الفصل الرابع عشر
دأب خيري منذ انتقل إلى الشقة وحصل على كتب أبيه، على أن يشتري هو الخشب ويصنعه ليكون مكتبة تغطي جدران حجرته، ولم تكن المكتبة التي يهفو إليها إلا أرففًا بعضها فوق بعض، يسيرة الصنع رخيصة التكاليف، تعينه على قطع الوقت وعلى تجميل الحجرة وعلى حفظ الكتب. وقد جعلت أمه من هوايته الجديدة هذه مادة ضحكها، فكان يشاركها في الضحك ويدعو إليه أخته وأخاه، فقد تستطيع النفوس الحزينة أن تجد في بلواها ما يضحك، وقد تراح النفوس إلى هذا الضحك، كم هي رحيمة يد الله! الدمع يغسل والزمان يلهي والحياة تقسو فلا يجد الناس لدفع قسوتها سلاحًا إلا الضحك فيضحكون.
واستطاع يسري أن يجد في المكتبة إلى جانب الضحك مادة للعب أيضًا، حتى جرح يومًا أصبعه فأمره أخوه ألا يلهو بأدوات النجارة مرة أخرى، ولم يطعه فزجره فلم ينته. فلم يجد خيري مفرًّا من أن يقفل الحجرة كلما ترك البيت، وأصبح يقوم بعمله هذا واجدًا في ذلك العمل اليدوي راحةً لذهنه وقلبه معًا.
كان خيري مشغولًا بإقامة مكتبته حين جاءه بشير أغا يخبره أن صديقًا له اسمه نجيب جاء لزيارته. ويقول خيري في فرح: نجيب كامل؟
ويقول بشير أغا في عربية غير عربية: لا أعرف، قال نجيب، كامل غير كامل لا أعرف؟!
ويسارع خيري إلى غرفة الجلوس فيجد صديقه نجيب كامل وعلى فمه ابتسامة حلوة وهو يقول: يا أخي اذكرنا، تركت البيت، أرسل لنا العنوان الجديد، أم تراه حتمًا علينا أن ندوخ حتى نعرفه.
في هذه العذوبة والصفاء يجمل نجيب كل هذا الذي حدث. لم تضع ثروتهم ولم يفقدوا عائلهم ولم يصبهم الدهر في جاههم ومالهم ومجدهم وآمالهم، لم يحدث شيء من هذا، وإنما انتقلوا من بيت إلى بيت، هذا كل ما حدث.
وفي عناق حار اختفت الدموع التي ترقرقت في عينَي خيري، وفي أهلًا وسهلًا تهدج بها صوته بدا منه لصديقه الشكر والحب والإعزاز. وجلس الصديقان.
– والله زمان يا نجيب.
– أي والله، زمان.
– هيه ما أخبارك؟
– كلية الحقوق طبعًا، كما تعرف.
– طبعًا.
وأوشك صوته أن يتهدج ثانية، ولكنه جمع نفسه وهو يقول: كُنَّا ننوي الالتحاق بها معًا.
– وما المانع الآن؟
– أني موظف، أظنك عرفت.
– نعم أعرف، ولكن ما يمنعك أن تذاكر معي؟
– أخاف أعطلك.
– بالعكس، فأنت من بعد الساعة الثانية لا عمل لك، وستكون أحرص على المذاكرة مني، فأنا قد أعتمد على المحاضرات، بينما لن تعتمد أنت إلا على المذاكرة.
– نبحث الموضوع.
– لا نبحث ولا يحزنون، وعلى فكرة أصبحت أعيش وحدي في شقة خاصة بي.
– ماذا؟
– ما سمعت.
– ولماذا، كفى الله الشر؟
– رُقِّي أبي إلى باشكاتب محكمة قنا، وطبعًا لم يكن بُدٌّ أن أظل وحدي.
– ومن يخدمك؟
– استأجرت خادمًا كسولًا لا يعرف من شئون البيت شيئًا، يخيط الزرار فلا يتماسك إلا ريثما يدخل في العروة، ثم يسقط على الأرض شاكيًا جهل من ركبه، ويطبخ الأرز فيصبح لبخة أو يطبخه فيصبح حصى.
– اطرده.
ويفكر نجيب قليلًا وهو يقول: والله أظن مسألة الطرد هذه مستحيلة.
– لماذا؟
– قريبي.
– قريبك؟!
– جِدًّا، ثم لا يتقاضى أجرًا.
– طبعًا لا يتقاضى أجرًا، إنه خليق أن يدفع لك أجر إبقائك له، من هو هذا القريب؟
– نجيب كامل.
– من؟
ويغرق الصديقان في الضحك، ويقول نجيب: أصدَّقت أن لي خادمًا؟ أجننت؟ مرتب أبي يسع الكتب بطلوع الروح، فمن أين أجيء بالخادم؟
– إذن فأنت وحيد!
– وحيد!
ومد نجيب شفته مخرجًا نغمة تتأرجح بين السرور والخبث، وقال: ليس دائمًا.
وأشرق وجه خيري بالفهم، ولكنه فضَّل أن يبدو كأنه غبي لا يفهم ما يقصد إليه صديقه.
– لا أفهم.
– بطبيعة الحال، الملابس تحتاج إلى غسل.
– وما شأن هذا بوحدتك.
– الغسالة آية في الجمال.
– ومن أين لك بأجرها؟
– في الثلاثين من عمرها، وأنا في العشرين.
– عظيم، غيره.
– زوجة صاحب البيت، صاحب البيت في الستين من عمره، وهي في الخامسة والعشرين، وأنا …
ويقاطعه خيري: في العشرين، مفهوم، غيره.
– هذا هو الثابت، وكله مع التساهيل.
– وكله مجانًا.
– المسألة لا تخلو من زجاجة عطر للغسالة، وهدية صغيرة للست، إنها حاجات بسيطة، والقادمات من الخارج يكتفين بالعشاء، والطماعة تذكرة سينما.
– ما ألذ وحدتك ومذاكرتك، عنوانك، أسرع.