاليل
وقلت في الأستاذ الشيخ محمد عبده أهنِّيه بالأضحى:
ولي تهنئة للشيخ محمد عبده بزفافه في بيروت، وهي بنت ساعتها:
ماذا يحاول مثلي في قوافيه
وإن تكن جُمعت كل القوى فيه
من مدح مَن حين لاحت لي مكانته
من العلا لم أصوِّب رأي مدحيه
تعنو المعاني لديه وَهْي صاغرة
كأنها في البرايا من جواريه
تأتي سواه فتسمو فوق هامِهمُ
وتنتحيه فلا ترقى مَواطيه
ربُّ المقام الذي باتت تحفُّ به
غرُّ الفضائل تُعليه وتُغليه
قد حازه والليالي من موانعه
من دونه والعوادي من عواديه
بفكرة ما انتضى في الخطْب صارمها
إلا تمكَّن قطعًا من هواديه
أذلَّ كل جماح للزمان بها
ولا حسام ولا رمحٌ يروِّيه
وإنما الفكر إذ صحَّت مبادئه
عن الجيوش غدا والله يغنيه
فهو الذي كل رأي منه منبلج
في الروع عن كل فجر في حواشيه
من يكشف الأمر خافيه كظاهره
ويبلغ القصد قاصيه كدانيه
ما إن جلا علمه في مطلب لبك
إلا وأسفر صبحًا عن دياجيه
مجددٌ روحَ هذا الدين منعشها
من بعد ما بلغت منه تراقيه
من منه دهرك ماضيه وحاليه
مقلد جِيده بالفخر حاليه
آلى على نفسه ألا يفارقها
إلا على مبدأ للدين يحييه
فسل نجوم العلا عن شأو همته
والشرقَ والغربَ فاسأل عن مساعيه
لا أختشي إن أقُلْ من ذا يساجله
من ذا يساوره من ذا يساويه؟
إذ ينتضي قلمًا كالعضب يُظهره
على حسام صقيل الحد ماضيه
أو إن يقُلْ كَلِمًا تغدو وقائلها
ذا البحر يزري وذي تزري لآليه
فليس تتلو الورى من قوله غررًا
إلا ونادَوْا جميعًا جلَّ باريه
نالت فؤاديَ رغباه فوائده
وبلَّغتنيَ آمالي أماليه
يا ليت مقدرتي في وصف حكمته
كانت تعادل بين الناس حُبِّيه
فكنت أشعَرَ أهل الأرض قاطبة
إذ بتُّ أهْيَمهم من فطرتي فيه
لكنني دون ذا مَعْ ذاك معتمد
على مقالة أن الفعل أنويه
إني امرؤ لم تكن تُحصى مطامعه
ولم يخلْ في الورى شيئًا ليكفيه
حتى رآه فأمست دون مبلغه
من كل مأثرة صرعى أمانيه
وإنه والذي سوَّى محمد مَن
لم أرضَ عن ناظري حتى أرانيه
فهو الهمام الذي فخر القلوب به
إذا ابتدا اللب يروي عن معانيه
المسترقُّ قلوبَ الخلق مَنطقه
إذا أفاض فلا حرٌّ بِواديه
وقد غدا طالب التأهيل عن رشد
وشيمة الحُر تأبى غير أهليه
آتاه ربي من النعمى موفَّرها
إذ يمنح الفضل ربي مستحقيه
أراه أنجال إنجاب وأسعده
بخفض عيش رفيع الشان ساميه
ومد في عمره ذخرًا لملَّته
بالذود عن حرم الإسلام يقضيه
فهو الذي في الورى غرَّان أنعمه
قد أنطقتني ارتجالًا في تهانيه
ولي رثاء لحرم واصا باشا متصرف لبنان، وهي من نظمي يوم كنت في الرابعة عشرة من
العمر:
أتنكر نبذ الصبح فيما تحاوله
بعذل وباكي العين جارت عواذله
وتحجو انصباب الدمع ويحك منكِرًا
إذا دبجت خضر الروابي هواطله
فأروِدْ فأقصر — عمرك الله — واتَّئد
فأنأى من العنقاء ما أنت آمله
تحاول تجفيفًا لدمعي كعامد
لتجفيف بحر محور الأرض ساحله
وإطفاءَ نارٍ بالحشا مثل من أتى
لظى سقر يطفي الصلا وهو آكله
أيا لائمي في الحزن كِلْني للأسى
شجيًّا فقد طابت لديَّ مناهله
ولا تتعبَنْ أو تعتبَنْ حيث لم أَصِخ
فهيهات إصغائي لما أنت قائله
عذلت بما قد ظلْت تجهل همه
ألا فاعذلنِّي بالذي أنت عاقله
ولو كنت تدري ما الرزيئة لم تَلُم
ولكنما يستصغر الأمرَ جاهلُه
مصاب بدت للموت فيه شدائد
بما لم تكن تدريه يومًا غوائله
به ذهب اليوم الردى كل مذهب
كأن الردى لم يدرِ ما هو فاعله
أزال بأفق المجد شمس فضيلة
تميد بها من ذا الزمان جلائله
عقيلة صون قد أصيب بها العُلا
على مثلها مات العلا وعقائله
تعطَّل خسفًا جِيد ذا الدهر بعدما
تحلى بها دهرًا من الدهر عاطله
مضت فمضى منها إلى الله ممتعًا
