الفصل الحادي عشر
أجابت دولت الطرق فانفرج الباب عن شاب، رجل، رجل في بواكير الشباب الأولى، مشرق الوجه، وامض العينَين، طويل القامة، باسم الثغر، شديد العناية بهندامه وبطربوشه، يميله إلى الناحية اليمنى من رأسه إمالة هينة ما تكاد تُلحَظ. ورأت في عينيه السوداوين خجلًا، وفي وجهه المشرق مبادئ احمرار، وفي فمه كلامًا يتردد بين الانطلاق والاختفاء. ثم رأت في عينيَه إعجابًا يكتمه ولكنها أدركته، طارق جديد على البيت لم يعهده البيت. نظرت إليه مليًّا، وسمحت للإعجاب الذي خالط نفسها أن يبدو في عينَيها دون أن تخفيه، ثم قالت في غنة حلوة تعودت أن تنغم بها حديثها كلما خلت إلى أحلامها مع الرجال: نعم؟
وقال خيري وهو يرنو إليها ثم يخفض بصره كلما طالعته نظرتها الجريئة: منزل الأستاذ حامد عبد الكريم؟
– نعم هو، تفضل.
– لا، أشكرك، الأستاذ موجود؟
– سيأتي حالًا، تفضل.
– أين أجده؟
– لن يغيب، تفضل بالدخول.
ولم يستطع خيري إلا أن يتفضل بالدخول، وكيف يستطيع أن يصدف عن هذه الدعوة المنغومة الحلوة. إنها الأنثى في جلالها، في ذروة عنفوانها وقوتها، شباب ريان كالنبت الأخضر الغض تيقظ في بواكير الفجر والندى يتلألأ على أوراقه، وعينان جريئتان كالأمر، كالقوة، كالسلطان، وعود مزدهر مرسوم يدق حيث ينبغي له أن بدق، ويمتلئ حيث يجمل به أن يمتلئ، فارع مياد هفهاف كالفرحة النشوانة، كالأمل، كالشباب، وثديان جديدان كالرجاء المجاب، كالرغبة المحققة.
لم يكن بُدٌّ من أن يتفضل، ودخل.
لم تكن أم حامد بالبيت، فقد خرجت تشتري لابنها بعض الملابس التي رأت أنه سيحتاج إليها في سفره. وخلا البيت بخيري ودولت، قادته إلى حجرة الجلوس فاستقر بها مقامه ولم تستقر عيناه المترددتان بين الإنعام والإطراق، ولم يستقر قلبه من الخفق. وجيبًا شديدًا، وجيب الشاب الجديد، وجيب الدم يدور في الجسم فوَّارًا عنيفًا جائحًا، تذكر وفية ولكنه قال في نفسه: وهل خنتها؟ الأمر مختلف، واطمأن إلى أن الأمر مختلف، وراح يلتذ هذا الوجيب وهذا التحديق وهذا الشباب. وأخرجته دولت من حيرته: قهوة؟
– لا شكرًا.
وظلت واقفة تريد أن تعرض شيئًا آخر مما يقدمه المضيف لضيفه، ولكنها انشغلت عن هذا بإنعام النظر فيه، نظرة جائحة قوية، رجل، وأي رجل؟
قال خيري: حضرتك الآنسة دولت؟
– وحضرتك الأستاذ خيري؟
وضحك ضحكة ساذجة وازداد وجهه احمرارًا إن عرفته ثم قال: كيف عرفتني؟
وقالت في دلال وأنوثة: عرفتك.
وضحك مرة أخرى في بهجة استخفت له: كيف؟
– عرفت والسلام.
– هل أنا مشهور إلى هذا الحد؟!
وتأودت دولت في غنج وهي تقول: جايز.
