الفصل الثاني عشر
دق جرس التليفون في بيت عزت بك، وكان جالسًا إلى جانبه مع زوجته إجلال هانم، فرفع عزت السماعة، ثم فوجئت زوجته به وقد ملكه ذعر عارم عنيف وهو يقول: هل أنت متأكد؟
ثم يعود فيقول: وهل عرف؟
ثم جاهد نفسه ليقول قبل أن يضع السماعة: لا، لا تخبره أنت، سأخبره أنا.
وراح يردد في ذهول: لا حول ولا قوة إلا بالله! لا حول ولا قوة إلا بالله! ثم قام من فوره والذهول لا يزال آخذًا به غير مُبالٍ بزوجته التي راحت تلح عليه في جزع: ماذا يا عزت؟ ماذا حصل؟ عزت.
واتجه عزت إلى السلم يريد أن ينزله لولا أن صاحت به زوجته صيحة يائسة: عزت، أخبرني يا أخي ماذا حصل؟
وأفاق عزت هونًا ليرى زوجته وهي في جزعها ويقول: لا شيء، لا شيء، لا أستطيع أن أخبرك الآن.
والتفت إلى السلم ينزل في تمهل يائس حزين.
•••
كان همام في حجرة مكتبه الفاخرة يراقب ابنه خيري والكاتب الذي يعمل عنده وهما يرصفان الكتب في المكتبة الجديدة التي ركبت اليوم بحجرة المكتب. وكان همام فرحًا بمكتبته هذه، فقد صنعت بأمره في باريس، فهي قطعة من الفن الرفيع تغطي جدران حجرته جميعًا، كل جزء ظاهر منها محفور مغطى بالبرونز الذي لعبت به أيدي صُنَّاع ماهرة، فهو رسوم وتشكيلات وزخارف. وكانت قاعدتها مثلها تقفل على أدراج أو رفوف. وكانت الضلف مغطاة بقطع من البرونز المشغول … ملائكة أو آدميين أو طيورًا تكاد جميعها تسعى وتحيا لو أصابت من قدرة الله نبضًا.
– هيه يا عم خيري؟ ظللت تشكو ضيق المكتبة وكثرة الكتب، أين هي هذه الكتب التي كانت لا تجد مكانًا؟ أرى المكتبة خاوية لا تزال.
ويقول خيري في جذل فرحان: وهل كنت أدري أنك ستأتي بهذه المكتبة كلها؟ إنها بيت وليست مكتبة.
– أتعجبك؟
– تعجبني؟! إنها رائعة يا بابا، هائلة.
– عظيم، عليك إذن أن تختار الكتب التي تخفى هذه الأرفف.
– بسيطة، سأملؤها لك قبل أن أدخل الكلية.
– اشترِ ما تشاء وأحضر لي الفاتورة ولاحظ أنني أمتحن اختيارك.
– وماذا تعطيني إن نجحت في هذا الامتحان؟
– المكتبة.
– كيف؟
– ستصبح الكتب لك.
– إنها لي بغير مكافأة.
– لا، أنا أقصد أن أعطيك هذه الحجرة فتصبح حجرة مكتبك أنت.
– وأنا لا أقبل.
– كيف؟
– لو كانت هذه الحجرة لي لما قبلت أن تكون لي ولا تكون لك، فإنك مهما تصنع لن تستطيع أن تجمل حجرتك بمثل هذه المكتبة، ولا يمكن أن تكون لي أنا حجرة خيرًا من حجرتك، لأول مرة يا بابا أراني مضطرًّا لرفض هديتك. إن جمالها لا يكمل إلا بك، وبجلوسك فيها، أريد مكافأة أخرى.
وابتسم الأب فرحًا بحديث ابنه وهو يقول: أطال الله عمرك يا خيري، لك ما تشاء.
– إذن سأفكر وأخبرك.
– فكر ما تشاء، إن كل ما أملكه لك.