بنعماه شخص لا تُعدُّ كمائله
فقامت لها في كل حي نوادب
لحسن ثناءٍ يفعم البرَّ نائله
ألا إن لبنان الأغرَّ تخضَّبت
رُباه دمًا مما بكته قبائله
تمثَّل دكُّ الطُّور في صعقاته
دمادمه مما تميد معاقله
أمصرعها يوم الثلاثا وقد سرى
بها نعشها كالفُلك والدمع حامله
تصعَّد فيه الناس كل شرارة
بما فيه قد ساوت ضحاه أصائله
فيا قبرها في الحازمية فوقه
غطاء من العفو المهيمنُ سادله
سقتك شآبيب الرضى كل غدوة
وظل الحيا ينهلُّ فوقك وابله
أراحلة من عالم الموت للبقا
ويا حبذا من ذلك الحي راحله
لك الله بالصبر الذي قد قضيته
بداءٍ مدى السبع السنين يناضله
تَخِذت الليالي النابغية مألفًا
فما شأن طرفٍ حالك الليل كاحله
وتصبر حتى أصبح الداء عندها
أواخره قد سوِّيت وأوائله
فويح الردى كيف انبرى لاختطافها
ولم تدمَ مذ مُدَّت يداه أنامله
تخرَّمها لا يرهب البأس من حمى
وزير وفَتْ أسيافه وعوامله
فلم يتهيَّب للوزير بسالة
تسامت ولم تغنِ الوزيرَ مناصله
أقام السرايا فوق لبنان تنجلي
فأين السرايا للحِمام تنازله
أصيب لعمر الله ليس تفيده
فتيلًا على درء المصاب جحافله
ولا غرو فيه من مُصابٍ معظَّم
فما واثبَ الضرغامَ إلا مماثله
وإنَّ الذي جلَّ الزمان بفضله
لأحرى بأن هانت عليه نوازله
لقد جلَّ أن يخشى من الدهر بأسه
بل الدهر يخشاه فليس يعادله
وزير إذا قلَّ الثناء فإنما
شمائله بالإلتفات شوامله
هنيئًا للبنانٍ به أنَّ ذكره
يضوع بأذكى ما تضوع خمائله
تولاه واصا حيث واصى أياديًا
تواصي الثنا طول المدى وتواصله
فدنياك طرًّا لا تطِع باعث الأسى
فإنك لا يعينك في الخطب هائله
وإن الذي قد صلَّتته يد القضا
حسامٌ غدت أمْرَ الإله حمائله
فهل في قضاء الله تنجيك حيلة
إذا نصبت للإقتناص حبائله
وهل كل شأن مبتغيه وسائله
يصحُّ به فيما يروم وسائله
فجدلت ذا العدوان بالسيف عنوة
ولكنَّ هذا الموت ليس يشاكله
فعطف على المكروه نفسًا فإنه
قضاء عميم مقصدات مقاتله
فمثلك لا يعنو لأثقال نكبة
على أن حزم الرأي إذ ذاك كاهله
ومثلك في لبنان همَّته انتضت
فوائف ما كانت تُرجَّى أواهله
نشرت لواء العدل فوق هضابه
خفوقًا بآلاءٍ غدت لا تزايله
فدمت عليه واليًا تُسعد الورى
كما دمت جودًا فيه يخضرُّ وابله
أدِر لنا راح تذكار الحمى أدِرِ
وصف لنا اليوم مَجلى سفحِه النضر
وارمق سناوته وانظر سماوته
ترى دراريَّها تزدان بالدُّرر
ترى قباب السنا في الأُفْق صاعدة
على أساطين نور ناثر الأكر
أنعِم بها ليلةً لبنان تاه بها
وبات يرفل في ثوبٍ من الحُبُر
جاد الزمان بأهليه بطلعتها
من بعد ظنٍّ بها في سالف العُصر
كأنما كان منذ البدء حاملها
حتى تمخَّضها ذا اليوم عن كبر
يَزين قبَّتها نورٌ وساحتها
نَوْرٌ فتزهر بين الزهر والزهر
حتى كأن ضياها امتد متصلًا
بيومها وكأن الأرض لم تدُر
مشاهدٌ كملت أنوار زينتها
ما بين منتظمٍ منها ومنتثر
يكاد لبنان أن يهتز من طرب
وأن يميس بما يحويه من مدر
عمَّت بذي البهجة العليا مسرَّته
جميع أهليه من بادٍ ومحتضر
تأرَّجت من ثنا المولى الوزير لنا
أرجاؤه بأريج ضائع عطر
هو الوزير الذي ما شئت من وزر
منه على دهرنا ألفيت من وزر
أقسمت ما دام منه الخير منصرفًا
إلى العباد فما زند الزمان وري
كنا نحاذر دهرًا قبل همَّته
فالآن نحن وما نبقى على حذر
يرتد عن مجده الوضَّاح منكسرًا
طرفٌ عن الشمس أضحى غير منكسر
بدر ينير على الأقطار قاطبة
بحرٌ سواه جميع الناس كالغُدُر
مهذب تبخع الجُلَّى لحكمته
يرى ويمضي مضاء الصارم الذكر
مؤيد سنة العدل التي شرفت
ورافع راية الإرشاد في البشر
طافت بكعبته الآمال واعتمرت
وليس إلا البنان الرطب من حجر