ورنا خيري إليها نشوان الفؤاد ذاهل النظرة. جف ريقه وشرد ذهنه إلى عوالم يا طالما طاف بها وكانت رفقته فيها امرأة وجهها أخلاط وجسمها أمشاج من الأجسام غير محددة المعالم أو واضحة المعارف. امرأة متقلبة الوجوه لا تثبت محاسنها على حال، فقد تكون في يوم جميلة غاية الجمال وتكون في آخر قبيحة غاية القبح، ولكنها قط لم تكن معروفة عنده. لم تكن وفية مطلقًا كما أنها لم تكن بهذا الجمال الذي يتمايل أمامه مشرفًا عليه من علٍ، باسمًا دائمًا، فرحًا دائمًا بهذه الدماء الموارة في عروقه، وبهذا اللسان الجاف، يلتذ جفافه، ويلتذ كل إحساس آخر يخالجه. رنا إليها وأطال، وهي رانية إليه لا تميل عيناها عنه، فقد طالما رافق أحلامها، ويا طالما شاركها في وحدتها عند المساء، منذ رأته من الشباك في أول يوم جاء فيه بأخيها إلى البيت رأته ولم يرها، ثم ظلت تراه كل ليلة وتستجلب صورته إلى عينيها قبل أن تغمضهما، ثم تترك للأحلام أن تكمل آمالها العربيدة.
طال بينهما الصمت فلا يجد قولًا إلا: اقعدي، لماذا أنت واقفة؟
وفي نظرة إليه ناعمة عميقة حالمة معربدة، قالت وفي صوتها تلك الغنة التي تصطنعها: مبسوطة هكذا؟
وظل رانيًا إليها، وكالحلم الجميل يخشى صاحبه أن يستيقظ فلا يراه، خشي خيري أن يصرفها من وقفتها هذا شيء، خشي ألا يراها، خشي أن تذكر شيئًا وتتركه، خشية داخلت نفسه، فألحت وملأت جوانح تفكيره طنينًا عاليًا، خشي أن تنصرف فراح يفكر في شيء يبقيها إلى جانبه، ماذا يمكن أن يبقيها إلى جانبه؟ حديث، أي حديث يستطيع أن يحرك به لسانه؟ وأي لسان يحرك؟ ولكن لا بد مما ليس منه بد، فليفكر في موضوع الحديث أوَّلًا وعند الحديث يعينه الذي لا تغفل له عين، أي حديث يمكن أن يحادثها فيه؟ وعاده الصوت المنغوم: أتريده حضرتك في شيء؟!
وانتبه خيري قائلًا: من؟
وقالت دولت في فرح أن استطاعت أن تخلب لبه وتلهيه عن طلبته الأولى: حامد، حامد أخي، ألم تقل إنك تريده؟
وصحا خيري وتذكر أنه يريد حامد، وفي تذكره وجد موضوع الحديث الذي يهفو إليه: آه، نعم، أريده طبعًا، أريده في موضوع خاص بكِ.
– بي أنا؟
– نعم بكِ أنت.
واقتربت منه وقد تكلفت الاهتمام تكلُّفًا يتيح لها أن تدنو وتنعم بعينيها في عينيه، وتوسع من جفونها وتعيد قولها: ماذا … ماذا …؟
وانتهز خيري فرصة هذا الاقتراب وأجلس دولت إلى كرسي بجواره وهو يقول: اقعدي أوَّلًا.
– ها أنا ذي قعدت، ماذا؟
وراح خيري يقص عليها قصة فايزة، ودون أن يحس وجد دمعات تفيض من عينَيه، إن المصيبة قديمة على البكاء، ولكنها كانت المرة الأولى التي يرويها فيها فبكى. لقد استقبل المصيبة ولم يكن مصدرًا لروايتها إلا اليوم، فأحس لذعة الكارثة وكأنها شيء جديد. وعجب خيري حين رأى دمعات أخرى تنحدر على خدَي دولت، ولكنه سرعان ما تمالك أمر نفسه وهو يقول: آسف لم أقصد.
– لا عليك.
– هذه هي المسألة.
– وما شأن أخي أو أنا بهذا؟
– كان أخوك عند … عندنا وعرفنا منه أنك تريدين أن تعملي.
– نعم.
– هل عندكِ مانع أن تكوني شبه مرافقة لهذه البنت المسكينة؟
ونظرت إليه مليًا وقالت: تقصد مربية؟
– عندها مربية، أقصد الكلمة التي قلتها تمامًا، مرافقة.
وظلت دولت تنظر إليه ثم قالت: وهل سأراك هناك؟
– طبعًا.
وأطرقت دولت هنيهة ثم قالت: على كل حال الأمر لأخي.
– أعلم، ولكن هل توافقين أنت؟
– نعم.
– إذن سيوافق.