– بل لك أنت يا بابا، أطال الله عمرك.
– هيه يا خيري، لم يعد لنا أمل إلا أن تسعدوا أنتم.
وقبل أن تخونه عيناه سارع يقول في لهجة آمرة ضاحكة: أسرع يا ولد، لا تكثر الحديث، افرغ من عملك، إنك ثرثار كبير.
– حالًا، حالًا، أين تريد كتب المنفلوطي؟
– هنا، قريبًا من متناول اليد.
– وكتب طه حسين؟
– هنا أيضًا، فإني أحب أن أعود إليها دائمًا، أقرأتها؟
– نعم.
– كم مرة؟
– مرة واحدة.
– أنت مجنون، كيف تستطيع أن تقرأها مرة واحدة؟
– أقرؤها ثانية، وهذه كتب هيكل والمازني والعقَّاد.
– ضعها جميعها في الأرفف القريبة من اليد، وضع معها دواوين الشعر، فهذه لا تقرأ مرة واحدة. والأغاني، والعمدة، ونفح الطيب، وأمثال هذه الكتب اجعلها جميعًا قريبًا من يدي، دع الكتب الأخرى للأرفف الباقية، تلك التي لا يُرجع إليها إلا في القليل النادر، أمَّا هذه الكتب الرخيصة فلا تضعها في المكتبة، هذه تُقرأ ثم تُرمى. آه، هذا الكتاب.
وقبل أن يكمل همام جملته يدخل عزت إلى الحجرة فيستقبله همام في فرحة طاغية: أهلًا، كنت أفكر فيك، فأنت من هواة الأثاث الجميل، ما رأيك؟
ولا يجيب عزت على السؤال وإنما يقول في حزن واضح وذهول لا يخفى: أريد أن أراك وحدك.
وأحس همام أن عزت يحمل شيئًا فاجعًا، فالتفت إلى كاتبه يقول: اتركنا قليلًا يا زكي أفندي.
وقال عزت: وخيري أيضًا.
وأخذ همام بعض الشيء وقال: وخيري أيضًا.
– نعم.
ودون أن يسمع خيري مناقشة أخرى حول خروجه أو بقائه قال للكاتب: تعالَ يا زكي أفندي.
وخرجا وأقفلا الباب وخلت الحجرة بولدي العم، وتلعثم عزت قليلًا ثم قال: همام، طول عمرك رجل فأرجو أن تتحمل ما سأقول في …
وقاطعه همام: يا عزت أني كونت ثروتي وأعصابي في البورصة، وبقدر عظم ثروتي قويت أعصابي. قل.
– فواز خسر كل شيء.
وارتج على همام هنيهة وهو يقول: الدين الذي …
– نعم الذي ضمنته فيه، هو طبعًا لا يملك شيئًا، وأنت …
– الضامن، نعم. إذن فقد خسرت كل شيء، بل أصبحت مدينًا أيضًا.
– إذن …
– أنا تحت أمرك ثروتي كلها طوع مشيئتك، أي شيء تريده، سأُبقي على البيت، سأشتريه أنا وأؤجره لك حتى تجمع ثمنه، وأضمنك في أي مبلغ حتى تستعيد ما خسرته. كل ما أرجوه أن تظل أنت كعهدنا بك ثابتًا كالجبل، لقد كنت حياتك كلها هكذا فأرجو أن تظل هكذا.
وابتسم همام ابتسامةً فيها شكر وفيها تقدير للرجل الكبير الذي يعرض عليه حياته ومستقبله ومستقبل أولاده، لم يقل شكرًا فقد رآها ضئيلةً لا تقوم بما في نفسه، ولم يقل إنه لا يقبل فقد كان واثقًا أن عزت يعلم أنه لن يقبل. إنه لا يقبل أن يعرِّض ابن عمه وهو كأخيه لمثل ما تعرض له، فبيت عزت بيته، ولئن ينهدم بيته خير من أن ينهدم بيتاه، ولم يقل ماذا سيفعل، فإنه لم يكن يدري ماذا سيفعل.