إلى مكارمه الآنام واردة
تترى ولكنه ورد بلا صدر
باتت تحدث عن معنى سماحته
وعدل أحكامه الغرَّاء عن عمر
أبدى فأيَّد أيدي المكرمات بنا
جودًا كما كفَّ كف الرُّزءِ والغِيَر
أين الرزيئة تجتاح العباد فقد
رمى بها بين سمع الأرض والبصر
له بكل مكان كل مأثرة
غرَّاء معلومة الأحجال والغرر
إذا أفاض على العافي مواهبه
أزرى بغيثٍ من الوطفاء منهمر
وإن سطا بطعانٍ مل من يده
قرى الوشيج وغرب الصيلم البتر
يا من لتأييد علياه وسلطته
تدعو الرعية في الآصال والبكر
بك انقضت غصة الأيام وانكشفت
صروفها بالزمان الأخضر النضر
لك الأيادي على لبنان ترسلها
سحبًا على رائح فيها ومبتكر
لكَم رأبت له صدعًا وكم شعث
لممت فيه وكم قوَّمت من صعر
سقيته الغيث من رغد ومن دعة
كذاك يُسقى جديب الأرض بالمطر
فعاد بعد ذويٍّ عيشه نضرًا
وشبَّ بعد وضوح الشيب في الشعر
ما إن ترى ماس بين الناس غصن هنا
إلا ولبنان أمسى خير مهتصر
ما لي أعدِّد ما واصيت من نعم
على حماك وما شيَّدت من أثر
فمثل فضلك بحرًا ليس يحصره
لسان مثليَ في ذا العِيِّ والحصر
فاهنأ بسعد هداءٍ لا تزال به
مقارن العز والنُّعمى مدى العمر
تزهو لنا اليوم في تاريخه جمل
فقل تجلى قران الشمس والقمر
ولي للمرحوم حسن أفندي بيهم من أعيان بيروت تهنئة بزفافه، وهي أيضًا من أوائل
شعري:
تعاتب عزمي فيك كل خليقة
عليها سرابيل العُلا وبرودها
كأني قرضت الشعر قبل زمانه
ليوجب في يوم عليَّ نشيدها
وكنت إذا ما اعتمت صمتي عن الثنا
أكلِّف نفسي خطة ما تريدها
فإن كنت للحسنى عميدًا وصاحبًا
فإني مديحًا صبُّها وعميدها
وإن صيغ عقد المدح فيك فطالما
تحلَّت بك العلياء وازدان جيدها
كأنك من ماء الشهامة منهل
تظل العُلا حرَّى إليه كبودها
لقد شملت منك الجميع بلطفها
شمائل يزري بالشمول ورودها
وقد فزتَ حظًّا بالمُعلَّى من العُلا
فتقدح نارًا في يديك صلودها
حصلت على شُمِّ المعالي فلم يزل
بأفق العنان البدر وهو حسودها
صبوت إليها وهي نحوك قد صبت
فلا غرو إن تُفتن بحسنك غيدها
غلبت القوافي كلها وسبقتها
وإن يُزرِ بالدُّر النضيد نضيدها
بهمَّة مقدام العزيمة لا ترى
عياءً ولا وقع الصعاب يئُودها
وأخلاق ميمون النقيبة ما يني
يصوب بها غيث الثنا ويجودها
فتًى لو أعار الشمس ضوء جبينه
لما ساغ تحت الدجن يومًا ربودها
ولو لابَس الظلماءَ نورُ جنانه
لما احتيج من نور الصباح وقودها
ولو مزج الله الحياة بلطفه
لما احتملت سقمَ الجسوم جلودها
نشا كلفًا بالمكرمات فلم تزل
له نفحات ليس يُجحد جودها
إلى الغاية القصوى منازع همِّه
فأقرب هاتيك المغازي بعيدها
توليه ذات الأروعية نفسه
على عقباتٍ لا يُرام كئُودها
يهتِّك أستار المغالق حزمه
لدى معضلاتٍ لا ينادى وليدها
إذا اعترضت دهمٌ عوابس في الورى
فمنه لهم مهديُّها ورشيدها
على ملتقى سبل المعاني تخاله
فمبتدرٌ من كل صوب يصيدها
أمالت له كل القلوب من الورى
مكارم تترى في القلوب قيودها
لقد ألِف الإفضال وهو ربيبه
وهل تألف الأغيالَ إلا أسودها
ولاقت به زهر السعود جدوده
كما تتلاقى في البروج سعودها
رعى الله من يرعى المودة والولا
بباصرة ما يطَّبيها هجودها
أيا حسنًا لم يُبقِ حسنًا لغيره
برفعة شأن لم يزل يستزيدها
ويا مخولًا لا تاركًا طارف العُلا
إذا كان أولاكَ الغناءَ تليدها
عشقنا معانيك الحِسان وإنها
وحقك عِين لا يطاق صدودها
تُضاحك ثغرَ الأقحوان ثغورها
وتفضح واللهِ الشقيقَ خدودها
تباهت بك الأقلام أنك ربها
وأنك مطبوع المعاني مُجيدها
ولي ثناء على جمال بك نجل رامز بك قاضي بيروت لذلك العهد، وكان من أفذاذ القضاة في
العدل والنزاهة:
