الفصل الأول
صعد همام بك الأزميرلي إلى الطابق الأعلى من منزله، وابتسامة فرحانة تشيع في وجهه كله، وكانت زوجته سميرة هانم تجلس في البهو الذي تعودت أن تنتظره فيه. وما لبثت ابتسامة زوجها أن ترقرقت على وجهها، وأحس الزوجان الكبيران فرحة مشرقة بينهما؛ فقد عاشت سميرة هانم مع زوجها السنوات الطوال لم تلقَه يومًا حين عودته إلا بهذه الإشراقة، وعاش هو معها يطيب نفسًا بلقائها وبكل شيء تقوم به، فلم يكن غريبًا إذن أن تطفر السعادة بينهما عند اللقاء. ولكن همام بك كان يحمل لزوجته في يومه هذا هدية أراد أن يشفعها بهذه الابتسامة التي صحبته في طريقه إلى الطابق الأعلى من منزله.
جلس الزوج إلى كرسيه وأخرج من جيبه ورقة مطوية وأعطاها زوجته، ولم يَزد على قوله: مبروك يا ستي.
وأخذت الزوجة الورقة وقد شاع في وجهها فرح مستطلع، وفتحت الورقة وهي تقول: خيرًا.
ثم لم تنتظر الإجابة، بل راحت تقرأ الورقة التي تبينت فيها أول ما تبينت أنها ورقة رسمية عليها أختام وتوقيعات كثيرة، ثم ما لبثت أن تجهم وجهها هونًا وقالت لزوجها: ما هذا؟
– ماذا؟ ألم تعرفي؟
– ما الذي جعلك تفعل هذا؟
وفهم الزوج مبعث غضبها، وازداد بهذا الغضب فرحًا وازداد به حبًّا لزوجته وإعجابًا، وقال وفي صوته رعشة: عشرون فدانًا، قصدني صديق أن أشتريها منه بدل أن يشتريها منه غريب لا يعرفه، ورأيت أن أكتبها باسمك، ولم أشأ أن أخبرك حتى أسجل الشراء في المحكمة المختلطة.
وقالت سميرة هانم وقد اختلج وجهها، وطفرت إلى عينيها دموعٌ حبستها أن تسيل خشيةً من إغضاب زوجها الذي يريد رضاءها: ومن قال لك إني أريد أرضًا أو فدادين؟
– وماذا يغضبك في هذا؟
– يغضبني أنني لا أريد منك إلا أنت، أنت وحدك، وتفكيرك في كتابة أرض لي تفكيرٌ لا أحب أن يجول في ذهنك؛ لأني لا أحب أن يجول في ذهني، أنت غناي كله، وما كنت أحب أن تُظهر رضاءك عني في أرض. تكفيني منك ابتسامة رضًا، ويغنيني في حياتي أن أراك مرتاحًا في بيتك وبين أولادك.
– الله يبقيك يا سميرة.
وكادت الدموع تطفر إلى عينَي الرجل، ولكن رجولته ما لبثت أن تغلبت، وما لبث هو أن غيَّر موضوع الحديث: أين الأولاد؟
– خيري ويسري ما زالا في المدرسة.
– تقولين خيري ويسري في المدرسة وكأن يسري أصبح تلميذًا كبيرًا مثل خيري.
وعادت الابتسامة هونًا إلى وجه سميرة هانم وهي تقول: لو رأيته وهو يغالب النوم مصممًا أن يسهر مثلما يسهر أخوه عاجزًا في الوقت نفسه أن يغالب رأسه المائل وجفونه المقفلة، وكلما صحت به أن يقوم للنوم انتفض لحظات معارضًا، ثم ما يلبث رأسه أن يعود إلى الميل وجفونه إلى الانطباق.
– أرجو أن يصبح مثل أخيه في المذاكرة.
– خيري، الله يحميه.
– الحمد لله، فيه البركة، لا أذكر أنني طلبت منه أن يذاكر أبدًا.
– الحمد لله، ناجح دائمًا، ولكني يا همام بك غير مرتاحة لاستذكاره خارج البيت في هذه الأيام.
– لماذا؟ إنه يذاكر عند محسن ابن عمه، والبكالوريا محتاجة لتعاون الطلبة.
– نعم أعرف، ولكن هل يا تُرى يقدمون إليه حاجته من طعام وشاي وقهوة كما نفعل هنا؟
– بيت عزت مفتوح.
وابتسم همام ابتسامة تخفي معنًى ما، أو لعلها تبين عن ذلك المعنى وهو يقول: ولعل هناك يا ست سميرة من يهتم بشأنه أكثر مما تفعلين، أين نادية؟
– في حجرتها.
– ناديها تجلس معنا.
وقبيل أن تقوم سميرة هانم تأتي الخادمة لتنبئ البك أن صديقه فواز بك في الطابق الأسفل ويريد أن يلقاه، ويقوم همام بك إلى صديقه، وتعود سميرة إلى الورقة تقرؤها، ثم ما تلبث دمعات لها أن تسيل؛ فقد كانت هذه الورقة تجسم لها الخوف من يوم تحتاج فيه إلى ريع أرض، ويومذاك ما الأرض وما المال، بل وما الدنيا جميعًا إذا فارقها زوجها؟ هذا العطوف الطيب السمح الذي يحول بينها وبين هموم الحياة، لا كان ذلك اليوم، لا كان.