لم يقل شيئًا إلا نظرة الشكر هذه التي أطلت من عينَيه وظلت مطلة في ثبات، وإلى هذه الابتسامة التي ارتسمت على شفتَيه وتجمدت ابتسامة يعجز صاحبها أن يستردها وتأبى هي أن تزول. وفي بطء تحرك لسانه في فمه يقول: الأولاد يا عزت.
وسمع عزت الجملة وكأنها تصل إليه من أغوار وادٍ سحيق، فهو يسمعها بذكائه لا بأُذُنه، وخُيِّلَ إليه أن همامًا أصيب، فأراد أن يستعيد ما سمع أو فهم. أراد أن يقول شيئًا أي شيء فهو يسأله: ماذا … ماذا قلت يا همام؟
ويريد همام أن يقول ثانية، يريد أن يفضي إلى ابن عمه، أخيه، بهذه الفكرة التي تلح على ذهنه في إصرار، الأولاد، والأولاد هم زوجته وأولاده. يريدهم أمانة في عنق هذا الأخ، يريد أن يقول، فيقول، ولكن الكلمة تدور في رأسه وتدور أيضًا في فمه، ولكنها عاصية عن الانطلاق أو هي عاجزة عن الانطلاق. ويرى عزت لسان همام يدور في فمه كالعجوز المقعد يدور في الدرب المظلم فلا يبصر الطريق ولا يبلغ المقصد، ويدرك عزت ما وقع بابن عمه. وينفي إدراكه عن ذهنه بأمل واهن أن تكون إلمامة إلى زوال، ولكنه يعلم أنها ليست كذلك. يعلم، ولكن لا بد للمصيبة من أمل — مهما يكن ضائعًا — يخفف وقعها أو يمنعها على الأقل أن تنزل دفعة واحدة، هو يعلم ولكن ماذا بيده إلا أن يتعلق بأمل أوهن من خيط العنكبوت وأوهى. يعلم ولكن ماذا بيده إلا أن يقول في جزع: همام … همام … ماذا بك يا همام؟
ولا يجيب همام إلا بهذا اللسان التائه العاجز المقعد يتعثر في فمه ولا يبين.
واندفع عزت إلى باب الغرفة في جنون يصيح: خيري! خيري!
ولا ينتظر حتى يقترب منه خيري الملهوف الجازع، بل يقول له: استدعِ الدكتور حالًا، الدكتور عبد العزيز، عبد العزيز إسماعيل، حالًا! حالًا يا خيري!
ويقول خيري: ماذا … أبي! هل به شيء؟ أبي ما به يا عمي؟ أبي.
ويندفع إلى حجرة المكتب ويحاول عزت أن يمنعه، ولكنه ينفذ إليها دافعًا الضلفة المغلقة من الباب محطمًا زجاجها صائحًا: أبي! أبي!
ويستدير عزت إلى خيري ليقول له: أسرع باستدعاء الدكتور.
وينظر همام إلى خيري، ويجد أخيرًا وسيلة أخرى ليُفهم بها عزت ما يريد، فهو يشير إلى خيري ثم يشير إلى عزت ويكرر الإشارة مرات ومرات لا يقف عنها حتى يقول عزت: من عيني يا همام، من عيني يا أخي، لا تخشَ شيئًا، أنت بخير. وتراح أنفاس همام اللاهثة ويطمئن أنه أبلغ أخاه الصديق ما يريد، ويستسلم لمرضه في إذعان مطمئن، ويهدأ لسانه إلى مستقر، لقد أدى الأمانة، فليحملها من أودعها يديه، وإنها لأيدٍ أمينة، إنها أيدي عزت، إنه ابن عمه، أخوه، صديقه.