وكتبت إلى صديقي أيوب أفندي عون مدير مدرسة الكاثوليك في حلب الشهباء:
حتَّام تجذبني القدود وأجنحُ
ويصدني عنها الصدود وأجمحُ؟
ويهيجني سوق الحسان وأدمعي
أبدًا على سفح المعاهد تُسفح
غاضت دموعي بعد فيض شئونها
وعهدت عين الدمع ليست تنزح
وبقيت فيما بين لذع صبابة
يكوي وبَرحٍ دائم لا يبرح
أُحيي الليالي آملًا أن تنجلي
صبحًا وليس بأمثلٍ ما تصبح
إن كان يوحشني الظلام لذي النوى
فالهجر في يومي لعيني أوضح
ولقد أتوق إلى الكرى فلربما
طيف الحبيب بزورةٍ قد يسمح
فلئن يكن ذاك الغزال محرِّمًا
وصلى فحسبي في الكرى ما يسنح
يا ليلة بالجزْع تجزعني بها
نوحًا وراقي الأيك مما تصدح
باتت تذكِّرني لياليَ بينِها
كنا وكان المنحنى والأبطح
ما بين هاتيك الظباء سوانحًا
تمشي بحبات القلوب وتمرح
باتت تتيه بها العقول إذا بدت
تيهًا كبانات النقا تترنح
من كل ميَّاس أغنَّ إذا انبرى
فالعقل يعقل والنواظر تطمح
يلهو ويجرح في النهار وإنما
قد ظل يجرح مهجتي إذ يجرح
يا من يعذبني ويحسب أنني
لعذابه طول الزمان مرشَّح
يسطو عليَّ ولا يرقُّ فعنده
قلب ولكن بالحديد مصفَّح
دلَّهتني في ذا الغرام فها أنا
قيس ولكن بالفراق ملوَّح
فإلامَ تهجرني وقد كاد الصبا
يذوي ورطب غصونه يتصوح؟
ما كنت أيوب الصبور وإن يكن
بالصبر معنى اسمي بفارس يشرح
ذاك السميُّ الباهر الشِّيَم التي
أخلاقه بالأروعية تطفح
المشبع العقل الذي أخلاقه
غرُّ الوجوه حسيبة لا تُرجح
الواسع الفضل الذي لثنائه
في كل خلقٍ من علاه مفتح
الناصح الجيب الذي آثاره
عن حسن ما يطوى عليه تصرح
يثني عليه بالوفاء وإنما
تمديحه بوفائه لا يمدح
حر تفتَّح للوداد فؤاده
وكلامه عند الثنا يتفتح
فهو الذي إن ضاق في الخلق الولا
ففؤاده بالود مغنًى أفيح
وإذا تزحزح ركْبه عن أرضنا
فهو الذي في العهد لا يتزحزح
لا غرو إن شطَّ المزار فإنه
قلم اللبيب بكل مسك ينفح
سمْح القريحة في رهان قريضه
يجري كما يجري الجواد الأقرح
تلقاه يرعف في الطروس يراعه
كالسيل في بطن الجوا يتبطح
ويخوض في لجج الفنون ويجتني
دُررًا بها صدر الزمان موشَّح
تزهو جِنان العلم بين سطوره
إذ كل ما فيها لعينٍ مسْرح
غرر تترجم عن علوِّ مقامه
ولعلها من كل مدح أفصح
يا صاحبًا سمح الزمان ببُعده
وببعده وجه الزمان مكلَّح
لا بدعَ إن تبعد وأنت عزيزه
فالدهر يُبعد في الورى ما يمنح
أُثويت في الشهباء أفسح منزل
لكن محلك في فؤادي أفسح
وقلت في رثاءٍ لأحد الأعزَّة، وهي من أوائل نظمي:
وكتبت مجيبًا صديقي الطيب الذكر أيوب أفندي عون:
مالك للقلوب في دولة الحب
غدا داعيًا له كل منبر
هو كسرى الملوك لحظًا ولكن
فعله بامرئ الهوى فعل قيصر
لا أزالَ الإلهُ دولتَه الغَرَّ
ا، وإن كان قد طغى وتجبَّر
إن في ظلها رعايا معانٍ
نصرتها في الفتك نصرًا مؤزر
جالَدَ الثغر كل قلب إلى أن
فتقت ريح ذا الجلاد بعنبر
ورمى الوجدُ كل صدر بنار
وغزا الحبُّ كل نفس بعسكر
إنَّ سهم العيون ينفذ في الصد
ر ولو أُلبس الحديد المعصفر
موطن عنده يهي كل عزم
ويولي قذاله كل مسعر
ينفد الصبر فيه من جعبة الصد
ر لعمري حاشاك بل أنت أصبر
يا عجيب الذكاء يا نادر المثـ
ـل الذي ظل للعجائب مظهر
أنت والله من كنوز الليالي
أبرزتك الأقدار كلك جوهر
كيف نحكي عُلاك يا كامل العدَّ
ة إذ نحن في مجالك حُسَّر
يطرب الشعر منك أحسن ما يطـ
ـرب صوت الخلخال في ساق أعفر
١٣٠
يا لك الله من أديبٍ إذا ما
عُدَّ يومًا فغيره ليس يُذكر
بينه في الذكا وبين سواه
فرق ما بين أميلٍ ومكفَّر
جاءني منك يا خليلي كتاب
لا تسَلْ كم سرى كروبي وكم سر
طالما اشتاقه فؤاديَ حتى
ضاع منه فتيق مسك أذفر
ما كفى يا فريدة العقد حتى
أصبح اليوم أكتَبَ القوم أشعَر
ما ترى في فتاة خدرٍ سبَتْني
بمعانٍ بها المدارك تخدر
بطرازٍ من الفصاحة أزرى
صنع صنعاءَ وهو وشيٌ مُحبَّر
أنت يا معدن اللآلي الغوالي
مثل ذا الدر منك لا يستكثر
جئت تثني على بياني وفضلي
ذاك تالله أنت أذكى وأمهر
قد كفتني منك الشهادة في إثـ
ـبات من قال بالخلاف وأنكر
وبعون الإله يا صادق الأفـ
ـعال قد رُدَّ شانئي وهو أبتر
قل لمن رام ستر فضليَ بغضًا
لم تكن شمس ضحوةٍ لتُستَّر
إن لي كل طعنة في مجال
عفَّرت عارض العزيز الأصعر
لي من الحزم جُنة ودلاص
ومن العزم لَأْمةٍ وسنوَّر
وبكفِّي من المضاء حسام
وعلى هامتي من العز مغفر
لا ترى من يريد بي السوء إلَّا
واقعًا تحت ظُفر ليث مظفَّر
منذريٌّ يفي النذور إذا أنـ
ـذر يوم اللقا أطاح وأندرْ
قيل في اسمى ليث صبور لعمري
لا يكون الصبور إلا غضنفر
لست ممن يقول شيئًا فريًّا
أنت في كُنه حال خِلِّك أبصر
ولكَم كنت للضعيف معينًا
وكما قلت لي مجيرًا لمعشر
إن يكونوا بيَ استجاروا فمني
يستظلُّون تحت لِبدة قسور
يا صديقًا نأى على متن شَهبا
ء سبوحٍ من الجياد الضُّمَّر
إن أَرُمْ ترك ذكره فَهْو أشهى
أو أَرُمْ ذكر فضله فَهْو أشهر
ولعمري من كان بالسعي أجدى
فهو بالذكر والمدائح أجدر
إن شوقي إليك جمٌّ ولكن
جمُّ عتبي عليك أوفى وأغزر
أين كُتْب الأصحاب تطلع تترى
مثلما يُحتسى السُّلاف المكرر
هل نسيت العهود؟ هيهات ما كا
نت عهود ما بيننا العمرَ تُخفر
يا رعى الله عيشنا سابقًا والدَّ
هر ولَّى بذيله يتعثَّر
تلك أيامنا تقضَّت سريعًا
كخيال المنام ليلًا إذا مر
كم رشفنا كأس السرور دهاقًا
وهصرنا غصن الصبابة أخضر
جمع الله لي بكم عن قريبٍ
خير شملٍ بجاه طه الأزهر
واقتُرح عليَّ الرثاء الآتي لأحد الأعيان الفقهاء:
أعلمت من فُجعت به تلك العُلا
وسألت أيَّ رجالها صدع البلا
حتى اكتست ثوب السواد لفقده
وتناوحت بالندب نوحًا ثكَّلا
وعرفت من لبنان أي شيوخه
غالَ الردى حتى أميل وزُلزلا
من كان أسبق قومه فضلًا ومَن
قد كان صدر ذوي المآثر محفلا
من كان نبل القصد في أعماله
شرعًا وكان القصد فيه منهلا
من كان أمضى همَّةً من صارمٍ
في كف مخترطٍ وأفتك مقتلا
من كان في عزماته في جحفل
أمسى يفلُّ من الحديد الجحفلا
من كان في حزم النهى في حزمة
تزري مطاعنُها الرماح الذبَّلا
سبق الرجال إلى المآثر فاعتلى
شرفًا وبرَّز مجده فتأثلا
وقضى زمانًا بالسداد ورأيه
في الفقه لا يرتدُّ إلا فيصلا
وقضى حقوقَ المجد إذ لم يعتزل
إلا وقد بلغ السِّماك الأعزلا
حتى قضى والموت فينا سُنَّةٌ
وسيوف مدرجه رواتع في الطلا
جار القضاء على القضاء بموته
لو لم يكن بين الخلائق منزلا
فهو الذي أحيا رسوم الشرع في
لبنان تنسف سوحه أيدي البِلا
وهو الذي في ما مضى غرسَ المنى
فجناه أهل زمانه مستقبلا
عمَّت فواضله البلاد كأنما
قد كان منها بالفلاح موكَّلا
رنَّ الزمان بذكره، وبفضله
حفلت مغاني العلم وامتلأ الملا
هو راجح العقل الذي من عقله
وثباته بنت الحصافة معقلا
رب البيان البيِّن اللَّسن الذي
قد كان أذلق من سنانٍ مقوَلا
رحب الذراع إذا الجدال تدافعت
أفواجه ترك الخصيم مجدَّلا
ما كان يقصر في السماح تفضُّلا
يمتاح منه ولا يردُّ مُؤمِّلا
يا قاضيًا بات القضا من بعده
يبكي وجيدُ المكرمات معطَّلا
من عاش دهرًا لا يُشقُّ غباره
فضلًا وكان بناره لا يُصطلى
ولَّيت عن دار الفناء إلى البقا
فوليت في الدارين وضَّاحَ الولا
والناس ركبٌ سائرون بمهيعٍ
للموت يتَّبع الأخيرُ الأولا
يسعَوْن للأخرى وتلك حقيقة
مذ كونت هذي مجازًا مُرسلا
والمرء رهن كوارثٍ ما تنقضي
تلقي عليه كل يوم كلكلا
والنفس تملأ جسمه فإذا مضت
وجدت مضيقَ لهاته متسهِّلا
لا تخدع الدنيا اللبيبَ فكلنا
بتنا على حكم المنية نزَّلا
فاذهب عليك من الإله تحية
تجني بها ثمر النعيم معللا
تُحدَى السحائب في السما حتى إذا
بلغت ثرى مثواك سحَّت هُطَّلا
وقلتُ أرثي العلَّامة الشيخ الإمام محيي الدين اليافي الشهير تغمَّده الله
برضوانه:
أحقًّا علينا الدهر دارت دوائره
أما إنه للدين صارت مصائره
فشدَّ على الإسلام ذا اليوم ريبُهُ
بخطبٍ وكانت لا تُعدُّ كبائره
ألا إنه الدهر المصرَّحُ باسمه
بأن لا فتًى إلا غدا وهو داهره
بواتره فينا مجرَّدة وما
بواترهُ والله إلا بوائره
لها كل يوم في البرِيَّة فتكة
تناديك لا منجاةَ مما تحاذره
فكم ملكٌ ضخمٌ تخطَّفه الردى
قساوره من حوله وأساوره
تخرَّم كسرى كاسرًا حدَّ بطشه
وقيصرَ أردى ما وقَتهُ مقاصره
وما زال يُفني كل عزٍّ يؤمُّهُ
ببأسٍ ويُلقي كل قِرن يساوره
هو الموت مَن ذا دافعٌ مبرمَ القضا
إذا الواحد القهار وافت أوامره
فسبحان من تعنو الوجوه لوجهه
ولا حي إلا وهو بالموت قاهره
دعا اليوم محيي الدين نحو جنابه
يقرِّبه من قُدسه ويجاوره
سرى نعيه في كل حيٍّ ففي الورى
تعازيه لكن في الجنان بشائره
وباتت شئون الدين تجري شئونها
على فقده والفقه تَدمَى محاجره
وكل امرئٍ يبكي عليه دمًا فما
عواذله في الحزن إلا عواذره
لَعَمرك ما للشرق ذا اليوم أقتمت
مشارقُهُ واليوم أظلم ناظره
وللدين وجدٌ ليس تُطفأ ناره
وللشرع طرفٌ ليس يُقلِع ماطره
أصاب بني الإسلام خطبٌ عرمرم
بذا اليومِ فالإسلام تبكي منابره
لقد كان فيه الشيخ ركنًا مشيَّدًا
وكانت طِلاع الخافقين مآثره
فطبَّق آفاق البرية ذكره
وسار به بادي الزمان وحاضره
إمامٌ بأفواه الجميع علومه
وبحرٌ بأعناق الجميع جواهره
مُبارك خلقٍ طيبُ الذكر عابدٌ
مهذبُ طبعٍ مُشرق الوجه سافِره
بقية ذاك السالف الصالح الذي
بأمثاله الأقطابِ جلَّت ذخائره
قد ارتفعت أسراره وتطهرت
له سِيَر غرٌّ حكتها سرائره
وأصبح في أيامه عَلم الهدى
تعمُّ البرايا بالضياء منايره
تداعت بيوت العلم يوم وفاته
وخر عماد الفضل وانهدَّ عامره
وراح عليه الفقه يلطم وجهه
إذ انتكثت مما دهاه مرائره
ولم أدرِ أن الصبر تفنى دروعه
إلى أن قضى والعزم تفري مغافره
فقد فرغت من كل باكٍ دموعه
كما نزفت من كل راثٍ محابره
ترحَّل عن دار الفناء إلى التي
بها عيشه في الخلد تجري كواثره
فقد دُكَّ طودٌ باذخُ المجد شامخٌ
وغُيِّض بحر زاعب الفيض زاخره
وأُغمد سيفٌ صارم الحد باتر
وغُيِّب بدر ثاقب النور باهره
سلام على قبر تضمَّن تربه
فذلك لحدٌ ساطع العَرْف عاطره
سقت تربه الوطفا ولا برح الحيا
يراوحه في رجعه ويباكره
وما الموت إلا مسلك عمَّ نهجه
وجسرٌ جميع الخلق لا بد عابره
وما المرء إلا ميت وابن ميت
ومَن بدؤه الميلادُ فالموت آخره
وقلتُ أرثي الطيب الذكر العزيز سليم أفندي البستاني صاحب جريدة الجنة ومجلة الجنان،
وكانت وفاته سنة ١٨٨٥ وكنت ابن ١٥ سنة:
يسطو على المرء المنى بعد العنا
قسرًا فماذا النفع من إيجاده؟
يرث الفناء وقد يرى من لم يرث
شيئًا سوى ذا الموت عن أجداده
لا يشفعَنْ بالمرء غض شبابه
عند الحمام ولا ذكاء فؤاده
البين يخترم الجميع وليتما
قد كان كل البين بين سعاده
بينٌ كفى الدنيا نعاب غرابهِ
وبه كفى متشائمًا بسواده
يُردي الحبيب وخله متقلب
في مضجع أهناه شوك قتاده
متعرضًا بالنائبات الغُبر في
إصداره أبدًا وفي إيراده
يا أيها البين المفرِّق بيننا
إذ فيه معنى الدهر في استبداده
الدهر أنزق شيمةً من أن يُرى
بالحزم ذا بَقيٍ على أفراده
ما زال يفجعنا بهم حتى غدا
شرف الفتى بين الورى بمعاده
فلبئس عيشٌ بات مخترمًا به
مثل السليم رزيئة لبلاده
ولبئس إفضال ومجد بعده
ولبئست الأيام بعد بعاده
من هزَّ هذا القطر فاجع فقده
حتى تفطَّر فيه قلبُ جماده
وسطا على الصبر التفجُّع بالغًا
سيل الأسى الطامي ذرى أطواده
وتُوفِّيت آمالنا من بعده
ما الدهر يحييها إلى آباده
الأروع الشهم الذي بعلومه
وجدائه كالبحر في إزباده
الطائر الصيت الرفيع مقامه
والباهر الحسنات في إسعاده
من كان بابًا للرجاء مبلغًا
في الخطب من يرجوه شأو مراده
وقف الحياة لخدمة العلم الذي
قد كان حقًّا باسطًا لمهاده
فقضى بُعَيد أبيه
١٣١ في أجَلٍ أبى
إلا اتصال حداده بحداده
أسفًا عليه وكان ركنًا للعُلا
وقوامها بطريفه وتلاده
أيام باهر مجده يذر السهى
وكواكب الأفلاك من حُسَّاده
أيام لا تلقاه إلا جاهدًا
ومجاهدًا في العلم حق جهاده
أيام إن صعد المنابر خاطبًا
تهتز من عجب ذرى أعواده
يا راحلًا عنا رويدك إنما
من سار لم يندم على إرواده
مهلًا لتبصر حال من غادرتهم
وترى قضاء الله بين عباده
من كل من تَخِذ السهاد سميره
وأقام نوَّاحًا على تعداده
من كل من نظم المراثي جاعلًا
من ذوب عينيه سواد مداده
غادرت ذكرك في الورى لا نافدًا
بل تنتهي الأيام قبل نفاده
فاذهب إلى مولاك يا من قد قضى
والشكر للرحمن أكثر زاده
أخفُّ ما نال مني الطرف ما أرقَا
وخيرُ ما سرَّ مني القلب ما خفقا
ونزْر ما كادني ذا الدهر جَور نوًى
أصابني بسهامٍ تخرق الدرقا
طمعت بالوصل مشتاقًا فماطلني
وجدَّ ركب التنائي بي فما رفقا
ما إن دنت من فؤادي مُنية قصدت
إلا وسدَّ لها من دونيَ الطُّرقا
كأنما حلَّف الدهر الخئُون بأن
يحولَ بين فؤادي والذي علقا
ورابني صرفُهُ فيما يعنِّتني
أن كيف خلَّف لي من بعده رمقا
لله أي نسيم ليس يُذكرني
وأي ساجعة لم تُجدِني قلقا
يميل قلبي وقد لجت نوازعه
ما ميَّلت نسمات الفجر غصنَ نقا
يا غائبًا مخلصًا لي في مودته
ولست أعرف منه غير ما نطقا
فدرَّ دَرُّك من خلٍّ سما خلقًا
لأنت أفضل من في ودِّه صدقا
تفدي القلائد آثارًا له سبقت
إليَّ والفضل لا يخفى لمن سبقا
لا غرو إن أَرَها من قبل صاحبها
إني أرى الصبح لكن قبله الشفقا
لله من صاحب صُغرى محامده
مودة محضت لا تعرف الملقا
مهذب إن بدا منه الثناء ففي
شريف أخلاقه روضُ الثنا عبقا
أهدى إليَّ قريضًا من طرائفه
يومًا فقلَّد مني الصدر والعنقا
كالبدر متسقًا والدر منتسقًا
والصبح منبثقًا والغيث مندفقا
شعر لكل اختراع جاء مفتتحًا
من بعد ما كان هذا الباب منغلقا
سحر لقد لعبت بالقوم فتنته
بلا طلاسم تخفي سره ورُقى
جازيك من شاعر إن تستجده إلى
نظمٍ مضى فيه مثل السهم إذ مرقا
إذا انبرى في مضامير البيان غدت
جياده في المعاني تركض الرهقى
يرقُّ في النظم حتى يسترقَّ به
ويسترقُّ إذا ما جاء مسترقا
لبيك يا خاطبًا مني الوداد ترى
مني فتًى ما درى نكثًا وما مذقا
قد طالما سمعَتْ أُذْني وما نظرت
بواصري فليفاخر مسمعي الحدقا
فإن عرفت فإني ناظر ثمرًا
لكنني لم أصِبْ عودًا ولا ورقا
يا قاتلَ الله حظي والفراق هما
على مُناصبتي دهرًا قد اتفقا
فهل أرجِّي من الدنيا الصلاح ولم
تزل وفيها غراب البَين قد نعقا؟
لكن على المرء عرك الدهر طاقته
ولو تحمَّل ذو الهمات كل شقا
حب السلامة يثني عزم صاحبه
فإن جنحت إليه فاتَّخذ نفقا
١٣٢
وقلتُ وأنا في المدرسة — وهي من أوائل نظمي — في العلَّامة الطيب الذكر المطران يوسف
الدبس مؤسس مدرسة الحكمة التي درست بها:
وقلتُ وداعًا لمدرسة الحكمة في ختام سنة ١٨٨٦ وكنتُ ابن ١٦ سنة:
مفارقةٌ والله عزَّ نظيرها
أسيرُ غدًا عنها وقلبي أسيرها
تخلَّيت عن قلبي لها غير مُكرهٍ
ولكنَّ نفس الحرِّ تغلو مهورها
رهنت فؤادي في هواها لمدة
فلم يُغنِ عنه عند نفسي مرورها
فليست ترى للعلق عندي علاقة
وعندي يد لم توفِ عني نذورها
وإن كان نفلًا ما سمحت فإنها
صنائعُ في رأيي تُزاد أجورها
فإني رأيت الفضل فضل زيادة
على حقه يمسي خطيرًا نزيرها
وإن المزايا من قليلٍ وربما
لعمري قليل المكرمات كثيرها
فإن كنتُ لم أوثر على النفس مجدها
فلا أحمد الآثار عني أثيرها
وما الفرق ما بين الكريم وضده
إذا لم يحمِّل نفسه ما يضيرها
وما الحرُّ مَن يلوي لضرٍّ يمسه
إذا لفحته في الليالي حرورها
ولكنَّ من يقوى وللرَّوع نصلة
يُطير فؤاد الفحل إذ يستطيرها
ولكنَّ من يطوي على المرِّ مرَّة
تظل عليه مستمرًّا مريرها
ولكنَّ من يغدو وتغدو عزيمة
له مثل حد السيف وَهْو شهيرها
ولكنَّ من يفري الستور إذا عدت
عليه خطوب لا تُزاح ستورها
ولكنَّ من يغشى صدور مجالس
وتغشاه من جرد المذاكي صدورها
ولكن فتًى عند الرزايا صبورها
وفي وسط أجوال المنايا ضبورها
ألا في سبيل المجد أن شكيمة
أجيش بها لم يَخْبُ يومًا سعيرها
وإني حلبت الدهر أشطره وقد
مضت لي كأعوام الرجال شهورها
إذا لم يكن ماء الشهامة منهلي
ولم يهدني نحو الحفيظة نورها
فلا وافقت للمكرمات عقيلة
أخاها ولا صاغ القوافي أميرها
يفجِّر فيها للقريحة أنهرًا
غزارًا فلا تخشى المغاض بحورها
وما ذاك إلا أنه متخرِّج
على ذات فضل لا يخيب سميرها
ممنعة للفضل فيها معاقل
أقام بها الإرشاد وهو خفيرها
مؤسسة أركانها فوق حكمة
مرفَّعة تعلو السماك قصورها
تميل بأعطاف النجاح خصورها
وتضحك عن مثل الأقاح ثغورها
وتزهو ولا زهو الكواكب في الدُّجى
إذا في ليالي الجهل تمَّ سفورها
يقرُّ لها من كل بدر تمامه
ويحسدها من كل شمس ذرورها
فقد خوَّلتني نعمةً فوق نعمةٍ
وكل إذا عدَّت فإني شكورها
فألبسني نسج الحبور حبيرها
وأوطأَنِي مهدَ السرور سريرها
لقد رشحت حلمي فجاءت خلائقي
من الطبع أولاها ولا أستعيرها
ليالي هاتيك المهارق حولنا
يدور بنا دور الأساور دورها
لذاك غدت تحكي بياض طروسها
وإن أشبهتها بالظلام سطورها
مجرٌّ ومجرى سمر أقلامنا التي
يهين صليل المشرفي صريرها
ألا حبذا تلك الليالي فإنها
هي الغر لكن ليس يدري غرورها
قضيت بها أنسًا كأن لم أفُزْ به
ورشف كئُوس لم تُحرَّم خمورها
فما أنسَ لا أنسَ الرياض التي جرى
وأوردني ماء النعيم غديرها
ولا أنسَ أوقاتًا قضيت بربعها
ولا صحبة مني كريمٌ عشيرها
فإن يقضِ بالبعد القضاءُ فإنه
عذيريَ منها وهو مني عذيرها
مضت فأمَضَّت مهجتي وكأنما
نظير كرى عينيَّ كان كرورها
فلا تنكرنْ مني الذي قد شهدته
وجومًا بنفسٍ قد تسامى زفيرها
فبي من جوى الأحشاء ما لو جعلته
على قُننِ الأجبال دُكَّت صخورها
تصعَّد مني زفرة فتُثيرني
وأجهد في إرجاعها فأُثيرها
فإن كنت أظهرت الفتور بلوعتي
فربَّ عيونٍ شبَّ نارًا فتورها
أودِّع مغنًى قد قضيت به الصبا
وأرضيت نفسًا كالنهار ضميرها
ومارست أعلامًا ودارست عِلْيَة
وآنست أنوارًا تمامًا بدورها
عليَّ لهم فضل بجيدي درُّهُ
وكم فتية منهم تحلَّت نحورها
تحاشيت نفسي من سلوِّ عهودهم
فإنَّ نجارى المنذريَّ نذيرها
فما قصَّرت إلَّا وقامت مآثر
من الأصل لا يُدْرى لعمري قصورها
فذكَّرها عهد الخورنق شأنها
وإن سدرت ما غاب عنها سديرها
مآثر أجداد جديد فخارها
يذرَّى وإن طالت خلوًّا عصورها
على أنه ما تم فضلٌ لأوَّل
بعصبتهم حتى أجاد أخيرها
ولي أيضًا، وهو من أوائل نظمي:
وكتبت تحت أول صورة فوتوغرافية استُخرجت لي، وكنت في الرابعة عشرة: